المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌صفة لباس المرأة - أحكام النساء - مستخلصا من كتب الألباني

[أبو مالك بن عبد الوهاب]

فهرس الكتاب

- ‌كِتَابُ الطَّهَارَة

- ‌نجاسة دم الحيض:

- ‌باب الحيض والنفاس والاستحاضة

- ‌حكم مكث الجنب في المسجد

- ‌متى تبلغ الجارية مبلغ النساء

- ‌النفاس

- ‌غسل المستحاضة لكل صلاة

- ‌نقض المرأة شعرها في الغسل

- ‌كِتَابُ اَلصَّلَاةِ

- ‌عورة المرأة

- ‌حكم الصلاة بدون خمار

- ‌حكم الثياب الشفافة في الصلاة

- ‌في كم تطيل ثيابها

- ‌من شروط الصلاةطهارة البدن والثوب والمكان

- ‌حكم من علم بنجاسة وهو في الصلاة:

- ‌أحوال تجوز الصلاة فيها:

- ‌ذهاب المرأة إلى المسجد وشروطه

- ‌دخول الحائض المسجد:

- ‌إمامة المرأة

- ‌أين تقف المرأة في الصف

- ‌كِتَابُ اَلْجَنَائِزِ

- ‌صفة كفن المرأة

- ‌زيارة القبور

- ‌كِتَابُ اَلصِّيَامِ

- ‌حكم الحامل والمرضع

- ‌اعتكاف المرأة

- ‌كِتَابُ اَلزَّكَاةُ

- ‌هل في الحلي زكاة

- ‌عدم عطية المرأة إلا بإذن زوجها

- ‌كِتَابُ اَلْحَجِّ

- ‌ما يجوز فعله للمحرمة وما لا يجوز

- ‌عمرة الحائض

- ‌التلبية

- ‌حكم تغطية الوجه

- ‌بحث قيم في هذه المسألة:

- ‌كِتَابُ اَللِّبَاسِ وَالزِينَة

- ‌الحرير مباح للنساء

- ‌أحكام الشعر

- ‌صفة لباس المرأة

- ‌مشروعية ستر الوجه:

- ‌كِتَابُ اَلنِّكَاحِ

- ‌تحريم مصافحة الأجنبية

- ‌جواز كلام النساء مع الرجال

- ‌تحريم نكاح المتعة

- ‌تحريم نكاح الرجل ابنته من الزنى

- ‌الجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها

- ‌النظر إلى المخطوبة

- ‌لا تنكح المرأة إلا بإذن وليها

- ‌الكفاءة في الزواج

- ‌صداق المرأة

- ‌هل لولي المرأة أن يشترط لنفسه شيئا من المال

- ‌الصداق إذا لم يدخل بها

- ‌آداب الجماع

- ‌كِتَابُ اَلطَّلَاقِ

- ‌حكم الطلاق

- ‌جواز تطليق الرجل لزوجته ولو كانت صوّامة قوّامة:

- ‌الطلاق بلفظ ثلاثًا

- ‌طلاق الحائض

- ‌حكم طلاق الهازل

- ‌أحكام الخلع

- ‌فرق اللعان إنما هي فسخ

- ‌أحكام العدة والإحداد

- ‌معتدة الوفاة تحدُّ بالسواد ثلاثًا فقط:

- ‌لا زينة للمحدة:

- ‌باب الحضانة

- ‌باب العتق

الفصل: ‌صفة لباس المرأة

‌صفة لباس المرأة

إن تتبعنا الآيات القرآنية والسنة المحمدية والآثار السلفية في هذا الموضوع الهام قد بين لنا أن المرأة إذا خرجت من دارها وجب عليها أن تستر جميع بدنها وأن لا تظهر شيئا من زينتها حاشا وجهها وكفيها - إن شاءت - بأي نوع أو زي من اللباس ما وجدت فيه الشروط الآتية:

الشرط الأول:

(استيعاب جميع البدن إلا ما استثني)، فهو في قوله تعالى في [سورة النور: الآية 31]: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْأِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} وقوله تعالى في [سورة الأحزاب: الآية 59]: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً} .

ففي الآية الأولى التصريح بوجوب ستر الزينة كلها وعدم إظهار شيء منها أمام الأجانب إلا ما ظهر بغير قصد منهن فلا يؤاخذن عليه إذا بادرن

ص: 207

إلى ستره قال الحافظ ابن كثير في (تفسيره): (أي: لا يظهرن شيئا من الزينة للأجانب إلا ما لا يمكن إخفاؤه قال ابن مسعود: كالرداء والثياب يعني على ما كان يتعاطاه نساء العرب من المقنعة التي تجلل ثيابها وما يبدو من أسافل الثياب فلا حرج عليها فيه لأن هذا لا يمكن إخفاؤه) وقد روى البخاري (7/ 290) ومسلم (5/ 197) عن أنس رضي الله عنه قال: (صحيح)(لما كان يوم أحد انهزم الناس عن النبي صلى الله عليه وسلم وأبو طلحة بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم مجوب عليه بحجفة له. . . ولقد رأيت عائشة بنت أبي بكر وأم سليم وإنهما لمشمرتان أرى خدم سوقهما (يعني الخلاخيل) تنقزان القرب على متونهما تفرغانه في أفواه القوم. . .) قال الحافظ ابن حجر العسقلاني:

(وهذه كانت قبل الحجاب ويحتمل أنها كانت عن غير قصد للنظر)

قلت: وهذا المعنى الذي ذكرنا في تفسير: {إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} [النور: 31] هو المتبادر من سياق الآية وقد اختلفت أقوال السلف في تفسيرها: فمن قائل: إنها الثياب الظاهرة.

ومن قائل: إنها الكحل والخاتم والسوار والوجه وغيرها من الأقوال التي رواها ابن جرير في (تفسيره)(18/ 84) عن بعض الصحابة والتابعين ثم اختار هو أن المراد بهذا الاستثناء الوجه والكفان فقال:

(وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال: عنى بذلك الوجه والكفين يدخل في ذلك - إذا كان كذلك - الكحل والخاتم والسوار والخضاب وإنما قلنا: ذلك أولى الأقوال في ذلك بالتأويل لإجماع الجميع على أن على كل مصل أن يستر عورته في صلاته، وأن للمرأة أن تكشف وجهها وكفيها في صلاتها وأن عليها أن تستر ما عدا ذلك من بدنها إلا ما

ص: 208

روي [الحديث منكر] عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أباح لها أن تبدي من ذراعها قدر النصف فإذا كان ذلك من جميعهم إجماعا كان معلوما بذلك أن لها أن تبدي من بدنها ما لم يكن عورة كما ذلك للرجال لأن ما لم يكن عورة فغير حرام إظهاره وإذا كان لها إظهار ذلك كان معلوما أنه مما استثنى الله تعالى ذكره بقوله:: {إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} [النور: 31] لأن كل ذلك ظاهر منها).

وهذا الترجيح غير قوي عندي لأنه غير متبادر من الآية على الأسلوب القرآني وإنما هو ترجيح بالإلزام الفقهي وهو غير لازم هنا لأن للمخالف أن يقول: جواز كشف المرأة عن وجهها في الصلاة أمر خاص بالصلاة فلا يجوز أن يقاس عليه الكشف خارج الصلاة لوضوح الفرق بين الحالتين.

أقول هذا مع عدم مخالفتنا له في جواز كشفها وجهها وكفيها في الصلاة وخارجها لدليل بل لأدلة أخرى غير هذه كما يأتي بيانه وإنما المناقشة هنا في صحة هذا الدليل بخصوصه لا في صحة الدعوى فالحق في معنى هذا الاستثناء ما أسلفناه أول البحث وأيدناه بكلام ابن كثير. ويؤيده أيضا ما في (تفسير القرطبي)(12/ 229):

(قال ابن عطية: ويظهر لي بحكم ألفاظ الآية أن المرأة مأمورة بأن لا تبدي وأن تجتهد في الإخفاء لكل ما هو زينة ووقع الاستثناء فيما يظهر بحكم ضرورة حركة فيما لا بد منه أو إصلاح شأن ونحو ذلك فـ: {إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} على هذا الوجه مما تؤدي إليه الضرورة في النساء فهو المعفو عنه).

ص: 209

قال القرطبي:

(قلت: هذا قول حسن إلا أنه لما كان الغالب من الوجه والكفين ظهورهما عادة وعبادة وذلك في الصلاة والحج فيصلح أن يكون الاستثناء راجعا إليهما يدل على ذلك ما رواه أبو داود عن عائشة رضي الله عنها: أن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليها ثياب رقاق فأعرض عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال لها: يا أسماء إن المرأة إذا بلغت المحيض لم يصلح أن يرى منها إلا هذا وأشار إلى وجهه وكفيه فهذا أقوى في جانب الاحتياط ولمراعاة فساد الناس فلا تبدي المرأة من زينتها إلا ما ظهر من وجهها وكفيها والله الموفق لا رب سواه).

قلت: وفي هذا التعقيب نظر أيضا؛ لأنه وإن كان الغالب على الوجه والكفين ظهورهما بحكم العادة فإنما ذلك بقصد من المكلف، والآية حسب فهمنا إنما أفادت استثناء ما ظهر دون قصد فكيف يسوغ حينئذ جعله دليلا شاملا لما ظهر بالقصد؟ فتأمل.

ثم تأملت فبدا لي أن قول هؤلاء العلماء هو الصواب وأن ذلك من دقة نظرهم رحمهم الله وبيانه: أن السلف اتفقوا على أن قوله تعالى:: {إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} يعود إلى فعل يصدر من المرأة المكلفة غاية ما في الأمر أنهم اختلفوا فيما تظهره بقصد منها فابن مسعود يقول: هو ثيابها أي: جلبابها. وابن عباس ومن معه من الصحابة وغيرهم يقول: هو الوجه والكفان منها. فمعنى الآية حينئذ: إلا ما ظهر عادة بإذن الشارع وأمره.

ص: 210

ألست ترى أن المرأة لو رفعت من جلبابها حتى ظهر من تحته شيء من ثيابها وزينتها - كما يفعل ذلك بعض المتجلببات السعوديات - أنها تكون قد خالفت الآية باتفاق العلماء فقد التقى فعلها هذا مع فعلها الأول وكلاهما بقصد منها لا يمكن إلا هذا فمناط الحكم إذن في الآية ليس هو ما ظهر دون قصد من المرأة - فهذا مما لا مؤاخذة عليه في غير موضع الخلاف أيضا اتفاقا - وإنما هو فيما ظهر دون إذن من الشارع الحكيم فإذا ثبت أن الشرع سمح للمرأة بإظهار شيء من زينتها سواء كان كفا أو وجها أو غيرهما فلا يعترض عليه بما كنا ذكرناه من القصد لأنه مأذون فيه كإظهار الجلباب تماما كما بينت آنفا.

فهذا هو توجيه تفسير الصحابة الذين قالوا: إن المراد بالاستثناء في الآية الوجه والكفان وجريان عمل كثير من النساء في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وبعده كما سترى في النصوص الآتية المتواترة معنى. ويعود الفضل في التنبه لهذا التوجيه - بعد الله تعالى - إلى الحافظ أبي الحسن بن القطان الفاسي رحمه الله تعالى في كتابه القيم الفريد الذي أطلعني الله عليه وأنا أهيئ مقدمة هذه الطبعة الجديدة ألا وهو (النظر في أحكام النظر) فقد تكلم فيها بعلم واسع ونظر ثاقب على كل مسائله ومنها ما نحن فيه فنبهني على ما أشرت إليه قوله فيه (ق 14/ 2):

(وإنما نعني بالعادة هنا عادة من نزل عليهم القرآن وبلغوا عن النبي صلى الله عليه وسلم الشرع وحضروا به خطاب المواجهة ومن لزم تلك العادة بعدهم إلى هلم جرا لا لعادة النسوان وغيرهم المبدين أجسادهم وعوراتهم).

ص: 211

قلت: فابن عباس ومن معه من الأصحاب والتابعين والمفسرين إنما يشيرون بتفسيرهم لآية: {إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} إلى هذه العادة التي كانت معروفة عند نزولها وأقروا عليها فلا يجوز إذن معارضة تفسيرهم بتفسير ابن مسعود الذي لم يتابعه عليه أحد من الصحابة لأمرين اثنين:

الأول: أنه أطلق الثياب ولا قائل بهذا الإطلاق؛ لأنه يشمل الثياب الداخلية التي هي في نفسها زينة كما تفعله بعض السعوديات كما تقدم فإذن هو يريد منها الجلباب فقط الذي تظهره المرأة من ثيابها إذا خرجت من دارها.

والآخر: أن هذا التفسير - وإن تحمس له بعض المتشددين - لا ينسجم مع بقية الآية وهي: {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ} الآية؛ فالزينة الأولى هي عين الزينة الثانية كما هو معروف في الأسلوب العربي: أنهم إذا ذكروا اسما معرفا ثم كرروه فهو هو فإذا كان الأمر كذلك فهل الآباء ومن ذكروا معهم في الآية لا يجوز لهم أن ينظروا إلا إلى ثيابهن الباطنة؟ ولذلك قال أبو بكر الجصاص رحمه الله في (أحكام القرآن)(3/ 316):

(وقول ابن مسعود في أن: {إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} هو الثياب لا معنى له؛ لأنه معلوم أنه ذكر الزينة والمراد العضو الذي عليه الزينة. ألا ترى أن سائر ما تتزين به من الحلي والقلب والخلخال والقلادة يجوز أن تظهرها للرجال إذا لم تكن هي لابستها فعلمنا أن المراد مواضع الزينة كما قال في نسق الآية بعد هذا {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ}

ص: 212

والمراد موضع الزينة فتأويلها على الثياب لا معنى له إذ كان مما يرى الثياب عليها دون شيء من بدنها كما يراها إذا لم تكن لابستها).

وكأنه لهذا لم يعرج عليه الحافظ ابن القطان في كتابه الآنف الذكر وقد ذكره في جملة ما قيل في تفسير الآية كما ذكر أقوال العلماء والمذاهب حولها بتفصيل وتحرير وتحقيق فيها لا أعرف له مثيلا، ثم ساق بعض الأحاديث التي يمكن الاستدلال بها على جواز إبداء المرأة لوجهها وكفيها للأجانب. ومع أنه فاته الكثير من الأحاديث التي ذكرت في كتابنا هذا فقد ناقشها مناقشة دقيقة وميز صحيحها وسقيمها وما يصح الاستدلال به وما لا يصح من الناحية الفقهية دون أن يتحيز لفئة.

ثم تكلم على الآية وفسرها تفسيرا بديعا يدل على أنه إمام في التفسير والفقه أيضا كما هو في الحديث فأفاد رحمه الله أن النهي فيها مطلق من وجوه ذكرها وهي أربعة وفصل القول فيها تفصيلا رائعا ويهمنا هنا منها رابعها فقال (ق 15/ 1):

(ومطلقة بالنسبة إلى كل ناظر ورد على إطلاقه منها استثناءان:

أحدهما: على مطلق الزينة وخصص به منها (ما ظهر منها) فيجوز إبداؤه لكل واحد.

والآخر: على مطلق الناظرين الذين يبدى لهم شيء من ذلك فخصص منهم البعولة ومن بعدهم).

وبعد أن ساق قول ابن مسعود وأقوال الصحابة والتابعين المخالفة وأقوال المذاهب والأحاديث المشار إليها آنفا قال ملخصا للموضوع وموضحا رأيه فيه (ق 21/ 1):

ص: 213

(الأحاديث المذكورة في الباب إما أن تدل على إبدائها جميع ذلك (يعني: الوجه والكفين) أو بعضه دلالة يمكن الانصراف عنها بتحميل اللفظ أو القصة غير ذلك لكن الانصراف عما يدل عليه ظاهر اللفظ أو سياق القصة لا يكون جائزا إلا بدليل عاضد يصير الانصراف تأويلا وإذا لم يكن هناك دليل كان الانصراف تحكما. فعلى هذا يجب القول بما تظاهرت هذه الظواهر وتعاضدت عليه من جواز إبداء المرأة وجهها وكفيها لكن يستثنى من ذلك ما لا بد من استثنائه قطعا، وهو ما إذا قصدت بإبداء ذلك التبرج وإظهار المحاسن فإن هذا يكون حراما ويكون الذي يجوز لها إنما هو إبداء ما هو في حكم العادة ظاهر حين التصرف والتبذل فلا يجب عليها أن تتعاهده بالستر بخلاف ما هو في العادة (أي الشرعية) مستور إلا أن يظهر بقصد كالصدر والبطن فإن هذا لا يجوز لها إبداؤه ولا يعفى لها عن بدوه ويجب عليها ستره في حين التصرف كما يجب من ستره في حين الطمأنينة ويعضد هذه الظواهر وهذا المنزع قوله تعالى:

{وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ} . فمعنى الآية: لا يبدين زينتهن في مواضعها لأحد من الخلق إلا ما كان عادة ظاهرة عند التصرف فما وقع من بدوه وإبدائه بغير قصد التبرج والتعرض للفتنة فلا حرج فيه)

ثم قال (ق 21/ 2):

(ويتأيد المعنى الذي حملنا عليه الآية من أن الظاهر هو الوجه والكفان بقوله تعالى المتقدم متصلا به: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} فإنه يفهم منه أن القرطة قد يعفيهن عند بدو وجوههن عن تعاهد سترها فتنكشف فأمرن أن يضربن بالخُمر على الجيوب حتى لا يظهر شيء من ذلك إلا الوجه الذي من شأنه أن يظهر حين التصرف، إلا أن يستر بقصد وتكلف

ص: 214

مشقة وكذلك الكفان وذكر أهل التفسير أن سبب نزول الآية هو أن النساء كن وقت نزولها إذا غطين رؤوسهن بالخمر يسدلنها خلفهن كما تصنع النبط فتبقى النحور والأعناق بادية فأمر الله سبحانه بضرب الخمر على الجيوب ليستر جميع ما ذكر وبالغ في امتثال هذا الأمر نساء المهاجرين والأنصار فزدن فيه تكثيف الخمر. . .).

ثم ذكر حديث عائشة الآتي (ص 78) لكن من رواية أبي داود بلفظ: (شققن أكنف (وقال ابن صالح: أكثف) مروطهن فاختمرن بها). وقال:

(هذا إسناد حسن).

ثم قال الحافظ ابن القطان رحمه الله تعالى:

(فإن قيل: هذا الذي ذهبت إليه من أن المرأة معفو لها عن بدو وجهها وكفيها - وإن كانت مأمورة بالستر جهدها - يظهر خلافه من قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ} الآية؟

فالجواب أن يقال:

يمكن أن يفسر هذا (الإدناء) تفسيرا لا يناقض ما قلناه وذلك بأن يكون معناه: يدنين عليهن من جلابيبهن ما لا يظهر معه القلائد والقرطة مثل قوله: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} ؛ فإن (الإدناء) المأمور به مطلق بالنسبة إلى كل ما يطلق عليه (إدناء) فإذا حملناه على واحد مما يقال عليه (إدناء) يقضي به عن عهدة الخطاب إذ لم يطلب به كل (إدناء) فإنه إيجاب بخلاف النهي والنفي).

ص: 215

ويلاحظ القراء الكرام أن هذا البحث القيم الذي وقفت عليه بفضل الله من كلام هذا الحافظ ابن القطان يوافق تمام الموافقة ما كنت ذكرته اجتهادا مني وتوفيقا بين الأدلة: أن الآية مطلقة كما ستراه مصرحا به (ص 87) فالحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.

نعم حديث عائشة عند أبي داود دليل واضح على جواز إظهار المرأة الوجه والكفين لولا أن فيه ما بيناه في التعليق إلا أنه من الممكن أن يقال: إنه يقوى بكثرة طرقه وقد قواه البيهقي، كما يأتي أدناه فيصلح حينئذ دليلا على الجواز المذكور. لا سيما وقد عمل به كثير من النساء في عهد النبي صلى الله عليه وسلم حيث كن يكشفن عن وجوههن وأيديهن بحضرته صلى الله عليه وسلم وهو لا ينكر ذلك عليهن وفي ذلك عدة أحاديث نسوق ما يحضرنا الآن منها:

1 -

(صحيح) عن جابر بن عبد الله قال:

(شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلاة يوم العيد فبدأ بالصلاة قبل الخطبة بغير أذان ولا إقامة ثم قام متوكئا على بلال فأمر بتقوى الله وحث على طاعته ووعظ الناس وذكرهم ثم مضى حتى أتى النساء فوعظهن وذكرهن فقال: تصدقن فإن أكثركن حطب جهنم فقامت امرأة من سطة النساء (أي: جالسة في وسطهن) سفعاء الخدين (أي: فيهما تغير وسواد) فقالت: لم يا رسول الله؟ قال: لأنكن تكثرن الشكاة وتكفرن العشير قال: فجعلن يتصدقن من حليهن يلقين في ثوب بلال من أقراطهن وخواتمهن).

ص: 216

2 -

(صحيح) عن ابن عباس [عن الفضل بن عباس]:

(أن امرأة من خثعم استفتت رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع [يوم النحر] والفضل بن عباس رديف رسول الله صلى الله عليه وسلم [وكان الفضل رجلا وضيئا. . . فوقف النبي صلى الله عليه وسلم للناس يفتيهم]) الحديث وفيه:

(فأخذ الفضل بن عباس يلتفت إليها وكانت امرأة حسناء (وفي رواية: وضيئة)(وفي رواية: فطفق الفضل ينظر إليها وأعجبه حسنها)[وتنظر إليه] فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بذقن الفضل فحول وجهه من الشق الآخر). وفي رواية لأحمد (1/ 211) من حديث الفضل نفسه:

(فكنت أنظر إليها فنظر إلي النبي صلى الله عليه وسلم فقلب وجهي عن وجهها ثم أعدت النظر فقلب وجهي عن وجهها حتى فعل ذلك ثلاثا وأنا لا أنتهي) ورجاله ثقات لكنه منقطع إن كان الحكم بن عتيبة لم يسمعه من ابن عباس.

وروى هذه القصة علي بن أبي طالب رضي الله عنه وذكر أن الاستفتاء كان عند المنحر بعد ما رمى رسول الله صلى الله عليه وسلم الجمرة وزاد:

(فقال له العباس: يا رسول الله لم لويت عنق ابن عمك؟ قال: رأيت شابا وشابة فلم آمن الشيطان عليهما).

3 -

(صحيح) عن سهل بن سعد:

(أن امرأة جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم [وهو في المسجد] فقالت: يا رسول الله جئت لأهب لك نفسي [فصمت فلقد رأيتها قائمة مليا أو قال: هوينا] فنظر إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم فصعد

ص: 217

النظر إليها وصوبه ثم طأطأ رأسه، فلما رأت المرأة أنه لم يقصد فيها شيئا جلست) الحديث.

4 -

(صحيح) عن عائشة رضي الله عنها قالت:

(كن نساء المؤمنات يشهدن مع النبي صلى الله عليه وسلم صلاة الفجر متلفعات بمروطهن ثم ينقلبن إلى بيوتهن حين يقضين الصلاة لا يعرفن من الغَلس).

ووجه الاستدلال بها هو قولها: (لا يعرفن من الغلس) فإن مفهومه أنه لولا الغلس لعرفن وإنما يعرفن عادة من وجوههن وهي مكشوفة فثبت المطلوب. وقد ذكر معنى هذا الشوكاني (2/ 15) عن الباجي.

ثم وجدت رواية صريحة في ذلك بلفظ: (وما يعرف بعضنا وجوه بعض)(صحيح).

5 -

(صحيح) عن فاطمة بنت قيس:

(أن أبا عمرو بن حفص طلقها البتة (وفي رواية: آخر ثلاث تطليقات) وهو غائب. . . فجاءت رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له. . فأمرها أن تعتد في بيت أم شريك ثم قال: تلك امرأة يغشاها أصحابي اعتدي عند ابن أم مكتوم فإنه رجل أعمى تضعين ثيابك [عنده].

(وفي رواية: انتقلي إلى أم شريك - وأم شريك امرأة غنية من الأنصار عظيمة النفقة في سبيل الله ينزل عليها الضيفان - فقلت: سأفعل فقال: لا تفعلي إن أم شريك امرأة كثيرة الضيفان فإني أكره أن يسقط خمارك أو ينكشف الثوب عن ساقيك فيرى القوم منك بعض ما تكرهين ولكن انتقلي إلى ابن عمك عبد الله بن أم مكتوم [الأعمى]. . . وهو من البطن الذي

ص: 218

هي منه [فإنك إذا وضعت خمارك لم يرك]، فانتقلت إليه فلما انقضت عدتي سمعت نداء المنادي ينادي: الصلاة جامعة فخرجت إلى المسجد فصليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما قضى صلاته جلس على المنبر فقال: إني والله ما جمعتكم لرغبة ولا لرهبة ولكن جمعتكم لأن تميما الداري كان رجلا نصرانيا فجاء فبايع وأسلم وحدثني حديثا وافق الذي كنت أحدثكم عن مسيح الدجال. . .) الحديث.

وينبغي أن يعلم أن هذه القصة وقعت في آخر حياته صلى الله عليه وسلم لأن فاطمة بنت قيس ذكرت أنها بعد انقضاء عدتها سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يحدث بحديث تميم الداري وأنه جاء وأسلم.

وقد ثبت في ترجمة تميم أنه أسلم سنة تسع فدل ذلك على تأخر القصة عن آية الجلباب فالحديث إذن نص على أن الوجه ليس بعورة.

6 -

(صحيح) عن ابن عباس رضي الله عنهما:

(قيل له: شهدت العيد مع النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم ولولا مكاني من الصغر ما شهدته حتى أتى العلم الذي عند دار كثير بن الصلت فصلى [قال: فنزل نبي الله صلى الله عليه وسلم كأني أنظر إليه حين يجلس الرجال بيده ثم أقبل يشقهم]،ثم أتى النساء ومعه بلال [فقال:{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ} [الممتحنة: 12]؛ فتلا هذه الآية حتى فرغ منها، ثم قال حين فرغ منها: أنتن على ذلك؟ فقالت امرأة واحدة لم يجبه غيرها منهن: نعم يا نبي الله قال:] فوعظهن وذكرهن وأمرهن بالصدقة [قال: فبسط بلال ثوبه ثم قال: هلم لكن فداكن أبي وأمي] فرأيتهن يهوين بأيديهن يقذفنه (وفي

ص: 219

رواية: فجعلن يلقين الفتخ والخواتم) في ثوب بلال ثم انطلق هو وبلال إلى بيته).

7 -

(صحيح) عن سبيعة بنت الحارث:

(أنها كانت تحت سعد بن خولة فتوفي عنها في حجة الوداع وكان بدريا فوضعت حملها قبل أن ينقضي أربعة أشهر وعشر من وفاته فلقيها أبو السنابل بن بعكك حين تعلت من نفاسها وقد اكتحلت [واختضبت وتهيأت] فقال لها: اربعي على نفسك - أو نحو هذا - لعلك تريدين النكاح؟ إنها أربعة أشهر وعشر من وفاة زوجك قالت: فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت له ما قال أبو السنابل بن بعكك فقال: قد حللت حين وضعت).

8 -

(حديث حسن أو صحيح) عن عائشة رضي الله عنها:

(أن امرأة أتت النبي صلى الله عليه وسلم تبايعه ولم تكن مختضبة فلم يبايعها حتى اختضبت).

9 -

(صحيح) عن عطاء بن أبي رباح قال: قال لي ابن عباس:

ألا أريك امرأة من أهل الجنة؟ قلت: بلى. قال: هذه المرأة السوداء أتت النبي صلى الله عليه وسلم قالت: إني أصرع وإني أتكشف فادع الله لي.

قال: (إن شئت صبرت ولك الجنة وإن شئت دعوت الله أن يعافيك) فقالت: أصبر فقالت: إني أتكشف فادع الله لي أن لا أتكشف فدعا لها.

10 -

(صحيح) وعن ابن عباس أيضا قال:

(كانت امرأة تصلي خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم حسناء من أحسن الناس [قال ابن عباس: لا والله ما رأيت مثلها قط] فكان بعض

ص: 220

القوم يتقدم حتى يكون في الصف الأول لئلا يراها ويستأخر بعضهم حتى يكون في الصف المؤخر فإذا ركع نظر من تحت إبطيه [وجافى يديه] فأنزل الله تعالى: {وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ} [الحجر: 24].

11 -

(صحيح) عن ابن مسعود قال:

رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة فأعجبته فأتى سودة وهي تصنع طيبا وعندها نساء فأخلينه فقضى حاجته ثم قال: (أيما رجل رأى امرأة تعجبه فليقم إلى أهله فإن معها مثل الذي معها).

12 -

(حسن) عن عبد الله بن محمد عن امرأة منهم قالت:

دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا آكل بشمالي وكنت امرأة عسرى فضرب يدي فسقطت اللقمة فقال: (لا تأكلي بشمالك وقد جعل الله تبارك وتعالى لك يمينا) أو قال: (وقد أطلق الله عز وجل لك يمينا).

13 -

(صحيح) عن ثوبان رضي الله عنه قال:

جاءت بنت هبيرة إلى النبي صلى الله عليه وسلم وفي يدها فتخ من ذهب [أي: خواتيم كبار] فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يضرب يدها بعصية معه يقول:

(أيسرك أن يجعل الله في يدك خواتيم من نار؟. . .) الحديث

ففي هذه الأحاديث دلالة على جواز كشف المرأة عن وجهها وكفيها فهي تؤيد حديث عائشة المتقدم وتبين أن ذلك هو المراد بقوله تعالى: {إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} [النور: 31] كما سبق (ص 51).

ص: 221

على أن قوله تعالى فيما بعد: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} [النور: 31] يدل على ما دلت عليه بعض الأحاديث السابقة من عدم وجوب ستر المرأة لوجهها؛ لأن (الخمر) جمع خمار وهو ما يغطى به الرأس.

و (الجيوب) جمع (الجيب) وهو موضع القطع من الدرع والقميص وهو من الجوب وهو القطع فأمر تعالى بلي الخمار على العنق والصدر فدل على وجوب سترهما ولم يأمر بلبسه على الوجه فدل على أنه ليس بعورة ولذلك قال ابن حزم في (المحلى)(3/ 216 - 217):

(فأمرهن الله تعالى بالضرب بالخمار على الجيوب وهذا نص على ستر العورة والعنق والصدر وفيه نص على إباحة كشف الوجه لا يمكن غير ذلك).

إبطال دعوى أن هذه الأدلة كلها كانت قبل فرضية الجلباب:

أقول: فإن قيل: إن ما ذكرته واضح جدا غير أنه يحتمل أن يكون ذلك وقع قبل فرض الجلباب فلا يصح الاستدلال حينئذ إلا بعد إثبات وقوعه بعد الجلباب. وجوابنا عليه من وجهين:

الأول: أن الظاهر من الأدلة أنه وقع بعد الجلباب وقد حضرنا في ذلك حديثان:

الأول: (صحيح) حديث أم عطية رضي الله عنها:

(أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أمر النساء أن يخرجن لصلاة العيد قالت أم عطية: إحدانا لا يكون لها جلباب؟ قال: لتلبسها أختها من جلبابها). متفق عليه.

ص: 222

ففيه دليل على أن النساء إنما كن يخرجن إلى العيد في جلابيبهن وعليه فالمرأة السفعاء الخدين كانت متجلببة. ويؤيده الحديث الآتي وهو:

الحديث الثاني: حديثها أيضا قالت:

(لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة جمع نساء الأنصار في بيت ثم أرسل إليهن عمر بن الخطاب فقام على الباب فسلم عليهن فرددن السلام فقال: أنا رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم إليكن فقلن: مرحبا برسول الله صلى الله عليه وسلم وبرسوله فقال: تبايعن على أن لا تشركن بالله شيئا ولا تسرقن ولا تزنين ولا تقتلن أولادكن ولا تأتين ببهتان تفترينه بين أيديكن وأرجلكن ولا تعصين في معروف؟ فقلن: نعم فمد عمر يده من خارج الباب ومددن أيديهن من داخل ثم قال اللهم اشهد وأمرنا (وفي رواية: فأمرنا) أن نخرج في العيدين العتق والحيض ونهينا عن اتباع الجنائز ولاجمعة علينا فسألته عن البهتان، وعن قوله:{وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ} قال: هي النياحة).

ووجه الاستشهاد به إنما يتبين إذا تذكرنا أن آية بيعة النساء: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ} [الممتحنة: 12] إنما نزلت يوم الفتح كما قال مقاتل (الدر)(6/ 209) ونزلت بعد آية الامتحان، كما أخرجه ابن مردويه عن جابر (الدر) (6/ 211) وفي (البخاري) عن المسور أن آية الامتحان نزلت في يوم الحديبية وكان ذلك سنة ست على الصحيح كما قال ابن القيم في (الزاد) وآية الحجاب إنما نزلت سنة ثلاثة وقيل: خمس حين بنى صلى الله عليه وسلم بزينب بنت جحش كما في ترجمتها من (الإصابة).

ص: 223

فثبت من ذلك أن أمر النساء بالخروج إلى العيد إنما كان بعد فرض الجلباب ويؤيده أن في حديث عمر أنه لم يدخل على النساء وإنما بايعهن من وراء الباب وفي هذه القصة أبلغهن أمر النبي صلى الله عليه وسلم النساء بأن يخرجن للعيد وكان ذلك في السنة السادسة عقب رجوعه صلى الله عليه وسلم من الحديبية بعد نزول آية الامتحان والبيعة كما تقدم وبهذا تعلم معنى قول أم عطية في أول حديثها الثاني: (لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة) أي: من الحديبية ولا تعني قدومه إليها من مكة مهاجرا كما قد يتبادر إلى الذهن لأول وهلة. فتأمل.

الوجه الآخر: إذا فرضنا عجزنا عن إثبات ما ذكرنا فإن مما لا شك فيه عند العلماء أن إقراره صلى الله عليه وسلم المرأة على كشف وجهها أمام الرجال دليل على الجواز وإذا كان الأمر كذلك فمن المعلوم أن الأصل بقاء كل حكم على ما كان عليه حتى يأتي ما يدل على نسخه ورفعه، ونحن ندعي أنه لم يأت شيء من ذلك هنا بل جاء ما يؤيد بقاءه واستمراره كما سترى فمن ادعى خلاف ذلك فهو الذي عليه أن يأتي بالدليل الناسخ وهيهات هيهات.

على أننا قد أثبتنا فيما تقدم من حديث الخثعمية أن الحادثة كانت في حجة النبي صلى الله عليه وسلم وهي كانت بعد فرض الجلباب يقينا وما أجابوا عنها تقدم إبطاله بما لا يبقي شبهة.

ويؤيد ذلك قوله تعالى في صدر الآية المتقدمة: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ....... وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ} الآية [النور: 30 - 31]؛ فإنها تشعر بأن في المرأة شيئا مكشوفا يمكن النظر إليه.

ص: 224

فلذلك أمر تعالى بغض النظر عنهن وما ذلك غير الوجه والكفين، مثلها قوله صلى الله عليه وسلم:(صحيح)(إياكم والجلوس بالطرقات. . . . فإذا أبيتم إلا المجلس فأعطوا الطريق حقه. قالوا: وما حق الطريق يا رسول الله؟ قال: غض البصر وكف الأذى ورد السلام والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر).

وقوله: (الحديث حسن)(يا علي لا تتبع النظرة النظرة فإن لك الأولى وليست لك الآخرة)

وعن جرير بن عبد الله قال:

(صحيح)(سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نظر الفجأة؟ فأمرني صلى الله عليه وسلم أن أصرف بصري).

هذا وقد ذكر القرطبي (12/ 230) وغيره في سبب نزول هذه الآية: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} [النور: 31]. (أن النساء كن في ذلك الزمان إذا غطين رؤوسهن بالأخمرة، وهي المقانع سدلنها من وراء الظهر كما يصنع النبط. فيبقى النحر والعنق والأذنان لا ستر على ذلك. فأمر الله تعالى بلي الخمار على الجيوب).

وعن عائشة رضي الله عنها قالت:

(صحيح)(يرحم الله نساء المهاجرين الأول لما أنزل الله:: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ}؛ شققن مروطهن فاختمرن بها (وفي رواية: أخذن أزرهن فشققنها من قبل الحواشي فاختمرن بها).

ص: 225

وعن الحارث بن الحارث الغامدي قال:

(صحيح)([قلت لأبي ونحن بمنى:] ما هذه الجماعة؟ قال: هؤلاء القوم قد اجتمعوا على صابئ لهم قال: فنزلنا (وفي رواية: فتشرفنا) فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو الناس إلى توحيد الله والإيمان به وهم يردون عليه [قوله] ويؤذونه حتى انتصف النهار وتصدع عنه الناس وأقبلت امرأة قد بدا نحرها [تبكي] تحمل قدحا [فيه ماء] ومنديلا فتناوله منها وشرب وتوضأ ثم رفع رأسه [إليها] فقال: يا بنية خمري عليك نحرك ولا تخافي على أبيك [غلبة ولا ذلا] قلت: من هذه؟ قالوا: [هذه] زينب بنته).

ثم إن قوله تعالى: {وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ} [النور: 31] ، يدل على أن النساء يجب عليهن أن يسترن أرجلهن أيضا، وإلا لاستطاعت إحداهن أن تبدي ما تخفي من الزينة (وهي الخلاخيل) ولاستغنت بذلك عن الضرب بالرجل، ولكنها كانت لا تستطيع ذلك؛ لأنه مخالفة للشرع مكشوفة. ومثل هذه المخالفة لم تكن معهودة في عصر الرسالة ولذلك كانت إحداهن تحتال بالضرب بالرجل لتعلم الرجال ما تخفي من الزينة فنهاهن الله تعالى عن ذلك وبناء على ما أوضحنا قال ابن حزم في (المحلى) (3/ 216):

(هذا نص على أن الرجلين والساقين مما يخفى ولا يحل إبداؤه) ويشهد لهذا من السنة حديث ابن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (حسن صحيح) (من جر ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة فقالت أم سلمة: فكيف يصنع النساء بذيولهن؟ قال: يرخين شبرا

ص: 226

فقالت: إذن تنكشف أقدامهن قال: فيرخينه ذراعا لا يزدن عليه).أخرجه الترمذي (3/ 47) وقال: (هذا حديث حسن صحيح).

وفي الحديث رخصة للنساء في جر الإزار لأنه يكون أستر لهن وقال البيهقي:

(وفي هذا دليل على وجوب ستر قدميها) ، وعلى هذا جرى العمل من النساء في عهده صلى الله عليه وسلم وما بعده وترتب عليه بعض المسائل الشرعية فقد أخرج مالك وغيره.

(صحيح) عن أم ولد لإبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف أنها سألت أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: إني امرأة أطيل ذيلي وأمشي في المكان القذر؟ قالت أم سلمة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

(يطهره ما بعده).

وعن امرأة من بني عبد الأشهل قالت:

(صحيح)(قلت: يا رسول الله إن لنا طريقا إلى المسجد منتنة فكيف نفعل إذا مطرنا؟ قال: أليس بعدها طريق هي أطيب منها؟ قالت: قلت: بلى قال: فهذه بهذه)

ومن أجل ذلك كان من شروط المسلمين الأولين على أهل الذمة أن تكشف نساؤهم عن سوقهن وأرجلهن لكي لا يتشبهن بالمسلمات كما جاء في (اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم)(ص 59)

ثم إن الله تعالى بعد أن بين في الآية السابقة - آية النور - ما يجب على المرأة أن تخفي من زينتها أمام الأجانب ومن يجوز أن تظهرها أمامهم أمرها في الآية الأخرى إذا خرجت من دارها أن تلتحف فوق ثيابها وخمارها

ص: 227

بالجلباب أو الملاءة لأنه أستر لها وأشرف لسيرتها وهي قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً} [الأحزاب: 59].ولما نزلت خرج نساء الأنصار كأن على رؤوسهن الغربان من الأكسية.

والجلباب: هو الملاءة التي تلتحف به المرأة فوق ثيابها على أصح الأقوال وهو يستعمل في الغالب إذا خرجت من دارها كما روى الشيخان وغيرهما عن أم عطية رضي الله عنها قالت:

(صحيح)(أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نخرجهن في الفطر والأضحى: العواتق والحيض وذوات الخدور فأما الحيض فيعتزلن الصلاة ويشهدن الخير ودعوة المسلمين. قلت: يا رسول الله إحدانا لا يكون لها جلباب؟ قال: لتلبسها أختها من جلبابها).

قال الشيخ أنور الكشميري في (فيض الباري)(1/ 388) تعليقا على هذا الحديث:

(وعلم منه أن الجلباب مطلوب عند الخروج وأنها لا تخرج إن لم يكن لها جلباب. والجلباب رداء ساتر من القرن إلى القدم. وقد مر مني أن الخمر في البيوت والجلابيب عند الخروج وبه شرحت الآيتين في الحجاب: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} [النور: 31] والثانية: {يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ} [الأحزاب: 59])

وقال في المكان الذي أشار إليه (1/ 256) بعد أن فسر الجلباب والخمار بنحو ما تقدم:

ص: 228

فإن قلت: إن إدناء الجلباب يغني عن ضرب الخمر على جيوبهن قلت: بل إدناء الجلباب فيما إذا خرجت من بيتها لحاجة وضرب الخمر في عامة الأحوال فضرب الخمر محتاج إليه).

قلت: وتقييده الخمر بالبيوت فيه نظر لأنه خلاف الظاهر من الآية الأولى: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ ......... وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ .... } [النور: 31] فإن النهي عن الضرب بالأرجل قرينة واضحة على أن الأمر بضرب الخمر خارج الدار أيضا وكذلك قوله في صدر الآية: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ}

الآية [النور: 31].

فالحق الذي يقتضيه العمل بما في آيتي النور والأحزاب أن المرأة يجب عليها إذا خرجت من دارها أن تختمر وتلبس الجلباب على الخمار؛ لأنه كما قلنا سابقا أستر لها وأبعد عن أن يصف حجم رأسها وأكتافها وهذا أمر يطلبه الشارع. كما سيأتي بيانه عند الكلام على (الشرط الرابع) والذي ذكرته هو الذي فسر به بعض السلف آية الإدناء ففي (الدر)(5/ 222). (وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير في قوله: {يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ} قال: يسدلن عليهن من جلابيبهن وهو القناع فوق الخمار ولا يحل لمسلمة أن يراها غريب إلا أن يكون عليها القناع فوق الخمار وقد شدت به رأسها ونحرها).

واعلم أن هذا الجمع بين الخمار والجلباب من المرأة إذا خرجت قد أخل به جماهير النساء المسلمات، فإن الواقع منهن إما الجلباب وحده على رؤوسهن ،أو الخمار وقد يكون غير سابغ في بعضهن كالذي يسمى اليوم بـ

ص: 229

(الإشارب) بحيث ينكشف منهن بعض ما حرم الله عليهن أن يظهرن من زينتهن الباطنة كشعر الناصية أو الرقبة مثلا.

وإن مما يؤكد وجوب هذا الجمع حديث ابن عباس:: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ} الآية. واستثنى من ذلك: {وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لا يَرْجُونَ نِكَاحاً} الآية.

وتمام الآية: {فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [النور: 60].

وفي رواية عن ابن عباس: أنه كان يقرأ: (أن يضعن من ثيابهن) قال: الجلباب. وكذا قال ابن مسعود.

قلت: فهذا نص في وجوب وضع الجلباب على الخمار على جميع النساء إلا القواعد منهن (وهن اللاتي لا يطمع فيهن لكبرهن) فيجوز لهن أن لا يضعن الحجاب على رؤوسهن.

أفما آن للنساء الصالحات حيثما كن أن يتنبهن من غفلتهن ويتقين الله في أنفسهن ويضعن الجلابيب على خمرهن؟

ومن الغريب حقا أن لا يتعرض لبيان هذا الحكم الصريح في الكتاب والسنة كل الذين كتبوا اليوم - فيما علمت - عن لباس المرأة مع توسع بعضهم على الأقل في الكلام على أن وجه المرأة عورة مع كون ذلك مما اختلف فيه، والصواب خلافه كما تراه مفصلا في هذا الكتاب والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.

ص: 230

ثم إن قوله: (والجلابيب عند الخروج) لا مفهوم له إذ إن الجلباب لستر زينة المرأة عن الأجانب، فسواء خرجت إليهم أو دخلوا عليها فلا بد على كل حال من أن تتجلبب ويؤيد هذا ما قاله قيس بن زيد:

(صحيح)(إن رسول الله صلى الله عليه وسلم طلق حفصة بنت عمر. فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فدخل عليها فتجلببت فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن جبريل أتاني فقال لي: أرجع حفصة فإنها صوامة قوامة وهي زوجتك في الجنة)

هذا ولا دلالة في الآية على أن وجه المرأة عورة يجب عليها ستره، بل غاية ما فيها الأمر بإدناء الجلباب عليها وهذا كما ترى أمر مطلق فيحتمل أن يكون الإدناء على الزينة ومواضعها التي لا يجوز لها إظهارها حسبما صرحت به الآية الأولى. وحينئذ تنتفي الدلالة المذكورة ويحتمل أن يكون أعم من ذلك، فعليه يشمل الوجه.

وقد ذهب إلى كل من التأويلين جماعة من العلماء المتقدمين وساق أقوالهم قي ذلك ابن جرير في (تفسيره) والسيوطي في (الدر المنثور) ولا نرى فائدة كبرى بنقلها هنا، فنكتفي بالإشارة إليها. ومن شاء الوقوف عليهما فليرجع إليهما.

ونحن نرى أن القول الأول أشبه بالصواب لأمور:

الأول: أن القرآن يفسر بعضه بعضا. وقد تبين من آية النور المتقدمة أن الوجه لا يجب ستره فوجب تقييد الإدناء هنا بما عدا الوجه توفيقا بين الآيتين.

ص: 231

الآخر: أن السنة تبين القرآن فتخصص عمومه وتقيد مطلقه وقد دلت النصوص الكثيرة منها على أن الوجه لا يجب ستره فوجب تفسير هذه الآية على ضوئها وتقييدها بها.

فثبت أن الوجه ليس بعورة يجب ستره ، وهو مذهب أكثر العلماء كما قال ابن رشد في (البداية)(1/ 89) ومنهم أبو حنيفة ومالك والشافعي ورواية عن أحمد كما في (المجموع)(3/ 169) وحكاه الطحاوي في (شرح المعاني)(2/ 9) عن صاحبي أبي حنيفة أيضا وجزم في (المهمات) من كتب الشافعية أنه الصواب كما ذكره الشيخ الشربيني في (الإقناع)(2/ 110).

لكن ينبغي تقييد هذا بما إذا لم يكن على الوجه وكذا الكفين شيء من الزينة لعموم قوله تعالى: {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ} [النور: 31] ، وإلا وجب ستر ذلك. ولا سيما في هذا العصر الذي تفنن فيه النساء بتزيين وجوههن وأيديهن بأنواع من الزينة والأصبغة مما لا يشك مسلم - بل عاقل ذو غيرة - في تحريمه وليس من ذلك الكحل والخضاب لاستثنائهما في الآية كما تقدم.

ويؤيد هذا ما أخرجه ابن سعد (8/ 238 - 239) من طريق سفيان عن منصور عن ربعي بن خراش عن امرأة عن أخت حذيفة وكان له أخوات قد أدركن النبي صلى الله عليه وسلم قالت:

(خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا معشر النساء أليس لكن في الفضة ما تحلين؟ أما إنه ليس منكن امرأة تحلى ذهبا تظهره إلا عذبت به.

ص: 232

قال منصور: فذكرت ذلك لمجاهد فقال: قد أدركتهن وإن إحداهن لتتخذ لكمها زرا تواري خاتمها).

وليس استشهادي في هذه الرواية بالحديث المرفوع وإن كان صريحا في ذلك - لأن في إسناده المرأة التي لم تسم - وإنما هو بقول مجاهد: (تواري خاتمها) ، فهو نص صريح فيما ذكرت والحمد لله على توفيقه.

ثم رأيت قول مجاهد بسند آخر صحيح عنه في (مسند أبي يعلى)(6989).

هذا وقد أبان الله تعالى عن حكمة الأمر بإدناء الجلباب بقوله: {ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ} [الأحزاب: 59]؛ يعني أن المرأة إذا التحفت بالجلباب عرفت بأنها من العفائف المحصنات الطيبات فلا يؤذيهن الفساق بما لا يليق من الكلام، بخلاف ما لو خرجت متبذلة غير مستترة فإن هذا مما يطمع الفساق فيها والتحرش بها، كما هو مشاهد في كل عصر ومصر.

فأمر الله تعالى نساء المؤمنين جميعا بالحجاب سدا للذريعة.

وأما ما أخرجه ابن سعد (8/ 176): أخبرنا محمد بن عمر عن ابن أبي سبرة عن أبي صخر عن ابن كعب القرظي قال:

(ضعيف جدا)(كان رجل من المنافقين يتعرض لنساء المؤمنين يؤذيهن فإذا قيل له؟ قال: كنت أحسبها أمة فأمرهن الله أن يخالفن زي الإماء ويدنين عليهن من جلابيبهن).

ص: 233

فلا يصح بل هو ضعيف جدا لأمور:

الأول: أن ابن كعب القرظي - واسمه محمد - تابعي لم يدرك عصر النبوة فهو مرسل.

الثاني: أن ابن أبي سبرة وهو أبو بكر بن عبد الله بن محمد بن أبي سبرة ضعيف جدا قال الحافظ في (التقريب):

(رموه بالوضع).

والثالث: ضعف محمد بن عمر وهو الواقدي وهو مشهور بذلك عند المحدثين بل هو متهم.

وفي معنى هذه الرواية روايات أخرى أوردها السيوطي في (الدر المنثور) وبعضها عند ابن جرير وغيره ، وكلها مرسلة لا تصح؛ لأن منتهاها إلى أبي مالك وأبي صالح والكلبي ومعاوية بن قرة والحسن البصري ولم يأت شيء منها مسندا ، فلا يحتج بها ،ولا سيما أن ظاهرها مما لا تقبله الشريعة المطهرة ،ولا العقول النيرة؛ لأنها توهم أن الله تعالى أقر إماء المسلمين - وفيهن مسلمات قطعا - على حالهن من ترك التستر ولم يأمرهن بالجلباب ليدفعن به إيذاء المنافقين لهن.

ومن العجائب أن يغتر بعض المفسرين بهذه الروايات الضعيفة فيذهبوا بسببها إلى تقييد قوله تعالى: {وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ} [الأحزاب: 59] بالحرائر دون الإماء، وبنوا على ذلك أنه لا يجب على الأمة ما يجب على الحرة من ستر الرأس والشعر بل بالغ بعض المذاهب فذكر أن عورتها مثل عورة الرجل: من السرة إلى الركبة وقالوا:

ص: 234

(فيجوز للأجنبي النظر إلى شعر الأمة وذراعها وساقها وصدرها وثديها).وهذا - مع أنه لا دليل عليه من كتاب أو سنة - مخالف لعموم قوله تعالى: {وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ} [الأحزاب: 59]؛ فإنه من حيث العموم كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلا جُنُباً إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} الآية [النساء: 43] ولهذا قال أبو حيان الأندلسي في تفسيره: (البحر المحيط)(7/ 250):

(والظاهر أن قوله: {وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ} يشمل الحرائر والإماء، والفتنة بالإماء أكثر؛ لكثرة تصرفهن بخلاف الحرائر فيحتاج إخراجهن من عموم النساء إلى دليل واضح).

وسبقه إلى ذلك الحافظ ابن القطان في (أحكام النظر)(ق 24/ 2) وغيره. وما أحسن ما قال ابن حزم في (المحلى)(3/ 218 - 219):

(وأما الفرق بين الحرة والأمة فدين الله واحد والخلقة والطبيعة واحدة كل ذلك في الحرائر والإماء سواء حتى يأتي نص في الفرق بينهما في شيء فيوقف عنده). قال:

(وقد ذهب بعض من وهل في قول الله تعالى: {يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ} إلى أنه إنما أمر الله تعالى بذلك؛ لأن الفساق كانوا يتعرضون للنساء للفسق فأمر الحرائر بأن يلبسن الجلابيب ليعرف الفساق أنهن حرائر فلا يتعرضوهن).

ص: 235

ونحن نبرأ من هذا التفسير الفاسد الذي هو إما زلة عالم، أو وهلة فاضل عاقل ،أو افتراء كاذب فاسق؛ لأن فيه أن الله تعالى أطلق الفساق على أعراض إماء المسلمين وهذه مصيبة الأبد وما اختلف اثنان من أهل الإسلام في أن تحريم الزنا بالحرة كتحريمه بالأمة، وأن الحد على الزاني بالحرة كالحد على الزاني بالأمة ولا فرق ،وأن تعرض الحرة في التحريم كتعرض الأمة ولا فرق ولهذا وشبهه وجب أن لا يقبل قول أحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بأن يسنده إليه عليه السلام.

ولا يعارض ما تقدم حديث أنس:

(صحيح)(أن النبي صلى الله عليه وسلم لما اصطفى لنفسه من سبي خيبر صفية بنت حيي قال الصحابة: ما ندري أتزوجها أم اتخذها أم ولد؟ فقالوا: إن يحجبها فهي امرأته وإن لم يحجبها فهي أم ولد. فلما أراد أن يركب حجبها حتى قعدت على عجز البعير فعرفوا أنه تزوجها (وفي رواية: وسترها رسول الله صلى الله عليه وسلم وحملها وراءه وجعل رداءه على ظهرها ووجهها ثم شده من تحت رجلها وتحمل بها وجعلها بمنزلة نسائه)

نقول: لا مخالفة بين هذا الحديث وبين ما اخترناه من تفسير الآية لأنه ليس فيه نفي الجلباب وإنما فيه نفي (الحجاب) ولا يلزم منه نفي الجلباب مطلقا إلا احتمالا ويحتمل أن يكون المنفي الجلباب الذي يتضمن حجب الوجه أيضا كما هو صريح قوله في الحديث نفسه: (وجعل رداءه على ظهرها ووجهها) ويقوي هذا الاحتمال أيضا ما سيأتي بيانه.

فهذه الخصوصية هي التي كان بها يعرف الصحابة حرائره عليه السلام من إمائه وهي المراد من قولهم المتقدم سلبا وإيجابا: (إن يحجبها فهي امرأته وإن لم يحجبها فهي أم ولد).

ص: 236

فيتضح من هذا أن معنى قولهم: (وإن لم يحجبها) أي: في وجهها فلا ينفي حجب سائر البدن من الأمة وفيه الرأس فضلا عن الصدر والعنق فاتفق الحديث مع الآية والحمد لله على توفيقه.

والخلاصة: أنه يجب على النساء جميعا أن يتسترن إذا خرجن من بيوتهن بالجلابيب لا فرق في ذلك بين الحرائر والإماء ويجوز لهن الكشف عن الوجه والكفين فقط لجريان العمل بذلك في عهد النبي صلى الله عليه وسلم مع إقراره إياهن على ذلك.

ومن المفيد هنا أن نستدرك ما فاتنا في الطبعات السابقة من الآثار السلفية التي تنص على جريان العمل بذلك أيضا بعد النبي صلى الله عليه وسلم فأقول:

1 -

(صحيح) عن قيس بن أبي حازم قال:

(دخلت أنا وأبي على أبي بكر رضي الله عنه وإذا هو رجل أبيض خفيف الجسم عنده أسماء بنت عميس تذب عنه وهي [امرأة بيضاء] موشومة اليدين، كانوا وشموها في الجاهلية نحو وشم البربر فعرض عليه فرسان فرضيهما فحملني على أحدهما وحمل أبي على الآخر).

2 -

(إسناده جيد في الشواهد) عن أبي السليل قال:

جاءت ابنة أبي ذر وعليها مجنبتا صوف سفعاء الخدين ومعها قفة لها فمثلت بين يديه وعنده أصحابه فقالت: يا أبتاه زعم الحراثون والزراعون أن أفلسك هذه بهرجة فقال: يا بنية ضعيها فإن أباك أصبح بحمد الله ما يملك من صفراء ولا بيضاء إلا أفلسه هذه.

ص: 237

3 -

(سنده لا بأس به في الشواهد) عن عمران بن حصين قال:

كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قاعدا إذ أقبلت فاطمة رحمها الله فوقفت بين يديه فنظرت إليها وقد ذهب الدم من وجهها فقال: ادني يا فاطمة فدنت حتى قامت بين يديه فرفع يده فوضعها على صدرها موضع القلادة وفرج بين أصابعه ثم قال:

(اللهم مشبع الجاعة ورافع الوضيعة لا تجع فاطمة بنت محمد صلى الله عليه وسلم

قال عمران: فنظرت إليها وقد غلب الدم على وجهها وذهبت الصفرة كما كانت الصفرة قد غلبت على الدم.

قال عمران:

لقيتها بعد فسألتها؟ فقالت: ما جعت بعد يا عمران.

4 -

(سنده حسن) عن قبيصة بن جابر قال:

(كنا نشارك المرأة في السورة من القرآن نتعلمها فانطلقت مع عجوز من بني أسد إلى ابن مسعود [في بيته] في ثلاث نفر فرأى جبينها يبرق فقال: أتحلقينه؟ فغضبت وقالت: التي تحلق جبينها امرأتك قال: فادخلي عليها فإن كانت تفعله فهي مني بريئة فانطلقت ثم جاءت فقالت: لا والله ما رأيتها تفعله فقال عبد الله بن مسعود: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:

(لعن الله الواشمات والمستوشمات. . . .) ألخ.

ص: 238

5 -

(صحيح) عن أبي أسماء الرحبي أنه دخل على أبي ذر [الغفاري رضي الله عنه] وهو بالربذة وعنده امرأة له سوداء مسغبة. . . قال: فقال:

(ألا تنظرون إلى ما تأمرني به هذه السويداء. . .)

6 -

وفي (تاريخ ابن عساكر)(19/ 73 / 2) وفي قصة صلب ابن الزبير أن أمه (أسماء بنت أبي بكر) جاءت مسفرة الوجه متبسمة.

7 -

(صحيح) عن أنس قال:

دخلت على عمر بن الخطاب أمة قد كان يعرفها لبعض المهاجرين أو الأنصار وعليها جلباب متقنعة به فسألها: عتقت؟ قالت: لا. قال: فما بال الجلباب؟ ضعيه عن رأسك إنما الجلباب على الحرائر من نساء المؤمنين فتلكأت فقام إليها بالدرة فضرب رأسها حتى ألقته عن رأسها.

8 -

(صحيح) عن عمر بن محمد أن أباه حدثه عن سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل: أن أروى خاصمته في بعض داره فقال: دعوها وأباها فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:

(من أخذ شبرا من الأرض بغير حقه طوقه في سبع أرضين يوم القيامة) اللهم إن كانت كاذبة فأعم بصرها واجعل قبرها في دارها قال: فرأيتها عمياء تلتمس الجدر تقول: أصابتني دعوة سعيد بن

زيد فبينما هي تمشي في الدار مرت على بئر في الدار فوقعت فيها فكانت قبرها.

9 -

(صحيح) عن عطاء بن أبي رباح قال: رأيت عائشة رضي الله عنها تفتل القلائد للغنم تساق معها هديا.

10 -

(حسن) عن عبد الله بن محمد بن عقيل قال:

ص: 239

أرسلني علي بن الحسين إلى الربيع بنت معوذ أسألها عن وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان يتوضأ عندها فأتيتها فأخرجت إلي إناء يكون مدا ، فقالت: بهذا كنت أخرج لرسول الله صلى الله عليه وسلم للوضوء. . الحديث.

11 -

(صحيح) عن عروة بن عبد الله بن قشير:

أنه دخل على فاطمة بنت علي بن أبي طالب قال: فرأيت في يديها مسكا غلاظا في كل يد اثنين اثنين. قال: ورأيت في يدها خاتما. . . إلخ

12 -

(إسناده جيد) وعن عيسى بن عثمان قال:

كنت عند فاطمة بنت علي فجاء رجل يثني على أبيها عندها فأخذت رمادا فسفت في وجهه.

13 -

(سنده جيد) وعن يحيى بن أبي سليم قال:

رأيت سمراء بنت نهيك وكانت قد أدركت النبي صلى الله عليه وسلم عليها درع غليظ وخمار غليظ بيدها سوط تؤدب الناس وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر.

14 -

(صحيح) عن ميمون - هو ابن مهران - قال:

دخلت على أم الدرداء فرأيتها مختمرة بخمار صفيق قد ضربت على حاجبها. قال: وكان فيه قصر فوصلته بسير. قال: وما دخلت في ساعة صلاة إلا وجدتها مصلية.

ص: 240