الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
12 - (فَضْلُ عُمَرَ رضي الله عنه
-)
أي هذا باب في ذكر مزايا عمر بن الخطاب بن نُفَيل -بنون وفاء، مصغرًا- ابن عبد العُزَّى بن رِيَاح -بكسر الراء، بعدها تحتانية، وآخره مهملة- ابن عبد الله بن قُرْط ابن رَزَاح -بفتح الراء، بعدها زاي، وآخره مهملة- ابن عَدِي بن كعب بن لُؤَيّ بن غالب، يجتمع مع النبي صلى الله عليه وسلم في كعب، وعدد ما بينهما من الآباء إلى كعب متفاوت بواحد، بخلاف أبي بكر رضي الله عنه، فبين النبي صلى الله عليه وسلم وكعب سبعة آباء، وبين عمر وبين كعب ثمانية، وأم عمر رضي الله عنه حَنْتَمَة بنت هاشم بن المغيرة، ابنة عم أبي جهل، والحارث ابني هشام بن المغيرة. ووقع عند ابن منده أنها بنت هشام، أخت أبي جهل، وهو تصحيف، نَبّهَ عليه ابن عبد البر.
[تنبيه]: كنية عمر رضي الله عنه أَبو حفص (1) -كما عند ابن إسحاق في "السير"- كناه النبي صلى الله عليه وسلم ببنته حفصة رضي الله عنها أكبر أولاده.
ولقبه الفاروق باتفاق، فقيل: أول من لقبه به النبي صلى الله عليه وسلم، رواه أَبو جعفر بن أبي شيبة في "تاريخه" عن طريق ابن عباس عن عمر رضي الله عنه، ورواه ابن سعد من حديث عائشة.
وقيل: أهلُ الكتاب، أخرجه ابن سعد عن الزهري. وقيل: جبريل عليه السلام رواه البغوي.
أفاده في "الفتح"(2)، والله تعالى أعلم بالصواب.
102 -
(حَدَّثَنَا عَليُّ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، أَخْبَرَنِي الْجرَيْرِيُّ، عَنْ عَبْدِ الله بْنِ شَقِيقٍ، قَالَ: قُلْتُ لِعَائِشَةَ: أَيُّ أَصْحَابِهِ كَانَ أَحَبَّ إِلَيْهِ؟، قَالَتْ: أَبُو بَكْرٍ، قُلْتُ. ثُمَّ أَيُّهُمْ؟ قَالَتْ: عُمَرُ، قُلْتُ: ثُمَّ أَيُّهُمْ؟ قَالَتْ: أَبُو عُبَيْدَةَ).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ) الطنافسيّ المذكور في الباب الماضي.
(1) ليُنظر لماذا حُذفت الهاء؟.
(2)
"الفتح" 7/ 56 "كتاب فضائل أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم".
2 -
(أَبُو أُسَامَةَ) حمّاد بن أسامة بن زيد القرشيّ الكوفيّ، ثقة ثبتٌ، ربّما دلّس، وكان بآخره يحدّث من كتب غيره، من كبار [9].
روى عن هشام بن عروة، وبُريد بن عبد الله بن أبي بردة، وإسماعيل بن أبي خالد، والأعمش، ومُجَالد، وكَهْمَس بن الحسن، وابن جريج، وغيرهم.
وروى عنه الشافعي، وأحمد بن حنبل، ويحيى، وإسحاق بن راهويه، وإبراهيم الجوهري، والحسن بن علي الحلواني، وأبو خيثمة، وقتيبة، وعليّ بن محمد الطنافسيّ، وغيرهم.
قال حنبل بن إسحاق عن أحمد: أَبو أسامة ثقة، كان أعلم الناس بأمور الناس، وأخبار أهل الكوفة، وما كان أرواه عن هشام بن عروة. وقال عبد الله بن أحمد عن أبيه: أَبو أسامة أثبت من مائةٍ مثلِ أبي عاصم، كان صحيح الكتاب، ضابطًا للحديث، كَيِّسًا صدوقًا. وقال أيضًا عن أبيه: كان ثبتًا، ما كان أثبته، لا يكاد يُخطىء. وقال عثمان الدارمي: قلت لابن معين: أَبو أسامة أحب إليك أو عبدة؟ قال: ما منهما إلا ثقة. وقال عبد الله بن عمر بن أبان: سمعت أبا أسامة يقول: كتبت بإصبعي هاتين مائة ألف حديث. وقال ابن عمار: كان أَبو أسامة في زمن الثوري يُعَدّ من النُّسَّاك. وقال ابن سعد: كان ثقةً مأمونًا، كثير الحديث، يُدَلِّس، ويُبَيِّن تدليسه، وكان صاحب سنة وجماعة. وقال العجليّ: كان ثقة، وكان يُعَدّ من حكماء أصحاب الحديث. وقال ابن قانع: كوفي صالح الحديث. وذكره ابن حبان في "الثقات".
وقال الآجري عن أبي داود: قال وكيع: نَهَيتُ أبا أسامة أن يستعير الكتب، وكان دفن كتبه. وحكى الأزدي في "الضعفاء" عن سفيان بن وكيع، قال: كان أَبو أسامة يتتبع كتب الرواة، فيأخذها، ويَنسخها، قال لي ابن نُمير: إن المحسن لأبي أسامة يقول: إنه دفن كتبه، ثم تتبع الأحاديث بعدُ من الناس، قال سفيان بن وكيع: إني لأعجب كيف جاز حديث أبي أسامة؟ كان أمره بَيِّنًا، وكان من أسرق الناس لحديث جيد.
قال في "تهذيب التهذيب": حكى الذهبيّ أن الأزدي قال هذا القول عن سفيان
الثوري، وهذا كما ترى لم ينقله الأزدي إلا عن سفيان بن وكيع، وهو به أليق، وسفيان ابن وكيع ضعيف. انتهى (1).
وقال العجليّ بسنده عن سفيان: ما بالكوفة شاب أعقل من أبي أسامة. قال العجليّ: مات في شوال سنة إحدى ومائتين. وكذا قال البخاري، وزاد: وهو ابن ثمانين سنة فيما قيل.
أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (100) حديث.
3 -
(الْجُرَيْرِيُّ) -بضم الجيم، مصغّرًا- هو: سعيد بن إياس، أَبو مسعود البصريّ، ثقة اختلط قبل موته بثلاث سنين [5].
روى عن أبي الطُّفَيل، وأبي عثمان النَّهْديّ، وعبد الرحمن بن أبي بكرة، وأبي نضرة العبدي، وأبي العلاء يزيد بن عبد الله بن الشِّخَير، وعبد الله بن شقيق، وغيرهم.
وروى عنه ابن عُلَيّة، وبشر بن المفضل، وجعفر بن الضبعي، وأبو قُدَامة، والحمادان، والثوري، وشعبة، وابن المبارك، وأبو أسامة، ووهيب، ومعمر، وغيرهم.
قال أَبو طالب عن أحمد: الْجُريري محدث أهل البصرة. وقال الدوريّ، عن ابن معين: ثقة. وقال أَبو حاتم: تغير حفظه قبل موته، فمن كتب عنه قديمًا فهو صالح، وهو حسن الحديث. وقال يحيى القطان عن كهمس: أنكرنا الجريري أيام الطاعون. وقال ابن سعد عن يزيد بن هارون: سمعت من الجريري سنة (42)، وهي أول سنة دخلت البصرة، ولم نُنْكِر منه شيئًا، وكان قيل لنا: إنه قد اختلط، وسمع منه إسحاق الأزرق بعدنا. وقال أحمد بن حنبل، عن يزيد بن هارون: ربما ابتدأنا الجريريُّ، وكان قد أُنكر. وقال ابن معين، عن ابن عَدِيّ: لا نَكْذِب الله سمعنا من الجريري وهو مختلط. وقال الآجري، عن أبي داود: أرواهم عن الجريري ابنُ عُلَيّة، وكل من أدرك أيوب فسماعه من الجريري جيد. وقال النسائي: ثقة أُنكر أيام الطاعون. وقال ابن معين: قال يحيى بن
(1)"تهذيب التهذيب" 1/ 477.
سعيد لعيسى بن يونس: أسمعت من الجريري؟ قال: نعم، قال: لا ترو عنه -يعني لأنه سمع منه بعد اختلاطه-. وقال الدُّوري عن ابن معين: سمع يحيى بن سعيد من الجريري، وكان لا يروي عنه. وقال ابن سعد: كان ثقة -إن شاء الله- إلا أنه اختلط في آخر عمره. وقاله عبد الله بن أحمد عن أبيه: سألت ابن علية أكان الجريري اختلط؟ فقال: لا، كَبِرَ الشيخ فَرَقّ. وقال النسائي: هو أثبت عندنا من خالد الحذاء. وقال العجلي: بصري ثقة، واختلط بآخره، رَوَى عنه في الاختلاط يزيد بن هارون، وابن المبارك، وابن أبي عديّ، وكُلُّ ما روى عنه مثل هؤلاء الصغار فهو مختلط، إنما الصحيح عنه حماد بن سلمة، والثوري، وشعبة، وابن علية، وعبد الأعلى من أصحهم سماعًا منه قبل أن يختلط بثمان سنين. انتهى.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: قد تبيّن بما ذُكر أن أحاديث الجريريّ لا تصحّ إلا إذا جاءت من طريق قدماء أصحابه، وهم المذكورون في كلام العجليّ، فتنبّه. والله تعالى أعلم.
وقال ابن سعد: قالوا: توفي سنة (144). وكذا أرّخه ابن حبان، وقال: كان قد اختلط قبل أن يموت بثلاث سنين. ورآه يحيى بن سعيد القطان، وهو مختلط، ولم يكن اختلاطه فاحشًا.
أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (14) حديثًا.
[تنبيه]: قوله: "الْجُريريّ" -بضم الجيم، وفتح الراء، مصغّرا-: نسبة إلى جُرَير بن عبّاد بن ضُبيعة بن قيس بن ثعلبة، بن عكابة بن صعب بن عليّ بن بكر بن وائل.
قال السَّمْعاني: وإنما قيل لسعيد بن إياس: الْجُريريّ؛ لأنه من ولد جُرَير بن عباد أخي الحارث بن عباد، وقد قيل: إنه من مولى بني قيس بن ثعلبة بن بكر بن وائل. انتهى (1). والله تعالى أعلم.
(1) راجع "الأنساب" جـ 2 / ص 78.
4 -
(عَبْدُ الله بْنُ شَقِيقٍ) العُقيليّ -بالضمّ- أَبو عبد الرحمن، ويقال: أَبو محمد البصريّ، ثقة، فيه نصْبٌ [3].
روى عن أبيه على خلاف فيه، وعمر، وعثمان، وعلي، وأبي ذر، وأبي هريرة، وعائشة، وابن عباس، وابن عمر، وعبد الله بن أبي الْجَدْعاء، وعبد الله بن سُراقة، وأقرع مؤذن عمر، وغيرهم.
وروى عنه ابنه عبد الكريم، ومحمد بن سيرين، وعاصم الأحول، وقتادة، وحميد الطويل، وأيوب السختياني، وبُدَيل بن مَيْسرة العقيليّ، والْجُريريّ، وغيرهم.
ذكره ابن سعد في الطبقة الأولى من تابعي أهل البصرة، وقال: روى عن عمر، قال: وقالوا: كان عبد الله بن شقيق عثمانيا، وكان ثقة في الحديث، وروى أحاديث صالحة. وقال يحيى بن سيعد: كان سليمان التيمي سيىء الرأي في عبد الله بن شقيق. وقال أحمد بن حنبل: ثقة، وكان يَحْمِل على عليّ. وقال ابن أبي خيثمة، عن ابن معين: ثقة، وكن عثمانيا، يُبغِض عليا. وقال ابن عدي: ما بأحاديثه بأس -إن شاء الله تعالى-.
قال ابن أبي حاتم عن أبي زرعة: ثقة.
وقال العجلي: ثقة، وكان يَحْمِل على عليّ. وقال الْجُرَيريّ: كان عبد الله بن شقيق مُجَاب الدعوة، كانت تمر به السحابة، فيقول: اللهم لا تَجُوز كذا وكذا حتى تُمْطِر، فلا تجوز ذلك الموضع حتى تمطر، حكاه ابن أبي خيثمة في "تاريخه".
قال الهيثم بن عديّ، ومحمد بن سعد: تُوُفي في ولاية الحجاج على العراق. وقال خليفة: مات بعد المائة. وقال ابن حبان في "الثقات": مات سنة (108).
أخرج له البخاري في "الأدب المفرد"، ومسلم، والأربعة، وله في هذا الكتاب ستة أحاديث فقط، برقم (102) و (1150) و (1158) و (1164) و (1228) و (1228) و (4316).
5 -
(عائشة) أم المؤمنين رضي الله عنها، تقدّمت في 2/ 14، والله تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله.
2 -
(ومنها): أن رجاله رجال الصحيح، غير شيخه، فتفرّد به هو والنسائيّ في "مسند عليّ رضي الله عنه".
3 -
(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ.
4 -
(ومنها): أن فيه عائشة الصدّيقة بنت الصدّيق رضي الله عنهما حبيبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبنت حبيبه، ومن المكثرين السبعة، روت (2210) أحاديث، والله تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنْ عَبْدِ الله بْنِ شَقِيقٍ) رحمه الله، أنه (قَالَ: قُلْتُ لِعَائِشَةَ: أَيُّ أَصْحَابِهِ) الضمير للنبيّ صلى الله عليه وسلم، وفي رواية الترمذيّ:"قلت لعائشة أي أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم"(كَانَ أَحَبَّ إِلَيْهِ؟) صلى الله عليه وسلم (قَالَتْ: أَبُو بَكْرٍ) رضي الله عنه مبتدأ محذوف الخبر، أو بالعكس: أي أَبو بكر أحب إليه، أو أحبّ أصحابه إليه أَبو بكر رضي الله عنه (قُلْتُ: ثُمَّ أَيُّهُمْ؟) أي ثم بعد أبي بكر رضي الله عنه أي أصحابه صلى الله عليه وسلم أحبّ إليه (قَالَتْ: عُمَرُ) رضي الله عنه (قُلْتُ: ثُمَّ أَيُّهُمْ؟ قَالَتْ: أَبُو عُبَيْدَة) بن الجرّاح رضي الله عنه ستأتي ترجمته برقم (135) إن شاء الله تعالى.
زاد في رواية الترمذيّ من طريق إسماعيل ابن عليّة، عن الْجُريريّ:"قلت: ثم من؟ قال: فسكتت"، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): في درجته:
حديث عائشة رضي الله عنها هذا صحيح.
[فإن قلت]: كيف يصحّ، وفي إسناده الْجُريريّ، وقد اختلط قبل موته بثلاث سنين، والراوي عنه هنا أَبو أسامة، ولم يُعَدّ فيمن روى عنه قبل الاختلاط؟.
[قلت]: لم ينفرد به أَبو أسامة، بل تابعه عليه إسماعيل ابن عليّة، وهو ممن روى
عنه قبل الاختلاط، كما أسلفناه في ترجمة الْجُريريّ، وروايته أخرجها الترمذيّ في "جامعه"، فقال:
حدثنا أحمد بن إبراهيم الدَّوْرقيّ، حدثنا إسماعيل بن إبراهيم، عن الجريريّ، عن عبد الله بن شقيق قال: قلت لعائشة: أي أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أحب إلى رسول الله؟، قالت: أَبو بكر، قلت: ثم من؟ قالت: عمر، قلت: ثم من؟ قالت: ثم أَبو عبيدة ابن الجراح. قال أَبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح. والله تعالى أعلم.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) رحمه الله هنا (12/ 102) بهذا السند فقط، وأخرجه الترمذيّ في "المناقب"(3657) و (النسائيّ) في "فضائل الصحابة" من "الكبرى"(8144) و (أحمد) في "مسنده"(25829) و (الطحاويّ) في "مشكل الآثار"(8064). وفوائد الحديث تقدّمت في الباب الماضي، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام ابن مَاجَه رحمه الله في أول الكتاب قال:
103 -
(حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ مُحَمَّدٍ الطَّلْحِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الله بْنُ خِرَاشٍ الْحَوْشَبِيُّ، عَنِ الْعَوَّامِ بْنِ حَوْشَبٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: لمَّا أَسلَمَ عُمَرُ نَزَلَ جِبْرِيلُ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ لَقَدِ اسْتَبْشَرَ أَهْلُ السَّمَاءِ بِإِسْلَامِ عُمَرَ).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(إِسْمَاعِيلُ بْنُ مُحَمَّدٍ الطَّلْحِيُّ (1)) هو: إسماعيل بن محمد بن إسماعيل بن محمد ابن يحيى بن زكريا بن يحيى بن طلحة بن عبيد الله التيمي الطَّلْحي الكوفي، صدوقٌ يَهِم [10].
(1) بفتح الطاء، وسكون اللام هذه النسبة إلى طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه، قاله في "الأنساب" 4/ 48.
روى عن أبي بكر بن عياش، ووكيع، ورَوْح بن عُبادة، وداود بن عطاء المدني، وعبد الله بن خِرَاش الْحَوشبي، وجماعة.
وروى عنه ابن ماجه، وأبو زرعة، ومطين، وقال: مات سنة (232)(1)، وكان ثقة، وعمرو بن عبد الله الأودي، وابن أبي عاصم، وعدة. قال أَبو حاتم: ضعيف.
وذكره ابن حبان في "الثقات".
تفرّد به المصنّف، وله في هذا الكتاب خمسة أحاديث فقط، برقم (103) و (104) و (350) و (1333) و (3369).
2 -
(عَبْدُ الله بْنُ خِرَاشٍ الْحَوْشَبِيُّ (2)) هو: عبد الله بن خِراش -بالخاء المعجمة- ابن حَوْشب الشيبَاني الحوشبي، أَبو جعفر الكوفي، أخو نَهّار بن خراش، ضعيف، وأطلق عليه ابن عمّار الكذب (3).
روى عن عمه العوّام، ومرثد بن عبد الله الشيباني، وموسى بن عقبة، وواسط بن الحارث، ويزيد بن أبي يزيد.
وروى عنه بشر بن الحكم العبدي، وإسماعيل بن محمد الطلحي، وأبو سعيد الأشجّ، وعمر بن حفص بن غياث، ومسعود بن جويرية الموصلي، وغيرهم.
قال أَبو زرعة: ليس بشيء ضعيف. وقال أَبو حاتم: منكر الحديث، ذاهب الحديث، ضعيف الحديث. وقال البخاري: منكر الحديث. وقال أَبو أحمد بن عدي: عامة مما يرويه غير محفوظ. وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: ربما أخطأ. وقال الساجي: ضعيف الحديث جدّا، ليس بشيء، كان يضع الحديث. وقال النسائي: ليس بثقة. وقال الدارقطني: ضعيف. وذكره البخاري في "الأوسط" في "فصل من مات من
(1) وقيل: مات سنة (233).
(2)
بفتح الحاء المهملة، وسكون الواو، وفتح الشين العجمة: نسبة إلى حَوْشَب، وهو جد.
(3)
لم يذكر له في "التقريب" طبقة، والظاهر أنه من التاسعة.
الستين إلى السبعين ومائة"، وقال محمد بن عمار الموصليّ: كذاب.
تفرّد به المصنّف، وله عنده في هذا الكتاب حديثان فقط، برقم (103) و (2472) "المسلمون شركاء في ثلاث
…
".
3 -
(الْعَوَّامُ بْنُ حَوْشَبٍ) بن يزيد بن الحارث الشيباني الرَّبَعِيّ، أَبو عيسى الواسطي، أسلم جده على يد عليّ رضي الله عنه، فوهب له جارية، فولدت له حوشبًا، فكان على شرطته (1).
روى العوام عن أبي إسحاق السبيعي، ومجاهد، وسعيد بن جُمْهان، وإبراهيم بن عبد الرحمن السَّكْسَكيّ، وسلمه بن كهيل، وغيرهم.
وروى عنه ابنه سلمة، وابنا أخيه: عبد الله، وشهاب، وشعبة، وسفيان بن حبيب، وحفص بن عمر الرازي، وهشيم، ويزيد بن هارون، وغيرهم.
قال عبد الله بن أحمد عن أبيه: ثقة ثقة. وقال ابن معين، وأبو زرعة: ثقة. وقال أَبو حاتم: صالح ليس به بأس. وقال العجلي: شَيْبَاني من أنفسهم ثقة صاحب سنة ثبت صالح، وكان أبوه على شُرْطه الحجاج، روى نحوًا من مائتي حديث. وقال ابن سعد عن يزيد بن هارون: كان صاحب أمر بالعروف ونهي عن المنكر، مات سنة ثمان وأربعين ومائة، وكان ثقة. وذكر أسلم بن سهل في "تاريخ واسط" أن اسم جده يزيد ابن رُويم، وروى ذلك بإسناده عنه، وكذا سماه ابن حبان لمّا ذكر العوام في "الثقات".
وقال الحاكم: العوام، ويوسف، وطلاب، أولاد حَوْشب ثقات، يُجْمَع حديثهم.
وعن هشيم قال: ما رأيت أَقْوَلَ بالحق من العوام.
(1) قال الحافظ في "تهذيب التهذيب" 3/ 335: لم يتجه لي المعنى في قوله: "وكان على شرطته" هل يعني به أن يزيد الذي أسلم على يد عليّ كان على شرطَة عليّ أم لا؟، لأنه إن عَنَى حوشبًا، وهو الظاهر فهو من المحال؛ لقصر مدة عليّ أن يُسَلم فيها رجل على يده، ثم يولد له، ثم يكبر الولد حي يصير صاحب شرطته، ثم تبين لي أنه سقط منه شيء، وأنه كان: ولدت له حوشبًا، فكان على شرطة الحجاج. والله أعلم. انتهى.
أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب أربعة أحاديث فقط برقم (103) و (1606) و (2472) و (4081).
4 -
(مجاهد) بن جَبْر، أَبو الحجاج المخزومي مولاهم المكيّ، ثقة ثبت إمام [3] تقدّم في 9/ 74.
5 -
(ابن عبّاس) هو: عبد الله البحر الحبر رضي الله عنهما تقدّم في 3/ 27، والله تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ) رضي الله عنهما، أنه (قَالَ: لَمَّا أَسْلَمَ عُمَرُ) بن الخطّاب رضي الله عنه (نَزَلَ جِبْرِيلُ) وفي رواية ابن حبّان: "أتى جبريل صلوات الله عليه النبيّ صلى الله عليه وسلم
…
" (فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ لَقَدِ اسْتَبْشَرَ أَهْلُ السَّمَاءِ) وفي نسخة: "السماوات" (بِإِسْلَامِ عُمَرَ) أي لقد أظهرت الملائكة الفرح والسرور بإسلامه، لأنه سبب لتقوية الحقّ. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه الرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسألتان تتعلقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): في درجته:
حديث ابن عبّاس رضي الله عنهما هذا ضعيفٌ جدّا؛ لأن في سنده عبد الله بن خراش مجمع على ضعفه، بل كذّبه بعضهم.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا (12/ 103) بهذا السند فقط، وقد تفرّد به، فلم يُخرجه من أصحاب الأصول غيره، وأخرجه (الحاكم) في "المستدرك"(3/ 84) من طريق عبد الله بن خراش، عن العوّام بن حوشب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لمّا أسلم عمر أتاني جبريل، فقال: استبشر أهل السماء بإسلام عمر"، وصححه، فتعقّبه الذهبيّ بقوله: عبد الله ضعفه الدارقطنيّ (1)، وأخرجه
(1) في ذكر الذهبي قول الداقطنيّ فقط فيه قصور؛ لأن كلام غيره من الأئمة أغلظ =
(الطبرانيّ) في "المعجم الكبير"(11/ 80) الحديث (11109)، ومن طريقه الحافظ المزّيّ في "تهذيب الكمال"(14/ 455) وأخرجه (ابن عديّ) في "الكامل"(4/ 1525) من طريق عبد الله بن عمرو بن أبان، عن عبد الله بن خراش، بهذا الإسناد، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام ابن مَاجَه رحمه الله في أول الكتاب قال:
104 -
(حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ مُحَمَّدٍ الطَّلْحِيُّ، أَنْبَأَنَا دَاوُدُ بْنُ عَطَاءٍ الْمَدِينِيُّ، عَنْ صَالِح بْنِ كَيْسَانَ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "أَوَّلُ مَنْ يُصَافِحُهُ الْحَقُّ عُمَرُ، وَأَوَّلُ مَنْ يُسَلِّمُ عَلَيْهِ، وَأَوَّلُ مَنْ يَأْخُذُ بِيَدِهِ فَيُدْخِلُهُ الْجَنَّةَ").
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(إِسْمَاعِيلُ بْنُ مُحَمَّدٍ الطَّلْحِيُّ) المذكور في السند الماضي.
2 -
(دَاوُدُ بْنُ عَطَاءٍ الْمَدِينِيُّ) هو: داود بن عطاء الْمُزنيّ مولاهم، ويقال: مولى الزبير، أَبو سليمان المدني، أو المكيّ، ضعيف [8].
روى عن موسى بن عقبة، وهشام بن عروة، وصالح بن كيسان، وغيرهم.
وروى عنه الأوزاعي، وهو من شيوخه، وإبراهيم بن المنذر الحزامي، وإسماعيل ابن محمد الطلحي، وغيرهم.
قال عبد الله بن أحمد (1): سمعت عبد الله بن محمد بن إسحاق الأَذْرَمِيّ سأل أبي عنه، فقال: لا يُحَدَّث عنه، قال: وسمعته -يعني أباه- يقول: ليس بشيء، قد رأيته قبل أن يموت بأيّام. وقال ابن أبي حاتم: سمعت أبي يقول: ليس بالقويّ، ضعيف الحديث
= فكان الأولى ذكره، فتنبّه.
(1)
في نسخ "تهذيب التهذيب" 1/ 567 في ترجمة داود بن عطاء هذا خلل ينبغي مقابلتها بما في "تهذيب الكمال" 8/ 419 - 420، فليُتنبّه.
منكر الحديث، قلت: يُكتب حديثه؟ قال: من شاء كتب حديثه زَحْفًا. وقال البخاري: قال أحمد: رأيته، وليس بشيء. وقال البخاريّ، وأبو زرعة: منكر الحديث. وقال النسائيّ: ضعيف. وقال ابن عدي: ليس حديثه بالكثير، وفي حديثه بعض النُّكْرة. وقال الدارقطنيّ: متروك، وهو من أهل مكة، كذا قال. وقال ابن حبان: من أهل المدينة، وهو الذي يقال له: داود بن أبي عطاء، كثير الوهم في الأخبار، لا يُحتَجّ به بحال؛ لكثرة خطئه، وغلبته على صوابه.
تفرّد به المصنّف، وليس له عنده في هذا الكتاب سوى حديثين فقط، برقم (104) و (1743).
3 -
(صَالِحُ بْنُ كيْسَانَ) أَبو محمد، ويقال: أَبو الحارث المدنيّ، مُؤَدِّب وَلَد عمر بن عبد العزيز، ثقة ثبتٌ فقيهٌ [4].
رأى ابن عمر، وابن الزبير، وقال ابن معين: سمع منهما، وروى عن سليمان بن أبي حَثْمَة، وسالم بن عبد الله بن عمر، وإسماعيل بن محمد بن سعد، والأعرج، وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة، وعروة بن الزبير، ونافع مولى بن عمر، ونافع مولى أبي قتادة، ونافع بن جبير بن مطعم، والزهريّ، وأبي الزناد، وابن عجلان، والثلاثة أصغر منه، وغيرهم.
وروى عنه مالك، وابن إسحاق، وابن جريج، ومعمر، وإبراهيم بن سعد، وحماد بن زيد، وسليمان بن بلال، وابن عيينة، وغيرهم.
قال مصعب الزبيريّ: كان جامعًا بين الحديث والفقه والمروءة. وقال حرب: سئل عنه أحمد: فقال: بخ بخ. وقال عبد الله بن أحمد عن أبيه: صالح أكبر من الزهري. وقال إسماعيل القاضي، عن ابن المديني: صالح أسنّ من الزهري، قد رأى ابن عمر وابن الزبير، وقال ابن معين: صالح أكبر من الزهريّ، سمع من ابن عمر وابن الزبير. وقال عثمان الدارمي عن ابن معين: معمر أحب إليّ، وصالح ثقة. وقال يعقوب بن شيبة: حدثني أحمد بن العباس عن ابن معين: قال: ليس في أصحاب الزهري أثبت من
مالك، ثم صالح بن كيسان.
وقال يعقوب: صالح ثقة ثبت. وقال أَبو حاتم: ضالح أحب إلي من عُقيل؛ لأنه حجازي، وهو أسنّ، رأى ابن عمر، وهو ثقة، يُعَدّ في التابعين. وقال النسائي، وابن خِراش: ثقة. قال الهيثم بن عدي: مات في زمن مروان بن محمد. وقال ابن سعد عن الواقدي: مات بعد الأربعين ومائة. وقيل: مَخْرَج محمد بن عبد الله بن حسن، وكان ثقةً، كثير الحديث. وقال الحاكم: مات صالح بن كيسان، وهو ابن مائة ونيف وستين سنة. وكان قد لَقِي جماعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم بعد ذلك تَلَمّذَ للزهري، وتَلَقَّن عنه العلم، وهو ابن تسعين سنة، ابتدأ بالتعليم، وهو ابن سبعين سنة.
وتعقّب الحافظ كلام الحاكم هذا، فقال: هذه مُجازفة قبيحة، مقتضاها أن يكون صالح بن كيسان وُلد قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم، وما أدري من أين وقع ذلك للحاكم؟ ولو كان طلب العلم كما حدّده الحاكم لكان قد أخذ عن سعد بن أبي وقاص، وعائشة، وقد قال علي بن المديني في "العلل": صالح بن كيسان لم يَلْقَ عقبة بن عامر، كان يروي عن رجل عنه. وقرأت بخط الذهبي "الذي يَظهَر لي أنه ما أكمل التسعين". انتهى.
وقال العجليّ: ثقة. ووقع في "كتاب الزكاة" من "صحيح البخاري": صالح أكبر من الزهري أدرك ابن عمر، وقال ابن حبان في "الثقات": كان من فقهاء المدينة، والجامعين للحديث والفقه، من ذوي الهيئة والمروءة، وقد قيل: إنه سمع من ابن عمر، وما أراه محفوظًا. وقال الخليلي في "الإرشاد": كان حافظًا إمامًا، روى عنه من هو أقدم منه، عمرو بن دينار، وكان موسى بن عقبة يَحكِي عنه، وهو من أقرانه. وقال ابن عبد البر: كان كثير الحديث، ثقة حجة فيما حَمَلَ.
أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب حديثان فقط، برقم (104) و (860).
4 -
(ابْنُ شِهَابٍ) تقدّم في 2/ 15.
5 -
(سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ) بن حَزْن بن أبي وَهْب بن عَمْرو بن عائذ بن عِمْران بن مَخْزوم القرشيّ المخزوميّ، أحد العلماء الأثبات، والفقهاء الكبار، ثقة ثبت فاضل،
اتفقوا على أن مرسلاته أصحّ المراسيل، وقال ابن المدينيّ: لا أعلم في التابعين أوسع علمًا منه، من كبار [3](1).
روى عن أبي بكر مرسلا، وعن عمر، وعثمان، وعلي، وسعد بن أبي وقاص، وحكيم بن حِزَام، وابن عباس، وابن عمر، وابن عمرو بن العاص، وأبيه المسيب، وأبي هريرة، وكان زوج ابنته، وغيرهم. وروى عنه ابنه محمد، وسالم بن عبد الله بن عمر، والزهري، وقتادة، وشريك بن أبي نمر، وأبو الزناد، وغيرهم. قال نافع عن ابن عمر: هو والله أحد المفتين. وعن عمرو بن ميمون بن مهران عن أبيه: قال: قدمت المدينة، فسألت عن أعلم أهل المدينة، فدُفعت إلى سعيد بن المسيب. وقال ابن شهاب: قال لي عبد الله بن ثعلبة بن أبي صُعَير: إن كنت تريد هذا -يعني الفقه- فعليك بهذا الشيخ، سعيد بن المسيب. وقال قتادة: ما رأيت أحدا قط أعلم بالحلال والحرام منه. وقال محمد ابن إسحاق عن مكحول: طفت الأرض كلها في طلب العلم، فما لقيت أعلم منه. وقال سليمان بن موسى: كان أفقه التابعين.
وقال البخاري: قال لي علي عن أبي داود، عن شعبة، عن إياس بن معاوية، قال لي سعيد بن المسيب: ممن أنت؟ قلت: من مُزَينة، قال: إني لأذكر يوم نَعَى عمر بن الخطاب النعمان بن مقرن على المنبر. وقال أَبو طالب: قلت لأحمد: سعيد بن المسيب؟ فقال: ومن مثل سعيد؟ ثقة، من أهل الخير، فقلت له: سعيد عن عمر حجة؟ قال: هو عندنا حجة، قد رأى عمر، وسمع منه، وإذا لم يُقبل سعيد عن عمر، فمن يُقْبَل؟. وقال الميموني وحنبل، عن أحمد: مرسلات سعيد صحاح، لا نرى أصح من مرسلاته. وقال
(1) جعله في "التقريب""من كبار الثانية"، والظاهر أنه من كبار الثالثة، كما لا يخفى؛ لأنه وُلِد لسنتين مضتا من خلافة عمر رضي الله عنه ولم يسمع من بلال، ومن زيد بن ثابت، ولا من عمرو بن العاص، ولا من عبد الله بن زيد صاحب الأذان، ولا من عتّاب بن أَسيد رضي الله عنه، واختُلف في سماعه من عمر رضي الله عنه، فمثل هذا يكون من كبار الطبقة الثالثة، لا من كبار الطبقة الثانية، فتبصّر. والله تعالى أعلم.
عثمان الحارثي عن أحمد: أفضل التابعين سعيد بن المسيب. وقال ابن المديني: لا أعلم في التابعين أوسع علما من سعيد بن المسيب، قال: وإذا قال: مضت السنة، فحسبك به، قال: هو عندي أجل التابعين. وقال الربيع عن الشافعي: إرسال ابن المسيب عندنا حسن. وقال الليث عن يحيى بن سعيد: كان ابن المسيب يُسَمَّى راوية عمر، كان أحفظ الناس لأحكامه وأقضيته. وقال إبراهيم بن سعد عن أبيه، عن سعيد: ما بقي أحدٌ أعلم بكل قضاء قضاه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكل قضاء قضاه أَبو بكر، وكل قضاء قضاه عمر، قال إبراهيم عن أبيه: وأحسبه قال: وكل قضاء قضاه عثمان مني. وقال مالك: بلغني أن عبد الله بن عمر كان يرسل إلى ابن المسيب، يسأله عن بعض شأن عمر وأمره. وقال مالك: لم يدرك عمر، ولكن لما كبر أكب على المسألة عن شأنه وأمره.
وقال قتادة: كان الحسن إذا أشكل عليه شيء كتب إلى سعيد بن المسيب. وقال العجلي: كان رجلا صالحا فقيهًا، وكان لا يأخذ العطاء، وكانت له بضاعة يتجر بها في الزيت. وقال أَبو زرعة: مدني، قرشي، ثقة، إمام. وقال أَبو حاتم: ليس في التابعين أنبل منه، وهو أثبتهم في أبي هريرة. وقال ابن حبان في "الثقات": كان من سادات التابعين فقهًا ودينًا وورعًا وعبادةً وفضلًا، وكان أفقه أهل الحجاز، وأعبر الناس لرؤيا، ما نودي بالصلاة من أربعين سنة إلا وسعيد في المسجد، فلما بايع عبد الملك للوليد وسليمان، وأَبَى سعيد ذلك فضربه، هشام بن إسماعيل المخزومي ثلاثين سوطًا، وألبسه ثيابا من شعر، وأمر به فطيف به، ثم سُجِن.
قال الواقدي: مات سنة أربع وتسعين، في خلافة الوليد، وهو ابن خمس وسبعين سنة. وقال أَبو نعيم: مات سنة ثلاث وتسعين.
أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (96) حديثًا.
[تنبيه]: المُسَيِّب والد سعيد صحابيّ مشهور، رضي الله عنه، وهو بكسر الياء، وفتحها، والكسر أولى، وإن كان الفتح هو المشهور، فقد حكى صاحب "مطالع الأنوار" عن عليّ ابن المديني أنه قال: أهل العراق يفتحون الياء، وأهل المدينة يكسرونها، قال: وحُكي أن
سعيدا كان يكره الفتح. انتهى.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: كسر الياء هو الأولى؛ لأن أهل المدينة أدرى بضبط أسماء أهل بلدهم، ولأنه رُوي عنه الكراهة للفتح، وحُكي أيضًا أنه دعا على من فتحه. والله تعالى أعلم.
وإلى جواز الوجهين أشار الحافظ السيوطيّ رحمه الله تعالى في "ألفية الأثر"، حيث قال:
كُلُّ مُسَيَّبٍ فَبِالْفَتْحِ سِوَى
…
أَبِي سَعِيدٍ فَلِوَجْهَيْنِ حَوَى
وقلت في ترجيح الكسر مذيّلًا لكلامه:
قُلْتُ وَكَسْرُهُ أَحَقُّ إِذْ أَتَى
…
أَهْلُ الْمَدِينَةِ بِهِ فَثَبَتَا
وَعَنْ سَعِيدٍ كُرْهُهُ الْفَتْحَ وَرَدْ
…
بَلْ قِيلَ قَدْ دَعَا عَلَى مَنِ اعْتَمَدْ
فَابْعُدْ عَنِ الْفَتْحِ تَكُنْ مُجَانِبَا
…
دُعَاءَهُ وَنِعْمَ ذَاكَ مَطْلَبَا
[تنبيه آخر]: سعيد بن المسيِّب هو أحد الفقهاء السبعة المشهورين بالمدينة، المجموعين في قول بعضهم:
إِذَا قِيلَ مَنْ في الْعِلْمِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ
…
مَقَالَتُهُمْ لَيْسَتْ عَنِ الحقِّ خَارِجَهْ
فَقُلْ هُمْ عُبَيْدُ الله عُرْوَةُ قَاسِمٌ
…
سَعِيدٌ أَبُو بَكْرٍ سُلَيْمَانُ خَارِجَهْ
وقال الحافظ العراقيّ رحمه الله تعالى في "ألفيّة الحديث":
وَفي الْكِبَارِ الْفُقَهَاءُ السَّبْعَةُ
…
خَارِجَةُ الْقَاسِمُ ثُمَّ عُرْوَةُ
ثُمَّ سُلَيْمَانُ عُبَيْدُ الله
…
سَعِيدُ وَالسَّابِعُ ذُو اشْتِبَاهِ
إِمَّا أَبُو سَلَمَةٍ أَوْ سَالِمُ
…
أَوْ فَأَبُو بَكْرٍ خِلَافٌ قائِمُ
6 -
(أبيّ بن كعْبٍ) بن قيس الأنصاريّ الخزرجيّ، أَبو المنذر، من فضلاء الصحابة رضي الله عنهم، سيّد القرّاء، قيل: مات سنة (19) وقيل: (32) وقيل: غير ذلك، تقدّم في 10/ 77، والله تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَن أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ) رضي الله عنه، أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم:" أَوَّلُ مَنْ يُصَافِحُهُ الْحَقُّ عُمَرُ، وَأَوَّلُ مَنْ يُسَلِّمُ عَلَيْهِ، وَأَوَّلُ مَنْ يَأْخُذُ بِيَدِهِ فَيُدْخِلُهُ الْجَنَّةَ) قال السنديّ رحمه الله تعالى في "شرحه": يحتمل أن المراد صاحب الحقّ، وهو الملك الذي كان إلهام الصواب بواسطته، ويحتمل أن المراد بالحقّ ما هو ضدّ الباطل، ومصافحته والتسليم عليه كناية عن ظهوره له قبل غيره في المشورة وغيرها، أو هو مبنيّ على أن الأعراض لها صورٌ تظهر فيها يوم القيامة، ثم إنه يدخل الجنّة بواسطة توفيقه إيّاه، وهو المراد بقوله: وأول من يأخذ بيده إلخ، ومرجع المعنيين إلى الفضل الجزئيّ بواسطة توفيقه للصواب، وحمل الحقّ على الله تعالى مع بعده يستلزم الفضل الكليّ، بل على الأنبياء، فلا وجه له، فليُتأمّل. انتهى كلام السنديّ (1).
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: تأويل السنديّ هذا لا يخفى ما فيه من التعسّف لو صحّ الحديث، لكننا استغنينا عن هذا التعسّف والتكلّف حيث كان الحديث منكرًا.
قال الإمام ابن كثير رحمه الله تعالى -بعد أن أورده في كتابه الكبير "جامع المسانيد والسنن الهادي لأقوم سنن" جـ 1/ ص 72: هذا الحديث منكرٌ جدّا، وما أُبعِد أن يكون موضوعًا، والآفة فيه من داود بن عطاء هذا. انتهى كلام ابن كثير رحمه الله (2).
قال الجامع: هذا الذي قاله الإمام ابن كثير رحمه الله تحقيقٌ نفيسٌ جدّا، فما أحقّه بأن يُحكم عليه بالوضع، فإن داود بن عطاء قال عنه أَبو حاتم، والبخاريّ، وأبو زرعة: منكر الحديث. وقال الدارقطنيّ: متروك، وقد تفرّد بهذا الحديث المنكر، فما أحقّه بأن يكون مما عملته يداه.
وبالجملة فالحديث لا يستحقّ أن يُشتغل به أكثر من هذا. وقد تفرّد به المصنّف،
(1)"شرح السنديّ" 1/ 76.
(2)
راجع "جامع المسانيد والسنن" 1/ 72 في "مسند أبيّ بن كعب" رضي الله عنه.
فأخرجه بهذا السند هنا 12/ 104 فقط، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام ابن مَاجَه رحمه الله في أول الكتاب قال:
105 -
(حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدٍ، أَبُو عُبَيْدٍ الْمَدِينِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ الْمَاجِشُونِ، قَالَ: حَدَّثَنِي الزَّنْجِيُّ بْنُ خَالِدٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "اللَّهُمَّ أَعِزَّ الْإِسْلَامَ بِعُمَرَ بْنِ الخطَّابِ خَاصَّةً").
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدٍ، أَبُو عُبَيْدٍ الْمَدِينِيُّ) التّبّان التيميّ مولاهم، صدوق يُخطىء [10] تقدّم في 7/ 46.
2 -
(عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ الْمَاجِشُونِ) هو: عبد الملك بن عبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة الماجِشُون التيميّ مولاهم، أَبو مروان المدني الفقيه، مفتي أهل المدينة، صدوق، له أغلاط في الحديث، وكان رفيق الشافعيّ [9].
روى عن أبيه، وخاله يوسف بن يعقوب، ومالك، ومسلم بن خالد الزَّنْجِيّ، وعبد الرحمن بن أبي الزناد، وإبراهيم بن سعد، وغيرهم.
وروى عنه أَبو الربيع سليمان بن داود الْمَهْريّ، وعمار بن طالوت، وعمرو بن علي الصَّيرفي، وأبو عُبيد محمد بن عُبيد التَّبّان، وغيرهم.
قال مصعب الزبيريّ: كان مفتي أهل المدينة في زمانه. وقال الآجري عن أبي داود: كان لا يَعقِل الحديث. قال ابن الْبَرْقِيّ: دعاني رجل إلى أن أمضي إليه، فجئناه فإذا هو لا يدري الحديث أَيْشٍ هو. وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال ابن عبد البر: كان فقيهًا فصيحًا، دارت عليه الفُتْيا، وعلى أبيه قبله، وهو فقيه ابن فقيه، وكان ضرير البصر، وكان مُولَعًا بسماع الغنا. قال: وقال أحمد بن حنبل: قَدِمَ علينا، ومعه من يُغَنِّيه. وقال الساجيّ: ضعيف في الحديث، صاحب رأي، وقد حدّث عن مالك بمناكير، حدثني القاسم، ثنا الأثرم قال: قلت لأحمد: إن عبد الملك بن الماجشون يقول في سند:
أو كذا. قال: مَنْ عبد الملك؟ عبد الملك من أهل العلم؟ من يأخذ من عبد الملك؟.
وحدثني محمد بن رَوْح: سمعت أبا مصعب يقول: رأيت مالك بن أنس طرد عبد الملك؛ لأنه كان يُتَّهَم برأي جهم. قال الساجي: وسألت عمرو بن محمد العثماني عنه: فجعل يَذُمُّه. وقال مصعب الزبيري: كان يفتي، وكان ضعيفا في الحديث. وقال يحيى ابن أكثم: كان عبد الملك بَحْرًا لا تُكَدِّره الدِّلاء. وقال أحمد بن المعدّل: كلما تذكرت أن التراب يأكل لسان عبد الملك صَغُرت الدنيا في عيني، فقيل له: أين لسانك من لسانه؟ فقال: كان لسانه إذا تعايا أفصح من لساني إذا تحايا.
قيل: مات سنة (212)، وقيل: سنة (214). وقال الشيخ أَبو إسحاق الفزاري في "طبقاته": مات سنة ثلاث عشرة، قال: وكان فصيحًا.
أخرج له أَبو داود في "مسند مالك"، والنسائيّ، والمصنّف، وله في هذا الكتاب حديثان فقط، برقم (105) و (905).
3 -
(الزَّنْجِيُّ بْنُ خَالِدٍ) هو: مسلم بن خالد بن قَرْقَرَة، ويقال: ابن جَرْجَةَ المخزومي مولاهم، أَبو خالد الزنجي المكي الفقيه، صدوقٌ كثير الأوهام [8].
روى عن زيد بن أسلم، والعلاء بن عبد الرحمن، وهشام بن عروة، والزهري، وعتبة بن مسلم، وداود بن أبي هند، وابن جريج، وغيرهم.
وروى عنه ابن وهب، والشافعي، وعبد الملك بن الماجشون، ومروان بن محمد، والقعنبي، وأبو نعيم، وعلي بن الجعد، وغيرهم.
قال عبد الله بن أحمد عن أبيه: مسلم بن خالد كذا وكذا. وقال عباس الدوريّ، وابن أبي خيثمة عن ابن معين: ثقة. وقال ابن أبي مريم عنه: ليس به بأس. وقال محمد ابن عثمان بن أبي شيبة عن ابن معين: ضعيف. وقال ابن المديني: ليس بشيء. وقال البخاري: منكر الحديث. وقال النسائيّ: ليس بالقويّ. وقال أَبو حاتم: ليس بذاك القويّ، منكر الحديث، يكتب حديثه، ولا يحتج به، تَعرِف وتُنكِر. وقال ابن عديّ: حسن الحديث، وأرجو أنه لا بأس به. وقال عبد الله بن أحمد: قلت لسُويد بن سعيد: لِمَ
سُمِّي الزنجي؟ قال: كان شديد السواد. وقال إبراهيم الحربي: إنما سمي الزنجي؛ لأنه كان أشقر كالبَصَلة، وكان فقيه أهل مكة. وقال ابن سعد: حدثنا بكر بن محمد المكي: قال كان أبيض مُشْرَبًا بحمرة، وقال ابن أبي حاتم: الزِّنْجيّ إمام في الفقه والعلم، كان أبيض مُشْرَبًا حُمْرةً، وإنما قيل له: الزنجي؛ لمحبته التمر، قالت له جاريته: ما أنت إلا زنجي لأكل التمر، فبقي عليه هذا اللقب.
وقال عثمان الدارمي عن ابن معين: ثقة، قال عثمان: ويقال: إنه ليس بذاك في الحديث. وقال الساجيّ: صدوق، كان كثير الغلط، وكان يرى القدر. قال الساجي: وقد رُوي عنه ما يَنفِي القدر، حدثنا أحمد بن مُحْرِز، سمعت يحيى بن معين يقول: كان مسلم بن خالد ثقة صالح الحديث. وقال يعقوب بن سفيان: سمدت مشايخ مكة يقولون: كان لمسلم بن خالد حلقة أيام ابن جريج، وكان يَطلُب ويسمع ولا يكتب، فلما احتيج إليه وحَدّث كان يأخذ سماعه الذي قد غاب عنه -يعني فضُعِّفَ حديثه لذلك-. وذكره ابن البرقي في "باب من نُسب إلى الضعف ممن يكتب حديثه". وقال الدارقطني: ثقة. حكاه ابن القطان.
وقال ابن سعد: وتوفي في خلافة هارون سنة ثمانين ومائة بمكة، وكان كثير الغلط في حديثه، وكان في هديه نعم الرجل، ولكنه كان يَغْلَط، وكان داود العطار أروج في الحديث منه. وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: كان من فقهاء الحجاز، ومنه تعلم الشافعي الفقه قبل أن يَلْقَى مالكًا، وكان مسلم بن خالد يُخطىء أحيانًا، ومات سنة تسع وسبعين. وقيل: سنة ثمانين ومائة.
أخرج له أَبو داود، والمصنّف، وله في هذا الكتاب سبعة أحاديث فقط، برقم (105) و (1651) و (2243) و (2285) و (2974) و (3281) و (3505).
4 -
(هشام بن عروة) الأسديّ، أَبو المنذر المدنيّ، ثقة فقيه، [5]، تقدّم في 8/ 52.
5 -
(أبوه) عروة بن الزبير بن العوّام الأسديّ، أَبو عبد الله المدنيّ، ثقة ثبتٌ فقيه [3] تقدّم في 2/ 15.
6 -
(عائشة) أم المؤمنين رضي الله عنها، تقدّمت في 2/ 14، والله تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنْ عَائِشَةَ) رضي الله عنها، أنها (قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "اللَّهُمَّ أَعِزَّ الْإِسْلَامَ بِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ خَاصَّةً) أي قوّه، وانصره به، واجعله غالبًا على الكفر، فهو كقوله عز وجل: {فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ} الآية [يس: 14]. وقد استجاب الله سبحانه وتعالى دعاءه صلى الله عليه وسلم، فقد أعزّ الله تعالى بإسلامه رضي الله عنه الإسلام وأهله؛ لِمَا كان فيه من الجَلَد والقوّة في أمر الله. أخرج الإمام البخاريّ رحمه الله في "صحيحه" عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: "ما زِلْنا أَعِزّةً منذ أسلم عمر".
وروى ابن أبي شيبة، والطبراني، من طريق القاسم بن عبد الرحمن، قال: قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: كان إسلام عمر عزّا، وهجرته نصرًا، وإمارته رحمةً، والله ما استطعنا أن نصلي حول البيت ظاهرين حتى أسلم عمر. وقد ورد سبب إسلامه مُطَوَّلًا فيما أخرجه الدارقطني، من طريق القاسم بن عثمان، عن أنس رضي الله عنه قال: خرج عمر مُتَقَلِّدًا السيف، فلقيه رجل من بني زُهْرة، فذكر قصة دخول عمر على أخته، وإنكاره إسلامها، وإسلام زوجها سعيد بن زيد، وقراءته سورة طه، ورغبته في الإسلام، فخرج خَبّاب رضي الله عنه، فقال: أبشر يا عمر، فإني أرجو أن تكون دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم لك، قال:"اللهم أعز الإسلام بعمر، أو بعمرو بن هشام". وروى أَبو جعفر بن أبي شيبة نحوه في "تاريخه" من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، وفي آخره: فقلت: يا رسول الله، ففيم الاختفاء، فخرجنا في صفين، أنا في أحدهما، وحمزة في الآخر، فنظرت قريش إلينا، فأصابتهم كآبة لم يصبهم مثلها.
وأخرجه البزار من طريق أسلم مولى عمر، عن عمر مُطَوَّلًا. وروى ابن أبي خيثمة من حديث عمر رضي الله عنه نفسه، قال: لقد رأيتني وما أسلم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا تسعة وثلاثون رجلًا، فكَمَلْتُهم أربعين، فأظهر الله دينه، وأعز الإسلام. وروى البزار نحوه من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، وقال فيه: فنزل جبريل، فقال: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ
حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الأنفال: 64]. وفي "فضائل الصحابة" لخيثمة من طريق أبي وائل، عن ابن مسعود، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اللهم أيد الإسلام بعمر". ومن حديث علي رضي الله عنه مثله، بلفظ:"أَعِزَّ". وفي حديث عائشة رضي الله عنها مثله، أخرجه الحاكم بإسناد صحيح. وأخرجه الترمذي من حديث ابن عمر رضي الله عنهما بلفظ:"اللهم أعز الإسلام بأحب الرجلين إليك، بأبي جهل، أو بعمر"، قال فكان أحبهما إليه عمر.
قال الترمذيّ: حسن صحيح. وصححه ابن حبان أيضًا، وفي إسناده خارجة بن عبد الله، صدوق فيه مقال، لكن له شاهد من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، أخرجه الترمذي أيضًا، ومن حديث أنس رضي الله عنه -كما سبق في القصة المطولة، ومن طريق أسلم مولى عمر عن عمر رضي الله عنه عن خباب رضي الله عنه، وله شاهد مرسل، أخرجه ابن سعد، من طريق سعيد بن المسيب، والإسناد صحيح إليه. وروى ابن سعد أيضًا من حديث صهيب رضي الله عنه قال: لمّا أسلم عمر قال المشركون: انتصف القوم منا. وروى البزار والطبراني من حديث ابن عباس نحوه. ذكر هذا كله في "الفتح"(1)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): في درجته:
حديث عائشة رضي الله عنها هذا تفرّد به المصنّف، وهو صحيح، دون قوله:"خاصّة".
[فإن قلت]: كيف يصحّ، وفي إسناده عبد الملك بن الماجشون، والزنجيّ بن خالد، وكلاهما قد عرفت أقوال أهل العلم فيهما؟.
[قلت]: إنما صحّ؛ لشواهده؛ فقد رُوي من حديث ابن عمر، وابن مسعود رضي الله عنه،
(1)"الفتح" 7/ 61 - 62 "كتاب فضائل أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم" رقم الحديث (3684).
وابن عبّاس رضي الله عنهم، ومن مرسل سعيد بن المسيّب، والحسن البصري.
فأما حديث ابن عمر، فأخرجه الترمذيّ، فقال:
حدثنا محمد بن بشار، ومحمد بن رافع، قالا: حدثنا أَبو عامر العقدي، حدثنا خارجة بن عبد الله الأنصاري، عن نافع، عن ابن عمر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"اللهم أعز الإسلام بأحب هذين الرجلين إليك، بأبي جهل، أو بعمر بن الخطاب"، قال: وكان أحبهما إليه عمر. قال أَبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح غريب، من حديث ابن عمر.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هذا الإسناد رجال الصحيح، غير خارجة ابن عبد الله الأنصاريّ، وهو حسن الحديث، فقد روى عن جماعة، وروى عنه جماعة، وقال ابن معين: ليس به بأس، وقال أَبو حاتم: شيخ، حديثه صالح، وقال أَبو داود: شيخ، وقال ابن عديّ: لا بأس به، وبرواياته عندي، وقال الأزديّ: اختلفوا فيه، ولا بأس به، وحديثه مقبول، كثير المنكر، وهو إلى الصدق أقرب. وضعّفه أحمد، والدارقطنيّ (1).
فمثل هذا أقلّ أحواله أن يكون حسن الحديث.
وأما حديث ابن مسعود رضي الله عنه فقد أخرجه الطبرانيّ في "الكبير"، فقال: حدثنا محمد ابن العباس الأصبهانيّ، ثنا عمر بن محمد بن الحسن الأسديّ، ثنا أبي، ثنا يحيى بن زكريا ابن أبي زائدة، عن مجالد، عن الشعبيّ، عن مسروق، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اللهمّ أعزّ الإسلام بعمر بن الخطاب، أو بأبي جهل بن هشام"، فجعل الله دعوة رسوله صلى الله عليه وسلم لعمر بن الخطاب، بُني عليه الإسلام، وهُدم به الأوثان (2).
قال الحافظ أَبو بكر الْهيثميّ رحمه الله: رجاله رجال الصحيح، غير مجالد بن
(1) راجع ترجمته في "تهذيب التهذيب" 1/ 512.
(2)
راجع "المعجم الكبير" 10/ 197 رقم الحديث (10314).
سعيد، وقد وُثّق. انتهى (1). وأخرجه الحاكم في "المستدرك" أيضًا بهذا السند (2).
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: مجالد ضعفه الأكثرون، وقال البخاريّ: صدوقٌ، وقال العجليّ: جائز الحديث، وقال الساجيّ: قال محمد بن المثنّى: يُحتَمل حديثه لصدقه، وقال يعقوب بن سفيان: تكلّم الناس فيه، وهو صدوق. وقال ابن عديّ: له عن الشعبيّ عن جابر أحاديث صالحة، وعن غير جابر، وعامة ما يرويه غير محفوظ.
وعن أحمد قال: قد احتمله الناس. وأخرج له مسلم مقرونًا. ومثل هذا يصلح للاستشهاد.
وأخرجه الحاكم أيضًا من حديث ابن عمر، عن ابن عباس رضي الله عنه، بلفظ:"اللهم أعزّ الإسلام بعمر"، وقال: صحيح الإسناد، ووافقه الذهبيّ، ولكن في سنده المبارك ابن فضالة، وهو صدوقٌ، لكنه يدلّس، وقد عنعنه.
وأما مرسل سعيد، فأخرجه ابن سعد في "الطبقات"، فقال: أخبرنا عفّان بن مسلم، قال: أخبرنا خالد بن الحارث، قال: أخبرنا عبد الرحمن بن حرملة، عن سعيد ابن المسيّب، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رأى عمر بن الخطاب، أو أبا جهل بن هشام قال:"اللهمّ اشدُد دينك بأحبّهما إليك"، فشدّد دينه بعمر بن الخطاب.
وهذا إسناد صحيح، ورجاله رجال الصحيح، وقد اتّفقوا على أن مراسيل سعيد أصحّ المراسيل.
وأخرجه أيضًا من مرسل الحسن البصري، بلفظ:"اللهمّ أعزّ الدين بعمر بن الخطّاب"(3) وفي إسناده أشعث بن سوّار، وهو ضعيف.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: قد تبيّن بما ذُكر أن حديث عائشة رضي الله عنها رضي الله عنها
(1)"مجمع الزوائد" 9/ 61 - 62.
(2)
راجع "المستدرك" 3/ 83.
(3)
راجع "طبقات ابن سعد" 3/ 202.
المذكور هنا صحيح؛ لهذه الشواهد، ولا سيّما حديث ابن عمر، ومرسل ابن المسيّب، وقد سبق أن قوله:"خاصّة" مما لا شاهد له، فلا يصحّ.
وقد ضعّف هذه الأحاديث كلها، الدكتور بشار فيما كتبه على هذا الكتاب، ولم يُعطها حقّها من الدراسة التفصيليّة، فتأمّل ما كتبه بالإنصاف، واحذر طريق الاعتساف. والله تعالى أعلم.
[تنبيه]: ذكر الدكتور بشار ما يفيد أن الشيخ الألبانيّ رحمه الله أخطأ في نسبة تصحيح حديث ابن عباس رضي الله عنهما الذي في سنده النضر أَبو عمر (1) إلى الترمذيّ، وتصويبِ تصحيحه، وقد أصاب الدكتور في ذلك، فإن الترمذيّ إنما صحّح حديث ابن عمر المتقدّم، لا حديث ابن عباس، فإنه إنما قال فيه: حديثٌ غريبٌ من هذا الوجه، وقد تكلم بعضهم في النضر أبي عمر وهو يروي مناكير، انتهى، وعادة الترمذيّ أنه إذا قال: حديث غريب فقط، يريد تضعيفه، كما يظهر ذلك بالتتبّع، فتنبّه لذلك، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثانية): في فوائده:
1 -
(منها): ما ترجم له المصنّف، وهو بيان فضل عمر رضي الله عنه، وهو واضح.
2 -
(ومنها): ما أكرم الله تعالى به نبيّه صلى الله عليه وسلم باستجابة دعوته، حيث ظهر آثارها، فقد أخرج البخاريّ في "صحيحه" عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال:"ما زلنا أعزة منذ أسلم عمر". وأخرج ابن أبي شيبة، والطبرانيّ من حديثه، قال:"كان إسلام عمر عزّا، وهجرته نصرًا، وإمارته رحمةً، والله ما استطعنا أن نُصلي حول البيت ظاهرين حتى أسلم عمر"،
(1) هو ما أخرجه الترمذيّ في "جامعه"، فقال:(3616) حدثنا أَبو كريب، حدثنا يونس بن بكير، عن النضر أبي عمر، عن عكرمة، عن ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "اللهم أعز الإسلام بأبي جهل ابن هشام، أو بعمر"، قال: فأصبح، فغدا عمر على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلم. قال أَبو عيسى: هذا حديث غريب من هذا الوجه، وقد تكلم بعضهم في النضر أبي عمر، وهو يروي مناكير. انتهى.
والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام ابن مَاجَه رحمه الله في أول الكتاب قال:
106 -
(حَدَّثَنَا عِليُّ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ، عَنْ عَبْدِ اللةَ بْنِ سَلِمَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ عَلِيًّا يَقُولُ: خَيْرُ النَّاسِ بَعْدَ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم أَبُو بَكْرٍ، وَخَيْرُ الَنَّاسِ بَعْدَ أَبِي بَكْرٍ عُمَرُ).
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ) الطنافسيّ المذكور أول الباب.
2 -
(وَكِيعٌ) بن الْجَرّاح الكوفيّ الحافظ الحجة الثبت [9] 1/ 3.
3 -
(شُعْبَةُ) بن الحجّاج البصريّ الإمام العلَم الحجة المشهور [7] 1/ 6.
4 -
(عمرو بن مرّة) بن عبد الله بن طارق الْجَمَليّ، أَبو عبد الله الكوفيّ، ثقة عابد لا يُدلّس، ورُمي بالإرجاء [5] 2/ 20.
5 -
(عبد الله بن سلمة) -بكسر اللام- المراديّ الكوفيّ، صدوقٌ تغيّر حفظه [2].
روى عن عمر، ومعاذ، وعلي، وابن مسعود، وسعد، وسلمان الفارسيّ، وصفوان ابن عَسّال، وعمار بن ياسر، وعَبِيدة بن عمرو السَّلْمَاني.
وروى عنه أَبو إسحاق السبيعي، وعمرو بن مرة. قال أحمد بن حنبل: لا أعلم روى عنه غيرهما. وقال غيره: روى عنه أَبو الزبير أيضًا. وقال النسائي في "الكنى": أَبو العالية عبد الله بن سَلِمة كوفي مرادي. وقال الخطيب: قد رَوَى أَبو إسحاق السبيعي عن أبي العالية عبد الله بن سلمة الهمداني، فزعم أحمد بن حنبل أنه الذي رَوَى عنه عمرو بن مرة. وقال ابن نُمير: ليس به، بل هو آخر. وكان ابن معين يقول: كقول أحمد، ثم رجع عنه.
قال البخاري في "تاريخه الصغير" الذي قال ابن نُمَير أصح، والذي روى عنه أَبو إسحاق هو الهمداني، والذي روى عنه عمرو بن مرة هو من رَهْط عمرو بن مرة جَمَلي مُرَادي. وكذا قال ابن معين، والدارقطني، وابن ماكولا. وقال النسائي في المرادي: لا
أعلم أحدًا روى عنه غير عمرو بن مرة. وقال في "الكنى": أنا عبد الله بن أحمد، سألت أبي عن ابن سَلِمة، روى عنه غير عمرو بن مرة؟ فقال: أَبو إسحاق. وقال ابن نُمَير هذا ليس هو ذاك، صاحب عمر ولم يرو عنه إلا عمرو، والذي قاله ابن نُمير أصح، وفرق بينهما أيضا ابن حبان، فقال في الهمداني: عبد الله بن سَلِمة بن الحارث الهمداني، أخو عمرو.
وقال في المرادي: عبد الله بن سلمة يروي عن علي، وعنه عمرو بن مرة، يُخطىء.
وقد بينه الحاكم أَبو أحمد بيانًا شافيًا في "كتاب الكنى"، وقال: عبد الله بن سلمة مرادي، يروي عن سعد، وعلي، وابن مسعود، وصفوان بن عَسّال، وعنه عمرو بن مرة، وأبو الزبير، حديثه ليس بالقائم، وعبد الله بن سَلِمَة الهمداني إنما يُعرَف له قوله فقط، ولا نعرف له راويًا غير أبي إسحاق السبيعي، ثم قال ما معناه: إن الغلط إنما وقع عند من جعلهما واحدًا بكنية من كنى المرادي أبا العالية -يعني من المتأخرين- وإنما هي كنية الهمداني، قال: ولا أعلم أحدًا كَنّى المرادي، قال: وقد وقع الخطأ فيه لمسلم وغيره. انتهى.
وقال شعبة عن عمرو بن مرة: كان عبد الله بن سَلِمة يحدثنا، فنَعرِف ونُنكِر كان قد كَبِر. وقال العجلي: كوفي تابعي ثقة. وقال يعقوب بن شيبة: ثقة يُعَدّ في الطبقة الأولى من فقهاء الكوفة بعد الصحابة. وقال البخاري: لا يتابع في حديثه. وقال أَبو حاتم: تَعرِف وتُنكِر. وقال ابن عدي: أرجو أنه لا بأس به. له عند أبي داود حديث: "لا يقرأ الجنب
…
" الحديث.
أخرج له الأربعة، وله في هذا الكتاب ثلاثة أحاديث فقط، برقم (106) و (594) و (3705).
6 -
(عليّ) بن أبي طالب الخليفة الراشد رضي الله عنه تقدّم في 2/ 20، والله تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنْ عَبْدِ الله بْنِ سَلِمَةَ) بكسر اللام، أنه (قَالَ: سَمِعْتُ عَلِيًّا) رضي الله عنه (يَقُولُ: خَيْرُ
النَّاسِ) أي من هذه الأمة، فلا يلزم منه دخول الأنبياء في الناس؛ لما عُرف من الأدلة الأخرى أن فضله رضي الله عنه بعد فضل الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، فقد تقدّم حديث عليّ رحمه مرفوعًا: "أَبو بكر وعمر سيّدا كهول أهل الجنة من الأولين والآخرين، إلا النبيين والمرسلين
…
" الحديث (بَعْدَ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم أَبُو بَكْرٍ) الصدّيق رضي الله عنه (وَخَيْرُ النَّاسِ بَعْدَ أَبِي بَكْرٍ عُمَرُ) الفاروق رضي الله عنه.
وفي رواية البخاريّ من طريق مُنذِر بن يعلى الثوريّ عن محمد ابن الحنفيّة قال: قلت لأبي: "أيُّ الناس خير؟ بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: أَبو بكر، قلت: ثم من؟ قال: ثم عمر، وخشيت أن يقول: عثمان، قلت: ثم أنت؟ قال: ما أنا إلا رجل من المسلمين".
وأخرج الدارقطنيّ من طريق محمد بن سُوقة، عن مُنذر، عن محمد بن علي، قلت لأبي: يا أبتي مَن خير الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: أو ما تعلم يا بُنَيّ؟ قلت: لا، قال: أَبو بكر. وفي رواية الحسن بن محمد ابن الحنفية عن أبيه قال سبحان الله يا بُنَيّ أَبو بكر.
وأخرج أحمد، من طريق منصور بن عبد الرحمن الْغُدَاني الأشلّ، عن الشعبيّ، حدثني أَبو جحيفة الذي كان عليّ يُسميه وهب الخير، قال: قال علي رضي الله عنه يا أبا جحيفة ألا أخبرك بأفضل هذه الأمة بعد نبيها؟ قال: قلت: بلى، قال: ولم أكن أرى أن أحدًا أفضل منه، قال: أفضل هذه الأمة بعد نبيها صلى الله عليه وسلم أَبو بكر، وبعد أبي بكر عمر رضي الله عنه، وبعدهما آخر ثالث، ولم يسمه (1).
وفي رواية للدارقطني في "الفضائل" من طريق أبي الضحى، عن أبي جحيفة:"وإن شئتم أخبرتكم بخير الناس بعد عمر، فلا أدري استحيى أن يذكر نفسه، أو شغله الحديث".
(1) حديث صحيح، ورجاله ثقات، ومنصور بن عبد الرحمن وثقه ابن معين، وأبو داود، وقال النسائيّ: لا بأس به، وأخرج له مسلم، وقال أحمد: ليس به بأس، يُخالفُ في أحاديث، ووثقه ابن حبّان، ولم ينفرد بهذا الحديث، بل تابعه يحيى بن أيوب البجليّ عن الشعبيّ عند أحمد برقم (834). وله شواهد عنده برقم (833) و (836).
قال في "الفتح": قوله: "وخشيت أن يقول: عثمان، قلت: ثم أنت؟ قال: ما أنا إلا رجل من المسلمين".
وفي رواية محمد بن سوقة: "ثم عَجِلتُ لِلْحَدَاثة، فقلت: ثم أنت يا أبتي؟ فقال: أبوك رجل من المسلمين"، زاد في رواية الحسن بن محمد:"لي ما لهم، وعليّ ما عليهم".
وهذا قاله عليّ رضي الله عنه تواضعًا، مع معرفته حين المسألة المذكورة أنه خير الناس يومئذٍ؛ لأن ذلك كان بعد قتل عثمان.
وأما خشية محمد ابن الحنفية أن يقول: عثمان، فلأن محمدًا كان يعتقد أن أباه أفضل، فخشي أن عليا يقول: عثمان، على سبيل التواضع منه، والهضم لنفسه، فيضطرب حال اعتقاده، ولا سيما وهو في سن الحداثة، كما أشار إليه في الرواية المذكورة.
وروى خيثمة في "فضائل الصحابة" من طريق عُبيد بن أبي الجعد، عن أبيه أن عليّا رضي الله عنه قال، فذكر هذا الحديث، وزاد:"ثم قال ألا أخبركم بخير أمتكم بعد عمر"، ثم سكت، فظننا أنه يعني نفسه. وفي رواية عبيد خبر عن علي رضي الله عنه أنه قال ذلك بعد وقعة النهروان، وكانت في سنة ثمان وثلاثين، وزاد في آخر حديثه:"أحدثنا أمورًا يفعل الله فيها ما يشاء".
واخرج ابن عساكر في ترجمة عثمان، من طريق ضعيفة في هذا الحديث: أن عليا قال: "إن الثالث عثمان". ومن طريق أخرى أن أبا جُحيفة قال: "فرجعت الموالي يقولون: كَنَى عن عثمان، والعرب تقول كَنَى عن نفسه".
وهذا يبين أنه لم يُصَرِّح بأحد. وقد اختُلِف في أيّ الرجلين أفضل بعد أبي بكر وعمر، عثمان أو عليّ؟، ثم انعقد الإجماع بآخرة بين أهل السنة، أن ترتيبهم في الفضل كترتيبهم في الخلافة رضي الله عنهم أجمعين (1).
(1)"الفتح" 7/ 43 "كتاب فضائل أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم" الحديث رقم (3656 - 3678).
قال القرطبي رحمه الله في "المفهم": ما حاصله: المقطوع به بين أهل السنة أفضلية أبي بكر، ثم عمر، ثم اختلفوا فيمن بعدهما، فالجمهور على تقديم عثمان، وعن مالك التوقف، والمسألة اجتهادية، ومستندها أن هؤلاء الأربعة اختارهم الله تعالى لخلافة نبيه صلى الله عليه وسلم، وإقامة دينه، فمنزلتهم عنده بحسب ترتيبهم في الخلافة، إلى ما ينضاف إلى ذلك بما يشهد لكلّ واحد منهم من شهادات النبي صلى الله عليه وسلم له بذلك تأصيلًا وتفصيلًا. انتهى (1). وقد تقدّم تمام البحث في هذا في المسألة العاشرة من المسائل المذكورة في "باب فضائل أصحاب النبيّ" صلى الله عليه وسلم، فراجعه تستفد، والله تعالى وليّ التوفيق، وهو الهادي إلى أقوم طريق، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): في درجته:
حديث عليّ رضي الله عنه هذا أخرجه البخاريّ في "صحيحه" من رواية محمد ابن الحنفيّة، عنه رضي الله عنه بلفظ: قال: قلت لأبي: "أيُّ الناس خير؟ بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: أَبو بكر، قلت: ثم من؟ قال: ثم عمر، وخشيت أن يقول: عثمان، قلت: ثم أنت؟ قال: ما أنا إلا رجل من المسلمين"، والله تعالى أعلم.
[تنبيه]: قال الدكتور بشار فيما كتبه على هذا الكتاب: إسناده ضعيف، فإن عبد الله بن سَلِمة المرادي الكوفيّ ضعيف يُعتبر به عند المتابعة، ولم يُتابع، وقد ضعفه البخاريّ إلى آخر كلامه.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: قوله: "ولم يُتابع" فيه نظر لا يخفى، فقد عرفت أن محمد ابن الحنفيّة تابعه، كما هو عند البخاريّ في "صحيحه"، والظاهر أنه ما اطّلع على رواية البخاريّ، والله تعالى أعلم.
(1)"المفهم" 6/ 237 - 239.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا (12/ 106) بهذا السند، وأخرجه (البخاريّ) في "المناقب" من رواية ابن الحنفيّة، عن عليّ رضي الله عنه (3671) و (أَبو داود) في "السنّة"(4013) و (أحمد) في "مسند العشرة" من رواية أبي جُحيفة عليّ رضي الله عنهما (749)، وقد تقدّم لفظه قريبًا، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): ما ترجم له المصنّف، وهو بيان فضل عمر رضي الله عنه.
2 -
(ومنها): أن بيان فضل أبي بكر رضي الله عنه أيضًا، وأنه أفضل هذه الأمة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم على الإطلاق.
3 -
(ومنها): أن فيه الردّ على الشيعة والرافضة، حيث إنهم يفترون على عليّ رضي الله عنه بأشياء باطلة هو عنها بريء، ويلزقون به ما لا صحة له، فقد بيّن بهذا الحديث بأنه على يقين أن الشيخين يُقدّمان عليه في الفضل، وأنه معترف لهما بذلك، كما بيّنه في هذا النصّ الصحيح الصريح، {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ} [يونس:32]، {رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} [آل عمران:8]، اللهم اهدنا فيمن هديت، وعافنا فيمن عافيت، وتولّنا فيمن تولّيت، وبارك لنا فيما أعطيت"، اللهم أرنا الحقّ حقّا، وارزقنا اتّباعه، وأرنا الباطل باطلًا، وارزقنا اجتنابه، آمين آمين أمين، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام ابن مَاجَه رحمه الله في أول الكتاب قال:
107 -
(حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحَارِثِ المِصْرِيُّ، أَنْبَأَنَا اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ، حَدَّثَنِي عُقَيْلٌ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، أَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ المسَيِّبِ، أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ، قَالَ: كُنَّا جُلُوسًا عِنْدَ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: "بَيْنَا أَنَا نَائِمٌ رَأَيْتُني في الْجَنَّةِ، فَإِذَا أَنَا بِامْرَأَةٍ تَتَوَضأُ إِلَى جَانِب قَصْرٍ، فَقُلْتُ: لمِنْ هَذَا الْقَصْرُ؟ فَقَالَتْ: لِعُمَرَ، فَذَكَرْتُ غَيْرَتَهُ، فَوَلَّيْتُ مُدْبِرًا"، قَالَ أَبُوَ هُرَيْرَةَ: فَبَكَى
عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، فَقَالَ: أَعَلَيْكَ بِأَبِي وَأُمِّي يَا رَسُولَ الله أَغَارُ).
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ الْحَارِثِ الْمِصْرِيُّ) هو: محمد بن الحارث بن راشد بن طارق الأمويّ، مولى عمر بن العزيز، أَبو عبد الله المصري المؤذن بالجامع بمصر، كان يقال له: صُدْرَة. صدوقٌ يُغْرِب [10].
روى عن الليث بن سعد، وابن لَهِيعة، والفضل بن فَضَالة، والحكم بن عَبْدَة، ورِشْدين بن سعد، ويحيى بن راشد المازني، ويعقوب بن عبد الرحمن الإسكندراني، وغيرهم.
وروى عنه ابن ماجه، ويعقوب بن سفيان، وأحمد بن محمد بن الحجاج بن رِشدين ابن سعد، وأحمد بن يحيى بن خالد بن حيان الرَّقّيّ، وأبو خيثمة، علي بن عمرو ابن خالد الحراني، ومحمد بن إبراهيم بن زياد الطيالسيّ، وغيرهم.
ذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: يُغْرِب. قال ابن يونس: مات في ذي القعدة سنة إحدى وأربعين ومائتين.
تفرّد به المصنّف، روى عنه في هذا الكتاب ستة أحاديث فقط، برقم (107) و (247) و (437) و (920) و (3447) و (3982).
2 -
(اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ) بن عبد الرحمن الفَهْميّ، أَبو الحارث المصريّ الإمام الحجة الفقيه المشهور [7] تقدّم في 2/ 15.
3 -
(عُقَيْلٌ) -بضم العين المهملة، وفتح القاف، مصغّرًا- ابن خالد بن عَقِيل -بفتح العين، وكسر القاف، مكبّرًا- الأيليّ -بفتح الهمزة، بعدها تحتانيّة ساكنة، ثم لام- أَبو خالد الأُمَوِيُّ، مولى عثمان، ثقة ثبتٌ [6].
روى عن أبيه، وعمه زياد، ونافع مولى ابن عمر، وعكرمة، والحسن، وسعيد بن أبي سعيد الخدري، وسعيد بن سليمان بن زيد بن ثابت، وسلمة بن كُهيل، والزهريّ، وغيرهم.
وروى عنه ابنه إبراهيم، وابن أخيه سلامة بن رَوْح، والمفضل بن فَضَالة، والليث ابن سعد، وابن لَهيعة، وجابر بن إسماعيل، وسعيد بن أبي أيوب، ونافع بن يزيد، ويحيى ابن أيوب، والحجاج بن فَرَافِصَة، وحدث عنه يونس بن يزيد الأيلي، وهو من أقرانه، وغيرهم.
قال أحمد، ومحمد بن سعد، والنسائيّ: ثقة. وقال ابن معين: أثبت مَن روى عن الزهري مالك، ثم معمر، ثم عُقيل. وعن ابن معين في رواية الدُّوريّ: أثبت الناس في الزهري: مالك، ومعمر، ويونس، وعقيل، وشعيب، وسفيان. وفي رواية ابن أبي مريم عن ابن معين: عُقيل ثقة حجة. وقال عبد الله بن أحمد: ذُكِر عند أبي أن يحيى بن سعيد قال: عُقيل، وإبراهيم بن سعد، كأنه يُضَعِّفهما، فقال: وأيّ شيء هذا؟ هؤلاء ثقات، لم يَخْبُرهم. وقال العجلي: أَيْليٌّ ثقة. وقال البخاري: قال علي عن ابن عيينة، عن زياد بن سعد: كان عُقيل يَحفَظ. وذكره ابن حبان في "الثقات". وقال الْعُقيليّ: صدوق تفرد عن الزهري بأحاديث، قيل: لم يسمع من الزهريّ شيئًا، إنما هو مناولة.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا القول فيه نظرٌ لا يخفى، ويكفي في ردّه ما يأتي عن أبي حاتم. فتبصّر. والله تعالى أعلم.
وقال إسحاق بن راهويه: عُقيل حافظ، ويونس صاحب كتاب. وقال أَبو زرعة: صدوق ثقة. وقال ابن أبي حاتم: سألت أبي عُقيل أحب إليك أم يونس؟ قال: عقيل أحب إليّ، لا بأس به. قال: وسئل أبي أيما أثبت عُقيل أو معمر؟ فقال: عُقيل أثبت، كان صاحب كتاب، وكان الزهري يكون بأَيْلَة، وللزهري هناك ضَيْعَة، وكان يكتب عنه هناك.
قال الماجِشُون: كان عُقيل شُرْطيّا عندنا بالمدينة، ومات بمصر سنة (141).
وقال محمد بن عُزَيز الأيلي: مات سنة (2). وقال ابن السَّرْح، عن خاله: مات سنة (44)، وفيها أرّخه ابن يونس.
أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (12) حديثًا.
4 -
(أبو هريرة) الصحابيّ الشهير رضي الله عنه تقدّم 1/ 1. والباقيان تقدّما قبل حديثين، والله تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من سداسيّات المصنّف رحمه الله.
2 -
(ومنها): أن رجاله رجال الصحيح، غير شيخه، فقد تفرّد به، وهو موثّق.
3 -
(ومنها): أن نصفه الأول مسلسلٌ بثقات المصريين، ونصفه الثاني مسلسل بثقات المدنيين.
4 -
(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ: ابن شهاب عن سعيد.
5 -
(ومنها): أن فيه أحد الفقهاء السبعة، وهو سعيد.
6 -
(ومنها): أن صحابيّه رضي الله عنه أحفظ من روى الحديث في دهره، روى (5374) حديثًا، والله تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنِ ابْنِ شِهَابٍ) محمد بن مسلم الزهريّ، أنه قال (أَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ، أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه (قَالَ: كُنَّا جُلُوسًا عِنْدَ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: "بَيْنَا أَنَا نَائِمٌ) هي "بين الظرفيّة"، أُشبعت فتحتها فتولّدت منها الألف، قال في "اللسان": أصل "بينا""بَيْنَ"، فأُشبعت الفتحة، فصارت ألفًا، ويقال:"بينا"، و"بينما"، وهما ظرفا زمان بمعنى المفاجأة، ويُضافان إلى جملة من فعل وفاعل، ومبتدإ وخبر، ويحتاجان إلى جواب يَتِمّ به المعنى، والأفصح في جوابهما أن لا يكون فيه "إذ" و"إذا"، وقد جاءا في الجواب كثيرًا، تقول: بينا زيدٌ جالسٌ دخل عليه عمرو، وإذ دخل عليه، وإذا دخل عليه، ومنه قول الْحُرَقَة بنت النعمان (من الطويل]:
فَبَيْنَا نَسُوسُ النَّاسَ وَالأَمْرُ أَمْرُنَا
…
إِذَا نَحْنُ فِيهِمْ سُوقَةٌ نَتَنَصَّفُ (1)
(1)"لسان العرب" 12/ 66.
(رَأَيْتُنِي في الْجَنَّةِ) وفي حديث جابر رضي الله عنه عند الشيخين: "قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: رأيتني دخلت الجنة، فإذا أنا بالرُّمَيصاء، امرأة أبي طلحة، وسعت خَشَفَةً، فقلت: مَنْ هذا؟ فقال: هذا بلال، ورأيت قصرًا بفنائه جاريةً، فقلت: لمن هذا؟ فقال: لعمر، فأردت أن أدخله، فأنظر إليه، فذكرت غَيْرَتك"، فقال عمر: بأبي وأمي يا رسول الله، أعليك أغار؟.
و"الرّميصاء" بالتصغير هي أم سُليم والدة أنس رضي الله عنهما، وهو صفة لها؛ لِرَمَصٍ كان بعينها، واسمها سهلة، وقيل: رُميلة، وقيل: غير ذلك.
والْحَشَفَة بفتح المعجمتين والفاء كالحركة وزنًا ومعنى.
قال الإمام ابن حبّان رحمه الله بعد إخراجه لحديث أبي هريرة رضي الله عنه: ما نصّه: في هذا الخبر "بينما أنا نائم"، وفي خبر جابر:"أُدخلت الجنة" أُدخل الجنة ليلة أُسري به، فرأى قصر عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فسأل عن القصر، فأخبروه أنه لعمر، وبينما النبي صلى الله عليه وسلم نائم مرّةً أخرى إذ رأى كأنه أُدخل الجنّة، وإذا امرأة إلى جانب قصر تتوضّأ، فسأل عن القصر، فقالت: لعمر بن الخطّاب، لفظ خبر أبي هريرة بخلاف لفظ خبر جابر، فدلّك ذلك على أنهما خبران في وقتين متباينين، من غير أن يكون هناك تضادّ، ولا تهَاتُر. انتهى كلام ابن حبّان رحمه الله (1)، وهو تأويل حسنٌ. والله تعالى أعلم.
[تنبيه]: قوله: "رأيتني" فيه وقوع الفاعل والمفعول ضميرين متّصلين لمسمّى واحد، وهو مختصّ بأفعال القلوب، قال الله عز وجل:{أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى} [العلق:7]، وألحقت في ذلك رأى الحلميّة والبصريّة بكثرة، نحو {إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا} [يوسف: 36] وقول الشاعر [من الكامل]:
وَلَقَدْ أَرَانِي لِلرِّمَاح دَرِيئَةً
…
مِنْ عَنْ يَمِنِي تَارَةً وَأَمَامِي
وأُلحقت أيضًا "عَدِمَ"، و"فَقَد"، و"وَجَدَ" بمعنى لقي بقلّة، دون باقي الأفعال،
(1) راجع "الإحسان في تقريب صحيح ابن حبّان" 15/ 312.
فلا يقال: ضربتني، ولا ظلمتني، لئلا يكون الفاعل مفعولا، بل يقال: ضربت نفسي، وظلمت نفسي؛ ليتغاير اللفظان، وإنما جاز ذلك في أفعال القلوب؛ لأن مفعولها في الحقيقة مضمون الجملة، لا المنصوب بها، فلا ضرر في اتّحاده مع الفاعل (1). فتنبّه لهذه القاعدة. والله تعالى أعلم.
(فَإِذَا أَنَا بِامْرَأَةٍ)"إذا" هي الفجائيّة، وهي تختصّ بالجملة الاسميّة، كهذا الحديث، ولا تحتاج إلى جواب، ولا تقع في الابتداء، ومعناها الحال، لا الاستقبال، والتقدير هنا: ففجاءني وجود امرأة. وقوله: (تَتَوَضَّأُ إِلَى جَانِبِ قَصْرٍ) جملة في محلّ جرّ صفة لـ"امرأة".
قال في "الفتح": قوله: "تتوضّأ" يحتمل أن يكون على ظاهره، ولا يُنكَر كونها تتوضأ حقيقةً؛ لأن الرؤيا وقعت في زمن التكليف، والجنة وإن كان لا تكليف فيها فذاك في زمن الاستقرار، بل ظاهر قوله:"تتوضأ إلى جانب قصر" أنها تتوضأ خارجةً منه. أو هو على غير الحقيقة، ورؤيا المنام لا تُحمَل دائمًا على الحقيقة، بل تحتمل التأويل، فيكون معنى كونها تتوضأ أنها تحافظ في الدنيا على العبادة، أو المراد بقوله:"تتوضأ": أي تستعمل الماء لأجل الوَضَاءة على مدلوله اللغوي، وفيه بُعْدٌ، وأغرب ابن قتيبة، وتبعه الخطابيّ، فزعم أن قوله:"تتوضأ" تصحيف وتغيير من الناسخ، وإنما الصواب امرأة شَوْهَاء، ولم يَستَنِد في هذه الدعوى إلا على استبعاد أن يَقَع في الجنة وضوء؛ لأنه لا عمل فيها، وعدم الاطلاع على المراد من الخبر، لا يقتضي تغليط الحفاظ.
ثم أخذ الخطابي في نقل كلام أهل اللغة في تفسير الشَّوْهاء، فقيل: هي الحسناء، ونقله عن أبي عبيدة، وإنما تكون حسناء إذا وُصفت بها الفرس، قال الجوهريّ: فَرَسٌ شوهاء صفة محمودة، والشوهاء الواسعة الفم، وهو مستحسن في الخيل، والشوهاء
(1) راجع "حاشية الخضري على شرح ابن عقيل على الخلاصة" 1/ 221 - 222.
من النساء القبيحة، كما جزم به ابن الأعرابي وغيره.
وقد تعقب القرطبي كلام الخطابي، لكن نسبه إلى ابن قتيبة فقط، قال ابن قتيبة بدل "تتوضأ" شوهاء، ثم نقل أن الشوهاء تُطلَق على القبيحة والحسناء.
قال القرطبيّ: ووضوء هذه المرأة في الجنّة إنما هو لتزداد حُسْنًا ونورًا، لا لتزيل وَسَخًا، ولا قَذَرًا؛ إذ الجنة مُنّزَّهة عن ذلك، وهذا كما قال في الحديث الآخر:"أمشاطهم الذهب، ومَجَامِرُهم الأَلُوّة"، متّفقٌ عليه (1).
وقال في "الفتح"(2): وقد ترجم عليه البخاري في "كتاب التعبير"- "باب الوضوء في المنام"، فبطل ما تخيله الخطابي. انتهى.
وقال الكرمانيّ: قوله: "تتوضأ" من الوضاءة، وهي النظافة والحسن، ويحتمل أن يكون من الوضوء، ولا يَمنع من ذلك كون الجنّة ليست دار تكليف؛ لجواز أن يكون على غير التكليف.
وقال الحافظ في موضع آخر من "الفتح"(3): ويحتمل أن لا يراد وقوع الوضوء منها حقيقة؛ لكونه منامًا، فيكون مثالًا لحالة المرأة المذكور، وقد ثبت أنها أم سليم، وكانت في قيد الحياة حينئذ، فرآها النبيّ صلى الله عليه وسلم في الجنّة إلى جانب قصر عمر رضي الله عنه، فيكون تعبيره بأنها من أهل الجنّة؛ لقول الجمهور من أهل التعبير: إن من رأى أنه دخل الجنة أنه يدخلها، فكيف إذا كان الرائي لذلك أصدق الخلق صلى الله عليه وسلم، وأما وضوؤها، فيُعبّر بنظافتها حسّا ومعنى، وطهارتها جسمًا وروحًا، وأما كونها إلى جانب قصر عمر رضي الله عنه، ففيه إشارة إلى أنها تُدرك خلافته، وكان كذلك.
ولا يُعارض هذا ما ثبت من أن رؤيا الأنبياء حقّ، والاستدلال على ذلك بغيرة
(1)"المفهم" 6/ 257 - 258.
(2)
"الفتح" 7/ 57 - 58.
(3)
هو في "كتاب التعبير" 12/ 519 - 520 الحديث رقم (7023 - 7024).
عمر؛ لأنه لا يلزم من كون المنام على ظاهره أن لا يكون بعضه يفتقر إلى تعبير، فإن رؤيا الأنبياء حقّ -يعني أنها ليست من أضغاث الأحلام- سواء كانت على حقيقتها، أو مثالًا. انتهى كلام الحافظ. قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا التأويل الذي ذكره الحافظ رحمه الله هو الأظهر عندي، يؤيّد ذلك أن ما يراه النبيّ صلى الله عليه وسلم وإن كان حقّا من نوع الوحي، إلا أن بعضه يقبل التأويل، كما في الحديث الذي أخرجه أحمد، والترمذيّ بسند حسن عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: تنفل رسول الله صلى الله عليه وسلم سيفه ذا الفقار يوم بدر، وهو الذي رأى فيه الرؤيا يوم أحد، فقال: رأيت في سيفي ذي الفقار فَلًّا، فأولته فَلًّا يكون فيكم، ورأيت أَنِّي مُرْدِفٌ كَبْشًا فأولته كبش الكَتِيبة، ورأيت أَني في دِرْعٍ حَصِينة فأولتها المدينة، ورأيت بَقَرًا تُذبَح فبقر والله خير، فبقر والله خير، فكان الذي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فقد وقع كل ما ذكره في هذا الحديث على التأويل، فلا يُستبعد أن يكون رؤيته في قصّة وضوء المرأة من هذا القبيل. والله تعالى أعلم.
(فَقُلْتُ: لمِنْ هَذَا الْقَصْرُ؟ فَقَالَتْ: لِعُمَرَ) هذا صريح في أنّ سؤاله صلى الله عليه وسلم كان موجّهًا إلى تلك المرأة، ولذا قال: فقالت، ووقع في حديث جابر رضي الله عنه عند البخاريّ بلفظ:"فقال"، وفي رواية الكشميهني:"فقالوا"، فقال في "الفتح": والظاهر أن المخاطب له بذلك جبريل أو غيره من الملائكة. انتهى. (فَذَكَرْتُ غَيْرَتَهُ) أي شدّة غيرته، وحِدّتها، قال الجرجاني:"الغيرة": كراهة شركة الغير في حقّه. انتهى (1). وقال الفيّوميّ: غار الرجل على امرأته، والمرأة على زوجها يَغار، من باب تعب غَيْرًا وغَيْرَةً، قال ابن السّكّيت: ولا يقال: غِيرًا وغِيرَةً بالكسر، فالرجل غيورٌ، والمرأة غَيور أيضًا، وغَيْرَى. انتهى (2).
(1) راجع "التعريفات" للشريف الجرجاني " ص 116".
(2)
"المصباح المنير" 2/ 458.
ووقع في حديث جابر رضي الله عنه عند الشيخين بلفظ: "فذكرت غيرتك" بكاف الخطاب، وفي رواية للبخاريّ في "النكاح":"فأردت أن أدخله، فلم يَمنعني إلا علمي بغيرتك". ووقع في رواية ابن عيينة عن ابن المنكدر وعمرو بن دينار جميعا عن جابر، في هذه القصة الأخيرة:"دخلت الجنة، فرأيت فيها قَصْرًا، يُسمَع فيه ضَوْضَاء، فقلت: لمن هذا؟ فقيل: لعمر".
و"الضوضاء" -بمعجمتين مفتوحتين، بينهما واو، وبالمد-: أصوات الناس.
(فَوَلَّيْتُ مُدْبِرًا) حال مؤكّدٌ لعامله، كما قال في "الخلاصة":
وَعَامِلُ الْحَالِ بِهَا قَدْ أُكِّدَا
…
في نَحْوِ لا تَعْثُ في الأَرْضِ مُفْسِدَا
(قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه (فَبَكَى عُمَرُ بْنُ الخطَّابِ) رضي الله عنه، وفي رواية للبخاريّ:"فبكى عمر، وهو في المجلس". وعند ابن حبّان: "قال أَبو هريرة: فبكى عمر، ونحن جميعًا في ذلك المجلس
…
".
قال ابن بطّال: بكاء عمر رضي الله عنه يَحتَمِل أن يكون سرورًا، ويحتمل أن يكون تشوقًا، أو خشوعًا.
ووقع في رواية أبي بكر بن عياش، عن حميد، من الزيادة:"فقال عمر: وهل رفعني الله إلا بك، وهل هداني الله إلا بك". قال الحافظ: رويناه في "فوائد عبد العزيز الحربي"، من هذا الوجه، وهي زيادة غريبة. انتهى (1).
(فَقَالَ: أَعَلَيْكَ) وقوله: (بأَبِي وَأُمِّي) متعلّق بفعل محذوف: أي أَفْديك بأبي وأمي، وهو معترض بين العامل ومعموله، مثل قوله:(يَا رَسُولَ الله أَغَارُ) بفتح الهمزة، من غار يغار، من باب تَعِب، كما قدّمناه آنفًا. والمعنى: أأغار علىَ فعلك؟، أو دخولك؟. وقيل: في الكلام قَلْبٌ، والأصل أعليها أغار منك". وقال الكرمانيّ: لفظ "عليك" ليس متعلّقًا بـ "أغار"، بل التقدير مستعليًا عليك أغار عليها، قال: ودعوى القياس
(1)"الفتح" 7/ 57.
المذكور ممنوعة؛ إذ لا مُحرج إلى ارتكاب القلب مع وضوح المعنى بدونه. ويحتمل أن يكون أطلق "على" وأراد "مِنْ"، كما قيل: إن حروف الجرّ تتناوب. انتهى (1).
[تنبيه]: قصّة عمر رضي الله عنه هذه رويت من حديث أبي هريرة، وجابر، وأنس، وبريدة ابن الحصيب رضي الله عنه:
فأما حديث أبي هريرة فقد تقدّم، وأما حديث جابر فأخرجه الشيخان، وغيرهما، ولفظ البخاريّ: من طريق عبيد الله بن عمر، عن محمد بن المنكدر، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، قال: قال صلى الله عليه وسلم: "دخلت الجنة، فإذا أنا بقصر من ذهب، فقلت لمن هذا؟ فقالوا لرجل من قريش؟ فما منعني أن أدخله يا ابن الخطاب، إلا ما أعلم من غيرتك"، قال: وعليك أغار يا رسول الله".
وأما حديث أنس رضي الله عنه فأخرجه الترمذيّ من رواية حميد، عن أنس رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "دخلت الجنة، فإذا أنا بقصر من ذهب، فقلت: لمن هذا القصر؟ قالوا: لشاب من قريش، فظننت أني أنا هو، فقلت: ومن هو؟ فقالوا: عمر بن الخطاب". قال أَبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح، وهو كما قال.
وأخرجه أحمد مطوّلًا من رواية قتادة، قال: حدثنا أنس: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "بينما أنا أسير في الجنة، فإذا أنا بقصر، فقلت: لمن هذا يا جبريل؟، ورجوت أن يكون لي، قال: قال: لعمر، قال: ثم سرت ساعة، فإذا أنا بقصر خير من القصر الأول، قال: فقلت: لمن هذا يا جبريل؟ ورجوت أن يكون لي، قال: قال: لعمر، وإن فيه لمن الحور العين يا أبا حفص، وما منعني أن أدخله إلا غيرتك"، قال: فاغرورقت عينا عمر، ثم قال: أما عليك فلم أكن لأغار.
وأما حديث بريدة، فأخرجه أحمد، والترمذيّ من طريق عليّ بن الحسين بن واقد، قال: حدثني أبي، حدثني عبد الله بن بريدة، قال: حدثني أبي بريدة، قال: أصبح رسول
(1) راجع "الفتح" 6/ 52.
الله صلى الله عليه وسلم، فدعا بلالًا، فقال: يا بلال بم سبقتني إلى الجنة؟ ما دخلت الجنة قط إلا سمعت خَشْخَشَتك (1) أمامي، دخلت البارحة الجنة، فسمعت خشخشتك أمامي، فأَتيت على قصر مُرَبَّع مُشْرِف من ذهب، فقلت: لمن هذا القصر؟ فقالوا: لرجل من العرب، فقلت: أنا عربي، لمن هذا القصر؟ قالوا: لرجل من قريش، قلت: أنا قرشي، لمن هذا القصر؟ قالوا: لرجل من أمة محمد صلى الله عليه وسلم، قلت: أنا محمد صلى الله عليه وسلم لمن هذا القصر؟ قالوا: لعمر بن الخطاب، فقال بلال: يا رسول الله ما أَذَّنتُ قط إلا صليت ركعتين، وما أصابني حدث قط إلا توضأت عندها، ورأيت أن لله علي ركعتين، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"بهما". قال أَبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح غريب. وهو صحيح كما قال.
قال: ومعنى هذا الحديث: أني دخلت البارحة الجنة -يعني رأيت في المنام كأني دخلت الجنة، هكذا رُوي في بعض الحديث، ويُروَى عن ابن عباس أنه قال:"رؤيا الأنبياء وحي"، انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): في درجته:
حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا (12/ 107) بهذا السند فقط، وأخرجه (البخاريّ) في "بدء الخلق"(3242) و"المناقب"(3680) و"النكاح"(5225) و"التعبير"(7023) و (مسلم) في "فضائل الصحابة"(2395) و (النسائيّ) في "فضائل الصحابة"(8074) و (أحمد) في "مسنده" 2/ 339 (8265) و (ابن حبّان) في "صحيحه"(6888). وقد تقدّم من حديث أنس رضي الله عنه، أخرجه ابن أبي شيبة في "مصنّفه" 12/ 27 و (أحمد)
(1)"الخشخشة": صوت المشي بالنعال.
3/ 107 و 179 و 191 و 263 و (الترمذيّ) في "المناقب" 3688 و (النسائيّ) في "فضائل الصحابة"(8072) و (ابن حبّان) في "صحيحه"(54 و 6887).
ومن حديث جابر رضي الله عنه أخرجه (الحميديّ) في "مسنده"(1235) و (1236) و (ابن أبي شيبة) 12/ 28 و (أحمد) 3/ 309 و 372 و 389 و (البخاريّ) 5/ 12 و 7/ 46 و 9/ 50 و (مسلم) 7/ 114 و (النسائيّ) 8070 و 8071 و 8072 و (ابن حبان)(6886) و (البغويّ) في "شرح السنة"(3878)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله، وهو بيان فضل عمر رضي الله عنه، وهي فضيلة ظاهرة له رضي الله عنه.
2 -
(ومنها): إثبات البشرى بالرؤيا، ولا سيّما رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم، لأن رؤيا الأنبياء وحي، وقد أخرج الشيخان وغيرهما عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لم يبق من النبوة إلا المبشرات"، قالوا: وما المبشرات؟ قال: "الرؤيا الصالحة".
وأخرجا أيضًا عن أنس بن مالك عن عبادة بن الصامت رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "رؤيا المؤمن جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة"(1).
3 -
(ومنها): جواز ذكر الرجل بما عُلِمَ من خلقه، كغيرة عمر رضي الله عنه. و (منها): ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم من مراعاة حقّ الصحبة، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام ابن ماجه رحمه الله في أول الكتاب قال:
108 -
(حَدَّثَنَا أَبُو سَلَمَةَ يَحْيَى بْنُ خَلَفٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْأَعْلَى، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ مَكْحُولٍ، عَنْ غُضَيْفِ بْنِ الحارِثِ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "إِنَّ الله وَضَعَ الحقَّ عَلَى لِسَانِ عُمَرَ يَقُولُ بِهِ").
(1) سيأتي للمصنف برقم (3893).
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(أَبُو سَلمَة يَحْيَى بْنُ خَلفٍ) الباهليُّ البصري، المعروف بالْجُوبَاريّ (1) -بضم الجيم، وسكون الواو، ثم موحّدة- صدوقٌ [10].
رَوَى عن عبد الأعلى بن عبد الأعلى، وعبد الوهاب الثقفيّ، ومعتمر بن سليمان، ومحمد بن أبي عديّ، وعبد الله بن مسلم، وعمر بن علي المقّدّمي، وغيرهم.
وروى عنه مسلم، وأبو داود، والترمذي، وابن ماجه، وأبو بكر بن أبي عاصم، وأبو بكر البزار، وأبو بكر بن أبي الدنيا، والمعمري، والحسن بن عُلَيل، وبكر بن محمد البزار، وجعفر بن أحمد بن فارس، وأبو خليفة، وآخرون.
ذكره ابن حبان في "الثقات". وقال موسى بن هارون: بلغنا موته بالبصرة سنة اثنتين وأربعين ومائتين. وله في هذا الكتاب (11) حديثًا.
2 -
(عَبْدُ الْأَعْلَى) بن عبد الأعلى بن محمد، وقيل: ابن شَرَاحيل القرشيّ البصريّ الساميّ، من بني سامة بن لؤي، أَبو محمد، ويُلَقّب أبا همام، وكان يغضب منه، ثقة [8].
روى عن حميد الطويل، ويحيى بن أبي إسحاق الحضرميّ، وعبيد الله بن عمر، وداود بن أبي هند، وخالد الحذاء، وابن إسحاق، وجماعة.
وروى عنه إسحاق بن راهويه، وأبو بكر بن أبي شيبة، وعلي بن المديني، وعمرو ابن علي الصيرفي، وإبراهيم بن موسى الرازي، وعبيد الله بن عمر القواريري، وغيرهم.
قال ابن معين، وأبو زرعة: ثقة. وقال أَبو حاتم: صالح الحديث. وقال النسائي: لا بأس به. وقال أحمد: كان يرى القدر. وقال ابن سعد: لم يكن بالقوي. وقال ابن أبي خيثمة: ثنا عبيد الله بن عمر، ثنا عبد الأعلى قال: فرغت من حاجتي من سعيد -يعني
(1)"الْجُوباريّ": نسبة إلى جُوبار قرية بمرو، وبهراة، وبجُرْجان، وجُوبارة محلة بأصبهان. قاله في "لبّ اللباب" 1/ 218.
ابن أبي عروبة- قبل الطاعون. -يعني أنه سمع منه قبل الاختلاط. وقال العجليّ: بصري ثقة. وقال ابن خلفون: يقال: إنه سمع من سعيد بن أبي عروبة قبل اختلاطه، وهو ثقة. قاله ابن نمير، وابن وضاح، وغيرهما. وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: كان متقنًا في الحديث، داعية إليه.
قال عمرو بن علي، وابن حبّان: مات سنة (198) في شعبان.
أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (47) حديثًا.
3 -
(مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ) بن يسار المطلبيّ مولاهم، أَبو بكر المدنيّ، نزيل العراق، إمام المغازي، صدوق يدلّس، ورمي بالتشيّع والقدر، من صغار [5] تقدّم في 4/ 35.
4 -
(مَكْحُولٌ) الشاميّ، أَبو عبد الله، ويقال: أَبو أيوب، ويقال: أَبو مسلم الدمشقيّ، ثقة فقيهٌ، كثير الإرسال، مشهور [5].
روى عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلًا، وعن أبي بن كعب، وثوبان، وعبادة بن الصامت، وأبي هرير،، وعائشة، وأم أيمن، وأبي ثعلبة الْخُشَني مرسلًا أيضًا، وعن أنس، وواثلة ابن الأسقع، وأبي أمامة، ومحمود بن الربيع، وعبيد الله بن محُيريز، وعنبسة بن أبي سفيان، وجبير بن نفير، وسليمان بن يسار، وشرحبيل بن السمط، وغيرهم.
وروى عنه الأوزاعيّ، وعبد الرحمن بن يزيد بن جابر، وثور بن يزيد الحمصي، وسليمان بن موسى، ويزيد بن يزيد بن جابر، ومحمد بن إسحاق، وآخرون.
ذكره ابن سعد في الطبقة الثالثة من تابعي أهل الشام. وقال الدُّوري عن ابن معين: قال أَبو مسهر: لم يسمع مكحول من عنبسة بن أبي سفيان، ولا أدري أدركه أم لا. وقال أَبو حاتم: قلت لأبي مسهر: هل سمع مكحول من أحد من الصحابة؟ قال: من أنس، قلت: قيل سمع من أبي هند، قال: من رواه؟ قلت: حيوة عن أبي صخرة، عن مكحول أنه سمع أبا هند، فكأنه لم يلتفت إلى ذلك، فقلت له: فواثلة بن الأسقع؟ فقال: من يرويه؟ قلت: حدثنا أَبو صالح، حدثني معاوية بن صالح، عن العلاء بن
الحارث، عن مكحول، قال: دخلت أنا وأبو الأزهر على واثلة، فكأنه أومى برأسه (1).
وقال الترمذي: سمع مكحول من واثلة، وأنس، وأبي هند الداريّ، ويقال: إنه لم يسمع من واحد من الصحابة إلا منهم.
وقال النسائي: لم يسمع من عنبسة. وقال يحيى بن حمزة عن أبي وهيب الكلاعي، عن مكحولى: عَتَقْتُ بمصر، فلم أَدَع فيها علمًا إلا احتويت عليه فيما أَرَى، ثم أتيت العراق والمدينة والشام، فذكر كذلك. وقال ابن زَبْر عن الزهري: العلماء أربعة، فذكرهم، فقال: ومكحول بالشام. وقال يونس بن بُكير عن ابن إسحاق: سمعت مكحولًا يقول: طُفت الأرض كلها في طلب العلم. وقال أَبو مسهر، عن سعيد بن عبد العزيز: كان سليمان بن موسى يقول: إذا جاء العلمُ من الشام عن مكحول قبلناه. وقال مروان بن محمد عن سعيد: لم يكن في زمان مكحول أبصر منه بالفتيا. وقال عثمان بن عطاء: كان مكحول أعجميا، وكلُّ ما قال بالشام قُبِل منه. وقال ابن عمار: كان مكحول إمام أهل الشام. وقال العجلي: تابعي ثقة.
وقال ابن خِراش: شامي صدوق، وكان يرى القدر. وقال مروان بن محمد، عن الأوزاعي: لم يبلغنا أن أحدًا من التابعين تكلم في القدر إلا هذين الرجلين: الحسن، ومكحول، فكشفنا عن ذلك، فإذا هو باطل. وقال أَبو حاتم: ما أعلم بالشام أفقه من مكحول. وقال ابن سعد: قال بعض أهل العلم: كان مكحول من أهل كابُل، وكانت فيه لُكْنَة، وكان يقول بالقدر، وكان ضعيفًا في حديثه ورأيه.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: قوله: قوله: "وكان ضعيفا في حديثه، هذا مما لا يُقبل، فإن مكحولًا مجمع على توثيقه وجلالته، إلا أنه طُعن في رأيه، ولكنه تبرأ منه، فماذا عليه؟. فتبصّر. والله تعالى أعلم.
وقال أَبو داود: سألت أحمد، هل أَنكر أهل النظر على مكحول شيئًا، قال: أنكروا
(1) بقية كلام أبي حاتم كما في "الجرح والتعديل" 8/ 408: كأنه قَبِل ذلك.
عليه مجالسة علان، ورموه به، فبرأ نفسه، بأن نَحّاه. وقال الجوزجاني: يتوهم عليه القدر، وهو ينتفي عنه. وقال يحيى بن معين: كان قدريا ثم رجع. وقال ابن حبان في "الثقات": ربما دلّس.
وقال ابن يونس: ذُكر أنه من أهل مصر، ويقال: كان لرجل من هُذيل من أهل مصر، فأعتقه، فسكن الشام، ويقال: كان من آل فارس، ويقال: كان اسم أبيه شهراب، وكان مكحول يُكنى أبا مسلم، وكان فقيهًا عالمًا، رأى أبا أمامة، وأنسا، وسمع من واثلة، يقال: تُوفي سنة ثماني عشرة ومائة. وقال أَبو نعيم: مات سنة اثنتي عشرة، وفيها أرّخه دُحَيم، وغير واحد. قال أَبو مسهر: مات بعد سنة اثنتي عشرة، وعنه: مات سنة ثلاث عشرة، أو أربع عشرة. وكذا قال الحسن بن محمد بن بكار بن بلال. وقال سليمان ابن عبد الرحمن: مات سنة ثلاث عشرة. وقال ابن سعد: مات سنة ست عشرة. وعن عمر بن سعيد الدمشقي: سنة ثمان عشرة.
أخرج له البخاريّ في "جزء القراءة"، والباقون، وله في هذا الكتاب (19) حديثًا.
5 -
(غُضَيْفُ بْنُ الحارِثِ) ويقال: غُطيف بن الحارث بن زُنَيم السَّكُونيّ الكِنْديّ، ويقال: الثُّمَاليُّ، أَبو أسماء الحمصيّ، مختلف في صحبته.
روى عن بلال المؤذن، وعمر بن الخطاب، وأبي عبيدة بن الجراح، وأبي ذر، وأبي الدرداء، وأبي حُمَيضة الْمُزنيّ، وعطية بن بشر، وعائشة.
وروى عنه ابنه عياض بن غضيف بن الحارث، ومكحول، وعُبَادة بن نُسَيّ، وسُليم بن عامر، وشُرَحبيل بن مسلم، وأزهر بن سعيد الْحَرَازِيّ، وحبيب بن عبيد الرَّحَبيّ، وعبد الله بن أبي قيس، وعبد الرحمن بن عائذ الثُّماليّ.
قال ابن أبي حاتم: قال أبي، وأبو زرعة: غضيف بن الحارث له صحبة. وقال ابن سعد في الطبقة الأولى من تابعي أهل الشام: غضيف بن الحارث الكِنْديّ كان ثقة. وقال العجلي: غضيف بن الحارث شامي، تابعي ثقة. وقال الدارقطني: ثقة من أهل
الشام. وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال في حرف العين: عياض بن غُضَيف، وهو الذي يقول فيه سُلَيم بن عامر: غضيف بن الحارث، لم يَضْبِط اسمه. ووقع في رواية النسائي من طريق الوليد بن عبد الرحمن، عن عياض بن غطيف، عن أبي عبيدة بن الجراح، وقال مكحول: عن غطيف بن الحارث مررت بعمر بن الخطاب، فقال: نعم الفتى غطيف بن الحارث.
قال الهيثم بن عدي، وخليفة بن خياط: مات في زمن مروان بن الحكم. وقال غيرهما: بقي إلى زمن عبد الملك بن مروان، وهو الصحيح.
قال الحافظ رحمه الله: الذي روى عنه ابنه عياض غير صاحب الترجمة، كما سأبينه؛ لأن البخاري قال في "تاريخه الأوسط": حدثنا عبد الله -يعني بن صالح- حدثنا معاوية، عن أزهر بن سعيد، قال: سأل عبد الملك بن مروان غضيفَ بن الحارث الثُّمالي، وهو أَبو أسماء السَّكُوني الشامي، أدرك النبي صلى الله عليه وسلم. وقال الثوري في حديثٍ: غضيفُ بن الحارث، وهو وَهَمٌ. وقال في "التاريخ الكبير": قال مَعْنٌ -هو ابن عيسى- عن معاوية -يعني بن صالح- عن يونس بن سيف، عن غضيف بن الحارث، أو الحارث بن غضيف السَّكوني قال: مهما نَسِيت من الأشياء، فإني لم أنس أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم واضعًا يده اليمني على اليسرى في الصلاة. وقال ابن حبان في "الصحابة": غضيف بن الحارث الثُّمالي، أَبو أسماء السكوني، من أهل اليمن، رأى النبي صلى الله عليه وسلم يصلي واضعًا يده اليمني على اليسرى في الصلاة، سكن الشام، وحديثه عند أهلها، مات في زمن مروان بن الحكم في فتنته، ومن قال: إنه الحارث بن غضيف، فقد وَهِمَ. وقال أَبو بكر بن أبي خيثمة: غضيف بن الحارث، وقيل: الحارث بن غضيف، والصحيح غضيف، وقيل: الحارث، له صحبة، نزل الشام، وهو بالضاد، فأما غطيف الْكِنْديّ، فهو بالطاء، فهو غير هذا، يروي عنه ابنه عياض بن غطيف، قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا شرب الرجل الخمر فاجلدوه
…
" الحديث.
وقال أَبو الفتح الأزدي: غطيف بن الحارث له صحبة، تفرد عنه ابنه عياض.
وممن فرق بينهما أيضًا أَبو القاسم، عبد الصمد القاضي في "تاريخ الصحابة الذين نزلوا حِمْصَ"، وأبو القاسم الطبراني في "المعجم الكبير"، وغيرهما.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: قد تبيّن بما ذُكر مما قاله الأكثرون أن صاحب الترجمة تابعيّ ثقة، وأما الذي روى عنه ابنه عياض، فرجل آخر صحابيّ، فليُتنبّه. والله تعالى أعلم.
أخرج له البخاري في "الأدب المفرد"، وأبو داود، والنسائيّ، والمصنّف، وله في هذا الكتاب حديثان فقط، برقم (108) و (1354).
6 -
(أَبو ذرّ) الْغِفَاريّ، قيل: اسمه جُنْدب بن جُنَادة بن قيس بن عمرو بن مُلَيل ابن صُعَيْر بن حَرَام بن عَفّان، وقيل: اسمه بُرَير بن جُنَادة، وقيل: ابن جُندب، وقيل: ابن عِشْرَقة، وقيل: ابن جُندب بن عبد الله، وقيل: ابن السكن، وكان أخا عَمْرو بن عَبَسة السُّلَميّ لأمه.
روى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعنه أنس بن مالك، وابن عباس، وخالد بن وُهبان ابن خَالة أبي ذر، وقيل: وهبان بن امرأة أبي ذر، وقيل: ابن أخته، وزيد بن وهب الجهني، وخَرَشة بن الْحُرّ، وجُبير بن نُفير، والأحنف بن قيس، وعبد الله بن الصامت، وزيد بن ظبيان، وعبد الله بن شقيق، وعمرو بن ميمون، وعبد الرحمن بن غَنْم، وقيس بن عُبَاد، وأبو إدريس الخولاني، وأبو أسماء الرحبي، وأبو عثمان النهدي، وأبو الأسود الديلي، والمعرور بن سويد، ويزيد بن شريك التيمي، وأبو بصرة الغفاري، وأبو سالم الجيشاني، أَبو مُرَاوح الغِفَاري، وزِرّ بن حُبَيش، ورِبْعي بن حِرَاش، وعبد الرحمن بن شِمَاسة الْمُهْريّ، وخلق كثير.
وقصّة إسلامه مشهورة في "الصحيحين"، ويقال: إن إسلامه كان بعد أربعة، وانصرف إلى بلاد قومه، فأقام بها حتى قدِم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، ومضت بدر وأحدٌ، ولم تتهيّأ له الهجرة إلا بعد ذلك، وكان طويلًا أسمر اللون نحيفًا.
وأخرج أحمد في "مسنده" من طريق عِراك بن مالك قال: قال أَبو ذر رضي الله عنه: إني
لأقربكم يوم القيامة من رسول الله صلى الله عليه وسلم، إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"إن أقربكم مني يوم القيامة مَنْ خَرَج من الدنيا كهيئته يوم تركته عليه"، وإنه والله ما منكم من أحد إلا وقد تَشَبّثَ منها بشيء غيري. رجاله ثقات، إلا أن فيه انقطاعًا؛ لأن عراكًا لم يسمع من أبي ذرّ.
وأخرج أحمد والترمذيّ عن عبد الله بن عمرو، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما أظلت الخضراء، ولا أقلت الغبراء، من رجل أصدق لهجة من أبي ذر"(1).
وفي الباب عن أبي الدرداء، وأبي هريرة، وغيرهما. قال أَبو إسحاق عن هانئ بن هانئ، عن علي رضي الله عنه: أَبو ذر وِعاءٌ مُليَء علمًا أُوكِىء عليه، فلم يخرج منه شيء. وقال الآجري عن أبي داود: لم يشهد بدرًا، ولكن عمر ألحقه، وكان يوازي ابن مسعود في العلم.
قال خليفة، وعمرو بن علي، وغير واحد: مات بالرَّبَذَة سنة اثنتين وثلاثين، زاد المدائني "وصَلَّى عليه ابن مسعود، ثم مات بعده بيسير. ومناقبه وفضائله كثيرة جدّا.
أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (37) حديثًا، والله تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من سداسيّات المصنّف رحمه الله.
2 -
(ومنها): أن رجاله من رجال الصحيح، غير شيخه، فقد تفرّد به، وهو صدوقٌ، وغضيف بن الحارث، فتفرد به هو، وأبو داود، والنسائي، وهو ثقة.
3 -
(ومنها): أن هذا الباب أول محلّ ذكرهم، غير ابن إسحاق، وجملة ما رواه المصنف لشيخه يحيى (11) ولعبد الأعلى (47) ولمكحول (19) وغضيف حديثان فقط، ولأبي ذرّ رضي الله عنه (37) حديثًا.
4 -
(ومنها): أن فيه ثلاثة من التابعين يروي بعضهم عن بعض: ابن إسحاق، عن مكحول، عن غضيف.
(1) حديث صحيح، أخرجه أحمد في "مسنده"(6341) و"الترمذيّ"(3737).
5 -
(ومنها): أن أبا ذرّ رضي الله عنه من أوائل من أسلم من الصحابة رضي الله عنهم، جَمّ المناقب، والله تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنْ أَبِي ذَرٍّ) الغفاريّ رضي الله عنه، أنه (قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: إِنَّ الله وَضَعَ الْحَقَّ) وفي حديث ابن عمر رضي الله عنهما عند الترمذيّ: "إن الله جعل الحقّ على لسان عمر وقلبه". قال الطيبيّ: ضمّن "جعل" معنى "أجرى" فعدّاه بـ"على"، وفيه معنى ظهور الحقّ، واستعلائه على لسانه، وفي وضع الجعل والوَضْعِ موضع أَجْرَى إشعار بأن ذلك كان خلقيّا ثابتًا مستقرّا. انتهى (1).
(عَلَى لِسَانِ عُمَر) بن الخطاب رضي الله عنه، قال السنديّ رحمه الله: قيل تعديته بـ"على" لتضمينه معنى الإجراء، وفيه معنى الظهور. انتهى (2). (يَقُولُ بِهِ) أي بالحقّ، أو التقدير: يقول الحقَّ بسبب ذلك الوضع، والجملة استئناف بيانيّ، أو حال.
[تنبيه]: أخرج الإمام أحمد رحمه الله في "مسنده" سبب تحديث أبي ذرّ رضي الله عنه لغضيف بهذا الحديث، فقال:
حدثنا يزيد، حدثنا محمد بن إسحاق، عن مكحول، عن غُضيف بن الحارث، رجلٍ من أيلة، قال: مررت بعمر بن الخطاب، فقال: نعم الغلام، فاتبعني رجل ممن كان عنده، فقال: يا ابن أخي ادع الله لي بخير، قال: قلت: ومن أنت يرحمك الله؟ قال: أنا أَبو ذر صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: غفر الله لك، أنت أحق أن تدعو لي مني لك، قال: يا ابن أخي إني سمعت عمر بن الخطاب حين مررتَ به آنفًا يقول: نعم الغلام، وسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"إن الله وضع الحق على لسان عمر يقول به"(3).
وأخرج أيضًا من طريق خارجة بن عبد الله الأنصاري، عن نافع، عن ابن عمر،
(1)"الكاشف عن حقائق السنن" 12/ 3859.
(2)
"شرح السندي" 1/ 78.
(3)
حديث صحيح.
عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله عز وجل جعل الحق على قلب عمر ولسانه"، قال: وقال ابن عمر: ما نزل بالناس أمر قط، فقالوا فيه، وقال فيه عمر بن الخطاب، أو قال عمر إلا نزل القرآن على نحو مما قال عمر (1). والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسألتان تتعلقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): في درجته:
حديث أبي ذرّ رضي الله عنه هذا صحيح.
[فإن قلت]: كيف يصحّ، وفي سنده محمد بن إسحاق، وهو مدلّس، وقد عنعنه؟.
[قلت]: لم ينفرد به ابن إسحاق، فقد أخرجه الإمام أحمد في "مسنده" 5/ 145 عن يونس وعفّان قالا: حدّثنا حماد بن سلمة، عن بُرْد أبي العلاء، عن عبادة بن نُسيّ، عن غضيف بن الحارث به، وهذا إسناد صحيح، رواته ثقات، وبرد بن سنان وإن روي تضعيفه عن ابن المدينيّ، إلا أن الجمهور على توثيقه، انظر ترجمته في "تهذيب التهذيب" 1/ 217. وله شواهد من حديث ابن عمر رضي الله عنهما عند أحمد، كما ذكرته آنفًا، ومن حديث أبي هريرة رضي الله عنه عند أحمد أيضًا برقم (8846). وفي سنده ضعف.
والحاصل أن حديث أبي ذرّ رضي الله عنه هذا صحيح. والله تعالى أعلم.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا (12/ 108) بهذا السند فقط، وأخرجه (أَبو داود) في "الخراج والإمارة"(2962) و (أحمد) في "مسند الأنصار"(20484) و (20333) و (20562)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(1) حديث حسن، وخارجة بن عبد الله حسن الحديث، كما حققناه سابقا.