المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المبحث الأول: الصفات الاختيارية و [شبهة قيام الحوادث بذاته سبحانه وتعالى] - مسائل العقيدة في كتاب التوحيد من صحيح البخاري

[يوسف الحوشان]

فهرس الكتاب

- ‌المقدمة

- ‌أهمية وأسباب اختيار الموضوع:

- ‌أهداف البحث:

- ‌منهج البحث:

- ‌خطة البحث:

- ‌التمهيد

- ‌المبحث الأول: حياة البخاري

- ‌المطلب الأول: اسمه ونسبه ومولده:

- ‌المطلب الثاني: نشأته وسيرته العلمية

- ‌المطلب الثالث: شيوخه وتلاميذه

- ‌المطلب الرابع: مؤلفاته

- ‌المطلب الخامس: شمائله

- ‌المطلب السادس: علمه وثناء الأئمة عليه:

- ‌المطلب السابع: محنة الإمام البخاري في [مسألة اللفظ]

- ‌المطلب الثامن: وفاته

- ‌المبحث الثاني: التعريف بالجامع الصحيح

- ‌المطلب الأول: اسمه وموضوعه

- ‌المطلب الثاني: سبب ومدة ومكان تأليفه

- ‌المطلب الثالث: منهجه في تصنيف صحيحه ومكانته

- ‌المطلب الرابع: قيمة كتاب التوحيد بين أبواب الجامع وعناية العلماء به

- ‌الباب الأول: مسائل العقيدة في كتاب التوحيد

- ‌الفصل الأول: التوحيد والرد على الجهمية

- ‌المطلب الأول: المؤلفات في التوحيد

- ‌المطلب الثاني: تعريف التوحيد

- ‌المطلب الثالث: تعريف الجهمية

- ‌الفصل الثاني: أول واجب على المكلفين

- ‌الفصل الثالث: الأسماء الحسنى

- ‌المبحث الأول: إثبات الأسماء الحسنى

- ‌المطلب الأول: إثباتها وأقسامها

- ‌المطلب الثاني: دلالة الأسماء الحسنى على الذات

- ‌المبحث الثاني: الاسم والمسمى

- ‌المبحث الثالث: عدّ الأسماء الحسنى وإحصاؤها

- ‌المبحث الرابع: الأسماء التي ذكرها البخاري

- ‌المبحث الخامس: اطلاق بعض النعوت على الله

- ‌المطلب الأول: إطلاق الذات على الله

- ‌المطلب الثاني: إطلاق النفس على الله

- ‌المطلب الثالث: إطلاق (الشيء) على الله

- ‌المطلب الرابع: إطلاق (الشخص) على الله

- ‌الفصل الرابع: من أحكام الأسماء الحسنى

- ‌المبحث الأول: السؤال بأسماء الله والاستعاذة بها

- ‌المبحث الثاني: الحلف بأسماء الله

- ‌الباب الثاني الصفات الإلهية

- ‌تمهيد: تعريف الصفة وأقسام الناس فيها:

- ‌الفصل الأول: الصفات الذاتية

- ‌المبحث الأول: ما ورد في السمع والبصر

- ‌المبحث الثاني: ما ورد في العلم والقدرة

- ‌المطلب الأول: ما ورد في العلم

- ‌المطلب الثاني: ما ورد في القدرة

- ‌المبحث الثالث: ما ورد في المشيئة والإرادة

- ‌المبحث الرابع: الصفات (الخبرية)

- ‌المطلب الأول: ما ورد في الوجه

- ‌المطلب الثاني: ما ورد في العين

- ‌المطلب الثالث: ما ورد في اليدين والأصابع

- ‌الفصل الثاني: الصفات الفعلية

- ‌المبحث الأول: الصفات الاختيارية و [شبهة قيام الحوادث بذاته سبحانه وتعالى]

- ‌المبحث الثاني: ما ورد في الاستواء على العرش

- ‌المبحث الثالث: ما ورد في العلو

- ‌الفصل الثالث: ما ورد في الرؤية

- ‌الفصل الرابع: ما ورد في صفة الكلام

- ‌الفصل الخامس: ما ورد في أفعال العباد

- ‌ملحق في منهج البخاري رحمه الله في بيان مسائل العقيدة ورده على المخالفين

- ‌أولاً: تعظيمه للآثار

- ‌ثانياً: الاحتكام إلى اللغة العربية

- ‌ثالثاً: التمسك بالألفاظ الشرعية وبيان مراد المتكلم

- ‌رابعاً: الإيجاز في عرض الشبهة وجوابها

- ‌خامساً: الاحتجاج بموافقة العقل الصريح للنص الصحيح

- ‌الخاتمة

- ‌ويقترح الباحث في نهاية هذا البحث:

الفصل: ‌المبحث الأول: الصفات الاختيارية و [شبهة قيام الحوادث بذاته سبحانه وتعالى]

‌الفصل الثاني: الصفات الفعلية

‌المبحث الأول: الصفات الاختيارية و [شبهة قيام الحوادث بذاته سبحانه وتعالى]

يفرق أهل السنة والجماعة بين صفات الله الذاتية وصفاته تعالى الفعلية والتي يفعلها بمشيئته سبحانه ويثبتون أن هناك صفات ذاتية فعلية هي صفة ذات له تبارك وتعالى وهي صفة فعلية يفعلها متى يشاء سبحانه كالرحمة والخلق والكلام ونحوها.

وأهل السنة في إثباتهم لهذه الصفات ينطلقون من أنه تبارك وتعالى منزه عن الشبيه، كما قال الإمام نعيم بن حماد: من شبه الله بشيء من خلقه فقد كفر ومن أنكر ما وصف الله به نفسه فقد كفر، وليس فيما وصف الله به نفسه ولا رسوله تشبيهاً. (1)

فالصفات التي وصف الله بها نفسه وأعني هنا ما اصطلح على تسميتها بالفعلية الاختيارية حصل فيها الخلاف العظيم بين المسلمين وطال النزاع فيها بسبب القياس الخاطئ بين الخالق والمخلوق إذ أن الصفات الإلهية لا يجوز أن يستدل فيها بالقياس الشمولي ولا قياس التمثيل، فالتمثيل يستوي فيه الفرع والأصل والشمولي يستوي أفراده.

فالله تبارك وتعالى ليس كمثله شيء فلا يجوز أن يمثل بغيره ولا يوصف به وإدخاله سبحانه مع غيره تحت أي قضية كلية يستوي أفرادها، عمل فاسد، هذا الذي جَرَّ والطوائف

(1) شرح أصول السنة للالكائي 3/ 587

ص: 185

إلى الضلال في هذا الباب، وكان الأولى بهم استعمال قياس الأولى سواء كان تمثيلاً أو شمولاً كما قال الله في كتابه {ولله المثل الأعلى} النحل آية 60.

قال العلامة السعدي في تفسيره لهذه الآية هو كل صفة كمال وكل كمال في الوجود، فالله أحق به من غير أن يستلزم ذلك نقصاً بوجه من الوجوه، وله المثل الأعلى في قلوب أوليائه وهو التعظيم والإجلال والمحبة والإنابة والمعرفة. (1)

وقد اجتهد أئمة السلف رحمهم الله في دفع الخطأ الناتج عن الاعتقاد الخاطئ في فهم الصفات الفعلية الاختيارية لله تبارك وتعالى.

ولكن قبل عرض ردهم وتوضيحهم لابد من الرجوع لأصل المشكلة التي لأجلها قام الوهم من قبل الذين نفوا هذه الصفات الاختيارية.

وأساسها: بعد عصر الصحابة والتابعين ومجيء جهم بن صفوان وذلك عندما لقيه بعض عباد السُمنية (2) ممن لا يؤمنون بالله فقالوا صف لنا ربك الذي تعبده فدخل البيت لا يخرج مدة ثم خرج وقال هو هذا الهواء مع كل شيء وفي كل شيء ولا يخلو منه شيء. (3) وأما رواية الإمام أحمد انهم قالوا نكلمك فان ظهرت حجتنا عليك دخلت في ديننا وان ظهرت حجتك علينا دخلنا دينك فكان مما كلموا به الجهم ان قالوا له:

هل رأيت إلهك أو سمعت كلامه أو شممت له رائحة أو وجدت له حساً أو مجساً وكل ذلك يقول لا.

(1) تفسير السعدي 2/ 933.

(2)

السمنية قوم من الدهرية من أهل الهند قالوا بقدم العالم وإبطال النظر والاستدلال، وقالوا بتناسخ الأرواح -الفرق بين الفرق للبغدادي - 270.

(3)

الرد على الجهمية لابن أبي حاتم كما في الفتح 13/ 295.

ص: 186

فقالوا فما يدريك أنه اله قال: فتحير الجهم فلم يدر من يعبد أربعين يوماً ثم أنه استدرك حجة مثل حجج زنادقة النصارى الذين يزعمون أن الروح الذي في عيسى من ذات الله فإذا أراد أن يحدث أمراً دخل في بعض خلقه فتكلم على لسان خلقه فيأمر بما يشاء وينهى عما يشاء وهو روح غائبة عن الأبصار ثم قال للسُمنى ألست تزعم أن فيك روحاً فقال جهم: هل رأيت روحك أو سمعت كلامه أو وجدت له حساً وكل ذلك يقول: لا

فقال جهم: فكذلك الله لا يرى له وجه ولا يسمع له صوت ولا يشم له رائحة وهو غائب عن الأبصار ولا يكون في مكان دون مكان

قال الإمام أحمد: فبنى أصل كلامه على تأول هذه الآيات {ليس كمثله شيء} و {وهو الله في السموات والأرض} الأنعام 3 و {لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار} الأنعام 103 وزعم أن من وصف الله بشيء مما وصف به نفسه أو وصفه به رسوله فقد كفر وكان من المشبهة (1)

فالجهم أصل اصلاً في إثبات وجود الله وهو الذي عرف بعد بدليل حدوث الأجسام، فالأجسام حادثة لأنها لا تخلو من الحوادث والأعراض أو أنها مستلزمة للأعراض فصار ما لا يخل من الحوادث فهو حادث فالعالم حادث وبه يعرف إثبات الصانع فما قامت به الصفات قامت به الأعراض وما قامت به الأعراض فهو حادث فنفى الجهمية والمعتزلة ات قامت به الاعراض وما قامت به الاعراض فهو حادث فنفى الجهمية والمعتزلة ومن تبعهم الصفات أو بعضها على أصل جهم هذا ثم ان من اراد اثبات صفة فأنه يثبتها لجوازها عقلاً! فمن اثبت ثلاث صفات ثم من زاد عقله فاثبت سبعاً ثم من اثبت اكثر من ذلك ولايسمونها أعراضاً

(1) الرد على الجهمية للامام احمد ص 102، 104 بتصرف يسير

ص: 187

ولكن حين جاء ذكر الصفات الاختيارية سموّها حوادث فوجب نفيها عندهم على هذا الأصل.

وهذا الدليل باطل، من وجوه

الأول: طوله الذي يجعل العامي لا يستطيع فهمه حتى يتم لأجله ايمأنه

الثاني: أنه دليل متبوع بعد عهد النبوة والصحابة لم يدع به النبي صلى الله عليه وسلم الناس ولا صحابته من بعده

الثالث: اللوازم الفاسدة على هذا الدليل من نفي صفات الله ونفي قدرته على الفعل والقول بأنه فعل بعد ان كان الفعل ممتنعاً عليه

الرابع: هذا الدليل الذي ارتضاه المتكلمون أوجب تسلط الفلاسفة عليهم في مسألة حدوث العالم (1)

والقول بنفي الصفات خوفاً من حلول الحوادث من قبل المتكلمين وانكروها بلسانهم ان الحوادث لا تقوم بالله - حسب فهمهم وان كنا لا نوافق على هذا الاطلاق - إلاّ انهم يقولون به كما نقل ذلك الرازي في (الأربعين في اصول الدين) فبين أن الجبائي وابنه من المعتزلة قالوا بارادة حادثة لا في محل وابو الحسين البصري يثبت في ذاته تعالى علوماً متجددة بحسب تجدد المعلومات

والاشعرية يثبتون نسخ الحكم ويثبتون للعلم والقدرة تعلقات حادثة

(1) انظر في ادلة الموجبين والمانعين / موقف ابن تيمية من الاشاعرة للمحمود 3/ 984

ص: 188

والفلاسفة يقولون بان الاضافات وهي القبلية والبعدية موجودة في الاعيان فيكون الله مع كل حادث ثم قال: وذلك الوصف الاضافي حدث في ذاته (1)

وقد نبه الإمام الطحاوي في عقيدته المختصرة إلى ان الله يوصف بصفاته التي لا يلزم من الوصف بها تجدد الحوادث أو قدم الصفة

فقال: ما زال بصفاته قديماً قبل خلقه لم يزد بكونهم شيئاً لم يكن قبلهم من صفته وكما كان بصفاته أزلياً كذلك لا يزال عليها أبدياً.

قال ابن ابي العز رحمه الله مبيناً كلام الإمام الطحاوي: أي أن الله لم يزل متصفاً بصفات الكمال صفات الذات وصفات الفعل ولا يجوز ان يعتقد ان الله وصف بصفة بعد ان لم يكن متصفاً بها لان صفاته سبحانه صفات كمال وفقدها صفة نقص

ولا يجوز ان يكون حصل له الكمال بعد ان كان متصفاً بضده ولا يرد على هذا صفات الفعل والصفات الاختيارية ونحوها كالخلق والتصوير والاحياء والاماتة والقبض والبسط والطي والاستواء والاتيان والمجيء والنزول والغضب والرضا ونحو ذلك مما وصف به نفسه ووصفه به رسوله ولا ندخل في ذلك بآرائنا ولا متوهمين بأهوائنا ولكن اصلُ معناه معلوم لنا كما قال مالك في الاستواء (2)

وغالب ما يوقع في مثل هذه المسائل هذه الالفاظ المجملة المحدثة واعني بها (لول الحوادث) فهذه لم يرد فيها نفيٌ ولا اثبات في الكتاب والسنة ويلاحظ انها لفظ مجمل لازمه هو المحذور فمن يريد باطلاقها ان الله تبارك وتعالى لا يحل في ذاته المقدسة شيء من مخلوقاته

(1) الاربعين للرازي ص 118

(2)

شرح العقيدة الطحاوية ص 96 بتصرف

ص: 189

المحدثة أو بعبارة اخرى لا يتجدد له وصف لم يكن فنفي حلول الحوادث بهذا المفهوم صحيح من لوازم التنزيه لله تبارك وتعالى ولكن ان اريد باطلاقه نفي الصفات الاختيارية

أعني أنه لا يفعل ما يريد فلا يتكلم إذا شاء وأنه لا يغضب ولا يرضى مع نفي التشبيه ولا ينزل ولا يستوي كما وصف نفسه ولاق بجلاله فهذا نفي باطل لا يسلم لقائله

وقد بين الإمام البخاري رحمه الله هذا الأمر بايسر عبارة

وواضح دليل لمن تأمل فقال رحمه الله:

باب قول الله تعالى: {كل يوم هو في شأن} الرحمن 29

و{ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث} الأنبياء 2 وقوله تعالى {لعل الله يحدث بعد ذلك أمراً} الطلاق 1

ثم اتى بالقول الفصل في هذه المسألة فقال: وأن حدثه لا يشبه حدث المخلوقين لقوله تعالى {ليس كمثله شيء وهو السميع البصير} الشورى 11

ساق البخاري هذا الباب وهو مهم بالنسبة لافعال الله عز وجل لاثبات ان لله صفات هي افعال يفعلها متى شاء ويصح ان نطلق عليها حادثة لكنها ليست كحدوث المخلوقين التي قد يعتريها العجز وقد يعتريها الخفاء وما اشبه ذلك من نواقص حوادث المخلوقين

وقال د. الغنيمان يريد بهذا بيان ان الله تعالى يحدث ما يريد احداثه في أى وقت اراد وان احداثه ذلك من افعاله التي هو اوصاف له (1)

وقد نبه البخاري رحمه الله في اكثر من موضع على هذه المسألة فأشار إلى مسألة انكار افعال الله من القول والفعل مما له تعلق بمشيئة الله وارادته وقدرته مما انكرته الجهمية ومن تبعهم فقال [باب ما جاء في تخليق السموات والارض وغيرها من الخلائق وهو فعل الرب تبارك وتعالى وأمره

فالرب بصفاته وفعله وامره وهو الخالق المكون غير مخلوق وما كان بفعله وامره وتخليقه وتكوينه فهو مفعول مخلوق مكون]

ثم قال أيضاً [سورة باب قول الله تعالى، {ولا تنفع الشفاعة عنده إلاّ لمن اذن له حتى إذا فزع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم قالوا الحق وهو العلي الكبير} سبأ 23 ولم يقولوا ماذا خلق ربكم]

فالله تبارك وتعالى يحدث من امره ما يشاء من القول والأمر والفعل وكما أنه ليس له مثل في ذاته كذلك ليس له في افعاله) والآيات التي استشهد بها البخاري رحمه الله من قوله تعالى {كل يوم هو في شأن} الرحمن 29 قال عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم حين سأله اصحابه ما ذاك الشأن قال عليه الصلاة والسلام " أن يغفر ذنباً ويفرج كرباً ويرفع قوماً ويضع آخرين "(2)

ونقل مثل ذلك الإمام البغوي قول عامة المفسرين عن هذه الآية فقال: قال المفسرون: من شأنه ان يحي ويميت ويرزق ويعز قوماً ويذلك قوماً ويشفي مريضاً ويفك عانياً ويفرج

(1) شرح كتاب التوحيد للغنيمان 2/ 506

(2)

رواه البخاري تعليقاً عن ابي الدرداء في تفسير سورة الرحمن جازماً به ووصله ابن حجر 13/ 507

ورواه ابن حبان مرفوعاً وابن ماجة 1/ 73 حديث 202 وسنده حسن

ص: 190

مكروباً ويجيب داعياً ويعطي سائلاً ويغفر ذنباً إلى ما لا يحصى من أفعاله وإحداثه في خلقه ما يشاء (1)

ثم استشهد رحمه الله بقوله تعالى {ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث} الأنبياء 2، قال الداودي رحمه الله في بيان مراد البخاري: الذكر في الآية هو القرآن وهو محدث عندنا وهو من صفاته تعالى ولم يزل سبحانه بجميع صفاته (2)

وقد نقل الحافظ عن الداودي (3) رحمه الله ما يؤيد قوله هذا في شرح قول عائشة " ولساني في نفسي كان أحقر من ان يتكلم الله في بأمرٍ يتلى)

قال: فيه ان الله تكلم ببراءة عائشة حين انزل براءتها بخلاف قول بعض الناس أنه لم يتكلم (4)

اراد الرد على من يقول ان الله إذا تكلم فيكون كلامه حادثٌ فتحل فيه الحوادث على مايفهمه من يقول بذلك

قال ابن كثير " محدث " أى جديد انزاله ثم استشهد باثر ابن عباس الذي ساقه البخاري بنحوه " كيف تسألون اهل الكتاب عما بأيديهم وقد حرقوه وبدلوه وزادوا فيه ونقصوا منه وكتابكم احدث الكتب بالله تقرؤنه محضاً لم يشب (5)

ثم قال البخاري رحمه الله وقوله تعالى: {لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا}

وهذه الآية معلوم انها في المطلقة التي لها عدة تعدها ولم تبن فأمر الله تبارك وتعالى ان تعتد في بيت زوجها من غير ان تخرج منه إلاّ أن تأتي بفاحشة وعلل ذلك بقوله تعالى: {لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا} الطلاق 1

قال ابن جرير " لا تدري ما الذي يحدث لعل الله يحدث بعد طلاقكم اياهن رجعة "(6)

يحدث للزوجين حالاً غير ما كانا عليه وقت الطلاق فقد تتبدل الكراهية رغبة والبعد قربا ويحصل الندم منهما فيحدث الرجوع بينهما فمقصود البخاري من هاتين الآيتين ان الله تعالى يتكلم بعد ان لم يكن تكلم بذلك الكلام بعينه ويأمر وينهى بعد ان لم يكن امر بذلك المأمور وذلك المنهي بعينه لمن وجه اليه الأمر والنهي (7)

وفسر شيخ الاسلام الذكر بان منه محدث ومنه غير محدث لان النكرة إذا وصفت ميز بها بين الموصوف وغيره مفسراً لقوله تعالى: {ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث} الأنبياء 2 وبقوله {وما يأتيهم من ذكر من الرحمن محدث} الشعراء 5 في الآيتين ليس هو المخلوق الذي يقوله الجهمية ولكن الذي انزل جديداً فان الله ينزل من القرآن شيئا بعد شيء فالمنزل أولاً قديم بالنسبة إلى المنزل آخرا

(1) تفسير البغوي 7/ 446

(2)

الفتح 13/ 507

(3)

محمد بن علي بن أحمد المالكي شيح أهل الحديث في عصره، مصري من تلاميذ السيوطي، له طبقات المفسرين، (ت 945 هـ) الأعلام (6/ 291).

(4)

الفتح 13/ 507

(5)

تفسير ابن كثير 3/ 277

(6)

تفسير الطبري 12/ 87

(7)

شرح كتاب التوحيد للغنيمان 2/ 508

ص: 191

وكل ماتقدم على غيره فهو قديم في لغة العرب كما قال تعالى {كالعرجون القديم} يس 29 وقال {تالله إنك لفي ضلالك القديم} (1) يوسف 95

ومن قامت لديه شبهة في مسألة حلول الحوادث فان الإمام البخاري جلاها بوضوح إذ ان من يمنع حلول الحوادث قد ارتبط بذهنه قياس الشاهد على الغائب فقال ان الحوادث لا تقوم إلاّ بحادث فقاس على ما يراه فقال البخاري " وأن حدثه لا يشبه حدث المخلوقين لقوله تعالى: {ليس كمثله شيء وهو السميع البصير} الشورى 11

فكما أنه تبارك وتعالى لا مثل له في ذاته فكذلك لا مثل له في افعاله واوصافه واحداثه التي يحدثها مما يتعلق بمشيئته وهي افعاله.

ويتساءل العلامة ابن عثيمين عن أصل المسألة: من أين أتى القائلون بأن من قامت به الحوادث فهو حادث، فلا كتاب ولا سنة ولا عقل يدل عليها قال: فنحن نشاهد الآن بانفسنا أنه تحصل حوادث لنا في هذا اليوم غير ما حصل باليوم الذي قبله وهل يلزم إذا قامت بنا الحوادث ان تكون موجودة بوجودنا؟ لا يلزم فالحوادث تتجدد من الحادث ومن غير الحادث بل ان قيام الحوادث به دليل على كماله وأنه يفعل ما يشاء متى ما شاء ولو قلنا أنه لا يستطيع ان يفعل لكان في هذا نقص والله تعالى فعال لما يريد، واستدل بقوله تعالى {ولو شاء الله ما قتتلوا ولكن الله يفعل ما يريد} البقرة 253 فالاقتتال من حادث لا شك وهو من فعل الله أي من تقديره أن يفعل وهذا صريح في قيام الافعال الحادثة به (2)

(1) شرح كتاب التوحيد للغنيمان 2/ 511

(2)

شرح كتاب التوحيد لابن عثيمين 192، 193 بتصرف

ص: 192

ثم استشهد البخاري رحمه الله بحديث ابن مسعود وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم " ان الله يحدث من أمره ما يشاء وان مما أحدث ان لا تكلموا في الصلاة "

ذلك ان ابن مسعود قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي وسلم عليه وكانوا يفعلون ذلك - فلم يرد عليه السلام فلما فرغ الرسول صلى الله عليه وسلم قال لابن مسعود ما قال: ودلالة الحديث واضحة ومطابقة الحديث للترجمة والآيات فقوله صلى الله عليه وسلم {ان الله يحدث من أمره} موافق لقوله تعالى {وما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث} الأنبياء 2

قال ابن رجب رحمه الله في شرحه لصحيح البخاري: وقوله " ان الله احدث ان لا تكلموا في الصلاة " اشارة إلى أنه شرع بعد ان لم يكن شرّعه ومنعه بعد أن لم يكن قد منعه (1) ومثله الروايتان عن ابن عباس " كيف تسألون أهل الكتاب عن شيء وكتابكم الذي انزله الله على نبيكم احدث الأخبار بالله محضاً لم يشب وفي الرواية الاخرى أقرب الكتب عهداً بالله. فالمعنى أنه آخر الكتب واحدثها بالله واقربها عهداً به وهذا موضع الشاهد من الباب، وهذا الباب فصل في ما سيأتي من أبواب فيها الكلام على بقية الصفات الاختيارية إذ سيكون ايرادها على وجه الاختصار خاصة ما دخلت تحت جنس واحد في الكلام، ومابقي من مسائل جرى فيها الخلاف سأعرض له في مسألة الكلام ان شاء الله إذ أطال فيها الإمام البخاري (2)

(1) فتح الباري بشرح صحيح البخاري لابن رجب 9/ 291

(2)

يلاحظ في هذه المسألة - أكثر من غيرها - وضوح مخالفة شراح البخاري المتقدمين عن مقصود البخاري

إذ غالب أقوالهم في نفي الصفات الاختيارية أو تأويلها انظر الفتح 13/ 506، 507

ص: 193