الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الرابع: ما ورد في صفة الكلام
أخذت صفة الكلام وما يتبعها من مسألة خلق القرآن وغيرها حيزاً كبيراً في الفكر الإسلامي
ولا نبالغ إذا قلنا من أنها من المسائل التي افترقت فيها أهل الفرق بين بعضها البعض في الفرقة الواحدة تجد الاختلاف الكبير، حتى أن (الايجي) يذكر أن علم الكلام إنما سمي بذلك للاختلاف في هذه الصفة. (1)
أما من ينكر هذه الصفة فهو من أنكر غيرها من صفات الله تبارك وتعالى وبنفس الحجج السابقة، فالجهمية والمعتزلة متفقون في نفي الكلام عن الله من أنه صفة له فالمعتزلة يقولون أنه متكلم حقيقة وحقيقة ذلك عندهم أنه خلق كلاماً في غيره. (2)
والجهمية تارة يصرحون بنفي أن يكون متكلماً حقيقة (3) وتارة يقرون باللفظ ويقرونه بأنه خلق في غيره كلاماً.
قال شيخ الإسلام: والجهمية تارة يبوحون بحقيقة القول فيقولون: إن الله لم يكلم موسى تكليماً ولا يتكلم وتارة لا يظهرون هذا اللفظ لما فيه من الشناعة والمخالفة لدين الإسلام
(1) المواقف للايجي ص 9
(2)
شرح الطحاوية ص 173
(3)
الفرق بين الفِرق ص 212
واليهود والنصارى فيقرون باللفظ ولكن يقرونه بأنه خلق في غيره كلاماً (1)
وهنا نعلم أن الجهمية والمعتزلة متفقون على أن الكلام لا يقوم به تعالى وان ما يضاف إليه من كلام هو الحروف والأصوات التي يخلقها في غيره فالقرآن مفعول محدث إلا أن الجهمية ينفون أن يكون الله متكلماً حقيقة رغم تصريحهم بذلك أحياناً والمعتزلة يثبتون أنه متكلم حقيقة إذ كان خالق الكلام في غيره يسمى عندهم متكلماً حقيقة
قال القاضي عبد الجبار (ولا خلاف بين جميع أهل العدل أن القرآن مخلوق محدث مفعول لم يكن ثم كان)(2)
وهناك رأي آخر في هذه المسألة إذ لم يكن في ذلك الوقت غير أهل السنة ومخالفيهم من الجهمية والمعتزلة حتى جاء ابن كلاب فقال إن كلام الله قديم وأنه معنى واحد وأنه لا يتعلق بمشيئته الله وإرادته.
قال الإمام أبو نصر السجزي (فلما نبغ ابن كلاب وأضرابه وحاولوا الرد على المعتزلة من طريق مجرد العقل وهم لا يخبرون أصول السنة ولا ما كان السلف عليه ولا يحتجون بالأخبار الواردة في ذلك.
- إلى أن قال - قالوا للمعتزلة: الذي ذكرتموه ليس بحقيقة الكلام وانما سمى ذلك كلاماً على المجاز لكونه حكاية أو عبارة عنه وحقيقة الكلام: معنى قائم بذات المتكلم. . .
قال: ثم خرجوا من هذه إلى أن إثبات الحرف والصوت في كلامه سبحانه تجسيم واثبات اللغة فيه تشبيه. (3)
(1) الفتاوى - 12/ 503، 504
(2)
المغني 7/ 3
(3)
الرد على من أنكر الحرف والصوت للسجزي ص 81، 82 بتصرف
ويريد ابن كلاب ومن وافقه إن الحروف والأصوات حكاية عن كلام الله خلقها الله لتدل على ذلك المعنى القائم بذاته تعالى وهو أربعة معان: الأمر والنهي والخبر والإستخبار إن عبر عنه بالعربية كان قرآناً وان عبر عنه بالعبرية كان توراة، واصل كلامه قائم على نفيه للصفات الاختيارية هروباً من القول بحلول الحوادث.
قال الإمام أبو الحسن الأشعري مفصلاً مذهبه: قال عبد الله بن كلاب إن الله لم يزل متكلماً، وان كلام الله سبحانه صفة له قائمة به وأنه قديم بكلامه وان كلامه قائم به كما إن العلم قائم به والقدرة قائمة به وهو قديم بعلمه وقدرته وان الكلام ليس بحروف ولا صوت ولا ينقسم ولا يتجزأ ولا يتبعض وأنه معنى واحد بالله عز وجل وان الرسم هو الحروف المتغايرة، وقال ابن كلاب: إن معنى قوله تعالى {فأجره حتى يسمع كلام الله} التوبة 6 معناه: حتى يفهم كلام الله، قال الأشعري:(ويحتمل على مذهبه أن يكون معناه حتى يسمع التالين يتلونه)(1)
وأما السلف فهم يؤمنون أن الكلام صفة قائمة به سبحانه غير بائنة عنه، لا ابتداء لاتصافه بها ولا انتهاء يتكلم بها بمشيئته واختياره ولا يشبه كلام المخلوقين وكلامه احسن الكلام ويكلم به من شاء من خلقه: من ملائكته ورسله وسائر عباده بواسطة إن شاء أو بغيرها، ويسمعه على الحقيقة من شاء من ملائكته ورسله ويسمعه عباده في الدار الآخرة بصوت نفسه كما أنه كلم موسى بصوت، وكما أن كلامه لا يشبه كلام المخلوقين فان صوته لا يشبه أصواتهم وكلماته لا حصر ولا نهاية لها، وكلامه ينقسم ويتبعض ويتجزأ فالقرآن من كلامه والإنجيل من كلامه والقرآن غير التوراة والإنجيل والفاتحة بعض القرآن وآية الكرسي بعض
(1) مقالات الإسلاميين للأشعري (584، 585)
سورة البقرة وكلامه يتفاضل فيكون بعضه افضل من بعض فآية الكرسي أفضل من غيرها من الآيات، وكلامه يتعاقب يتلو بعضه بعضاً، كل ذلك غير مخلوق بألفاظ وحروف ولا تشبه كلام المخلوقين وأصوات العباد وحركاتهم بالقرآن وورق المصحف وجلده ومداد الكتابة كل ذلك مصنوع مخلوق، والمؤلف من الحروف المنطوقة المسموعة المسطورة المحفوظة كلام الله تعالى غير مخلوق بحروفه ومعانية. (1)
هذا جملة ما فهمته من تبويب البخاري رحمه الله لهذه المسائل مع النظر في كلام الإمام أحمد وأبى داود وعثمان بن سعيد الدارمي وغيرهم من الأئمة ممن كتب في هذه المسألة ولهم على كل فقرة دليل وعلى كل شبهة ردّ والحمد لله ولطول هذه المسائل التي تحتمل رسالة خاصة، فاستقتصر على أهم الشبه التي تمسك بها المخالفون ثم التعرض لثلاث مسائل مهمة هي:
مسألة خلق القرآن، ومسألة اللفظ ومسألة أفعال العباد وهي ما أفرد لها البخاري كتاباً مستقلاً سآتي على أهم مسائله وهو (خلق أفعال العباد) وقد ألفه لهذه المسألة أعني الخلاف في مسألة الكلام.
(1)
إثبات صفة الكلام:
أدلة أهل السنة على هذه الصفة كثيرة منها:
- قوله تعالى {تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض منهم من كلم الله} التوبة 253.
- قوله تعالى {وكلم الله موسى تكليماً} النساء 164.
- قوله تعالى {ولمّا جاء موسى لميقاتنا وكلمه ربه} الأعراف 143.
(1) وانظر العقيدة السلفية في كلام رب البرية للجديع ص 79 - 81 بتصرف
وقوله تعالى: {وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله} التوبة 6.
ومن السنة الشريفة
حديث أبي هريرة في احتجاج آدم وموسى فقال له آدم: (يا موسى اصطفاك الله بكلامه وخط لك التوراة بيده). (1)
وحديث ابي هريرة قال: قال صلى الله عليه وسلم (فضل كلام الله على سائر الكلام كفضل الله على سائر خلقه. (2)
ومن كلام الصحابة قول عائشة رضي الله عنها في قصة الإفك (ووالله ما كنت أظن أن الله ينزل براءتي وحياً يتلى ولشأني في نفسي كان أحقر من أن يتكلم الله فيّ بأمر يتلى). (3)
وعن فروة بن نوفل الأشجعي (4) قال: كنت جاراً لخباب فخرجنا يوماً من المسجد وهو آخذ بيدي فقال: " يا هناه، تقرب إلى الله ما استطعت فانك لن تقّرب إليه بشيء ٍ أحب إليه من كلامه - يعني القرآن - ". (5)
إلى غير ذلك من آثار التابعين رحمهم الله.
وأما باقي المسائل فستكون ضمن الموضوعات التي أشرت إليها آنفاً حيث سأكتفي بكلام الإمام البخاري رحمه الله.
(1) رواه البخاري
(2)
أخرجه الدارمي في الرد على الجهمية (287)
واللالكائي رقم (557) وله شاهد عند الترمذي رقم 2962 وهو حديث حسن
(3)
متفق عليه
(4)
فروة بن نوفل بن شريك الأشجعي، تابعي اعتزل الفتنة بعد التحكيم، (ت 41 هـ) الأعلام (5/ 143).
(5)
اللالكائي رقم 558
أولاً: مسألة خلق القرآن:
أول ظهور لهذه المسألة وهذه الفتنة كان في أواخر عهد بني أمية على يد الجعد بن درهم وأخذها عنه الجهم بن صفوان فنسبت إليه، وفي أوائل العهد العباسي في بداية القرن الثالث أثار هذه المسألة بشر المريسي وأخذها عنه ابن أبي دؤاد (1) والذي كان قاضياً للمأمون فاستغل السلطة السياسية التي أجبرت الناس على هذا القول، قال الذهبي - وكان المأمون يجل أهل الكلام ويتناظرون في مجلسه (2) وقد خاض معركة شرسة مع أئمة السنة لجعل هذه المسألة عقيدة عامة المسلمين بل وتدرس في الكتاتيب ولا يخفى مقام الإمام أحمد في هذه المسألة وخلف المأمون المعتصم الذي زاد على أخيه بتعذيب الأئمة في ذلك ثم خلفه ابنه الواثق - الذي نهج نهج من سبقه ثم كشف الله الغمة بأخيه المتوكل وقطع داء هذه الفتنة واعز الله به أهل السنة وكان ذلك كله في حياة الإمام البخاري يشهده ويعاصره إذ بداية هذه المسألة كانت سنة 218 هـ حتى سنة 233، وقد توفى البخاري رحمه الله سنة 256 هـ.
وقد انقسم الناس عند ظهور هذه الفتنة إلى أربعة أقسام:
1 -
أهل الحق وأهل السنة والجماعة الذي قالوا: إن القرآن كلام الله غير مخلوق.
2 -
الجهمية والمعتزلة ومن سار على طريقتهم قالوا القرآن مخلوق.
3 -
الواقفة وهم فئة قالت: لا نقول مخلوق ولا غير مخلوق.
4 -
اللفظية: الذين قالوا: كلام الله غير مخلوق وألفاظنا به مخلوقة.
(1) يذكر ابن الاثير: ان الجهم أخذ ذلك عن ابان ابن سمعان عن طالوت ابن أخت لبيد بن الأعصم وكان يقول بخلق التوراة) الكامل في التاريخ 7/ 75 فهذه سلسلة يهود وضلال والله المستعان!
(2)
سير اعلام النبلاء 10/ 285
أما أهل السنة فأدلتهم أكثر من أن تحصر وقدمت شيئا منها. (1) وسأتعرض للمخالفين باختصار أما الجهمية والمعتزلة فانهم يقولون بان القرآن مخلوق وأدلتهم من مفهوم بعض الآيات كقوله تعالى {الله خالق كل شيء} الرعد 16 - والقرآن داخل في هذا العموم.
ويرد عليهم بأن عموم (كل) إنما هو بحسب الموضع الذي ترد فيه، فـ (بلقيس)(أوتيت من كل شيء) ولم تؤت ملك سليمان ولا غيره وقد قال الله أيضاً {قل أي شيء اكبر شهادة قل الله} الأنعام 19، فسمى الله نفسه شيئاً والمخلوق شيء عندهم والله هو الخالق وليس بمخلوق وصفاته تابعة لذاته والقرآن كلامه وكلامه صفته وصفته غير مخلوقة
وهنا يتضح خطأ المعتزلة في هذا الاستدلال خاصة أنه يناقض أصلهم في أن أفعال العباد عندهم غير مخلوقة فأخرجوها من عموم (كل) في دليلهم وادخلوا صفة الله فبان اضطرابهم.
ثم استدلوا بقوله تعالى {إنا جعلناه قرآنا عربياً} الزخرف 3، قالوا والجعل الخلق.
ويرد عليهم بان الجعل يأتي متعدٍ إلى مفعول وإلى مفعولين فهو يستعمل بمعنى خلق إذا تعدى إلى مفعول واحد كقوله تعالى {الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور} الأنعام 1.
وربما تعدى إلى مفعول واحد ولا يكون بمعنى خلق كقوله تعالى: {وجعلوا لله شركاء} الأنعام 100.
لكن إن تعدى إلى مفعولين فلا يكون بمعنى (خلق) بأي حال كقوله تعالى: {وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا لمّا صبروا} الأنبياء 73.
ومثله قوله تعالى وهذا استدلال المعتزلة {إنا جعلناه قرآناً عربياً} فالمفعول الأول الضمير والثاني) (قرآناً) والمعنى قلناه قرآناً عربياً أو بيناه.
قال الإمام احمد في ذلك (فقد قال الله تعالى {فجعلهم كعصف مأكول} أفخلقهم؟ (2)
وقد أطال الأئمة في بيان كفر من قال بخلق القرآن، قال الإمام أحمد: من قال القرآن مخلوق فهو عندنا كافر.
وقال حين سئل عمن يقول القرآن مخلوق؟ فقال: كنت لا أكفرهم حتى قرأت آيات من القرآن {من بعد ما جاءك من العلم} البقرة 120 {بعد الذي جاءك من العلم} آل عمران 61، {أنزله بعلمه} النساء 166، فالقرآن من علم الله ومن زعم أن علم الله مخلوق فهو كافر (3) وقد عقد الإمام الدارمي فصلا في الرد على الجهمية فقال: باب الاحتجاج في إكفار الجهمية. (4)
وأما الواقفة: وهم الذين وقفوا فانهم لم يقولوا مخلوق لا غير مخلوق.
قال الدارمي: ومع وقوفهم لم يرضوا حتى نسبوا إلى البدعة من خالفهم سواء من قال القرآن مخلوق أو غير مخلوق (5)
وأول ظهور هذه المسألة كان في زمن الإمام أحمد وكان إمامهم رجل من أهل العلم يقال له محمد بن شجاع الثلجي (6) وهو من تلاميذ بشر المريسي وكانوا يسمونه (ترس الجهمية)
(1) انظر اللالكائي 2/ 241 وما بعدها ورد الدارمي على بشر المريسي ص 116
والشريعة للآجري ص 75 والفتاوى لابن تيمية 12/ 97
(2)
انظر أقوال المعتزلة في المغني للقاضي عبد الجبار 7/ 94، والاصول الخمسة 57 ص 528 - وللرد انظر الرد على الجهمية للامام أحمد ص 106 وشرح الطحاوية 178 وما بعدها ففيه التفصيل
(3)
طبقات الحنابلة 1/ 414
(4)
الرد على الجهمية 346 - 356
(5)
الرد على الجهمية ص 167
(6)
محمد بن شجاع الثلجي، من أصحاب أبي حنيفة كان يضع الحديث يُثلِّب على أهل السنة، فيه ميل إلى المعتزلة، (ت 266 هـ) الأعلام (6/ 157).
ثم اظهر التوبة من صحبة المريسي ثم اظهر الوقف ولم يقبل منه الإمام أحمد هذه التوبة لأنه كان يشنع على أهل السنة ويضع عليهم الأحاديث وقد كذب على الإمام أحمد غير مره (1) ومذهبه في أن القرآن كلام الله وهو مُحَدث كان بعد أن لم يكن وبالله كان وهو الذي أحدثه وامتنع عن إطلاق القول بأنه مخلوق أو غير مخلوق (2)، وقد شنع الأئمة على الواقفة وانهم شر من الجهمية وانهم شكاك يستترون بالوقف ويخدعون الناس فإنهم إذا يقفوا لم يعرف الناس مذهبهم فيستميلون العامة بهذا القول وأما الجهمية فقد بان أمرهم وعرفهم الناس فيجتنبونهم، وقد تصدى لهم الإمام أحمد وشدد عليهم وقال (من شك فقد كفر)(3)، وقال أيضاً (هؤلاء شر من الجهمية إنما يريدون رأى جهم) وقال الإمام إسحاق بن راهوية فيمن يقف (هو عندي شر من الذي يقول مخلوق لأنه يقتدي به غيره). (4)
وقد أطال النقاش معهم الدارمي في رده على الجهمية وفرق بين من كان من أهل الكلام والعناد وبين من لم يكن من أهل الكلام فأنه يعلم ويبصر ويقال له: القرآن كلام الله غير مخلوق فان امتنع فهو من الجهمية.
وقد سئل الإمام أحمد عن من وقف ولم يقل " غير مخلوق " قال: أنا أقول: القرآن كلام الله فقال: يقال له: إن العلماء يقولون غير مخلوق فان أبى؛ فهو جهمي. (5)
(1) تاريخ بغداد 5/ 350 - 352
(2)
مقالات الاسلاميين للاشعري 2/ 256
(3)
اللالكائي (2/ 323 - 329) والابانة لابن بطه 1/ 291
(4)
الابانة لابن بطه 1/ 309
(5)
السنة لعبد الله بن أحمد 1/ 179
وقال: من كان منهم يحسن الكلام فهو جهمي (1) - وقال أبو داود رحمه الله ورأيت الإمام أحمد سلم عليه رجل من أهل بغداد ممن وقف فيما بلغني فقال له: اغرب؛ لا أراك تجيء إلى بابي) في كلام غليظ ولم يرد عليه السلام وقال: ما أحوجك إلى أن يصنع بكل كما صنع عمر بن الخطاب رضي الله عنه بصبيغ ودخل بيته وردّ الباب. (2)
قال ابن قتيبة مبيناً حال الاختلاف في وقته وكان معاصراً لهذه المقولة (ولم أر في هذه الفرق ممن أمر بالسكوت والتجاهل بعد هذه الفتنة وإنما يجوز أن يؤمر بهذا قبل تفاقم الأمر ووقوع الشحناء وليس في غرائز الناس احتمال الامساك عن أمر في الدين قد انتشر هذا الانتشار، وظهر هذا الظهور. ولو امسك عقلائهم ما امسك جهلاؤهم، ولو أمسكت الألسنة ما أمسكت القلوب، ثم قال رحمه الله: وكل من ادعى شيئاً أو انتحل نحلة فهو يزعم أن الحق فيما ادعى وفيما انتحل خلا الواقف الشاك فأنه يقر على نفسه بالخطأ لأنه يعلم أن الحق في أحد الأمرين اللذين وقف بينهما (3)، وهكذا عد الأئمة الواقفة من الجهمية ومن أهل البدعة.
ولعظم هذه المسألة أطال الإمام اللالكائي في عدّ من تكلم من السلف في هذه المسألة فأطال وافاد رحمه الله (4)
وأما اللفظية: فان مسألة اللفظ بالقرآن من المسائل الدقيقة خاصة إنها حصلت بين جماعة من أهل السنة وأفاضل العلماء كما قال شيخ الإسلام (ومسألة اللفظ بالقرآن قد
(1) نفس المصدر والصفحة
(2)
الشريعة للآجري ص 88
(3)
الاختلاف في اللفظ لابن قتيبة 61، 62 بتصرف
(4)
شرح اصول اعتقاد اهل السنة 2/ 357/363
والرد على الجهمية للدارمي 342 وما بعدها
اضطرب فيها أقوام لهم علم وفضل ودين وعقل وجرت بسببها مخاصمات ومهاجرات بين أهل الحديث والسنة). (1)
وإلا فالأصل في هذه المسألة إنها ليست من مأثور صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا تابعيهم كما قال الإمام الطبري " وأما القول في ألفاظ العباد بالقرآن فلا أثر فيه نعلمه عن صحابي مضى ولا تابعي قضى ". (2) فمن أين جاءت هذه المسألة الحادثة ومتى بدأت؟
أول من عرف عنه هذه المسألة أبو علي الحسين بن علي الكرابيسي فقيه معاصر للإمام أحمد كان مشتغلاً بالعلم وصحب الإمام الشافعي وهو أول من قال " لفظي بالقرآن مخلوق " فبلغ قوله الإمام أحمد فأنكره وقال: بدعة ثم قال الإمام أحمد: إنما بلاؤهم من هذه الكتب التي وضعوها وتركوا الآثار. (3)
وهذه المسألة دقيقة بين العلماء فهماً وقولاً ولذلك قال ابن قتيبة " وإنما اختلفوا في فرع لم يفهموه لغموضه ولطف معناه فتعلق كل فريق منهم بشعبة منه. (4)
ولما قال الكرابيسي لفظنا بالقرآن مخلوق أراد بعض أهل السنة أن يردوا عليه فقال ألفاظنا بالقرآن غير مخلوقة فردوا البدعة ببدعة.
ولبيان حقيقة هذه المسألة العظيمة وأن منشأ النزاع فيها الذي - كما يصفه ابن تيمية - لا يكاد ينضبط أنه يعود إلى أصلين:
أحدهما: أن أفعال العباد مخلوقة.
(1) الفتاوى 12/ 333
(2)
شرح السنة لللالكائي 2/ 355
(3)
السير 12/ 82
(4)
الاختلاف في اللفظ ص 57
والثاني: مسألة تلاوة القرآن وقراءته واللفظ به هل يقال مخلوق أو غير مخلوق؟ وقد نص الإمام أحمد على رد المقالتين هو وسائر أئمة السنة من المتقدمين والمتأخرين. (1)
ثم انقسم الناس بعد ذلك في هذه المسألة إلى ثلاثة أقسام:
1 -
اللفظية النافية:
وهم الذين يقولون إن ألفاظنا بالقرآن مخلوقة والتلاوة غير المتلو والقراءة غير المقروء ونسب هذا القول إلى غير واحد من المعروفين بالسنة والحديث:
كالحسين الكرابيسي ونعيم بن حماد، والبويطي (2)، والحارث الحاسبي.
2 -
اللفظية المثبتين: وهم الذين يقولون إن ألفاظنا بالقرآن غير مخلوقة والتلاوة هي المتلو والقراءة هي المقرئ ونسب هذا القول إلى غير واحد من المنتسبين إلى السنة والحديث، منهم: الإمام الذهلي، وأبو حاتم الرازي وأبو عبد الله بن منده وأبو نصر السجزي وغيرهم.
3 -
الذين لا يقولون بكل ذلك بل القرآن كلام الله غير مخلوق ولا التلاوة هي المتلو مطلقاً ولا غير المتلو مطلقاً.
وقالوا: من قال لفظي بالقرآن وتلاوتي أو قراءتي مخلوقة فهو جهمي ومن قال: غير مخلوق فهو مبتدع. (3)
وقد نسب زوراً إلى الإمام البخاري أنه قال: لفظي بالقرآن مخلوق وقد قدمنا في ترجمته براءته من ذلك من قوله هو، وابين كلامه هنا في هذه المسألة من كتابة الجامع الصحيح
(1) الفتاوى 12/ 431 - 432
(2)
يوسف بن يحيى القرشي، صاحب الشافعي، مات في السجن لإمتناعه عن القول بخلق القرآن، (ت 231 هـ) الأعلام (8/ 257).
(3)
الفتاوى 12/ 206، 210، 373 بتصرف يسير
ومابوب به لأجل هذه المسألة أثناء هذا البحث إن شاء الله فليس هناك اختلاف بينه وبين الإمام أحمد. .
ونشير هنا إلى أن الإمام أحمد ابتلى باللفظية النافية وردّ عليهم أكثر من غيرهم لوجهين: أحدهما أن قولهم يفضي إلى زيادة التعطيل والنفي.
وجانب النفي - أبدا - شر من جانب الإثبات؛ فان الرسل جاءوا بالإثبات المفصل في صفات الله وبالنفي المجمل فوصفوه بالعلم والرحمة والقدرة والحكمة والكلام والعلو وغير ذلك من الصفات، وفي النص {ليس كمثله شيء} {ولم يكن له كفواً أحد} وأما الخارجون عن حقيقة الرسالة: من الصابئة - الفلاسفة والمشركين وغيرهم ومن تجهم من إتباع الأنبياء فطريقتهم (النفي المفصل) ليس كذا، ليس كذا. وفي الإثبات أمر مجمل ولهذا يقال: المعطل أعمى والمشبه أعشى فأهل التشبيه مع ضلالهم خير من أهل التعطيل
(والوجه الآخر) أن الإمام أحمد ابتلى بالجهمية المعطلة فهم خصومه فكان همه منصرفاً إلى رد مقالاتهم دون أهل الإثبات فان لم يكن في ذلك الوقت والمكان من هو داع إلى زيادة في الإثبات كما ظهر من كان يدعو إلى زيادة في النفي والإنكار يقع بحسب الحاجة
والبخاري لما ابتلى (باللفظية المثبتة) ظهر إنكاره عليهم كما ظهر لنا من تراجم كتاب التوحيد وكما في خلق أفعال العباد. (1)
وقد أجمل الإمام الذهبي خلاف هذه المسألة فقال فيمن قال لفظي بالقرآن مخلوق " أن قال: لفظي وعني به بالقرآن فنعم وان قال لفظي قصد به تلفظي وصوتي وفعلي أنه مخلوق فهذا مصيب فالله تعالى خالقنا وخالق أفعالنا وأدواتنا لكن الكف عن هذا هو السنة ويكفي المرء
(1) من كلام شيخ الاسلام الفتاوى 12/ 432 بتصرف
أن يؤمن بان القرآن العظيم كلام الله ووحيه وتنزيله على قلب نبيه صلى الله عليه وسلم وأنه غير مخلوق ومعلوم عند كل ذي ذهن سليم إن الجماعة إذا قرؤوا السورة انهم جميعاً قرؤوا شيئاً واحداً وان أصواتهم وقراءتهم وحناجرهم أشياء مختلفة، فالمقروء كلام ربهم وقراءتهم وتلفظهم ونغماتهم متباينة ومن لم يتصور الفرق بين التلفظ والملفوظ فدعه وأعرض عنه. (1)
وهنا سنبين موقف البخاري لصفة الكلام وما يلحق بها عرض لأبواب البخاري في هذه المسائل:
1 -
القرآن كلام الله حقيقة.
وبوب له بقوله (باب قول الله تعالى، يريدون أن يبدلوا كلام الله وقوله {أنه لقول فصل} ثم ينوع رحمه الله في بيان كلامه تعالى فيورد الأحاديث القدسية النزول وقوله قال الله أنفق أنفق عليك. ومثله حديث النزول وفيه: يقول الله
2 -
ثم يبين ان كلامه قديم ويتكلم متى شاء سبحانه فقال باب {ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين} وبين في حديث أبي هريرة (إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لما قضى الله الخلق كتب عنده فوق عرشه إن رحمتي سبقت غضبي) فبين أن كلمة الله سبقت وجود الرسل والمرسل إليهم فهي قبل الخلق وهذا ما أشار إليه البخاري (في خلق أفعال العباد) فقال (إنما قولنا لشيء إذا أردناه آن نقول له كن فيكون) قال: فاخبر أن أول خلق خلقه بقوله فاخبر أن كلامه قبل خلقه. (2)
(1) سير اعلام النبلاء 12/ 770 وللتفصيل 13/ 100
(2)
خلق افعال العباد للبخاري 44، 45
3 -
وباب " وكلم الله موسى تكليماً " وفيه أحاديث اثبات لفظ التكلم من الله خاصة حديث الإسراء الطويل وكلام النبي صلى الله عليه وسلم مع الله ثم بين رحمه الله أن القرآن منزل غير مخلوق لان القرآن من علم الله وعلم الله غير مخلوق وهذا استدلال لطيف منه فقال (باب قوله {أنزله بعلمه والملائكة يشهدون} وفيه أحاديث منها (آمنت بكتابك الذي أنزلت) ومنها (اللهم منزل الكتاب) وغيرها.
4 -
وبين: أن كلامه متى شاء ومع من شاء.
فبوب بكلامه مع الملائكة ومع الأنبياء فقال: باب في المشيئة والإرادة ثم أورد الأحاديث الكثيرة الدالة على مشيئة الله وبوب بـ: كلام الرب مع جبريل ونداء الله الملائكة.
واورد قول معمر {وانك لتلقى القرآن} النمل 60 أي: يلقى عليك وتلقاه انت أي تأخذه عنهم ومثله {فتلقى آدم من ربه كلمات} البقرة 37.
وحديث (إن الله إذا احب عبداً نادى جبريل) وغيره من كلام الله مع ملائكته متى شاء وان كلامه في الآخرة يوم القيامة يقع مع الأنبياء وغيرهم فقال: باب كلام الرب عز وجل يوم القيامة مع الأنبياء وغيرهم وساق رحمه الله أحاديث الشفاعة وفيه (يا محمد ارفع رأسك وقل يسمع وسل تعط واشفع تشفع) وحديث (ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه ليس بينه وبينه ترجمان).
ثم ينوع رحمه الله فيأتي بكلامه أيضاً مع أهل الجنة ويبوب لذلك ويورد حديث (إن الله يقول لاهل الجنة يا أهل الجنة فيقولون لبيك وسعديك. . الحديث).
5 -
ويأتي رحمه الله إلى مسألة مهمة وهي أن كلام الله بحرف وصوت.
وقوله هذا هو قول أهل السنة من قبله أن كلام الله بحرف وصوت وان صوته لا يشبه صوت المخلوقين وقد فصل البخاري هذه المسألة بالتبويب والأحاديث اجمل تفصيل.
وأسوق قبل ذلك كلام الأئمة في هذه المسألة، قال عبد الله بن احمد قلت لأبي: إن هاهنا من يقول: إن الله لا يتكلم بصوت فقال: يا بنى هؤلاء الجهمية زنادقة إنما يدورون على التعطيل (1)
وقال: سألت ابي عن قوم يقولون لمّا كلم الله موسى لم يتكلم بصوت؛ فقال أبي: بلى إن ربك عز وجل تكلم بصوت، هذه الأحاديث نرويها كما جاءت. (2)
وقال الإمام السجزي (وليس في وجود الصوت من الله تعالى تشبيه بمن يوجد الصوت منه من الخلق كما لم يكن في إثبات الكلام له تشبيه بمن له كلام من خلقه. (3)
وأكد مثل ذلك الإمام عبد القادر الجيلاني رحمه الله قال: فالأخبار تدل على أن كلام الله صوت ولا كصوت الآدميين (4) وقد فصل الحافظ ابن حجر رحمه الله في هذه المسألة ونظر إلى تأويل البيهقي وغيره بعين الإنصاف خاصة من تضعيف حديث البخاري في إثبات الصوت وقال " إذا اثبت ذكر الصوت بهذه الأحاديث الصحيحة وجب الإيمان به". (5)
قال الإمام البخاري، باب قوله تعالى {ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له حتى إذا فزع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم قالوا الحق وهو العلي الكبير} سبأ 23، قال
(1) الفتاوى 12/ 368
(2)
السنة لعبد الله بن احمد رقم 533
(3)
للإمام السجزي كتاب خاص في هذه المسألة وانظر درء التعارض 2/ 93
(4)
الغنية لطالبي الحق ص 60 بواسطة موسوعة أهل السنة لدمشقية ص 300
(5)
الفتح 13/ 466 وذكر أنه بعد الايمان به إما التأويل أو التفويض! ؟ وهي من مواطن مخالفته للبخاري رحمهما الله
البخاري ولم يقل: ماذا خلق ربكم ثم أورد شاهداً للآية من كلام ابن سعود " فإذا فزع عن قلوبهم وسكن الصوت وعرفوا أنه الحق ".
ثم بين رحمه الله إن صوته لا يشبه أصوات خلقه وهو ما نص عليه في (خلق أفعال العباد) فقال بعد حديث الباب وهو (يحشر الله العباد فيناديهم بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب).
قال البخاري: وفي هذا دليل أن صوت الله لا يشبه أصوات الخلق لان صوت الله جل ذكره يسمع من بعد كما يسمع من قرب؛ وان الملائكة يصعقون من صوته فإذا تنادى الملائكة لم يصعقوا وقال الله عز وجل {فلا تجعلوا لله أنداداً} البقرة 22.
فليس لصفة الله ند، ولا مثل، ولا يوجد شيء من صفاته في المخلوقين. (1)
ولاجل كلامه السابق هذا نعلم سبب إدخاله باب {فلا تجعلوا لله أنداداً} بعد أن ساق أبواب الكلام والصوت واللفظ وغيرها فرحمه الله من إمام حصيف أراد التنبيه على ذلك حيث صرح هو بذلك في (خلق أفعال العباد).
6 -
ويفرد الإمام البخاري عدة أبواب لينبه على مسألة مهمة كانت معاصرة له وهي مسألة من يقول إن القرآن حكاية عن كلام الله وهل ينتقل من مكان إلى مكان وهل هو عبارة واحدة بسيطة.
وهذا ردّ منه رحمه الله على الكلابية ومن تبعهم الذين يرون ان القرآن العربي ليس هو كلام الله وإنما كلامه المعنى القائم بذاته والقرآن العربي خلق ليدل على ذلك المعنى وأيضاً الرد على الكرامية الذين يقولون أنه تكلم بالقرآن بعد أن لم يكن متكلماً.
(1) خلق افعال العباد ص 98
فقال: باب قوله تعالى {يريدون ان يبدلوا كلام الله} الفتح 15، ثم اتبعه بأبواب كلام الله مع الأنبياء يوم القيامة مع الملائكة ومع جبريل ومع غيرهم تدل على انتقال كلامه وهذا رد على الكلابية بخلاف قول المعتزلة الذين يرون انتقاله لكن على مذهبهم أنه مخلوق
وقال: باب قوله {ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين} الصافات 171، فكلامه قبل خلقه فأنه يخلق بالأمر كن فهو متكلم وليس كما قالت الكرامية أنه تكلم بعد أن لم يكن متكلم.
7 -
وأما موقف البخاري من مسألة اللفظ في كتاب التوحيد فأنه أطال فيها النفس ونوع فيها الأدلة لكي يبين موقفه رحمه الله بالأدلة الصريحة.
وهنا انقل كلاماً نفيساً كمقدمة لكلام البخاري وهو ما قاله الإمام ابن قيم الجوزية قال: الحق ما عليه أئمة الإسلام كالإمام أحمد والبخاري واهل الحديث: إن الصوت صوت القاري والكلام كلام الباري وقد اختلف الناس هل التلاوة غير المتلو أو هي المتلو؟ على قولين، والذين قالوا التلاوة هي المتلو فليست حركات الإنسان عنهم هي التلاوة وإنما أظهرت التلاوة وكان سبباً لظهورها وإلاّ فالتلاوة عندهم هي نفس الحروف والأصوات هي القديمة، والذين قالوا: التلاوة غير المتلو طائفتان:
إحداهما: قالت: التلاوة هي هذه الحروف والأصوات المسموعة وهي مخلوقة والمتلو هو المعنى القائم بالنفس وهو قديم وهذا قول الاشعري. (1)
والطائفة الثانية: قالوا: التلاوة هي قراءتنا وتلفظنا بالقرآن والمتلو هو القرآن العزيز المسموع بالآذان بالآداء من (في) رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا قول السلف وأئمة السنة والحديث
(1) وهو أصلاً قول ابن كلاب: الصواعق المرسلة ص 410، 411
فان قيل: فإذا كان الأمر كما قررتم فكيف أنكر الإمام أحمد على من قال: لفظي بالقرآن مخلوق وبدّعة ونسبه إلى التجهم، وهل كانت محنة ابي عبد الله البخاري إلاّ على ذلك حتى هجره أهل الحديث ونسبوه إلى القول بخلق القرآن.
قيل: معاذ الله أن يظن بأئمة الإسلام هذا الظن الفاسد، فقد صرح البخاري في كتابه (خلق أفعال العباد)(1) وفي آخر الجامع بان القرآن كلام الله غير مخلوق.
فخفي تفريق البخاري وتمييزه على جماعة من أهل السنة والحديث ولم يفهم بعضهم مراده (2)، وهذا هو عين ما أشار إليه البخاري رحمه الله حاكياً ما نقل عنه أنه لم يفهم فقال: " ونحن على قول عمر حيث يقول: اني قائل مقالة قدر لي أن أقولها فمن عقلها ورعاها فليحدث بها حتى تنتهي به راحلته ومن خشي ألا يعيها فاني لا أحل له أن يكذب عليّ (3)؛ والبخاري ميز في هذه المسألة وأشبعها رحمه الله وفرق بين ما قام بالرب وبين ما قام بالعبد وأوقع المخلوق على تلفظ العباد وأصواتهم وحركاتهم وإكسابهم ونفى اسم الخلق عن الملفوظ وهو القرآن الذي سمعه جبريل من الله وسمعه محمد صلى الله عليه وسلم من جبريل. (4)
وسأعرض لتبويبه واستشهاده رحمه الله في هذه المسألة ووجه الاستشهاد والله المستعان.
فقال: باب قوله تعالى {فلا تجعلوا لله أنداداً} البقرة 22 وقوله {ولقد أوحى إليك وإلى الذين من قبلك لان أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من المشركين} الزمر 65.
(1) انظره في مواضع من كتابه فقد ألفه لهذه المسألة خاصة
(2)
مختصر الصواعق ص 421 بتصرف
(3)
خلق افعال العباد ص 77
(4)
مختصر الصواعق للموصلي ص 422
قال الحافظ: وغرضه هنا الرد على من لم يفرق بين التلاوة والمتلو وقال: باب {لا تحرك به لسانك لتعجل به} القيامة 16، وفعل النبي صلى الله عليه وسلم حيث ينزل الوحي وذكر حديث ابن عباس كان يعالج من شدة التنزيل وكان يحرك شفتيه: فانزل الله {لا تحرك به لسانك لتعجل به إن علينا جمعه وقرأنه} قال: جمعه في صدرك ثم تقرؤه فإذا قرأناه فاتبع قرأنه
قال الحافظ: " وهذا من أوضح الأدلة على أن القرآن يطلق ويراد به القراءة فان المراد بقوله {قرأنه} في الآيتين القراءة لا نفس القرآن.
وقال: باب {واسروا قولكم أو اجهروا به} الملك 13، وفيه نزل قوله {ولا تجهر بصلاتك} الإسراء 110، أي بقراءتك فيسمع المشركون فيسبوا القرآن - الحديث.
قال ابن المنير: إنما قصد البخاري الإشارة إلى النكتة التي كانت سبب محنته بمسألة اللفظ فأشار بالترجمة إلى أن تلاوة الخلق تتصف بالسر والجهر وذلك يستدعي كونها مخلوقه (1) ومثل ذلك في الباب الذي يليه، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم (رجل آتاه الله القرآن فهو يقوم به آناء الليل وأطراف النهار ورجل يقول لو أتيت مثل ما أوتى هذا فعلت مثل ما يفعل.
قال البخاري: فبين أن قيامه بالكتاب فعله (2) ثم قال وقال تعالى: {ومن آياته خلق السموات والأرض واختلاف ألسنتكم والوانكم} الروم 22، قال البخاري بعد هذه الآية في خلق أفعال العباد: فمنها العربي ومنها العجمي فذكر اختلاف الألسنة والألوان وهو كلام العباد (3) وهكذا في جملة أبواب يبين فيها كلها إن القراءة فعل القاري ومتصفة بما تتصف الأفعال به ومتعلقة بالظروف المكانية والزمانية أسوة بالأفعال كلها، وقد ختم رحمه الله صحيحه
(1) المتوارى على تراجم ابواب البخاري لابن المنير ص 428
(2)
وبنفس هذا نص في خلق افعال العباد ص 118
(3)
المرجع السابق ص 118
بالحديث العظيم كلمتان خفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان وبوب لها بقوله: باب قول الله تعالى: {ونضع الموازين القسط} الأنبياء 47 وقال: وان أعمال بني آدم وقولهم يوزن؛ قال ابن القيم: مراد ابي عبد الله بهذا الاستدلال أن النقل في الميزان والخفة على اللسان متعلق بفعل العبد وكسبه وهو صوته وتلفظه لا يعود إلى ما قام بالرب تعالى من كلامه وصفاته؛ ثم قال: والبخاري اعلم بهذه المسألة وأولى بالصواب فيها من جميع من خالفه وكلامه أوضح وامتن من كلام ابي عبد الله، فان الإمام أحمد سد الذريعة حيث منع إطلاق لفظ المخلوق نفياً وإثباتاً على اللفظ - فالذي قصده احمد - إن اللفظ يراد به أمران، أحدهما الملفوظ نفسه وهو غير مقدور للعبد ولا فعل له (والثاني) التلفظ به والآداء له وفعل العبد فإطلاق الخلق على اللفظ قد يوهم المعنى الأول وهو خطأ واطلاق نفي الخلق عليه قد يوهم المعنى الثاني وهو خطأ فمنع الإطلاقين (1)؛ وأما البخاري رحمه الله فقد فصل وبين واشبع الكلام دفاعاً عما اتهم به ونصحاً للمسلمين من الاختلاف وتبديع بعضهم لبعض
قال رحمه الله: وحرم الله عز وجل أهل الأهواء كلهم ان يجدوا عند أشياعهم أو بأسانيدهم حكماً من أحكام الرسول صلى الله عليه وسلم أو فرضاً أو سنة من سنن المرسلين إلاّ ما يعتلون بأهل الحديث اذ بدالهم كالذين جعلوا القرآن عضين فآمنوا ببعض وكفروا ببعض فمن ردّ بعض السنن مما نقله أهل العلم فيلزمه أن يرد باقي السنن حتى يتخلى عن السنن والكتاب وأمر الإسلام اجمع والبيان في هذا كثير (2)
(1) مختصر الصواعق للموصلي 423، 424 بتصرف
(2)
خلق أفعال العباد ص 77