المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المبحث الثاني: ما ورد في الاستواء على العرش - مسائل العقيدة في كتاب التوحيد من صحيح البخاري

[يوسف الحوشان]

فهرس الكتاب

- ‌المقدمة

- ‌أهمية وأسباب اختيار الموضوع:

- ‌أهداف البحث:

- ‌منهج البحث:

- ‌خطة البحث:

- ‌التمهيد

- ‌المبحث الأول: حياة البخاري

- ‌المطلب الأول: اسمه ونسبه ومولده:

- ‌المطلب الثاني: نشأته وسيرته العلمية

- ‌المطلب الثالث: شيوخه وتلاميذه

- ‌المطلب الرابع: مؤلفاته

- ‌المطلب الخامس: شمائله

- ‌المطلب السادس: علمه وثناء الأئمة عليه:

- ‌المطلب السابع: محنة الإمام البخاري في [مسألة اللفظ]

- ‌المطلب الثامن: وفاته

- ‌المبحث الثاني: التعريف بالجامع الصحيح

- ‌المطلب الأول: اسمه وموضوعه

- ‌المطلب الثاني: سبب ومدة ومكان تأليفه

- ‌المطلب الثالث: منهجه في تصنيف صحيحه ومكانته

- ‌المطلب الرابع: قيمة كتاب التوحيد بين أبواب الجامع وعناية العلماء به

- ‌الباب الأول: مسائل العقيدة في كتاب التوحيد

- ‌الفصل الأول: التوحيد والرد على الجهمية

- ‌المطلب الأول: المؤلفات في التوحيد

- ‌المطلب الثاني: تعريف التوحيد

- ‌المطلب الثالث: تعريف الجهمية

- ‌الفصل الثاني: أول واجب على المكلفين

- ‌الفصل الثالث: الأسماء الحسنى

- ‌المبحث الأول: إثبات الأسماء الحسنى

- ‌المطلب الأول: إثباتها وأقسامها

- ‌المطلب الثاني: دلالة الأسماء الحسنى على الذات

- ‌المبحث الثاني: الاسم والمسمى

- ‌المبحث الثالث: عدّ الأسماء الحسنى وإحصاؤها

- ‌المبحث الرابع: الأسماء التي ذكرها البخاري

- ‌المبحث الخامس: اطلاق بعض النعوت على الله

- ‌المطلب الأول: إطلاق الذات على الله

- ‌المطلب الثاني: إطلاق النفس على الله

- ‌المطلب الثالث: إطلاق (الشيء) على الله

- ‌المطلب الرابع: إطلاق (الشخص) على الله

- ‌الفصل الرابع: من أحكام الأسماء الحسنى

- ‌المبحث الأول: السؤال بأسماء الله والاستعاذة بها

- ‌المبحث الثاني: الحلف بأسماء الله

- ‌الباب الثاني الصفات الإلهية

- ‌تمهيد: تعريف الصفة وأقسام الناس فيها:

- ‌الفصل الأول: الصفات الذاتية

- ‌المبحث الأول: ما ورد في السمع والبصر

- ‌المبحث الثاني: ما ورد في العلم والقدرة

- ‌المطلب الأول: ما ورد في العلم

- ‌المطلب الثاني: ما ورد في القدرة

- ‌المبحث الثالث: ما ورد في المشيئة والإرادة

- ‌المبحث الرابع: الصفات (الخبرية)

- ‌المطلب الأول: ما ورد في الوجه

- ‌المطلب الثاني: ما ورد في العين

- ‌المطلب الثالث: ما ورد في اليدين والأصابع

- ‌الفصل الثاني: الصفات الفعلية

- ‌المبحث الأول: الصفات الاختيارية و [شبهة قيام الحوادث بذاته سبحانه وتعالى]

- ‌المبحث الثاني: ما ورد في الاستواء على العرش

- ‌المبحث الثالث: ما ورد في العلو

- ‌الفصل الثالث: ما ورد في الرؤية

- ‌الفصل الرابع: ما ورد في صفة الكلام

- ‌الفصل الخامس: ما ورد في أفعال العباد

- ‌ملحق في منهج البخاري رحمه الله في بيان مسائل العقيدة ورده على المخالفين

- ‌أولاً: تعظيمه للآثار

- ‌ثانياً: الاحتكام إلى اللغة العربية

- ‌ثالثاً: التمسك بالألفاظ الشرعية وبيان مراد المتكلم

- ‌رابعاً: الإيجاز في عرض الشبهة وجوابها

- ‌خامساً: الاحتجاج بموافقة العقل الصريح للنص الصحيح

- ‌الخاتمة

- ‌ويقترح الباحث في نهاية هذا البحث:

الفصل: ‌المبحث الثاني: ما ورد في الاستواء على العرش

‌المبحث الثاني: ما ورد في الاستواء على العرش

لما كان من الجهمية ومن تبعهم يزعمون ان الله في كل مكان وانكروا ان يكون فوق عرشه (1) كما اخبر عن نفسه فقال {ثم استوى على العرش} الحديد 4 ظنوا ان في اثبات استواءه على العرش تشبيهاً له بخلقه وهو يقول {قل أأنتم أعلم أم الله} البقرة 140

وعلّة الجهمية هي علّة كل من لم يفرق الله عن المخلوق فيتوهمون باوهامهم وخيالاتهم أنه إذا كان فوق العرش كان محتاجاً اليه كما يحتاج الملك إلى كرسيه وكذلك من توهم ان استواءه مثل استواء خلقه باطل بل هو مستغن عن كل ما سواه سبحانه وتعالى ولم يتوهم ذلك الصحابة وهم يسمعون ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم بل آمنوا بعلوه علواً يليق به من غير ان يفتقر إلى شيء من مخلوقاته تبارك وتعالى.

قال شيخ الاسلام " وهو سبحانه حامل بقدرته للعرش وحملة العرش فانما أطاقوا حمل العرش بقوته تعالى والله إذا جعل في مخلوق قوة أطاق حمل العرش ما شاء ان يحمله من عظمته وغيرها فهو بقوته الحامل للحامل والمحمول فكيف يكون مفتقراً إلى شيء (2)

وقد ذكر العرش في القرآن الكريم في احدى وعشرين آية من كتاب الله ذكر الله الاستواء في سبع آيات منها وقد مجد الله تبارك وتعالى نفسه وأنه ذو العرش فاضافة له اضافة تعظيم وتمجيد واختصاص فقال: {فسبحان الله رب العرش عما يصفون} الأنبياء 22 وقال {

(1) ذكر قولهم في كتاب العرش لابن ابي شيبة وغيره وانظر مختصر العلو للذهبي ص 220

(2)

درء تعارض العقل والنقل لابن تيمية 7/ 20

ص: 194

الله لا اله إلاّ هو رب العرش العظيم} النمل 26 وقوله {فتعالى الله الملك الحق لا اله إلاّ هو رب العرش الكريم} المؤمنون 116.

وقد جاء زيادة في وصف العرش في السنة المطهرة فهو أعلى المخلوقات وأعظمها وله قوائم وله حملة قال عليه الصلاة والسلام " إذا سألتم الله عز وجل فسألوه الفردوس فأنه وسط الجنة وأعلى الجنة وفوقه عرش الرحمن ومنه تفجر أنهار الجنة " كما رواه البخاري وقال صلى الله عليه وسلم في حديث أبي مسعود " ما بين سماء الدنيا والتي تليها مسيرة خمسمائة عام وبين كل سماء ين خمسمائة عام وبين الكرسي إلى الماء مسيرة خمسمائة عام والعرش على الماء والله على العرش يعلم ما انتم عليه "(1)

ووصفه الله تبارك وتعالى بأنه كريم: أى حسن المنظر بهي الشكل فقال: فتعالى الله الملك الحق لا اله إلاّ هو رب العرش الكريم) 116 المؤمنون

قال البغوي: يعني السرير الحسن وقيل المرتفع (2)

ووصفه بأنه واسع عظيم في قوله {ذو العرش المجيد} البروج 15 والمجد الاتساع وعظم القدر (3)

(1) اخرجه ابن خزيمة في التوحيد 1/ 242 واللالكائي في شرح السنة 3/ 396

والدارمي في رده على الجهمية رقم 81 - ص 46 وحسنه المحقق الشيخ بدر البدر

(2)

تفسير البغوي 5/ 433

(3)

(المجيد) قراءتان: الرفع صفة للرب عز وجل. والجر صفة للعرش وكلاهما صحيح

انظر تفسير ابن كثير 4/ 496

ص: 195

وان للعرش قوائم كما في حديث ابي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم وفيه: الناس يصعقون يوم القيامة فأكون أول من يفيق فإذا بموسى آخذٌ بقائمة من قوائم العرش فلا ادري افاق قبلي أم جوزي بصعقة الطور) وفي رواية (آخذ بجانب العرش " كما في البخاري.

وان للعرش زنة عظيمة كما في حديث ام المؤمنين جويرية قال: لقد قلت بعدك كلمات لو وزنت بما قلته لوزنتهن: سبحان الله عدد خلقه سبحان الله رضى نفسه سبحان الله زنة عرشه سبحان الله مداد كلماته " (1)

وهنا نعلم ان زنة العرش أثقل الأوزان كما ان عدد الخلق أكثر الأعداد.

ووصف لنا العرش ان له حملة من الملائكة يسبحون الله ويكبرونه ولا يستكبرون عن عبادته بل يستغفرون للذين آمنوا، قال الله فيهم {الذين يحملون العرش ومن حوله يسبحون بحمد ربهم ويؤمنون به ويستغفرون للذين آمنوا ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلما فاغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك وقهم عذاب الجحيم} غافر 7 وأعلمنا سبحانه ان حملة عرشه يوم القيامة ثمانية كما قال:{ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذٍ ثمانية} الحاقة 17 وهؤلاء الملائكة قد أخبرنا نبينا عليه الصلاة والسلام بصفة واحدٍ منهم وعظم خلقه فقال: " أذن لي أن احدث عن ملك من ملائكة الله من حملة العرش، إن ما بين شحمة أذنه إلى عاتقه مسيرة سبعمائة عام "(2)

وقد انكر العرش كما سبق الجهمية، قال الإمام الدارمي في رده على الجهمية باب الايمان بالعرش وهو احد ما انكرته المعطلة ثم قال: وما ظننا أن نضطر إلى الاحتجاج على احد ممن يدعي الاسلام في اثبات العرش والايمان به حتى ابتلينا بهذه العصابة الملحدة في آيات الله

(1) رواه مسلم رقم 2726

(2)

اخرجه ابو داود رقم 4727 وهو صحيح انظر الصحيحة للالباني رقم 151

ص: 196

فشغلونا بالاحتجاج لما لم تختلف فيه الامم قبلنا وإلى الله نشكو ما اوهمت هذه العصابة من عرى الاسلام واليه نلجأ وبه نستعين. ثم ساق أدلة العرش وذكر مناقشته لرجل منهم قال أنه يؤمن بالعرش لأنه مذكور في القرآن فالزمه رحمه الله بقوله اتقرون ان لله عرشاً معلوماً موصوفاً فوق السماء السابعة تحمله الملائكة والله فوق كما وصف نفسه بائن من خلقه؟ فأبى ان يقربه كذلك وتردد في الجواب وخلط ولم يصرح ثم قال رحمه الله: فقال لي زعيم منهم كبير لا ولكن لما خلق الله الخلق يعني السموات والارض وما فيهن سمىّ ذلك كله عرشاً له واستوى على جميع ذلك كله (1)

وقد جاء على لسان صحابة رسول الله ايمان بالعرش وان الله مستو عليه بكل تسليم، قال الصحابي عبد الله بن رواحة: "

وان العرش فوق الماء طافٍ: . وفوق العرش رب العالمين

وتحمله ملائكة شداد.: . ملائكة الإله مسومينا (2)

وهكذا سلف الامة نظروا في هذه النصوص فآمنوا بها ولم يؤلوها ولم ينكروها. قال الإمام أحمد " ولله عز وجل عرش وللعرش حملة يحملونه والله عز وجل على عرشه (3)

ومثله ابن ابي زمنين (4): قال: ومن قول اهل السنة ان الله عز وجل خلق العرش واختصه بالعلو والارتفاع فوق جميع ما خلق ثم استوى عليه كيف شاء (5)

(1) الرد على الجهمية للدارمي ص 263، 264 باختصار

(2)

سير اعلام النبلاء للذهبي 1/ 238

(3)

طبقات الحنابلة 1/ 29

(4)

محمد بن عبدالله بن عيسى المري، فقيه مالكي من الوعاظ الأدباء، له كتب كثيرة في السنة وتفسير القرآن (ت 399 هـ) الأعلام (6/ 227).

(5)

الفتاوى لابن تيمية 5/ 54

ص: 197

وذكر ذلك الإمام الطحاوي في عقيدته " وهو مستغن عن العرش وما دونه " وفسر كلامه الشارح احسن تفسير فقال: ذكر بعد ذلك غناه سبحانه عن العرش وما دون العرش ليبين أن خلقه للعرش لاستواءه عليه ليس لحاجته اليه بل له في ذلك حكمة اقتضته (1)

قال الذهبي مبيناً كيف اهتز عرش الرحمن لموت سعد بن معاذ رضي الله عنه كما في الحديث الصحيح في مسند أحمد. " والعرش خلق لله مسخر إذا شاء ان يهتز اهتز بمشيئة الله وجعل فيه شعوراً لحب سعد كما جعل تعالى شعوراً في جبل احد بحبه النبي صلى الله عليه وسلم ثم قال: وهذ باب واسع سبيله الايمان (2)، وأما من كان سبيله التأويل للعرش كما عند المعتزلة فقد قالوا: أنه يراد به (معنى الملك) كما قال عبد الجبار وقال ان ذلك ظاهر اللغة يقال: مثل عرش بني فلان أي زال ملكهم (3) وقد رد كلامه أئمة السلف: من أن العرش سرير الملك كما قال الله عن بلقيس {ولها عرش عظيم} النمل 23.

قال البيهقي رحمه الله: وأقاويل اهل التفسير على أن العرش هو السرير وأنه جسم مجسم (4) وقال ابن ابي العز " وأما من حرف كلام الله وجعل العرش عبارة عن الملك فكيف يصنع بقوله تعالى {ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذٍ ثمانية} وقوله {وكان عرشه على الماء} هود 7 ويكون موسى عليه السلام آخذ بقائمة من قوائم الملك هل يقول هذا عاقل يدري ما يقول. (5)

(1) شرح الطحاوية ص 372

(2)

سير اعلام النبلاء 1/ 297

(3)

شرح الاصول الخمسة ص 226

(4)

الاسماء والصفات 497

(5)

شرح الطحاوية ص 366

ص: 198

ولعظم هذه المسألة عند السلف افردوها بالتأليف كما فعل الإمام ابي عبيدة معمر بن المثنى في كتابه فضائل العرش، والعرش وما روي فيه للحافظ ابن ابي شيبة صاحب المصنف والرسالة العرشية لابن تيمية وغيرهم رحمهم الله.

وفي هذا الدرب سار الإمام البخاري رحمه الله في صحيحه فبوب بذكر العرش بقوله تعالى: {وكان عرشه على الماء} هود 4، وقوله {وهو رب العرش العظيم} التوبة 129 ثم بين الفرق رحمه الله بين استوى إلى السماء واستوى على العرش وأورد قول ابي العالية رحمه الله (استوى إلى السماء) ارتفع ثم (سواهن) خلقهن ثم نقل قول مجاهد في الاستواء على العرش ان (استوى) علا (على العرش) وقول ابن عباس في معنى (المجيد) أي الكريم و (الودود) أي الحبيب قال: كأنه فعيل من ماجد ومحمود من حميد

قال ابن المنير: نبه البخاري هنا على مسألة لطيفة وهي ان المجيد على قراءة الكسر لا يتخيل انها صفة العرش وأنه بذلك قديم بل هي صفة الحق بدليل قراءة الرفع وبدليل اقترانها بالودود وهي صفة الحق فيكون بالكسر على الجوار حينئذٍ (1)

قال الحافظ بعد نقله لكلام ابن المنير: وهو يؤيد انها عند البخاري صفة لله تعالى ما اردفه به وهو يقال حميد مجيد. . الخ (2) ثم ساق رحمه الله احاديث الباب لبيان العرش فبدأ بحديث عمران بن حصين لما جاءه بنو تميم واهل اليمن وفيه [كان الله ولم يكن شيء قبله وكان عرشه على الماء ثم خلق السموات والارض وكتب في الذكر كل شيء] واراد به رحمه الله الاخبار بكون العرش على الماء عند ابتداء خلق السموات والارض، قال ابن خزيمة رحمه الله (

(1) المتواري على تراجم البخاري ص 422

(2)

الفتح 13/ 419

ص: 199

معنى قوله وكان عرشه على الماء كقوله وكان الله عليا حكيما) (1) يعني ان كان هنا لا تدل على أن ذلك امر قد مضى وانقضى بل تدل على ثبوته فهو كان ولا يزال على ما كان وليس معنى ذلك ان شيئا من مفعولاته قديم معه بل هو خالق كل شيء وكل شيء سواه مخلوق له وكل مخلوق محدث كائن بعد ان لم يكن مع أنه تعالى لم يزل بصفاته خالقاً فعالاً لما يريد (2)

والبخاري أورد هذا الحديث للدلالة على عظم العرش وان له شأناً غير السموات والارض وان وجوده قبل وجودهما، ومثل هذا الحديث الذي رواه ابو هريرة وفيه (وعرشه على الماء) فالعرش والماء سابق على وجود السموات والارض بزمن لا يعلم مقداره إلاّ الله.

ثم أورد حديث افتخار أم المؤمنين زينب على ازواج رسول الله صلى الله عليه وسلم تقول " زوجكن اهاليكن وزوجني الله - تعالى - من فوق سبع سموات) وهذا بيان ان العرش فوق السموات فيكون الله فوق السموات لأنه سبحانه فوق العرش (3)

والرواية الاخرى (ان الله انكحني في السماء) مثل سابقتها بالمعنى إذ هو في جهة العلو سبحانه علو ذات وعلو صفات، ثم أورد حديث ابي هريرة وفيه (ان الله لما قضى الخلق كتب عنده فوق عرشه ان رحمتي سبقت غضبي) فهنا ظرفان مختصان بالمكان وقد اضيفا إلى الله تعالى فلا بد ان هذه الاضافة تقتضي تخصيصاً للعرش على غيره من السموات والارض وقد تكلف في هذا الحديث تأويلاً له ما ليس لنا به حاجة إذا آمنا أنه على الحقيقة وأوكلنا علم كيفيته إلى الله (4)

(1) التوحيد 1/ 238

(2)

شرح كتاب التوحيد للغنيمان 1/ 384

(3)

شرح كتاب التوحيد لابن عثيمين ص 109

(4)

انظر مانقله الحافظ رحمه الله عن الخطابي في الفتح 13/ 424 وتكلف التأويل هناك

ص: 200

ثم حديث ابي هريرة رضي الله عنه وفيه [فإذا سألتم الله فسلوه الفردوس فأنه أوسط الجنة وأعلى الجنة وفوقه عرش الرحمن ومنه تفجر أنهار الجنة] وقد ساق البخاري لبيان أن أعلى مخلوق هو العرش وليس فوق العرش مخلوق ولكن الرحمن جل وعلا فوقه

كما قال ابن خزيمة (فالخبر يصرح ان عرش ربنا فوق جنته) وقد أعلمنا أنه مستو على عرشه الذي هو فوق جنته (1)

ثم حديث ابي ذر رضي الله عنه قال صلى الله عليه وسلم: بعد ان غربت الشمس أتدري أين تذهب هذه قلت الله ورسوله أعلم قال فإنها تذهب تستأذن في السجود فيؤذن لها وكأنها قد قيل لها ارجعي من حيث جئت فتطلع من مغربها ثم قرأ {ذلك مستقرٌ لها} في قراءة عبد الله ابن مسعود.

وكعادة البخاري في ايراد الحديث ثم لا يكون فيه موضع الشاهد لأنه ذكره في مكان آخر أو ورد في حديث ليس على شرطه، وفي هذا شحذ لطالب العلم للبحث عنه.

وقد جاء الشاهد عند البخاري في بدء الخلق وفي تفسير سورة يس وفيه (فانها تذهب حتى تسجد تحت العرش) وفي رواية مسلم [قال مستقرها تحت العرش](2) ومعلوم أن أعلا ما تكون فيه الشمس تكون أقرب ما تكون إلى العرش وفيه دليل على علو العرش وأنه مخلوق إذ له فوق وتحت وهي صفة المخلوقات (3) وأما سجودها فانها تسجد كل ليلة على جانب من الارض مع سيرها وفي مكان معين يحصل سجودها الذي لاندركه ولكن علمناه بالوحي سجود حقيقي يناسبها كما هو ظاهر الحديث

(1) التوحيد لابن خزيمة 1/ 242

(2)

صحيح مسلم 1/ 39

(3)

الفتح 1/ 425

ص: 201

ومن يتوهم في كيفية السجود أو مكأنه فانما يقع في المحذور الذي يقع فيه كل من قاس بمقاييس البشر وصفات البشر ثم أورد أثر زيد بن ثابت رضي الله عنه في جمع القرآن قال فتتبعت القرآن حتى وجدت آخر سورة التوبة مع ابي خزيمة الانصاري رضي الله عنه لم أجدها مع أحد غيره {لقد جاءكم رسول من أنفسكم} حتى آخر براءة] وأورد البخاري لموضع الشاهد من آخر الآيات وهو قوله {فإن تولوا فقل حسبي الله لا اله إلاّ هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم} قال الحافظ: وصف العرش ان له رباً فهو مربوب وكل مربوب مخلوق (1) وانما عني بوصفه - جل ثناؤه أنه رب العرش العظيم - الخبر عن جميع ما دونه انهم عبيده وفي ملكه وسلطأنه لأان العرش العظيم انما يكون للملوك فوصف نفسه أنه ذو العرش دون سائر خلقه وأنه المالك العظيم دون غيره وأن من دونه في سلطأنه وملكه جار عليه حكمه وقضاؤه (2)

وهكذا رحمه الله يورد حديث ابن عباس في هديه صلى الله عليه وسلم في دعاء الكرب وفيه (رب العرش العظيم ورب العرش الكريم) قال الكرماني " وصف العرش بالعظمة هو من جهة الكمية وبالكرم أي الحسن من جهة الكيفية فهو ممدوح ذاتاً وصفة وخص بالذكر لأنه أعظم أجسام العالم فيدخل الجميع تحته دخول الأدنى تحت الأعلى (3)

ثم يورد وصف العرش بان له قوائم بحديث ابي سعيد الخدري " فإذا انا بموسى آخذ بقائمة من قوائم العرش " فتبين أن البخاري رحمه الله وافق السلف الصالح في اثبات العرش وان الله استوى عليه وأن العرش فوق جميع المخلوقات وله حملة وله قوائم وهو سقف الفردوس وأنه

(1) الفتح 13/ 425

(2)

تفسير الطبري 11/ 78

(3)

شرح الكرماني للبخاري 21/ 149

ص: 202

من أول المخلوقات المعلومة لنا إذ هو على الماء قبل ان يخلق السموات والارض خلافاً لما قالته الجهمية ومن تبعهم.

وقد اطلنا الكلام هنا لاطالة البخاري في بيان عظمة العرش الذي أورد في أوله أنه سبحانه استوى عليه استواء يليق بجلاله كما ذكر في كتابه خلق افعال العباد وقال: حدثت عن يزيد بن هارون (1) قال: من زعم ان الرحمن على العرش استوى على خلاف ما يقر في قلوب العامه فهو جهمي " (2) فالاستواء لم يظهر إنكاره إلاّ في أوائل القرن الثاني كما قدمنا على يد الجعد بن درهم ثم تبعه من اوله حتى لا يشابه به المخلوقين فقال استولى على العرش بدلاً من استوى. ولهذا أورد البخاري قول التابعي الجليل ابو العالية (3): استوى ارتفع وقول مجاهد استوى علا. والاستواء له عدة معانٍ فهو إما مطلق أو مقيد:

فالمطلق: مالم يوصل معناه بحرف مثل قوله {ولما بلغ اشده واستوى} القصص 14 فهذا معناه كمل وتم كقولنا استوى الطعام وأما المقيد: فثلاثة اضرب

الأول: إما مقيد (بإلى) كقوله تعالى {ثم استوى إلى السماء} فصلت 11، واستوى فلان على السطح وإلى الغرفة وقد ذكر سبحانه هذا المعدى بإلى في موضعين في سورة البقرة في قوله تعالى {هو الذي خلق لكم ما في الارض جميعاً ثم استوى إلى السماء} البقرة 29.

(1) يزيد بن هارون السُّلمي من حفاظ الحديث الثقات - قال المأمون: لولا مكانة يزيد لأظهرت أن القرآن مخلوق، (ت 206 هـ) الأعلام (8/ 190).

(2)

خلق افعال العباد ص 127 ضمن مجموعة عقائد السلف

(3)

رفيع بن مهران، الإمام الحافظ المفسر الرياحي أحد الأعلام أدرك زمان النبي صلى الله عليه وسلم وهو شاب ثم أسلم في خلافة أبي بكر سمع من عمر وعلي وابوذر وعائشة وحفظ القرآن على أُبي بن كعب، وهو أعلم الناس بالقرآن بعد الصحابة، (ت 93 هـ) سير أعلام النبلاء (4/ 207).

ص: 203

وفي سورة فصلت {ثم استوى إلى السماء وهي دخان} فصلت 11، وهذا بمعنى العلو والارتفاع باجماع السلف.

الثاني: مقيد بعلى كقوله تعالى {لتستووا على ظهوره} الزخرف 13

وقوله {واستوت على الجودي} هود 44 وقوله {فاستوى على سوقه} الفتح 29 وهذا معناه العلو والارتفاع والاعتدال باجماع اهل اللغة.

الثالث: المقرون بواو مع التي تعدى الفعل إلى المفعول معه نحو: استوى الماء والخشبة بمعنى ساواها. وهذه معاني الاستواء المعقولة في كلام العرب ليس فيها معنى استولى البتة ولا نقله احد من أئمة اللغة الذين يعتمد قولهم، وقد ابطل قولهم العلامة ابن القيم من اثنين واربعين وجهاً (1)

ومعلوم ان استواء الله على عرشه في القرآن الكريم جاء مقيداً (بعلى) فلا يصح إلاّ ان يكون على معنى العلو والارتفاع.

وقد حاول اهل التأويل ايجاد مخارج للفظ استوى بمعنى استولى فقد سألوا ابن الاعرابي (2) عن ذلك فقال: " لا تعرف العرب ذلك كما نقل ذلك الحافظ عن ابو اسماعيل الهروي في كتابه (الفاروق) قال ابن خلف: كنا عند ابي عبد الله بن الاعرابي يعني يحيى بن زياد اللغوي فقال له رجل {الرحمن على العرش استوى} طه 5، فقال هو على العرش كما اخبر قال ابا عبد الله انما معناه استولى فقال اسكت لايقال استولى على شيء إلاّ ان يكون له مضاد

(1) انظر تفصيل ذلك مع الردود في مختصر الصواعق 2/ 306 - 322

(2)

محمد بن زياد إمام اللغة، عاصر الإمام أحمد، كان صاحب سنة وأتباع، (ت 231 هـ) سير أعلام النبلاء (10/ 687).

ص: 204

والذي يدل على محاولات المعتزلة لذلك طريق هذه الرواية عن محمد بن احمد بن النضر الازدي قال: سمعت بن الاعرابي يقول: ارادني أحمد بن أبى داؤد أن أجد له في لغة العرب (الرحمن على العرش استوى) بمعنى استولى فقلت والله ما اصبت هذا (1)

لأنه لو كان بمعنى استولى لم يكن خاصاً بالعرش لأنه غالب على جميع المخلوقات، وقد ناقش المعتزلة وغيرهم الإمام الدارمي ورد شبههم بالتفصيل (2)

ونختم هذا المبحث بالمقولة العلم والقول الأتم الذي صار قانوناً يحتذى ومثالاً يقتدى به في الصفات وهو قول إمام دار الهجرة مالك بن انس رحمه الله لمّا سئل عن الاستواء قال له السائل: يا ابا عبد الله (الرحمن على العرش استوى) كيف استوى. قال: فما رأيت مالكاً وجد من شيء كموجدته من مقالته وعلاه الرحضاء - يعني العرق - قال واطرق القوم جعلوا ينظرون ما يأتي منه فيه قال: فسري عن مالك فقال: الكيف غير معقول والاستواء منه غير مجهول والايمان به واجب والسؤال عنه بدعة فاني اخاف ان تكون ضالاً وأمر به فاخرج (3)

قال الدارمي: وصدق مالك لا يعقل منه كيف ولا يجهل منه الاستواء والقرآن ينطق ببعض ذلك في غير آية (4)

(1) الفتح 13/ 417

(2)

الرد على المريسى للدارمي ص 458 وما بعدها

(3)

هذه رواية اللالكائي بسنده انظر شرح السنة 3/ 441

(4)

الرد على الجهمية ص 56

ص: 205