الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الرابع: إطلاق (الشخص) على الله
جاء في بعض الأحاديث الصحيحة إطلاق (الشخص) على الله، كما بوب البخاري رحمه الله لذلك فقال: باب قول النبي صلى الله عليه وسلم لا شخص أغير من الله، وقد رواه تعليقاً رحمه الله ولكن وصله ابن حجر في تغليق التعليق (1) بإسناده إلى الدارمي رحمه الله وغيره.
ورواه مسلم (2) أيضاً بهذا اللفظ (لا شخص).
وهناك روايات أخرى بقوله (لا شيء) و (لا أحد).
وهناك من جعل لا شخص تصحيف ووهم من الرواة، وهناك من أولها، فقال الخطابي رحمه الله: إطلاق الشخص في صفة الله تعالى غير جائز وذلك لأن الشخص لا يكون إلا جسماً مؤلفاً وإنما يسمى شخصاً ما كان له شخص وارتفاع، ومثل هذا النعت منفي عن الله سبحانه وتعالى، وخليق أن لا تكون هذه اللفظة صحيحة وأن تكون تصحيفاً من الراوي. (3)
ثم ذكر أن الشيء والشخص سواء فمن لم يفهم الاستماع لم يأمن الوهم، وليس كل الرواة يراعون لفظ الحديث حتى لا يتعدوه.
ويشكك الخطابي رحمه الله بأن الراوي جرى منه لفظ الشخص من غير تأمل. (4)
ولعل الخطابي رحمه الله لم يطلع على الروايات الأخرى، فقد روى الحديث مسلم وأحمد والدارمي وغيرهم بلفظ (لا شخص)، ولذلك قال الإمام الكرماني معلقاً على الخطابي:
(1) تغليق التعليق (5/ 344).
(2)
كتاب اللعان حديث رقم 1499.
(3)
أعلام الحديث 4/ 2344.
(4)
أعلام الحديث 4/ 2345
"لا حاجة إلى تخطئة الرواة الثقات بل حكمه حكم سائر المتشابهات فإما أن يفوض وإما أن يؤول (1) " هذا ما يراه الكرماني ولا يُسلم له.
ومثله الحافظ رحمه الله فقد تعقب الخطابي بأنه لم يراجع باقي الروايات الصحيحة وأن طعنه في أئمة الحديث الضابطين مع إمكان توجيه ما رووا من الأمور التي أقدم عليها كثير من غير أهل الحديث وهو يقتضي قصور في علم من فعل ذلك منهم. (2)
وقال الإمام النووي رحمه الله: (لا شخص) أي لا أحد، وإنما قال لا شخص استعارة ومعناه لا ينبغي لشخص أن يكون أغير من الله ولا يتصور ذلك منه. (3)
وإلى مثل هذا ذهب البيهقي رحمه الله فقد ساق كلام الخطابي وارتضى أن يكون لفظ (لا شخص) تصحيفاً ثم قال: ولو ثبتت هذه اللفظة لم يكن فيها ما يوجب أن يكون الله شخصاً، فإنما قصد إثبات صفة الغيرة لله تعالى والمبالغة فيه، وأن أحداً من الأشخاص لا يبلغ تمامها. ونقل البيهقي مثل ذلك عن أبي بكر الإسماعيلي (4) بأنه لا يوجب بأن الله شخص. (5)
واسند لذلك بأن قوله (ما خلق الله شيئاً أعظم من آية الكرسي) ليس فيه إثبات خلق آية الكرسي، وليس فيه إلا أن لا خلق في العِظم كآية الكرسي، لا أن آية الكرسي مخلوقة (6)، وبهذا قال ابن فورك وأخذه عنه ابن بطال.
(1)(25/ 128) الكواكب الدراري شرح صحيح البخاري للكرماني (25/ 128).
(2)
فتح الباري (13/ 401) بتصرف.
(3)
شرح صحيح مسلم (10/ 103).
(4)
أحمد بن إبراهيم إسماعيل، حافظ جمع بين الفقه والحديث ورياسة الدين والدنيا، (ت 371 هـ) الأعلام (1/ 86).
(5)
الأسماء والصفات صـ 366.
(6)
المصدر السابق، وهذا المثال محل نظر والله أعلم.
وقال ابن فورك بالمنع لهذا الإطلاق لعدم ثباته عنده من طريق السماع وللإجماع على منعه ولأن معناه يقتضي الجسمية.
وقال بالإجماع أيضاً ابن بطال، فقال: أجمعت الأمة على أن الله تعالى لا يجوز أن يوصف بأنه شخص.
ونقل عن القاضي عياض (1) رحمه الله أنه لا إشكال في قوله (لا شخص) لأنه ربما وقع تجوزاً من (شيء) أو (أحد) وقال: قد يكون المراد بالشخص المرتفع؛ لأن الشخص هو ما ظهر وشخص وارتفع، فيكون المعنى لا مرتفع أرفع من الله كقوله (لا متعالي أعلى من الله) وله توجيه آخر وهو: لا ينبغي لشخص أن يكون أغير من الله، وبمثله قال القرطبي (2)
وأما من يسوق هذا اللفظ من غير تأويل فالإمام عبيد الله القواريري (3) راوي الحديث في المسند رحمه الله قال عبد الله بن أحمد بعد ذكره لهذا الحديث: قال عبيد الله القواريري: “ليس حديث أشد على الجهمية من هذا الحديث (4) ”.
ورواه الإمام الدارمي في سننه ساكتاً عنه. (5)
وبوب له الإمام الحافظ ابن أبي عاصم (6) في كتابه [السنة] وساق للحديث إسنادين صحيحين على شرط الشيخين كما قال الألباني. (7)
(1) عياض بن موسى اليحصبي، عالم المغرب وإمام أهل الحديث في وقته (ت 544 هـ)، الأعلام (5/ 99).
(2)
انظر الأقوال السابقة في فتح الباري (13/ 413).
(3)
عبيد الله بن عمر بن ميسرة الإمام الحافظ، محدِّث الإسلام، روى له البخاري ومسلم وأبوداود وكتب عنه يحيى بن معين وأحمد بن حنبل (ت 235 هـ) سير أعلام النبلاء (11/ 442).
(4)
المسند 4/ 248.
(5)
سنن الدارمي 2/ 73.
(6)
أحمد بن عمرو بن أبي عاصم الضحاك بن مخلد الشيباني يقال له ابن النبيل، عالم بالحديث له ثلاث مائة مصنف، (ت 287 هـ) الأعلام (1/ 189).
(7)
السنة لابن أبي عاصم صـ 230 - 231.
ومثله الإمام أبو يعلى ساق هذا الحديث بسنده في [إبطال التأويلات لأخبار الصفات] ثم قال: وأما لفظ الشخص فرأيت بعض أصحاب الحديث يذهب إلى جواز إطلاقه ووجهه أن قوله (لا شخص) نفي من إثبات وذلك يقتضي الجنس كقولك: لا رجل أكرم من زيد، يقتضي أن زيداً يقع عليه اسم رجل، كذلك قوله (لا شخص أغير من الله) يقتضي أنه سبحانه يقع عليه هذا الاسم. (1)
ثم ذكر احتمالاً آخر وهو أن الاستثناء من غير جنسه لورود الروايات الأخرى (لا أحد) وقال إن هذا مثل قوله {ما لهم به من علم إلا اتباع الظن} النساء 157، وليس الظن من نوع العلم، وقوله {فإنهم عدوٌ لي إلا رب العالمين} (2) الشعراء 77.
فعلى هذا يمتنع في الرأي الآخر لأبي يعلى إطلاق الشخص على الله. (3)
وجزم الدكتور عبد الله الغنيمان بأن هذا هو مراد البخاري وأنه وصف له.
وقال عن حكاية الإجماع التي قالها ابن بطال بأنه [لا يجوز أن يوصف بأنه شخص] أنها مجازفة ودعوى عارية عن الدليل وأن الدليل على ثبوت هذا اللفظ ثم قال: " وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم إطلاق هذا الاسم - أعني الشخص- على الله تعالى فيجب اتباعه في ذلك على من يؤمن بأنه رسول الله وهو صلى الله عليه وسلم أعلم بربه وبما يجب له وما يمتنع عليه من غيره من سائر البشر. (4)
(1) إبطال التأويلات لأبي يعلى (1/ 166).
(2)
المصدر السابق ج 1 صـ 167.
(3)
وأورده ابن البنا في عقيدته التي اختصر فيها كتاب التوحيد للبخاري من غير تعليق صـ 122.
(4)
شرح كتاب التوحيد للغنيمان (1/ 339).
والبخاري رحمه الله لم يصرح بشيء غير التبويب بهذا الحديث المعلق، قال الحافظ رحمه الله: لم يفصح المصنف بإطلاق الشخص على الله، بل أورد ذلك على طريق الاحتمال.
ويلاحظ أن البخاري رحمه الله جزم بتسميته شيئاً لوضوح ذلك بالآيتين فقال: "فقد سمى الله شيئاً وسمى النبي صلى الله عليه وسلم القرآن شيئاً وهو صفة من صفات الله".
ولكن بعض المؤلفين في مناسبات تراجم البخاري يرى أن مقصود البخاري بهذه الترجمة إثبات صفة الغيرة لله بدليل الحديث الذي أورده في الباب وهو قوله [أتعجبون من غيرة سعد، والله لأنا أغير منه والله أغير مني، ومن أجل غيرة الله حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن]. (1)
هذا والله أعلم، له وجاهة ولا حاجة للتأويل ونسبة الرواة للجهالة أو الرواية بالمعنى لثبوت لفظ الشخص في الصحيحين وغيرهما؛ ولأنه لا يلزم في اللغة أن يكون المفضل عليه من جنس المفضل، فلا يلزم إذاً أن يكون الله موصوفاً بالشخصية.
ثم إذا سلم بالوصف بالشخصية على قول من قال به، فهو لا يلزم من كونه شخصاً أن يكون مماثلاً للأشخاص فإن الله ليس كمثله شيء حتى في اللفظة التي يستوي الإنسان والرب عز وجل فإنه لا يماثله في حقيقة معناها، كما مرّ معنا في أكثر من إطلاق.
قال تعالى: {ليس كمثله شيء وهو السميع البصير} الشورى 11.
واورد الإمام الدارقطني في كتاب الرؤية، وعبد الله بن أحمد بأسنادهما إلى لقيط بن عامر (2) رضي الله عنه في حديث قدومه على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو حديث طويل وفيه ". .
(1) الأبواب والتراجم للهندي [6/ 339].
(2)
لقيط بن عامر بن صبرة أبو رزين صحابي، (ت 297 هـ) تقريب التهذيب (2/ 138).
فذكر الرب فقال تنظرون إليه وينظر إليكم" قال قلت يا رسول الله، كيف ونحن ملئ الأرض وهو شخص واحد فينظر إلينا وننظر إليه؟
فقال: الشمس والقمر آية منه صغيرة تروينهما ويرياناكم".
قال: فأقره النبي صلى الله عليه وسلم على قوله " وهو شخص واحد".
وقد اختلف العلماء في صحة هذا الحديث، فممن صححه الإمام ابن القيم، وحكى قبوله عن الأئمة أبو زرعة الرازي وأبو حاتم والبخاري وغيرهم.
ثم علق على قوله (وهو شخص واحد) بقوله: وقد جاء هذا في الحديث وفي حديث آخر (لا شخص أغير من الله).
قال: والمخاطبون بهذا قوم عرب يعلمون المراد منه ولا يقع في قلوبهم تشبيهه سبحانه بالأشخاص بل هم أشرف عقولاً واصح أذهاناً وأسلم قلوباً من ذلك. (1)
والذي بان لي أنه يجوز إطلاق لفظ الشخص من باب الإخبار عن الله ولكن ليس من باب التسمية؛ لأن شرط الأسماء أن تكون حسنى بالغة الحسن أكمله، ولأنه لا يدعي بقوله يا شخص ولم يرد هذا اللفظ في جميع روايات من جمع الأسماء الحسنى، والله أعلم.
(1) زاد المعاد 3/ 681. والحديث: قال الأرنؤوط إسناده ضعيف لجهالة عبد الرحمن بن عياش السمعي. وقال مثله محقق أبطال التأويلات: ضعيف لنفس الجهالة السابقة، وقال الحافظ في التهذيب (5/ 57) ورواه أبو القاسم الطبراني مطولاً وهو حديث غريب جداً. وكذا قال د. محمد القحطاني في تحقيق السنة لعبدالله ابن أحمد 2/ 485.