الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
34 - (بَابٌ في الْخَوَارِجِ)
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: في هذه التّرجمة مسألتان:
(المسألة الأولى): في معنى الخوارج، ومتى خرجوا؟، وبيان سبب خروجهم:
(اعلم): أن الخوارج جمع خارجة، أي طائفة، وهم قوم مبتدعون، سُمُّوا بذلك لخروجهم عن الدين، وخروجهم على خيار المسلمين، وأصل بدعتهم فيما حكاه الرافعي في "الشرح الكبير" أنهم خرجوا على علي رضي الله عنه حيث اعتقدوا أنه يَعْرِف قَتَلَة عثمان رضي الله عنه ويَقْدِر عليهم، ولا يَقْتَصّ منهم لرضاه بقتله، أو مواطأته إياهم، كذا قال، وهو خلاف ما أطبق عليه أهل الأخبار، فإنّه لا نزاع عندهم أن الخوارج لم يطلبوا بدم عثمان، بل كانوا ينكرون عليه أشياء، ويتبرءون منه، وأصل ذلك أن بعض أهل العراق أنكروا سِيرة بعض أقارب عثمان، فطَعَنوا على عثمان بذلك، وكان يقال لهم: القراء لشدة اجتهادهم في التلاوة والعبادة، إِلَّا أنهم كانوا يتأولون القرآن المراد منه ويستبدون برأيهم، ويتنطعون في الزهد والخشوع، وغير ذلك، فلما قُتِل عثمان قاتلوا مع علي، واعتقدوا كُفْرَ عثمان ومن تابعه، واعتقدوا إمامة علي وكفر من قاتله من أهل الجمل الّذي كان رئيسهم طلحة والزبير، فإنهما خرجا إلى مكّة بعد أن بايعا عليا، فلقيا عائشة وكانت حجت تلك السنة، فاتفقوا على طلب قَتَلَة عثمان.
وخرجوا إلى البصرة يدعون النَّاس إلى ذلك، فبلغ عليا، فخرج إليهم، فوقعت بينهم وقعة الجمل المشهورة، وانتصر على، وقُتل طلحة في المعركة، وقُتل الزُّبير بعد أن انصرف من الوقعة، فهذه الطائفة هي الّتي كانت تطلب بدم عثمان بالاتفاق، ثمّ قام معاوية بالشام في مثل ذلك، وكان أمير الشّام إذ ذاك، وكان عليٌّ أرسل إليه لأن يبايع له أهل الشّام، فاعتَلَّ بأن عثمان قُتل مظلومًا، وتجب المبادرة إلى الاقتصاص من قَتَلته، وأنه أقوى النَّاس على الطلب بذلك، ويلتمس من علي أن يُمَكِّنه منهم، ثمّ يبايع له بعد ذلك، وعلي يقول: ادخل فيما دخل فيه النَّاس، وحاكمهم إليّ أحكم فيهم بالحق، فلما طال الأمر خرج علي في أهل العراق طالبًا قتال أهل الشّام، فخرج معاوية في أهل الشّام
قاصدًا إلى قتاله، فالتقيا بصِفِّين، فدامت الحرب بينهما أشهرًا، وكاد أهل الشّام أن ينكسروا، فرفعوا المصاحف على الرماح، ونادَوْا ندعوكم إلى كتاب الله تعالى، وكان ذلك بإشارة عمرو بن العاص، وهو مع معاوية، فترك جمع كثير ممّن كان مع علي، وخُصُوصًا القراءُ القتالَ بسبب ذلك تديُّنًا، واحتجوا بقوله تعالى:{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ} الآية [آل عمران: 23]، فراسلوا أهل الشّام في ذلك، فقالوا: ابعثوا حَكَمًا منكم، وحَكَمًا مِنّا، ويحضر معهما من لم يباشر القتال، فمن رأوا الحق معه أطاعوه، فأجاب عليّ ومن معه إلى ذلك، وأنكرت ذلك تلك الطائفة الّتي صاروا خوارج، وكتب علي بينه وبين معاوية كتاب الحكومة بين أهل العراق والشام، هذا ما قاضى عليه أمير المؤمنين على معاوية، فامتنع أهل الشّام من ذلك، وقالوا: اكتبوا اسمه واسم أبيه، فأجاب عليّ إلى ذلك، فأنكره عليه الخوارج أيضًا، ثمّ انفصل الفريقان على أن يحضر الحكمان، ومن معهما بعد مدة عينوها في مكان وسط بين الشّام والعراق، ويرجع العسكران إلى بلادهم إلى أن يقع الحكم، فرجع معاوية إلى الشّام، ورجع علي إلى الكوفة، ففارقه الخوارج، وهم ثمانية آلاف، وقيل: كانوا أكثر من عشرة آلاف.
وقيل: ستة آلاف، ونزلوا مكانًا، يقال له: حَرُوراء -بفتح المهملة، وراءين الأولى مضمومة- ومن ثَمَّ قيل لهم: الحرورية، وكان كبيرهم عبد الله بن الْكَوَّاء -بفتح الكاف، وتشديد الواو، مع المد- اليشكريّ، وشَبَث -بفتح المعجمة، والموحدة، بعدها مثلثة- التميميّ، فأرسل إليهم عليٌّ ابنَ عبّاس، فناظرهم فرجع كثير منهم معه، ثمّ خرج إليهم عليّ فأطاعوه، ودخلوا معه الكوفة، معهم رئيساهم المذكوران، ثمّ أشاعوا أن عليا تاب من الحكومة، ولذلك رجعوا معه، فبلغ ذلك عليًّا، فخطب وأنكر ذلك، فتنادوا من جوانب المسجد لا حكم إِلَّا لله، فقال: كلمة حق يراد بها باطل، فقال لهم: لكم علينا ثلاث، أن لا نَمنعكم من المساجد، ولا من رزقكم من الفيء، ولا نبدؤكم بقتال ما لم تُحْدِثوا فسادًا، وخرجوا شيئًا بعد شيء إلى أن اجتمعوا بالمدائن، فراسلهم في
الرجوع، فأصروا على الامتناع حتّى يُشْهِد على نفسه بالكفر؛ لرضاه بالتحكيم، ويتوب، ثمّ راسلهم أيضًا فاستعرضوا النَّاس، فقتلوا من اجتاز بهم من المسلمين، ومر بهم عبد الله بن خباب بن الأرت، وكان واليًا لعلي على بعض تلك البلاد، ومعه سُرِّيَّة وهي حامل، فقتلوه وبَقَروا بطن سُرِّيته عن ولد، فبلغ عليا فخرج إليهم في الجيش الّذي كان هيأه للخروج إلى الشّام، فأوقع بهم بالنَّهْرَوان، ولم ينج منهم إِلَّا دون العشرة، ولا قُتل ممّن معه إِلَّا نحو العشرة، فهذا ملخص أول أمرهم.
ثمّ انضم إلى من بقي منهم مَنْ مال إلى رأيهم، فكانوا مختفين في خلافة علي، حتّى كان منهم عبد الرّحمن بن مُلْجِم الّذي قَتَل عليا بعد أن دخل علي في صلاة الصُّبح، ثمّ لمّا وقع صلح الحسن ومعاوية ثارت منهم طائفة، فأوقع بهم عسكر الشّام بمكان يقال له: النجيلة، ثمّ كانوا منقمعين في إمارة زياد وابنه عبيد الله على العراق، طول مدة معاوية وولده يزيد، وظفر زياد وابنه منهم بجماعة فأبادهم بين قتل وحبس طويل، فلما مات يزيد ووقع الافتراق، وولى الخلافة عبد الله بن الزبير، وأطاعه أهل الأمصار إِلَّا بعض أهل الشّام ثار مروان، فادَّعَى الخلافة، وغلب على جميع الشّام إلى مصر، فظهر الخوارج حينئذ بالعراق مع نافع بن الأزرق، وباليمامة مع نَجْدَة بن عامر، وزاد نَجْدة على مُعتَقَد الخوارج أن من لم يخرج ويحارب المسلمين فهو كافر، ولو اعتقد معتقدهم، وعَظُم البلاء بهم، وتوسعوا في معتقدهم الفاسد، فأبطلوا رجم المحصن، وقطعوا يد السارق من الإبط، وأوجبوا الصّلاة على الحائض في حال حيضها، وكَفَّروا من ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إن كان قادرًا.
وإن لم يكن قادرًا فقد ارتكب كبيرة، وحُكْمُ مرتكب الكبيرة عندهم حكم الكافر، وكَفُّوا عن أموال أهل الذِّمَّة، وعن التعرض لهم مطلقًا، وفَتَكُوا فيمن ينسب إلى الإسلام بالقتل والسبي والنَّهْب، فمنهم من يفعل ذلك مطلقًا بغير دعوة منهم، ومنهم من يدعو أولا ثمّ يَفتِك، ولم يزل البلاء بهم يزيد إلى أن أُمِّرَ المُهَلَّب بن أبي صُفْرة على قتالهم فطاولهم حتّى ظفر بهم، وتقلل جمعهم، ثمّ لم يزل منهم بقايا في طول الدولة
الأموية وصدر الدولة العباسية، ودخلت طائفة منهم المغرب.
وقد صنف في أخبارهم أبو مِخْنَف -بكسر الميم، وسكون المعجمة، وفتح النون، بعدها فاء- واسمه لوط بن يحيى كتابا لخصه الطّبريّ في "تاريخه"، وصنف في أخبارهم أيضًا الهيثم بن عديّ كتابًا، ومحمد بن قدامة الجوهري أحد شيوخ البخاريّ خارج "الصّحيح" كتابا كبيرًا، وجَمَعَ أخبارهم أبو العباس المبرد في كتابه "الكامل" لكن بغير أسانيد بخلاف المذكورين قبله.
قال القاضي أبو بكر بن العربي: الخوارج صنفان: أحدهما يزعم أن عثمان وعليا وأصحاب الْجَمَل وصِفِّين وكلُّ من رَضِي بالتحكيم كفار، والآخر يزعم أن كلّ من أتى كبيرة فهو كافر مخلد في النّار أبدًا.
وقال غيره: بل الصنف الأوّل مُفَرَّع عن الصنف الثّاني، لأن الحامل لهم على تكفير أولئك كونهم أذنبوا فيما فعلوه بزعمهم.
وقال ابن حزم: ذهب نَجْدة بن عامر من الخوارج إلى أن من أتى صغيرة عُذِّب بغير النّار، ومن أَدْمَن على صغيرة فهو كمرتكب الكبيرة في التخليد في النّار، وذكر أن منهم من غلا في معتقدهم الفاسد، فأنكر الصلوات الخمس، وقال: الواجب صلاة بالغداة، وصلاة بالعشي، ومنهم من جوّز نكاح بنت الابن، وبنت الأخ والأخت، ومنهم من أنكر أن تكون "سورة يوسف" من القرآن، وأن من قال: لا إله إِلَّا الله فهو مؤمن عند الله ولو اعتقد الكفر بقلبه.
وقال أبو منصور البغدادي في "المقالات": عِدَّة فِرَق الخوارج عشرون فرقة.
وقال ابن حزم: أسوؤهم حالًا الغلاة المذكورون، وأقربهم إلى قول أهل الحق الإباضية، منهم بقية بالمغرب.
وقد وردت بما ذُكِر من أصل حال الخوارج أخبار جياد، منها ما أخرجه عبد الرزّاق، عن معمر، وأخرجه الطّبريّ من طريق يونس كلاهما عن الزّهريّ، قال: لمّا نشر أهل الشّام المصاحف بمشورة عمرو بن العاص، حين كاد أهل العراق أن يغلبوهم،
هاب أهل الشّام ذلك إلى أن آل الأمر إلى التحكيم، ورجع كلّ إلى بلده إلى أن اجتمع الحكمان في العام المقبل بدُومَة الجندل، وافترقا عن غير شيء، فلمّا رجعوا خالفت الحرورية عليا، وقالوا: لا حكم إِلَّا لله.
وأخرج ابن أبي شيبة من طريق أبي رَزِين قال: لمَّا وقع الرضا بالتحكيم، ورجع علي إلى الكوفة اعتزلت الخوارج بحروراء، فبعث لهم عبدَ الله بنَ عبّاس فناظرهم، فلما رجعوا جاء رجل إلى علي، فقال: إنهم يتحدثون أنك أقررت لهم بالكفر؛ لرضاك بالتحكيم، فخطب وأنكر ذلك، فتنادوا من جوانب المسجد لا حكم إِلَّا لله.
ومن وجه آخر أن رءوسهم حينئذ الذين اجتمعوا بالنهروان: عبدُ الله بن وهب الراسبي، وزيد بن حِصْن الطائي، وحُرْقُوص بن زهير السعدي، فاتفقوا على تأمير عبد الله بن وهب. ذكر هذا كلّه في "الفتح"(1)، والله تعالى أعلم بالصواب.
(المسأله الثّانية): في اختلاف أهل العلم في تكفير الخوارج:
قال في "الفتح": استدل به -أي بحديث أبي سعيد الآتي بعد حديث- لمن قال بتكفير الخوارج، وهو مقتضى صنيع البخاريّ، حيث قَرَنهم بالملحدين، وأفرد عنهم المتأولين بترجمة، وبذلك صَرّح القاضي أبو بكر بن العربي في "شرح التّرمذيّ"، فقال: الصّحيح أنهم كُفّار لقوله صلى الله عليه وسلم: "يَمْرُقون من الإسلام"، ولقوله:"لأَقتُلَنَّهم قتل عاد"، وفي لفظ "ثمود" وكل منهما إنّما هلك بالكفر، وبقوله:"هم شر الخلق"، ولا يوصف بذلك إِلَّا الكفار، ولقوله:"إنهم أبغض الخلق إلى الله تعالى"، ولحكمهم على كلّ من خالف مُعتَقَدَهم بالكفر، والتخليدِ في النّار، فكانوا هم أحقَّ بالاسم منهم.
وممن جنح إلى ذلك من أئمة المتأخرين الشّيخ تقي الدين السبكي، فقال في "فتاويه": احتَجَّ من كَفَّر الخوارج، وغُلاة الروافض بتكفيرهم أعلامَ الصّحابة؛ لتضمنه تكذيب النّبيّ صلى الله عليه وسلم في شهادته لهم بالجنة، قال: وهو عندي احتجاجٌ صحيحٌ، قال واحتَجَّ
(1)"الفتح" 12/ 354 - 357 "كتاب استتابة المرتدين" رقم الحديث (6930 - 6932).
من لم يكفرهم بأن الحكم بتكفيرهم يَستَدْعِي تقدُّم علمهم بالشهادة المذكورة علمًا قطعيًّا، وفيه نظر؛ لأنا نعلم تزكية من كفَّروه علمًا قطعيا إلى حين موته، وذلك كاف في اعتقادنا تكفير من كفَّرهم، ويؤيده حديث:"مَنْ قال لأخيه يا كافر، فقد باء به أحدهما"، وفي لفظ مسلم:"مَنْ رَمَى مسلما بالكفر، أو قال: عدو الله إِلَّا حار عليه"، قال: وهؤلاء قد تحقق منهم أنهم يرمون جماعة بالكفر، ممّن حصل عندنا القطع بإيمانهم، فيجب أن يُحكَم بكفرهم بمقتضى خبر الشارع، وهو نحو ما قالوه فيمن سَجَدَ للصنم ونحوه، ممّن لا تصريح بالجحود فيه بعد أن فَسَّروا الكفر بالجحود، فإن احتجوا بقيام الإجماع على تكفير فاعل ذلك، قلنا: وهذه الأخبار الواردة في حق هؤلاء تقتضي كفرهم، ولو لم يعتقدوا تزكية من كَفَّروه علمًا قطعيًّا، ولا يُنجيهم اعتقاد الإسلام إجمالًا، والعملُ بالواجبات عن الحكم بكفرهم، كما لا يُنجي الساجد للصنم ذلك.
وممن جَنَحَ إلى بعض هذا البحث الطّبريّ في "تهذيبه"، فقال بعد أن سرد أحاديث الباب: فيه الردُّ على قول من قال: لا يَخرُج أحد من الإسلام من أهل القبلة بعد استحقاقه حكمه إِلَّا بقصد الخروج منه عالمًا فإنّه مبطل، لقوله في الحديث:"يقولون الحقّ، ويقرءون القرآن، ويَمرُقون من الإسلام، ولا يتعلّقون منه بشيء"، ومن المعلوم أنهم لم يرتكبوا استحلالَ دماء المسلمين وأموالهم إِلَّا بخطإ منهم فيما تأولوه من آي القرآن المرادَ منه، ثمّ أخرج بسند صحيح عن ابن عبّاس، وَذُكِرَ عنده الخوارج، وما يَلْقَون عند قراءة القرآن، فقال: يؤمنون بمحكمه، ويَهْلِكون عند متشابهه.
ويؤيد القول المذكور الأمرُ بقتلهم مع ما تقدّم من حديث ابن مسعود رضي الله عنه: "لا يحل قتل امرئ مسلم إِلَّا بإحدى ثلاث"، وفيه:"التارك لدينه المفارقُ للجماعة".
قال القرطبي في "المفهم": يؤيد القول بتكفيرهم التمثيل المذكور في حديث أبي سعيد رضي الله عنه يعني الآتي بعد حديث، فإن ظاهر مقصوده أنهم خَرَجُوا من الإسلام، ولم يتعلّقوا منه بشيء، كما خرج السهم من الرَّمِيَّة؛ لسرعته، وقُوَّة راميه، بحيث لم يتعلّق من الرَّمِيَّة بشيء، وقد أشار إلى ذلك بقوله:"سَبَقَ الفَرْثَ والدمَ".
وقال صاحب "الشفاء" فيه: وكذا نقطع بكفر كُلِّ من قال قولًا يتوصل به إلى تضليل الأمة، أو تكفير الصّحابة، وحكاه صاحب "الروضة" في "كتاب الردة" عنه، وأقرّه.
وذهب أكثر أهل الأصول من أهل السنة إلى أن الخوارج فُسَّاق، وأن حكم الإسلام يجري عليهم؛ لتلفظهم بالشهادتين، ومواظبتهم على أركان الإسلام، وإنما فَسَقُوا بتكفيرهم المسلمين، مُستندين إلى تأويل فاسد، وجَرَّهم ذلك إلى استباحة دماء مخالفيهم، وأموالهم، والشهادة عليهم بالكفر والشرك.
وقال الخطابي: أجمع علماء المسلمين على أن الخوارج مع ضلالتهم فرقة من فِرَق المسلمين، وأجازوا مناكحتهم، وأكل ذبائحهم، وأنهم لا يُكَفَّرون ما داموا متمسكين بأصل الإسلام.
وقال عياض: كادت هذه المسألة تكون أشدَّ إشكالا عند المتكلمين من غيرها، حتّى سأل الفقيه عبد الحق الإمامَ أبا المعالي عنها، فاعتذر بأن إدخال كافر في الملة، وإخراج مسلم عنها عظيم في الدين، قال: وقد توقف قبله القاضي أبو بكر الباقلاني، وقال: لم يُصَرِّح القوم بالكفر، وإنّما قالوا أقوالا تؤدي إلى الكفر.
وقال الغزالي في "كتاب التفرقة بين الإيمان والزندقة": والذي ينبغي الاحترازُ عن التكفير ما وَجَدَ إليه سبيلًا، فإن استباحة دماء المصلّين المقرين بالتوحيد خطأ، والخطأ في ترك ألف كافر في الحياة أهون من الخطأ في سفك دم لمسلم واحد.
ومما احتج به من لم يُكَفِّرهم قوله في حديث أبي سعيد أيضًا بعد وصفهم بالمروق من الدين كمروق السهم: "فينظر الرامي إلى سهمه
…
" إلى أن قال: "فيتمارى في الفُوقة هل عَلِقَ بها شيء".
قال ابن بطّال: ذهب جمهور العلماء إلى أن الخوارج غير خارجين عن جملة المسلمين؛ لقوله: "يتمارى في الفُوق"؛ لأن التماري من الشك، وإذا وقع الشك في ذلك لم يُقطَع عليهم بالخروج من الإسلام؛ لأن من ثبت له عقد الإسلام بيقين، لم يَخرُج منه
إِلَّا بيقين، قال: وقد سئل علي رضي الله عنه عن أهل النَّهْرَوان، هل كفروا؟ فقال: مِنَ الكفر فَرُّوا.
قال الحافظ: وهذا إن ثبت عن علي رضي الله عنه حُمِل على أنه لم يكن يتحقق على معتقدهم الّذي أوجب تكفيرهم عند من كَفَّرهم، وفي احتجاجه بقوله:"يتمارى في الفوق" نظر؛ فإن في بعض طرق الحديث المذكور: "لم يَعلَق منه بشيء"، وفي بعضها:"سَبقَ الفرث والدم".
وطريق الجمع بينهما أنه تردد هل في الفوق شيء أو لا؟ ثمّ تحقق أنه لم يَعلَق بالسهم ولا بشيء منه من الرمي بشيء.
ويمكن أن يُحمَل الاختلاف فيه على اختلاف أشخاص منهم، ويكون في قوله:"يتمارى" إشارة إلى أن بعضهم قد يبقى معه من الإسلام شيء.
قال القرطبي في "المفهم": والقول بتكفيرهم أظهر في الحديث، قال: فعلى القول بتكفيرهم يُقاتَلون، ويُقتلون، وتُسبَى أموالهم، وهو قول طائفة من أهل الحديث في أموال الخوارج، وعلى القول بعدم تكفيرهم يُسلَك بهم مسلك أهل البغي إذا شَقُّوا العصا، ونَصَبُوا الحرب، فأمّا من استسرّ منهم ببدعة، فإذا ظهر عليه هل يُقتَل بعد الاستتابة، أو لا يُقتَل بل يُجتَهد في رد بدعته، اختُلِف فيه بحسب الاختلاف في تكفيرهم، قال: وباب التكفير باب خطر، ولا نَعْدِل بالسلامة شيئا، انتهى، وقد سبق تحقيق القول في هذه المسألة في المسائل المذكورة أوّلَ "باب القدر"، فراجعه تستفد علمًا جمًّا، وبالله تعالى التوفيق.
وبالسند المُتّصل إلى الإمام ابن مَاجَه رحمه الله في أول الكتاب قال:
167 -
(حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ ابْنُ عُلَيَّةَ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، عَنْ عَبِيدَةَ، عَنْ عَليِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، قَالَ: وَذَكرَ الخوَارِجَ، فَقَالَ: فِيهِمْ رَجُلٌ مُخْدَجُ الْيَدِ، أَوْ مَوْدُونُ الْيَدِ، أَوْ مَثْدُونُ الْيَدِ، وَلَوْلَا أَنْ تَبْطَرُوا لحَدَّثْتُكُمْ بِما وَعَدَ الله الَّذِينَ يَقْتُلُونَهُمْ عَلَى لِسَانِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، قُلْتُ: أَنْتَ سَمِعْته مِنْ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم؟، قَالَ: إِي وَرَبِّ
الْكَعْبَةِ، ثَلَاثَ مَرَّاتٍ).
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(أبو بكر بن أبي شيبة) المذكور قبل باب.
2 -
(إسماعيل ابن عُلَيَّةَ) هو: إسماعيل بن إبراهيم بن مِقْسَم الأسديّ مولاهم، أبو بشر البصريّ، و"عُلَيّة" أمه، ثقة ثبت حافظ [8] 7/ 47.
3 -
(أَيّوب) بن أبي تَمِيمة كيسان السَّختيانيّ، أبو بكر البَصْريُّ، ثقة ثبت حجة، من كبار الفقهاء العبّاد [5] 2/ 17.
4 -
(محمّد بن سيرين) الأنصاريّ مولاهم، أبو بكر بن أبي عَمْرة البصريّ، ثقة ثبت عابد كبير القدر [3] 3/ 24.
5 -
(عَبِيدة) بن عَمْرو، ويقال: ابن قيس بن عمرو السَّلْمانيّ -بسكون اللام، ويقال: بفتحها- المراديّ، أبو عمرو الكوفيّ، تابعيّ كبير مخضرم، ثقة ثبت [2].
رَوَى عن علي، وابن مسعود، وابن الزُّبير، ورَوَى عنه عبد الله بن سَلِمة المرادي، وإبراهيم النخعي، وأبو إسحاق السبيعي، ومحمد بن سيرين، وأبو حسان الأعرج، وأبو الْبَخْتريّ الطائي، وعامر الشّعبيّ، وغيرهم.
قال الشّعبيّ: كان شُرَيح أعلمهم بالقضاء، وكان عَبِيدة يوازيه، وقال أشعث عن محمّد بن سيرين: أدركت الكوفة، وبها أربعة ممّن يُعَدّ في الفقه، فمن بدأ بالحارث ثَنّى بعبيدة، أو العكس، ثمّ علقمة الثّالث، وشُريح الرّابع، ثمّ يقول: وأن أربعة أحسنهم شُريح لخِيَار. وقال العجلي: كوفي تابعي ثقة جاهلي، أسلم قبل وفاة النّبيّ صلى الله عليه وسلم بسنتين ولم يره، وكان من أصحاب علي وعبد الله، وكان ابن سيرين من أروى النَّاس عنه، وقال ابن نُمير: كان شُريح إذا أشكل عليه الأمر كتب إلى عَبِيدة، ويُروَى عن ابن سيرين: ما رأيت رجلًا أشدّ توقيّا منه، وكل شيء رَوَى عن إبراهيم عن عَبِيدة سوى رأيه، فإنّه عن عبد الله إِلَّا حديثًا واحدًا.
وقال محمّد بن سعد: قال محمّد بن عمر: هاجر عَبِيدة زَمَنَ عمر رضي الله عنه. وقال ابن
معين: كان عيسى بن يونس يقول: السَّلَمَاني مفتوحة. وعَدَّه علي بن المديني في الفقهاء من أصحاب ابن مسعود رضي الله عنه. وقال إسحاق بن منصور عن ابن معين: ثقة لا يُسأل عن مثله. وقال عثمان الدارمي: قلت لابن معين: علقمة أحبُّ إليك أو عَبِيدة؟ فلم يُخَيَّر، قال عثمان: هما ثقتان. وقال علي بن المديني، وعمرو بن علي الفلاس: أصحُّ الأسانيد محمّد بن سيرين، عن عَبِيدة عن علي. وقال العجلي: كلّ شيءٍ رَوَى محمدٌ (1) عن عَبِيدة، سوى رأيه فهو عن علي، وكلُّ شيء رَوَى عن إبراهيم، فذكر مثل ما تقدّم.
قال ابن نُمير وغيرُ واحد: مات سنة اثنتين وسبعين، وقال قعنب: مات سنة (2) أو (3). وقال التّرمذيّ: سنة (3)، وقال أبو بكر بن أبي شيبة: سنة (74) وكذا أرّخه ابن حبّان في "الثِّقات"، وصححه، وقد قال البخاريّ في "تاريخه": حَدَّثَنَا ابن بشار، ثنا ابن مهدي، ثنا شعبة، عن أبي حَصين قال: أوصى عَبيدة أن يصلّي عليه الأسود، خَشِي أن يصلّي عليه المختار، فبادر فصلّى عليه، وهذا إسناد صحيح، رواه ابن سعد أيضًا عن أبي داود، عن شعبة، ومقتضاه أن عَبِيدة مات قبل سنة تسعين بمدة؛ لأن المختار قُتِل سنة (67) بلا خلاف.
أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب ثلاثة أحاديث فقط برقم 167 و 2362 و 4339.
6 -
(عليّ بن أبي طالب) الخليفة الراشد رضي الله عنه 2/ 20، والله تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله.
2 -
(ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصّحيح.
3 -
(ومنها): أنه مسلسلٌ بثقات البصريين إلى ابن سيرين، إِلَّا شيخه فكوفيّ، كالباقيين.
(1) أي ابن سيرين.
4 -
(ومنها): أن فيه ثلاثة من ثقات التابعين يروي بعضهم عن بعض: أَيّوب، عن محمّد، عن عبيدة.
5 -
(ومنها): ما تقدّم عن ابن المدينيّ والفلاس أن أصحّ الأسانيد ابن سيرين، عن عبيدة، عليّ رضي الله عنه.
6 -
(ومنها): أن صحابيّه أحد الخلفاء الأربعة، والعشرة المبشّرين بالجنّة، وزوج بنت الرسول رضي الله عنه، وابن عمه، جمّ المناقب رضي الله عنه.
[تنبيه]: رَوَى هذا الحديث في الخوارج عن علي رضي الله عنه تامًّا ومختصرًا مع عَبِيدة بن عمرو المذكور هنا: عبيدُ الله بن أبي رافع، وسُويد بن غَفَلة، وزيد بن وهب، وكُليب الجرمي، وطارق بن زياد، وأبو مريم، وأبو وَضِى، وأبو كثير، وأبو موسى، وأبو وائل في "مسند إسحاق بن راهويه"، والطبراني، وأبو جحيفة، عند البزار، وأبو جعفر الفراء، مولى علي رضي الله عنه، أخرجه الطَّبرانيُّ في "الأوسط"، وكثير بن نُمير، وعاصم بن ضمرة. أفاده في "الفتح"(1)، والله تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنْ عَليِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ) رضي الله عنه، أنه (قَالَ: وَذَكَرَ الْخَوَارجَ) جملة في محلّ نصب على الحال من الفاعل (فَقَالَ: فِيهِمْ) أي الخوارج (رَجُلٌ مُخدَجُ الْيَدِ) بضم الميم، وإسكان الخاء المعجمة، وفتح الدال-: أي ناقص اليد (أَوْ) للشكّ من الراوي (مَوْدُونُ الْيَدِ) بضم الميم، وإسكان الواو، وفتح الدال، ويقال: بالهمزة، وبتركه، وهو ناقص اليد، ويقال أيضًا: وَدِينُ (أَوْ) للشكّ أيضًا (مَثْدُونُ الْيَدِ) بفتح الميم، وثاء مثلّة ساكنة، وهو صغير اليد، مُجْتمِعها، كثَنْدُوة الثَّدْي، وهي بفتح الثاء بلا همز، وبضمّها مع الهمز، وكان أصله مثنود، فقُدِّمت الدال على النون، كما قالوا: جَبَذَ وجَدبَ، وعاثَ في الأرض، وعَثَا. قاله النوويّ رحمه الله (2).
(1)"الفتح" 12/ 377.
(2)
"شرح النوويّ " 7/ 171 - 172.
وقال القرطبيّ رحمه الله: ما معناه: قوله: "فيهم رجل مُخْدَج اليد، أو مودن اليد، أو مُثدن اليد" على لفظ الشكّ لجميع الرواة، وقال بعضهم:"مَثْدُون"، وكذا هو عند العُذْريّ، والطّبريّ، والباجيّ.
فأمّا "مُخْدَجُ اليد" فناقصها، و"مُثدَنُ اليد" و"مثدونها" صغيرها، ومُجْتَمعها بمنزلة ثندوة الرَّجل، وكان أصله مثند، فقدّمت الدال على النون، كما قالوا: جبذ وجذب، وقيل: معناه كثير اللّحم، قال ابن دريد: ثدن الرَّجل ثدنًا: إذا كثُر لحمه وثَقُل، وعلى هذا فلا يكون في الجرف قلبٌ.
وأما "مودن"، فقال أبو مروان بن سرّاج: يُهمز ولا يُهمز، قال ابن دُريد: رجل مودنٌ ناقص الخلق، وودن ومودن، وكلّه بالدال المهملة.
والذي يجمع شَتَات هذه الأحاديث في صفة يد هذا المخدج، ويُبيّن صفتها ما جاء في حديث زيد بن وهب الّذي قال فيه:"وآية ذلك أن فيهم رجلًا له عَضُدٌ ليس له ذراعٌ، على رأس عضده مثل حَلَمَة الثدي، عليه شَعَرَاتٌ بِيضٌ"، وهذه الرِّواية هي أحسن الروايات، وأكملها، وأبينها. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله (1).
(وَلَوْلَا أَنْ تَبْطَرُوا) كتفرَحُوا وزنًا ومعنًى، أي لولا خشيةُ أن تفرحوا بكثرة الثّواب، وعظيم الأجر فرَحًا يؤدّي إلى ترك الأعمال، وكثرة الطغيان (لحَدَّثْتكُمْ بِمَا وَعَدَ الله) فعل وفاعل، ومفعوله قوله:(الَّذِينَ يَقْتُلُونَهُمْ عَلَى لِسَانِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم) متعلّق بـ "وعد"، وفي رواية زيد بن وهب عند مسلم:"لو يعلم الجيش الذين يصيبونهم ما قُضِيَ لهم على لسان نبيهم لَنكلُوا عن العمل".
قال عَبِيدة لعلّيّ رضي الله عنه مستثبتًا لا شكّا فيه: (قُلْتُ: أَنْتَ سَمِعْته مِنْ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم؟) أي سمعت هذا الثّواب الّذي وعده الله عز وجل لقاتليهم؟ (قَالَ) عليّ رضي الله عنه (إِي وَرَبِّ الْكَعْبَةِ)"إِيْ" -بكسر الهمزة، وسكون الياء- حرف جواب، كنَعَم، قال ابن هشام في "مغنيه":
(1)"المفهم" 3/ 115 - 116.
"إِيْ" بالكسر والسكون حرف جواب بمعنى "نَعَم"، فيكون لتصديق المخبِر، ولإعلام المستخبر، ولوعد الطالب، فتقع بعد "قام زيد"، و"هل قام زيد"، و"اضرب زيدًا"، ونحوهنّ، كما تقع "نَعَمْ" بعدهنّ، وزعم ابن الحاجب أنها إنّما تقع بعد الاستفهام، نحو قوله عز وجل:{وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ} الآية [يونس: 53]، ولا تقع عند الجميع إِلَّا قبل القسم، وإذا قيل:"إي والله"، ثمّ أسقطت الواو جاز سكون الياء وفتحها وحذفها، وعلى الأوّل فيلتقي ساكنان على غير حدّهما. انتهى كلام ابن هشام رحمه الله (1).
(ثَلَاثَ مَرَّاتٍ) أي قال هذا الكلام ثلاث مرّات تأكيدًا له.
ولمسلم في رواية زيد بن وهب في قصة قتل الخوارج أن عليًّا رضي الله عنه لمَّا قتلهم قال: صدق الله، وبَلَّغَ رسوله، فقام إليه عَبِيدة، فقال يا أمير المؤمنين: اللهِ الّذي لا إله إِلَّا هو لقد سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: إي والله الّذي لا إله إِلَّا هو، حتّى استحلفه ثلاثا.
قال النووي رحمه الله: إنّما استحلفه ليؤكد الأمر عند السامعين، ولتظهر معجزة النّبيّ صلى الله عليه وسلم، وأن عليًّا ومن معه على الحق.
قال الحافظ رحمه الله: وليطمئن قلب المستحلف لإزالة توهم ما أشار إليه عليّ أن الحرب خُدْعَة، فَخَشِي أن يكون لم يسمع في ذلك شيئًا منصوصًا، وإلى ذلك يشير قول عائشة لعبد الله بن شداد، قالت له: ما قال علي حينئذ؟ قال: سمعته يقول: صدق الله ورسوله، قالت: رحم الله عليا إنّه كان لا يرى شيئًا يعجبه إِلَّا قال: صدق الله ورسوله، فيذهب أهل العراق فَيِكْذِبُون عليه، ويزيدونه، فَمِنْ هذا أراد عَبيدة بن عمرو التثبت في هذه القصة بخصوصها، وأن فيها نقلًا منصوصًا مرفوعًا.
وأخرج أحمد نحو هذا الحديث عن علي رضي الله عنه، وزاد في آخره: "قتالهُم حق على كلّ مسلم.
(1)"مغني اللبيب" 1/ 159.
ووقع سبب تحديث علي بهذا الحديث في رواية عبيد الله بن أبي رافع، فيما أخرجه مسلم من رواية بشر بن سعيد عنه، قال: إن الحرورية لمّا خرجت، وهو مع علي، قالوا: لا حُكْمَ إِلَّا لله تعالى، فقال علي:"كلمةُ حَقٍّ أريد بها باطل، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم وَصَفَ ناسًا إنِّي لأعرف صفتهم في هؤلاء، يقولون الحق بألسنتهم، ولا يجاوز هذا منهم -وأشار بحلقه- مِنْ أبغض خلق الله إليه". ذكره في "الفتح"(1). وهو بحثٌ نفيسٌ جدًّا.
والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): في درجته:
حديث عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه هذا أخرجه مسلم.
(المسألة الثّانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا (34/ 167) بهذا الإسناد فقط، وأخرجه (مسلم) في (3/ 114) و (أبو داود)(4763) و (أبو داود الطيالسيّ) في "مسنده"(166) و (عبد الرزاق) في "مصنفه"(18652 و 18653) و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه" 15/ 303 - 304 و (أحمد) في "مسنده"(1/ 83 و 95 و 144 و 155) و (عبد الله بن أحمد) في زياداته على "المسند"(1/ 113 و 121 و 122)، وزياداته على "الفضائل"(1046) و (ابن أبي عاصم) في "السنّة"(912) و (النَّسائيّ) في "الخصائص"(187 و 188) و (أبو يعلى) في "مسنده"(337) و (ابن حبّان) في "صحيحه"(6938) و (الطبرانيّ) في "الصغير"(969 و 1002) و (البيهقيّ) في "الكبرى" 8/ 188، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثّالثة): في فوائده (2):
1 -
(منها): أن فيه بيان علامة الخوارج في أول خروجهم، وذلك الرَّجل
(1)"الفتح" 12360 رقم الحديث (6930 - 6931).
(2)
المراد حديث قصّة الخوارج بجميع طرقه الّذي أوردناها في الشرح، لا خصوص سياق المصنّف، فتنبّه.
الموصوف بأنه مخدوج اليد.
2 -
(ومنها): الحثّ على قتالهم.
3 -
(ومنها): بيان الأجر العظيم لمن قتلهم.
4 -
(ومنها): أنه ينبغي للعالم أن لا يذكر فضائل بعض الأعمال، إذا خشي على بعض النَّاس أن يغترّوا بها، فيتركوا العمل اتّكالًا عليها، وهذا نظير ما أخرجه الشيخان في "صحيحيهما" من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه أن النّبيّ صلى الله عليه وسلم، ومعاذ رديفه على الرَّحْل، قال:"يا معاذ بن جبل"، قال لَبَّيْكَ يا رسول الله وسعديك، قال:"يا معاذ"، قال لَبَّيْكَ يا رسول الله وسعديك ثلاثًا، قال:"ما من أحد يشهد أن لا إله إِلَّا الله، وأن محمدا رسول الله، صدقًا من قلبه إِلَّا حرمه الله على النّار"، قال: يا رسول الله أفلا أخبر به النَّاس، فيستبشروا؟ قال:"إِذًا يَتَّكِلُوا"، وأخبر بها معاذ عند موته تأثُّمًا.
وقد ترجم الإمام البخاريّ رحمه الله في "صحيحه" على هذا، فقال:"باب من خَصَّ بالعلّم قوفا دون قوم كراهيةَ أن لا يفهموا، وقال عليّ: حدّثوا النَّاس بما يعرفون، أتحبّون أن يُكذّب الله ورسوله"، ثمّ أخرج حديث أنس رضي الله عنه المذكور.
5 -
(ومنها): جواز الحلف على الخبر للتأكيد، وإن كان الشخص لا يُتّهم.
6 -
(ومنها): أن فيه علمًا من أعلام النبوة، حيث أخبر صلى الله عليه وسلم بما وقع قبل أن يقع، وذلك أن الخوارج لما حَكَمُوا بكفر من خالفهم، واستباحوا دماءهم، وتركوا أهل الذِّمَّة، فقالوا نَفِي لهم بعهدهم، وتركوا قتال المشركين، واشتغلوا بقتال المسلمين، وهذا كله من آثار عبادة الجهال الذين لم تنشرح صدورهم بنور العلم، ولم يتمسكوا بحبل وثيق من العلم، وكفى أن رأسهم رَدّ على رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره، ونسبه إلى الجور، نسأل الله السلامة.
7 -
(ومنها): ما قال ابن هُبَيرة رحمه الله: وفي الحديث أن قتال الخوارج أولى من قتال المشركين، والحكمة فيه أن في قتالهم حفظ رأس مال الإسلام، وفي قتال أهل الشرك طلب الربح، وحفظُ رأس المال أولى.
8 -
(ومنها): أن فيه الزجرَ عن الأخذ بظواهر جميع الآيات القابلة للتأويل الّتي يُفضي القول بظواهرها إلى مخالفة إجماع السلف.
9 -
(ومنها): أن فيه التحذيرَ من الغلو في الديانة، والتنطع في العبادة بالحمل على النفس فيما لم يأذن فيه الشّرع، وقد وصف النبيّ صلى الله عليه وسلم الشّريعة بأنها سهلة سمحة، وإنّما ندب إلى الشدة على الكفار، وإلى الرأفة على بالمؤمنين، فعكس ذلك الخوارج.
10 -
(ومنها): أن فيه جوازَ قتال من خرج عن طاعة الإمام العادل، ومن نصب الحرب فقاتل على اعتقاد فاسد، ومن خرج يقطع الطرق، ويخيف السبيل، ويسعى في الأرض بالفساد، وأما من خرج عن طاعة إمام جائر، أراد الغلبة على ماله أو نفسه أو أهله فهو معذور، ولا يحل قتاله، وله أن يدفع عن نفسه وماله وأهله بقدر طاقته.
وقد أخرج الطّبريّ بسند صحيح، عن عبد الله بن الحارث، عن رجل من بني نضر، عن عليّ، وذكر الخوارج، فقال: إن خالفوا إمامًا عدلًا فقاتلوهم، وإن خالفوا إمامًا جائرًا فلا تقاتلوهم، فإن لهم مقالًا.
قال الحافظ رحمه الله: وعلى ذلك يحمل ما وقع للحسين بن علي، ثمّ لأهل المدينة في الحرَّة، ثمّ لعبد الله بن الزُّبير، ثمّ للقراء الذين خرجوا على الحجاج في قصة عبد الرّحمن بن محمّد بن الأشعث. والله أعلم.
11 -
(ومنها): ما قيل: إن فيه ذمَّ استئصال شعر الرّأس، لكن فيه نظر؛ لاحتمال أن يكون المراد بيان صفتهم الواقعة، لا لإرادة ذمها، وترجم أبو عوانة في "صحيحه" لهذه الأحاديث:"بيانُ أن سبب خروج الخوارج كان بسبب الأَثَرَة في القسمة مع كونها كانت صوابًا، فخفي عنهم ذلك".
12 -
(ومنها): أن فيه أن من المسلمين من يخرج من الدين من غير أن يقصد الحزوج منه، ومن غير أن يختار دينًا على دين الإسلام.
13 -
(ومنها): أن الخوارج شرُّ الفرق المبتدعة من الأمة المحمدية، ومن اليهود
والنصارى.
والأخير مبني على القول بتكفيرهم مطلقًا.
14 -
(ومنها): أنه لا يُكتَفَى في التعديل بظاهر الحال، ولو بلغ المشهود بتعديله الغاية في العبادة والتقشف والورع حتّى يُخْتَبَر باطن حاله، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الرّابعة): في حكم قتال الخوارج:
قال النوويّ رحمه الله في "شرح مسلم": قال القاضي عياض: أجمع العلماء على أن الخوارج وأشباههم من أهل البدع والبغي متى خَرَجُوا على الإمام، وخالفوا رأي الجماعة، وشَقُّوا العصا وجب قتالهم بعد إنذارهم، والاعتذار إليهم، قال الله تعالى:{فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} [الحجرات: 9]، لكن لا يُجَهَّز على جريحهم، ولا يُتَّبَع مُنهزمهم، ولا يَقتُل أسيرهم، ولا تباح أموالهم، وما لم يخرجوا عن الطّاعة، وينتصبوا للحرب لا يقاتَلُون، بل يوعظون، ويستتابون من بدعتهم وباطلهم، وهذا كله ما لم يُكَفَّروا ببدعتهم، فإن كانت بدعةً ممّا يُكَفَّرون به جَرَت عليهم أحكام المرتدين.
وأما البغاة الذين لا يُكَفَّرون، فَيَرِثُون ويورثون، ودمهم في حال القتال هَدَرٌ، وكذا أموالهم الّتي تُتْلَفُ في القتال، والأصح أنهم لا يُضَمَّنُون أيضًا ما أتلفوه على أهل العدل في حال القتال من نفس ومال، وما أتلفوه في غير حال القتال من نفس ومال ضمِنُوه، ولا يحل الانتفاع بشيء من دوابهم وسلاحهم في حال الحرب عندنا، وعند الجمهور، وجوزه أبو حنيفة. والله أعلم. انتهى كلام النووي (1) وهو تفصيل حسنٌ.
وقال في "الفتح" نقلًا عن الغزالي في "الوسيط" تبعًا لغيره: في حكم الخوارج وجهان: أحدهما أنه كحكم أهل الردة، والثّاني: أنه كحكم أهل البغي، ورجح الرافعي
(1)"شرح النوويّ" 7/ 170.
الأوّل، وليس الّذي قاله مُطَّرِدًا في كلّ خارجي، فإنهم على قسمين: أحدهما: من تقدّم ذكره، والثّاني من خرج في طلب الملك، لا للدعاء إلى معتقده، وهم على قسمين أيضًا: قسم أخرجوا غضبًا للدين، من أجل جَوْر الولاة، وترك عملهم بالسُّنَّة النبوية، فهؤلاء أهل حقّ، ومنهم الحسن بن على، وأهل المدينة في الحرة، والقراء الذين خرجوا على الحجاج، وقسم أخرجوا لطلب الملك فقط، سواء كانت فيهم شبهة أم لا، وهم البغاة. انتهى (1)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المُتَّصل إلى الإمام ابن مَاجَه رحمه الله في أول الكتاب قال:
168 -
(حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَعَبْدُ الله بْنُ عَامِرِ بْنِ زُرَارَةَ، قَالَا: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ، عَنْ عَاصِمٍ، عَنْ زِرٍّ، عَنْ عَبْدِ الله بْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "يَخْرُجُ في آخِرِ الزَّمَانِ قَوْمٌ أَحْدَاثُ الْأَسْنَانِ، سُفَهَاءُ الْأَحْلَامِ، يَقُولُونَ مِنْ خَيْرِ قَوْلِ النَّاسِ، يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ، لَا يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنَ الإسْلَامِ، كَمَا يَمْرُقُ الْسَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ، فَمَنْ لَقِيَهُمْ فَلْيَقْتُلْهُمْ، فَإِنَّ قَتْلَهُمْ أَجْرٌ عِنْدَ الله لمِنْ قَتَلَهُمْ").
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(أبو بكر بن أبي شيبة) المذكور قريبًا.
2 -
(عبد الله بن عامر بن زُرَارة) الحضرميّ مولاهم، أبو محمّد الكوفيّ، صدوق [10] 4/ 30.
3 -
(أبو بكر بن عيّاش) بن سالم الأسديّ الكوفيّ المُقرئ الحنّاط، مشهور بكنية، والأصحّ أنها اسمه، ثقة عابدٌ إِلَّا أنه لمّا كبِر ساء حفظه، وكتابه صحيح [7] 20/ 138.
4 -
(عاصم) بن بَهدلة، وهو ابن أبي النَّجُود الأسديّ مولاهم الكوفيّ المُقرئ، صدوق له أوهام (2)، حجة في القراءة [6] 2/ 138.
(1)"الفتح" 12/ 357 "كتاب استتابة المرتدّين" الحديث (6930 - 6931).
(2)
هكذا قال في "التقريب"، وهو الحق عندي، وأما ما تعقّبه به بشار قائلًا إنه ثقة إلى آخر كلامه، ففيه نظر لا يخفى لمن تأمّل ترجمته، وكلام أهل العلم فيه، فما قاله =
5 -
(زِرّ) بن حُبيش بن حُبَاشة الأسديّ، أبو مريم الكوفيّ، ثقة جليل مخضرم [2] 14/ 114.
6 -
(عبد الله بن مسعود) الصحابيّ الشهير رضي الله عنه 2/ 19، والله تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله.
2 -
(ومنها): أن رجاله موثقون، بل أخرج البخاريّ لأبي بكر بن عياش، وأخرجا لعاصم مقرونًا.
3 -
(ومنها): أنه مسلسل بالكوفيين، والله تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنْ عَبْدِ الله بْنِ مَسْعُودٍ) رضي الله عنه، أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "يَخْرُجُ في آخِرِ الزَّمَانِ) كذا وقع في هذا الحديث، وفي حديث أبي برزة عند النسائي بلفظ: "يَخرُج في آخر الزّمان قوم"، وهذا قد يخالف حديث أبي سعيد له، فإن مقتضاه انهم خرجوا في خلافة علي رضي الله عنه، وكذا أكثر الأحاديث الواردة أمرهم.
وقد أجاب ابن التين رحمه الله بأن المراد زمان الصّحابة، وفيه نظر؛ لأن آخر زمان الصّحابة كان على رأس المائة، وهم قد خرجوا قبل ذلك بأكثر من ستين سنة.
ويمكن الجمع بأن المراد بآخر الزّمان زمان خلافة النبوة، فإن في حديث سفينة المُخَرَّج في "السنن"، و"صحيح ابن حبّان"، وغيره مرفوعًا:"الخلافة بعدي ثلاثون سنة، ثمّ تصير مُلْكًا"، وكانت قصة الخوارج، وقتلهم بالنهروان في أواخر خلافة علي رضي الله عنه سنة ثمان وعشرين بعد النّبيّ صلى الله عليه وسلم بدون الثلاثين بنحو سنتين. قاله في "الفتح"(1).
= الحافظ في "التقريب" هو الّذي يدلّ عليه كلامهم، فتأمله بإنصاف، ولا تكن أسير التقليد. والله تعالى أعلم.
(1)
"الفتح" 12/ 359.
(قَوْمٌ أَحْدَاثُ الْأَسْنَانِ) بمهملة، ثمّ مثلثة، جمع حَدَث بفتحتين، والحدث هو الصغير السن، قال في "الفتح" في شرح حديث عليّ رضي الله عنه: هكذا أكثر الروايات، ووقع هنا للمستملي والسرخسي "حُدَّاث" بضم أوله، وتشديد الدال، قال في "المطالع": معناه شَبَابٌ، جمع حَدِيث السن، أو جمع حَدَث، قال ابن التين: حِدَاث جمع حَدِيث، مثل كِرَام جمع كريم، وكِبَار جمع كبير، والحديث الجديد من كلّ شيء، ويطلق على الصغير بهذا الاعتبار، وتقدم في "التفسير حُدَّاث" مثل هذا اللّفظ، لكنه هناك جمع قياس، والمراد سُمّار يتحدثون، قاله في "النهاية"، وتقدم في "علامات النبوة" بلفظ:"حُدَثاء" بوزن سُفَهاء، وهو جمع حديث، كما تقدّم تقريره.
و"الأسنان" جمع سِنٍّ، والمراد به العمر، والمراد أنهم شباب.
(سُفَهَاءُ الْأَحْلَامِ) جمع حِلْم بكسر أوله، والمراد به العقل، والمعنى أن عقولهم رديئة، قال النووي: يستفاد منه أن التثبت، وقوة البصيرة تكون عند كمال السنّ، وكثرة التجارب، وقوة العقل.
وتعقّبه الحافظ، فقال: ولم يظهر لي وجه الأخذ منه، فإن هذا معلوم بالعادة، لا من خصوص كون هؤلاء كانوا بهذه الصِّفَة. انتهى.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه عندي أن تعقّب الحافظ ممّا لا وجه له، فاستنباط النوويّ ظاهر، فتأمله بإنصاف. والله تعالى أعلم.
(يَقُولُونَ مِنْ خَيْرِ قَوْلِ النَّاسِ) أي يقولون قولًا هو من خير قول النَّاس، أي ظاهرًا، قيل: أراد قولهم: "لا حكم إِلَّا لله" حين التحكيم، ولذلك قال عليّ رضي الله عنه في جوابهم:"كلمة حقّ أريد بها باطل"، وكذا دعاؤهم إلى كتاب الله، وبالجملة فالمراد أنهم يتكلّمون ببعض الأقوال الّتي هي من خيار قول النَّاس في الظّاهر (1).
وأفاد في "الفتح" أنه قيل: إنّه مقلوب، وأن الأصل "من قول خير النَّاس"، وأن
(1) راجع "شرح السنديّ" 1/ 109.
المراد به القرآن، قال: ويحتمل أن يكون على ظاهره، والمراد القول الحسن في الظّاهر، وباطنه على خلاف ذلك، كقولهم:"لا حكم إِلَّا لله" في جواب علي رضي الله عنه، وقد وقع عند الطّبريّ من رواية طارق بن زياد قال: "خرجنا مع علي
…
فذكر الحديث، وفيه:"يخرج قوم يتكلمون كلمة حق، لا تجاوز حلوقهم"، وفي حديث أنس عن أبي سعيد عند أبي داود والطبراني:"يُحسنون القول، ويسيئون الفعل"، ونحوه في حديث عبد الله بن عمرو عند أحمد، وفي حديث مسلم عن علي رضي الله عنه:"يقولون الحقّ، لا يجاوز هذا"، وأشار إلى حلقه (1).
(يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ) وفي حديث أبي سعيد رضي الله عنه عند مسلم: "يتلون كتاب الله رَطْبًا" قال القرطبيّ رحمه الله: فيه ثلاثة أقوال: أحدها: الحِذْق بالتلاوة، والمعنى أنهم يأتون به على أحسن أحواله.
والثّاني: المواظبة على تلاوته، فلا تزال ألسنتهم رطبةً به.
والثّالث: حسن الصوت بالقراءة. انتهى (2).
(لَا يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُمْ) قال ابن الأثير رحمه الله: "التراقي" جمع تَرْقُوَة بفتح أوله، وسكون الراء، وضم القاف، وفتح الواو، وهي العظم الّذي بين ثُغْرَة النَّحْر والعاتق، وهما تَرْقُوَتان من الجانبين، ووزْنُهَا فَعْلُوةٌ بالفتح، والمعنى أن قراءتهم لا يرفعها الله تعالى، ولا يَقبَلها، فكأنها لم تتجاوز حُلْقُومهم، وقيل: المعنى أنهم لا يعملون بالقرآن، ولا يُثَابون على قراءته، فلا يَحصُلُ لهم غير القراءة. انتهى بزيادة يسيرة من "الفتح"(3).
وقال السنديّ رحمه الله: أي لا يُجاوز حُلْقومهم بالصعود إلى محلّ القبول، أو النزول إلى القلوب؛ ليؤثِّر في قلوبهم. انتهى (4).
(1)"الفتح"359.
(2)
"المفهم" 3/ 114.
(3)
"النهاية" 1/ 187 و"الفتح" 12/ 367.
(4)
"شرح السنديّ" 1/ 109.
وقال في "الفتح": المعنى أن قراءتهم لا يرفعها الله ولا يقبلها، وقيل: لا يعملون بالقرآن، فلا يثابون على قراءته، فلا يحصل لهم إِلَّا سَرْدُ.
وقال النووي: المراد أنهم ليس لهم فيه حظ إِلَّا مروره على لسانهم، لا يصل إلى حلوقهم فضلًا عن أن يصل إلى قلوبهم؛ لأن المطلوب تعقله وتدبره بوقوعه في القلب. انتهى.
قال الحافظ: هو مثل قوله فيهم أيضًا: "لا يجاوز إيمانهم حناجرهم"، أي ينطقون بالشهادتين، ولا يعرفونها بقلوبهم، ووقع في رواية لمسلم:"يقرءون القرآن رطبا"، قيل المراد الحِذْق في التلاوة، أي يأتون به على أحسن أحواله، وقيل: المراد أنهم يُواظبون على تلاوته، فلا تزال ألسنتهم رطبة به، وقيل: هو كناية عن حسن الصوت به، حكاها القرطبي، ويرجح الأوّل ما وقع في رواية أبي الوَدّاك عن أبي سعيد عند مسدد:"يقرءون القرآن كأحسن ما يقرؤه النَّاس"، ويؤيد الآخر قوله في رواية مسلم عن أبي بكرة عن أبيه:"قوم أشدّاء أحدّاء، ذَلِقَةٌ ألسنتهم بالقرآن"، أخرجه الطّبريّ، وزاد في رواية عبد الرّحمن بن أبي نُعْم عن أبي سعيد:"يقتلون أهل الإسلام، ويَدَعُون أهل الأوثان، يمرقون"، وأرجحها الثالث. انتهى.
وفي رواية البخاريّ في حديث عليّ رضي الله عنه: "لا يجاوز إيمانهم حناجرهم"، قال في "الفتح": في رواية الكشميهني: "لا يجوز"، و"الحناجر" بالحاء المهملة، ثمّ الجيم، جمع حنجرة بوزن قَسْوَرَة، وهي الحلقوم والبلعوم، وكله يُطلَق على مَجْرَى النَّفَس، وهو طَرَف الْمَرِيء ممّا يلي الفم، ووقع في رواية مسلم من رواية زيد بن وهب عن علي رضي الله عنه:"لا تجاوز صلاتهم تراقيهم"، فكأنه أَطلق الإيمان على الصّلاة، وله في حديث أبي ذر رضي الله عنه:"لا يجاوز إيمانهم حلاقيمهم"، والمراد أنهم يؤمنون بالنطق لا بالقلب، وفي رواية عبيد الله بن أبي رافع عن علي رضي الله عنه عند مسلم:"يقولون الحق بألسنتهم، لا يجاوز هذا منهم"، وأشار إلى حلقه، وهذه المجاوزة غير المجاوزة في حديث أبي سعيد رضي الله عنه. انتهى.
(يَمْرُقُونَ مِنَ الْإِسْلَامِ) أي يَجُوزُونه، ويخرقونه، ويتعدَّونه، ويخرُجون منه،
يقال: مرق السهم من الرَّمِيّة، من باب قعد: خرج منه من غير مدخله. قاله في "النهاية"، و"المصباح"(1)، وأصل المروق: الخروج عند أهل اللُّغة، يقال: مَرَقَ السهم من الْغَرَض: إذا أصابه، ثمّ نَفَذَ منه، فهو يَمْرُقُ منه مَرْقًا ومُرُوقًا، وانمرق منه، وأمرقه الرامي إذا فعل ذلك به. قال القرطبيّ: وبهذا اللّفظ سُمُّوا المارقة؛ لأنهم مَرَقُوا من الدين، وخرجوا على خيار المسلمين. انتهى (2).
(كَمَا يَمْرُقُ) أي كما يخرُج (السَّهْمُ) بفتح، فسكون: واحد من النَّبْلِ، وقيل: هو نفس النصل. قاله في "المصباح"(مِنَ الرَّمِيَّةِ) بفتح الراء، وكسر الميم، وتشديد الياء، فَعِيلة بمعنى مفعولة، من الرَّمْي، والمراد الصَّيد المرميّ، كالغَزَالة المرمية مثلًا. قاله في "الفتح"، وقال في موضع آخر: قوله: "من الرمية" -بكسر الميم، وتشديد التحتانية- فَعِيلة بمعنى مفعولة، فأدخلت فيها الهاء، وإن كان فَعِيل بمعنى مفعول يستوي فيه المذكر والمؤنث؛ للإشارة لنقلها من الوصفية إلى الاسمية، وقيل: إن شرط استواء المذكر والمؤنث أن يكون الموصوف مذكورًا معه، وقيل: شرطه سقوط الهاء من المؤنث قبل وقوع الوصف، تقول: خُذْ ذَبِيحتك، أي الشاة الّتي تريد ذبحها، فإذا ذبحتها قيل لها حينئذ: ذَبِيح. انتهى (3).
زاد في حديث أبي ذرّ رضي الله عنه الآتي: "ثمّ لا يعودون فيه، هم شرار الخلق والخليقة"، وفي رواية معبد بن سيرين، عن أبي سعيد عند البخاريّ في آخر "كتاب التّوحيد":"لا يعودون فيه حتّى يعود السهم إلى فُوقِهِ".
(فَمَنْ لَقِيَهُمْ فَلْيَقْتُلْهُمْ) فيه الأمر بقتلهم، وأنه متعيّنٌ إِلَّا إذا تابوا (فَإِنَّ قَتْلَهُمْ) الفاء تعليليّة، أي لأن قتلهم (أَجْرٌ) أي ذو أجر عظيم، فالتنوين للتعظيم، وقوله: (عِنْدَ
(1)"النهاية" 4/ 320، و"المصباح" 2/ 569.
(2)
"المفهم" 3/ 109.
(3)
"الفتح" 12/ 362.
الله) تعالى متعلّق بصفة لـ "أجر"، وقوله:(لمَنْ قَتَلَهُمْ) متعلّق بصفة أيضًا، أو بحال مقدّر، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): في درجته:
حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه هذا صحيح.
[فإن قلت]: كيف يصحّ، وفيه أبو بكر بن عيّاش، وقد تقدّم الكلام فيه، فهو حسن الحديث، وكذا الكلام في عاصم؟.
[قلت]: إنما صحّ بشواهده، فقد جاء من حديث جماعة من الصّحابة رضي الله عنهم، عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم منهم: علي بن أبي طالب، وعبد الله بن مسعود، وأبو ذرّ، وابن عبّاس، وعبد الله بن عمرو بن العاص، وابن عمر، وأبو سعيد الخدري، وأنس بن مالك، وحذيفة، وأبو بكرة، وعائشة، وجابر، وأبو برزة، وأبو أمامة، وعبد الله بن أبي أوفى، وسهل بن حنيف، وسلمان الفارسيّ، ورافع بن عمرو، وسعد بن أبي وقّاص، وعمار بن ياسر، وجندب بن عبد الله البجلي، وعبد الرّحمن بن عُدَيس، وعقبة بن عامر، وطلق بن علي، وأبو هريرة، أخرجه الطَّبرانيُّ في "الأوسط" بسند جيد من طريق الفرزدق الشاعر أنه سمع أبا هريرة وأبا سعيد، وسألهما، فقال: إنِّي رجل من أهل المشرق، وأن قومًا يخرجون علينا، يقتلون من قال: لا إله إِلَّا الله، ويُؤَمِّنُون مَنْ سِوَاهم، فقالا لي: سمعنا النّبيّ صلى الله عليه وسلم يقول: "من قتلهم فله أجر شهيد، ومن قتلوه فله أجر شهيد".
قال الحافظ رحمه الله: فهؤلاء خمسة وعشرون نفسًا من الصّحابة، والطرق إلى كثير منهم متعددة، كعلي، وأبي سعيد، وعبد الله بن عمر، وأبي بكرة، وأبي برزة، وأبي ذرّ، فيفيد مجموع خبرهم القطع بصحة ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أفاده في "الفتح"(1).
فتبين بهذا أن الحديث صحيح، بل هو متواتر، والله تعالى أعلم.
(1)"الفتح" 12/ 377.
(المسألة الثّانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا (34/ 168) بهذا الإسناد فقط، وأخرجه (الترمذي) في (2188) و (أحمد) في "مسنده"(1/ 404).
وأما فوائده فقد تقدّم بعضها، ويأتي قريبًا بعضها -إن شاء الله تعالى-، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المُتّصل إلى الإمام ابن مَاجَه رحمه الله في أول الكتاب قال:
169 -
(حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، أَنْبَأَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، قَالَ: قُلْتُ لِأَبِي سَعِيدٍ الخدْرِيِّ: هَلْ سَمِعْتَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَذْكُرُ في الْحُرُورِيَّةِ شَيْئًا؟ فَقَالَ: سَمِعْتُهُ يَذْكُرُ قَوْمًا يَتَعَبَّدُونَ يَحْقِرُ أَحَدُكُمْ صَلَاتَهُ مَعَ صَلَاتِهِمْ، وَصَوْمَهُ مَعَ صَوْمهِمْ، يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ، أَخَذَ سَهْمَهُ فَنَظَرَ في نَصْلِهِ فَلَمْ يَرَ شَيْئًا، فَنَظَرَ في رِصَافِهِ فَلَمْ يَرَ شَيْئًا، فَنَظَرَ في قِدْحِهِ فَلَمْ يَرَ شَيْئًا، فَنَظَرَ في الْقُذَذِ فَتَمَارَى هَلْ يَرَى شَيْئًا أَمْ لَا؟ ").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(أبو بكر بن أبي شيبة) المذكور قبله.
2 -
(يزيد بن هارون) السلميّ مولاهم، أبو خالد الواسطيّ، ثقة متقنٌ عابد [9] 16/ 127.
3 -
(محمّد بن عمرو) بن علقمة بن وقّاص الليثيّ المدنيّ، صدوقٌ له أوهام [6] 2/ 22.
4 -
(أبو سلمة) بن عبد الرّحمن بن عوف الزهريّ المدنيّ، ثقة فقيه [3] 2/ 22.
5 -
(أبو سعيد الخدريّ) سعد بن مالك بن سنان رضي الله عنهما المذكور قبل باب، والله تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من خماسيات المصنّف رحمه الله.
2 -
(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، ومحمد بن عمرو أخرج له البخاريّ مقرونًا بغيره، ومسلم في المتابعات.
3 -
(ومنها): أنه مسلسل بالمدنيين من محمّد بن عمرو.
4 -
(ومنها): أن أبا سلمة أحد الفقهاء السبعة على بعض الأقوال، وهو مشهور بكنيته، بل الصّحيح أنها اسمه، وقيل: اسمه عبد الله، وقيل إسماعيل.
5 -
(ومنها): أن أبا سعيد رضي الله عنه أحد المكثرين السبعة، كما سبق قريبًا، والله تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنْ أَبِي سَلَمَةَ) وفي رواية البخاريّ من طريق محمّد بن إبراهيم التيميّ، عن أبي سلمة وعطاء بن يسار أنهما أتيا أبا سعيد الخدريّ، فسألاه عن الحروريّة
…
(قالَ) أبو سلمة (قُلْتُ لِأَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ) رضي الله عنه (هَلْ سَمِعْتَ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم يَذْكُرُ في الْحُرُورِيَّةِ شَيْئًا؟) زاد في رواية للبخاريّ: "لا أدري ما الحروريّة؟ "، قالَ في "الفتح": هذا يغاير قوله في أول حديث الباب الّذي يليه: "وأشهد أن عليّا قتلهم، وأنا معه"، فإن مقتضى الأوّل أنه لا يدري هل ورد الحديث الّذي ساقه في الحروريّة أولا؟، ومقتضى الثّاني أنه ورد فيهم.
ويمكن الجمع بأن مراده بالنَّفْي هنا أنه لم يحفظ فيهم نصًّا بلفظ الحروريّة، وإنّما سمع قصّتهم الّتي دلّ وجود علامتهم في الحروريّة بأنهم هم. انتهى.
(فَقَالَ) أبو سعيد رضي الله عنه (سَمِعْته) أي النبيّ صلى الله عليه وسلم (يَذْكُرُ قَوْمًا) وفي رواية البخاريّ: "سمعت النبيّ صلى الله عليه وسلم يقول: يخرج في هذه الأمة -ولم يقل: منها
…
"، قال في "الفتح": لم تختلف الطرق الصحيحة على أبي سعيد في ذلك، فعند مسلم حن رواية أبي نضرة، عن أبي سعيد "أن النبيّ صلى الله عليه وسلم ذكر قومًا يكونون في أمته"، وله من وجه آخر "تمرُق مارقة عند
فُرقة من المسلمين"، وله من رواية الضحاك المِشْرَقِيّ، عن أبي سعيد نحوه، وأما ما أخرجه الطّبريّ من وجه آخر عن أبي سعيد بلفظ "من أُمَّتي"، فسنده ضعيف، لكن وقع عند مسلم من حديث أبي ذرّ رضي الله عنه بلفظ: "سيكون بعدي من أُمَّتي قوم"، وله من طريق زيد بن وهب، عن عليّ رضي الله عنه: يخرُج قوم من أُمَّتي.
ويجمع بينه وبين حديث أبي سعيد بأن المراد بالأمة في حديث أبي سعيد أمة الإجابة، وفي رواية غيره أمة الدّعوة.
قال النوويّ رحمه الله: وفيه دلالة على فقه الصّحابة رضي الله عنهم، وتحريرهم الألفاظ، وفيه إشارة من أبي سعيد رضي الله عنه إلى تكفير الخوارج، وأنهم من غير هذه الأمة. انتهى.
(يَتَعَبَّدُونَ) أي يتعمّقون في العبادة، ويتكلّفون فيها، (يَحْقِرُ) بفتح أوله من باب ضرب: أي يستقلّ، واللازم من باب كَرُمَ (أَحَدُكُمْ صَلَاتَهُ مَعَ صَلَاتهِمْ، وَصَوْمَهُ مَعَ صَوْمِهِمْ) وفي رواية عاصم بن شميخ، عن أبي سعيد:"تحقرون أعمالكم مع أعمالهم"، ووصف عاصم أصحاب نَجْدَة الحروريّ بأنهم يصومون النهار، ويقومون اللّيل، ويأخذون الصدقات على السنّة، أخرجه الطّبريّ، ومثله عنده من رواية يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، وفي رواية محمّد بن عمرو، عن أبي سلمة عنده "يتعبّدون، يحقر أحدكم صلاته وصيامه مع صلاتهم وصيامهم"، ومثله من رواية أنس عن أبي سعيد، وزاد في رواية الأسود بن العلاء، عن أبي سلمة:"وأعمالكم مع أعمالهم"، وفي رواية سلمة بن كهيل، عن زيد بن وهب، عن علي رضي الله عنه:"ليست قراءتكم إلى قراءتهم شيئًا، ولا صلاتكم إلى صلاتهم شيئًا"، أخرجه مسلم، والطّبريّ، وعنده من طريق سليمان التيمي، عن أنس رضي الله عنه: ذُكِر لي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن فيكم قومًا يَدْأَبُون، ويَعمَلُون حتّى يُعجِبُوا النَّاس وتُعجِبهم أنفسهم"، ومن طريق حفص ابن أخي أنس عن عمه بلفظ: "يتعمقون في الدين"، وفي حديث ابن عبّاس عند الطَّبرانيُّ في قصة مناظرته للخوارج قال: "فأتيتهم فدخلت على قوم لم أَرَ أَشَدَّ اجتهادًا منهم، أيديهم كأنها ثفن الإبل، ووجوههم معلمة من آثار السجود"، وأخرج ابن أبي شيبة عن ابن عبّاس أنه
ذُكِر عنده الخوارج، واجتهادُهم في العبادة، فقال: ليسوا أَشَدَّ اجتهادًا من الرهبان.
(يَمْرُقُونَ) من باب نصر، أي يخرجون (مِنَ الدِّينِ كما يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ) تقدّم الكلام على هذه الجملة في الحديث الماضي.
(أَخَذَ) أي الرامي (سَهْمَهُ) تقدّم معنى السهم (فَنَظَرَ) وفي رواية البخاريّ: "فينظر الرامي إلى سهمه، إلى نصله" والجارّ والمجرور بدل من الأوّل، أي ينظر إليه جملة، ثمّ تفصيلًا، وفي رواية عند الطّبريّ:"ينظر إلى سهمه، فلا يرى شيئًا، ثمّ ينظر إلى نَصْلِه، ثمّ إلى رُصَافه".
(في نَصْلِهِ) أي نصل السهم، وهو بفتح النون، وسكون الصاد، ويقال: له النَّصْلانُ: حديدة السهم والرُّمْحِ والسيف ما لم يكن له مَقْبِضٌ. قاله في "القاموس".
(فَلَمْ يَرَ شَيْئًا) أي من الدم ونحوه ملصوقًا به؛ لسرعة خروجه (فَنَظَرَ في رِصَافِهِ) بكسر الراء، قيل: وبالضمّ، وبالصاد المهملة، جمع رَصَفَة بفتحين، وهو عَصَبٌ يُلْوَى على مدخل النصل في السهم (فَلَمْ يَرَ شَيْئًا، فَنَظَرَ في قِدْحِهِ) بكسر القاف، وسكون الدال المهملة، بعدها حاء مهملة: عُود السهم (فَلَمْ يَرَ شَيْئًا، فَنَظَرَ في الْقُذَذِ) بضم القاف، وبذالين معجمتين، الأولى مفتوحة: هو رِيشُ السهم، واحدها قُذّة بالضمّ (فَتَمَارَى) أي تشكّك (هَلْ يَرَى شَيْئًا أَمْ لَا؟) أي هل بقي محلّ فيه شيء من الدم. وفي رواية لمسلم:"فينظر الرامي إلى سهمه، إلى نصله، إلى رِصَافه، فيتمارى في الْفُوقَة، هل عَلِقَ بها من الدم شيء"، وفي رواية له: "ينظر إلى نَصْله فلا يوجد فيه شيء، ثمّ ينظر إلى رِصَافهِ فلا يوجد فيه شيء، ثمّ ينظر إلى نَضِيِّهِ فلا يوجد فيه شيء، ثمّ ينظر إلى قُذَذِه فلا يوجد فيه شيء، سَبَقَ الْفَرْثَ والدم
…
"، وفي رواية: "قال: فضرب النبي صلى الله عليه وسلم لهم مَثَلًا، أو قال قولًا: الرَّجل يرمي الرَّميّة، أو قال: الْغَرَضَ، فينظر في النصل فلا يرى بَصِيرة، وينظر في النَّضِيّ فلا يرى بصيرة، وينظر في الْفُوق فلا يرى بصيرة
…
".
و"الْفُوقة" بضم الفاء وزان قُفْل: الموضع الّذي يجعل فيه الْوَتَر، والجمع أفواق، مثل قُفْل وأقفال، و"النَّضِيّ" بفتح النون، وكسر الضاد المعجمة، وتشديد الياء: هو
الْقِدحُ كذا جاء مفسّرًا في "صحيح مسلم"، وكذا قاله الأصمعيّ، وأما "البَصِيرة" فبفتح الباء الموحّدة، وكسر الصاد المهملة، وهو الشيء من الدم، أي لا يرى شيئًا من الدم يستدلّ به على إصابة الرَّمِيّة. (1).
وقال القرطبيّ رحمه الله: مقصود هذا التمثيل أن هذه الطائفة خرجت من دين الإسلام، ولم يتعلّق بها منه شيء، كما خرج هذا السهم من هذه الرميّة الّذي لشدّة النزع، وسُرْعة السهم سبق خروجه الدم، بحيث لا يتعلّق به شيء ظاهر، كما قال: "سَبَقَ الْفَرْثَ والدم. انتهى (2).
والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): في درجته:
حديث أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثّانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا (34/ 169) بهذا الإسناد فقط، وأخرجه (البخاريّ) في (4/ 243 و 6/ 244 و 8/ 47 و 9/ 21) وفي "خلق أفعال العباد" له (22) و (مسلم) في (3/ 112)(مالك) في "الموطّإ"(144) و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(18649) و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(15/ 315 - 316 و 322 و 329) و (أحمد) في "مسنده"(3/ 33 و 56 و 60 و 65) و (النَّسائيّ) في "فضائل القرآن"(124) و"التفسير"(240) و (ابن حبّان) في "صحيحه"(6737) و (البيهقيّ) في "دلائل النبوّة"(6/ 427) و (البغويّ) في "شرح السنة"(2552 و 2553).
وأما فوائده، فقد تقدّمت، في شرح حديث عليّ رضي الله عنه، فراجعها تستفد، والله تعالى
(1) راجع "شرح مسلم" 7/ 165، و"المصباح المنير" 2/ 483.
(2)
"المفهم" 3/ 110.
أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
وبالسند المُتّصل إلى الإمام ابن مَاجَه رحمه الله في أول الكتاب قال:
175 -
(حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ الْمُغِيرَةِ، عَنْ حُمَيْدِ بْنِ هِلَالٍ، عَنْ عَبْدِ الله بْنِ الصَّامِتِ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "إِن بَعْدِي مِنْ أُمَّتِي، أَوْ سَيَكُونُ بَعْدِي مِنْ أُمَّتِي قَوْمًا يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ، لَا يُجَاوِزُ حُلُوقَهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ كَما يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ، ثُمَّ لَا يَعُودُونَ فِيهِ، هُمْ شِرَارُ الْخَلْقِ وَالخلِيقَةِ".
قَالَ عَبْدُ الله بْنُ الصَّامِتِ: فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِرَافِعِ بْنِ عَمْرٍو، أَخِي الْحَكَمِ بْنِ عَمْرٍو الْغِفَارِيِّ، فَقَالَ: وَأَنَا أَيْضًا قَدْ سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم).
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(أبو بكر بن أبي شيبة) المذكور قريبًا.
2 -
(أبو أُسامة) هو: حماد بن أُسامة بن زيد القرشيّ مولاهم الكوفيّ، ثقة ثبت ربما دلّس، من كبار [9] 12/ 102.
3 -
(سليمان بن المغيرة) الْقَيْسيّ مولاهم، أبو سعيد البصريّ، ثقة [7].
رَوَى عن أبيه، وثابت البنانيّ، وحميد بن هلال، والحسن، وابن سيرين، والجريري، وأبي موسى الهلالي.
ورَوَى عنه الثّوريّ، وشعبة، وماتا قبله، وبهز بن أسد، وحَبَّان بن هلال، وأبو أسامة، وأبو داود، وأبو الوليد الطيالسيان، وغيرهم.
قال قراد أبو نوح: سمعت شعبة يقول: سليمان بن المغيرة سيد أهل البصرة.
وقال أبو داود الطيالسي: ثنا سليمان بن المغيرة، وكان خيارًا من الرجال. وقال عبد الله ابن داود الخُريبيّ: ما رأيت بالبصرة أفضل من سليمان بن المغيرة، ومرحوم بن عبد العزيز. وقال أبو طالب عن أحمد: ثبت ثبت. وقال إسحاق بن منصور عن يحيى بن معين: ثقة ثقة. وقال ابن سعد: كان ثقة ثبتا. وقال ابن المديني: لم يكن في أصحاب
ثابت أثبت من حماد بن سلمة، ثمّ بعده سليمان بن المغيرة، ثمّ بعده حماد بن زيد. وقال النَّسائيُّ: ثقة. وذكر أبو زرعة الدمشقي عن سليمان بن حرب أنه قال: ثنا سليمان بن المغيرة الثقة المأمون. وقال يعقوب بن شيبة: سمعت عبد الله بن مسلمة بن قعنب يقول: ما رأيت بصريا أفضل منه. وقال ابن شاهين في "الثِّقات": قال عثمان بن أبي شيبة: هو ثقة. وذكره ابن حبّان في "الثِّقات". ونَقَلَ ابن خلفون عن ابن نمير والعجلي وغيرهما توثيقه. وقال أبو مسعود الدمشقي في "الأطراف" في مسند أنس: ليس لسليمان بن المغيرة عند البخاريّ غير هذا الحديث الواحد، وقرنه بغيره. وقال البزار: كان من ثقات أهل البصرة.
وقال البخاريّ عن محمّد بن محبوب: مات سنة خمس وستين ومائة.
أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب ثلاثة أحاديث فقط، برقم 170 و 1635 و 3210 و 3551.
4 -
(حُمَيد بن هلال) بن هُبَيرة، ويقال: ابن سُويد بن هُبيرة الْعَدَويّ، أبو نصر البصريّ، ثقة عالم [3].
رَوَى عن عبد الله بن مُغَفّل، وعبد الرّحمن بن سَمُرة، وأنس، وهشام بن عامر الأنصاري، وابنه سعد بن هشام، وعبد الله بن الصامت، وغيرهم.
ورَوَى عنه أَيّوب السختياني، وعاصم الأحول، وحجاج بن أبي عثمان، وحبيب ابن الشهيد، وقتادة، وأبو هلال الراسبي، وسليمان بن المغيرة، وغيرهم.
قال القطان: كان ابن سيرين لا يرضاه، قال ابن أبي حاتم عن أبيه: لأنه دخل في عمل السلطان، وكان في الحديث ثقة. وقال ابن معين والنَّسائيّ: ثقة. وقال أبو هلال الراسبي: ما كان بالبصرة أعلم منه. وقال ابن عديّ: له أحاديث كثيرة، وقد حَدّث عنه الأئمة، وأحاديثه مستقيمة. وقال ابن سعد: كان ثقة. وذكره ابن حبّان في "الثِّقات". وقال البزار في "مسنده": لم يسمع من أبي ذرّ. وقال أبو حاتم: لم يَلْقَ هشام بن عامر، والحفاظ لا يُدخلون بينهما أحدًا، حماد بن زيد وغيره، وهو الأصح. وقال ابن المديني:
لم يَلْقَ عندي أبا رفاعة العدوي. ووَثّقه العجلي، وفي أحاديث القهقهة من "السنن" للدارقطني من طريق وهيب عن ابن عون عن ابن سيرين قال: كان أربعة يُصَدِّقُون مَنْ حدَّثهم، ولا يبالون ممّن يسمعون: الحسن، وأبو العالية، وحُميد بن هلال، ولم يذكر الرّابع، وفي بعض النسخ منه وداود بن أبي هند.
قال ابن سعد مات في ولاية خالد على العراق.
أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب ثمانية أحاديث فقط برقم 170 و 952 و 1560 و 2654 و 3210 و 3551 و 3796 و 3981.
5 -
(عبد الله بن الصامت) الغفاريّ البصريّ، ثقة [3].
رَوَى عن عمه أبي ذرّ، وعمر، وعثمان، والحكم، ورافع ابني عمرو، وحذيفة، وابن عمر، وعائشة.
ورَوَى عنه حميد بن هلال، وأبو العالية البرّاء، وأبو عمران الجْوْني، وسَوَادة بن عاصم، ومحمد بن واسع، وغيرهم.
قال النَّسائيُّ: ثقة. وقال أبو حاتم: يُكتب حديثه. وذكره ابن حبّان في "الثِّقات".
وقال ابن سعد يُكنى أبا النضر، وكان ثقة، وله أحاديث. وقال العجلي: بصري تابعي ثقة. ذكره البخاريّ في "الأوسط" في فصل من مات ما بين السبعين إلى الثمانين. ونقل الذهبي أن بعضهم قال ليس بحجة.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: ما قاله بعضهم ممّا لا يُلتفت إليه؛ لأنه لم يعتمد على حجة، فعبد الله بن الصامت ثقة، كما سمعته آنفًا في كلام الأئمة. والله تعالى أعلم.
أخرج له البخاريّ في التعاليق، ومسلم، والأربعة، وله في هذا الكتاب ثمانية أحاديث برقم 170 و 952 و 1256 و 2862 و 3210 و 3362 و 3958 و 4225.
6 -
(أبو ذرّ) جندب بن جُنَادة الغفاريّ الصحابيّ الشهير رضي الله عنه 12/ 108.
7 -
(رافع بن عمرو) الغفاري يُكنى أبا جبير صحابي عِدَاده في أهل البصرة، رَوَى عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم، وعنه ابنه عمران، وعبد الله بن الصامت، وأبو جُبير مولى أخيه
الحكم بن عمرو.
أخرج له مسلم، وأبو داود، والترمذيّ، والمصنّف، وله في هذا الكتاب حديثان فقط، هذا (170) وحديث (2299)"فلا ترمي النخل، وكل ممّا يسقط في أسافلها".
والله تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من سُداسيّات المصنّف.
2 -
(ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصّحيح.
3 -
(ومنها): أنه مسلسل بثقات البصريين، غير شيخه، وأبي أُسامة فكوفيّان.
4 -
(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، ورواية الراوي عن عمه، فأبو ذرّ رضي الله عنه عم عبد الله بن الصامت، والله تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنْ عَبْدِ الله بْنِ الصَّامِتِ) الغفاريّ رحمه الله (عَنْ) عفه (أَبِي ذَرٍّ) جندب بن جُنَادة رضي الله عنه، أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ بَعْدِي) أي بعد موتي (مِنْ أُمَّتِي، أَوْ) للشكّ من الراوي (سَيَكُونُ بَعْدِي مِن أُمَّتِي قَوْمًا) بالنصب على أنه اسم "إنّ" مؤخّرًا، وخبرها الظرف "بعدي"، ومن أُمَّتي" متعلّق بحال مقدّر (يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ، لَا يُجَاوِزُ حُلُوقَهُمْ) بضم الحاء الهملة، واللام، جمع حَلْق بفتح، فسكون، قال في "المصباح":"الحَلْق" من الحيَوان جمعه حُلُوقٌ، مثلُ فَلْس وفُلُوس، وهو مذكّرٌ، قال ابن الأنباريّ: ويجوز في القياس أَحْلُقٌ، مثلُ أَفْلُس، لكنه لم يُسمع من العرب، وربّما قيل حُلُقٌ بضمتين، مثلُ رَهْنٍ ورُهُن، والْحُلْقُوم هو الْحَلْق، وميمه زائدة، والجمع حَلَاقِيم بالياء، وحذفُه تخفيفٌ. انتهى (1)(يَمْرُقُونَ) أي يخرجون، وتقدّم أنه من باب ضرب (مِنَ الدِّينِ كَما يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ).
(1)"المصباح المنير" 1/ 146.
قال ابن الأثير: "الرمِيّة": الصَّيد الّذي تَرميه، فتقصده، ويَنفُذ فيه سَهْمُك، وقيل: هي كلّ دابة مَرْمِيَّة. انتهى (1).
وقال الفيّوميّ رحمه الله: "الرميّة" ما يُرمى من الحيوان ذكرًا كان أو أنثى، والجمع رَمِيّات، ورَمَايَا، مثلُ عطيّة وعَطِيّات وعَطَايَا، وأصلها فَعِيلةٌ بمعنى مفعولة. انتهى (2).
(ثُمَّ لَا يَعُودُونَ فِيهِ) أي لا يرجعون إلى الدين (هُمْ شِرَارُ) بكسر الشين المعجمة، هكذا في رواية المصنّف، ووقع عند مسلم وغيره بلفظ "شَرّ الخلق والجلِيقة"، و"الشَّرُّ" بفتح الشين، ويجوز ضمها: نقيض الخير، جمعه شُرُور، أفاده في "القاموس"، ولم أجد "الشرار" بمعنى الشرّ في كتب اللُّغة الّتي بين يديّ، وإنّما هو بمعنى آخر، قال في "القاموس" ما حاصله:"الشِّرَار" كَكِتَاب، وجَبَلٍ: ما يتطاير من النّار، واحدتها بهاء. انتهى، ولعلّ المراد هنا أنهم كشِرَار النّار من حيث إلحاق الضرر بالأمة، والله تعالى أعلم (الخَلْقِ) أي النَّاس (وَالخَلِيقَةِ) أي البهائم، وقيل: هما بمعنى، أراد بهما جميع الخلق، واحتجّ بهذا من قال بتكفيرهم، وتأوله الجمهور بأن معناه هو شرّ المسلمين، ونحو ذلك، وبعده لا يخفى.
(قَالَ عَبْدُ الله بْنُ الصَّامِتِ: فَذَكَرْتُ ذَلِكَ) أي الحديث الّذي سمعه من أبي ذرّ رضي الله عنه في الخوارج (لِرَافِعِ بْنِ عَمْرٍو) الغِفَاريّ رضي الله عنه تقدّمت ترجمته آنفًا (أَخِي الحكَمِ بْنِ عَمْرٍو) ابن مُجَدَّع، ويقال له: الحكم بن الأقرع، قال ابن سعد: صَحِب النبيّ صلى الله عليه وسلم حتّى مات، ثمّ تحوّل إلى البصرة، فنزلها، روى عنه أبو الشعثاء، والحسن البصريّ، وابن سيرين، وأبو حاجب، وعبد الله بن الصامت، وأبو تميمة الْهُجَيميّ، والصّحيح أن بينهما دَلجَة بن قيس، ولّاه زياد خُرَاسان، فسكن مروَ، ومات بها، وقال أوس بن عبد الله بن بُريدة، عن أخيه سَهْل، عن أبيه: إن معاوية وجَهه عاملًا على خُراسان، ثمّ عَتَبَ عليه في شيء،
(1)"النهاية" 2/ 268.
(2)
"المصباح المنير" 1/ 240.
فأرسل عاملًا غيره، فحَبَسَ الحكم وقيّده، فمات في قيوده، قيل: مات سنة (45) وقال ابن ماكولا: سنة (50) وقال العسكريّ: سنة (51)، وذكر الحاكم أنه لمّا ورد عليه كتاب زياد دعا على نفسه بالموت فمات. أخرج له البخاريّ، والأربعة، له حديث واحد حديث رقم (373).
وقوله: (الْغِفَارِيِّ) بكسر الفاء، وتخفيف الفاء نسبة إلى غِفَار بن مليك بن ضَمْرة ابن بكر بن عبد مناة بن كِنَانة. قاله في "اللبّ"(1).
(فَقَالَ) رافع رضي الله عنه (وَأَنا أَيْضًا قَدْ سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم) أي سمعت هذا الحديث في الخوارج منه صلى الله عليه وسلم. فثبت بهذا أن هذا الحديث ممّا سمعه كلّ من أبي ذرّ، ورافع ابن عمرو من النبيّ صلى الله عليه وسلم، وسمعه منهما عبد الله بن الصامت رحمه الله، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): في درجته:
حديث أبي ذرّ رضي الله عنه هذا أخرجه مسلم.
(المسألة الثّانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا (34/ 170) بهذا السند فقط، وأخرجه (مسلم) في (3/ 116) و (أبو داود الطيالسيّ) في "مسنده"(448) و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(15/ 306) و (أحمد) في "مسنده"(5/ 31 و 176) و (الدارميّ) في "مسنده"(2439) و (ابن أبي عاصم) في "السنّة"(921 و 922) و (ابن حبّان) في "صحيحه"(6738) و (الطبرانيّ) في "الكبير"(4461) و (الحاكم) في "مستدركه"(3/ 444) و (البيهقي) في "دلائل النبوّة"(6/ 429)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
(1)"لبّ اللباب"2/ 134.
وبالسند المُتّصل إلى الإمام ابن مَاجَه رحمه الله في أول الكتاب قال:
171 -
(حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَسُوَيْدُ بْنُ سَعِيدٍ قَالَا: حَدَّثَنَا أَبُو الْأَحْوَصِ، عَنْ سِمَاكٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "لَيَقْرَأَنَّ الْقُرْآنَ نَاسٌ مِنْ أُمَّتِي، يَمْرُقُونَ مِنَ الْإِسْلَامِ، كمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ").
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(أبو بكر بن أبي شيبة) الحافظ الحجة المشهور المذكور قريبًا.
2 -
(سُويد بن سعيد) بن سهل الهَرَويّ الأصل، ثمّ الحدَثانيّ، ويقال له: الأنباريّ، أبو محمّد، صدوقٌ في نفسه، إِلَّا أنه عَمِيَ فصار يتلقّن ما ليس من حديثه، وأفحش ألقول فيه ابن معين، من قدماء [10] 4/ 30.
3 -
(أبو الأحوص) سلّام بن سُلَيم الحنفيّ مولاهم الكوفيّ، ثقة متقنٌ [7] 2/ 157.
4 -
(سماك) بن حرب الذهليّ البكريّ، أبو المغيرة الكوفيّ، صدوقٌ، وروايته عن عكرمة خاصّةً مضطربةٌ، وقد تغيّر بآخره، فكان ربّما تلقّن [4] 4/ 30.
و"عكرمة" مولى ابن عبّاس، و"ابن عبّاس" تقدّما في الباب الماضي، وشرح الحديث، وفوائده تعلم ممّا سبق. والله تعالى أعلم.
(مسألة): إسناد هذا الحديث ضعيف؛ لما سبق من الكلام في رواية سماك عن عكرمة، قال البوصيريّ رحمه الله: هذا إسناد ضعيفٌ، والعلّة فيه من سماك، قال النَّسائيّ، ويعقوب بن شيبة: روايته عن عكرمة مضطربة، وروايته عن غيره صالحة. انتهى.
وأما المتن فصحيح؛ بالأسانيد السابقة واللاحقة.
[تنبيه]: هذا الحديث من أفراد المصنّف، أخرجه هنا (34/ 171) بهذا السند فقط، ولم يخرجه من أصحاب الأصول غيره.
وأخرجه (أحمد) في "مسنده"(1/ 256)، والله تعالي أعلم بالصواب، وإليه
المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المُتّصل إلى الإمام ابن مَاجَه رحمه الله في أول الكتاب قال:
172 -
(حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الصَّبَاحِ، أنبَأَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرِ ابْنِ عَبْدِ الله قَالَ: كَانَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم بالجعْرَانَةِ، وَهُوَ يَقْسِمُ التِّبْرَ وَالْغَنَائِمَ، وَهُوَ في حِجْرِ بلَالٍ، فَقَالَ رَجُلٌ: اعْدِلْ يَا مُحَمَّدُ، فَإِنَّك لَمْ تَعْدِلْ، فَقَالَ: "وَيْلَكَ، وَمَنْ يَعْدِلُ بَعْدِي إِذَا لَمْ أَعْدِلْ؟ "، فَقَالَ عُمَرُ: دَعْني يَا رَسُولَ الله حَتَّى أَضرِبَ عُنُقَ هَذَا المنافِقِ، فَقَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ هَذَا في أَصْحَابٍ" أَوْ "أُصَيْحَابٍ لَهُ يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ كَما يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ").
رجال هذا الإسناد: أربعة:
1 -
(محمّد بن الصبّاح) بن سفيان الجرْجَرَائيّ، أبو جعفر التاجر، صدوقٌ [10] 1/ 2.
[تنبيه]: محمّد بن الصبّاح في الكتب الستة اثنان:
(أحدهما): الجرجرائي المذكور هنا، رَوَى عنه أبو داود، والمصنّف بغير واسطة، وروى عنه في هذا الكتاب (146) حديثًا.
(والثّاني): محمّد بن الصبّاح الدُّولابيّ، روى عنه المصنّف حديثًا واحدًا برقم (193) بواسطة محمّد بن يحيى الذهليّ، وقد تقدّم بيان هذا في أوائل هذا الشرح، وإنّما أعدته تذكيرًا؛ لطول العهد به، فتنبّه، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل.
2 -
(سفيان بن عُيينة) الإمام الحجة الثقة الثبت [8] 2/ 13.
3 -
(أبو الزُّبير) محمّد بن مسلم بن تدرُس المكيّ، صدوقٌ يدلِّس [4] 4/ 34.
4 -
(جابر بن عبد الله) بن عمرو بن حَرَام الأنصاريّ السَّلميّ الصحابيّ ابن الصحابيّ رضي الله عنهما 1/ 11.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من رباعيّات المصنّف.
2 -
(ومنها): أن رجاله رجال الصّحيح، غير شيخه، وهو ثقة، وأبو الزُّبير، وإن كان مدلّسًا إِلَّا أنه صرّح بالسماع في "صحيح مسلم"، فزالت تهمة التدليس.
3 -
(ومنها): أنه مسلسلٌ بالمكيين، غير شيخه، فجرجرائيّ، نسبة إلى جَرْجَرايا بلد بين واسط وبغداد، وجابر رضي الله عنه سكن مكّة، والله تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ الله) رضي الله عنهما، وفي رواية لمسلم من طريق يحيى بن سعيد الأنصاريّ، قال: أخبرني أبو الزُّبير، أنه سمع جابر بن عبد الله (قَالَ: كَانَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم بِالجعْرَانَةِ) قال ابن الأثير رحمه الله: هو: موضعٌ قريبٌ من مكّة، وهو في الحلّ، وميقات للإحرام، وهي بتسكين العين، والتخفيف، وقد تُكسر العين، وتُشَدَّد الراء. انتهى (1).
وقال الفيّوميّ رحمه الله: هو موضع بين مكّة والطائف، وهي على سبعة أميال من مكّة، وهي بالتخفيف، واقتصر عليه في "البارع"، ونقَلَه جماعة عن الأصمعيّ، وهو مضبوط كذلك في "الْمُحْكَمِ"، وعن ابن المدينيّ: العراقيّون يُثَقِّلُون الجعْرَانة، والحُدَيبيَةَ، والحجازيّون يُخَفِّفُونهما، فأخَذَ به المحدّثون على أن هذا اللّفظ ليس فيه تصريح بأن التثقيل مسموع من العرب، وليس للتثقيل ذكرٌ في الأصول المعتمدة إِلَّا ما حكاه في "المحكم" تقليدًا له في الحديبية، وفي "الْعُبَاب": والجعْرَانَة بسكون العين، وقال الشّافعيّ: المحدّثون يُخطئون في تشديدها، وكذلك قال الخطّابيّ. انتهى (2).
زاد في رواية مسلم: "مُنْصَرَفه من حُنَيْنٍ"، يعني أنه كان وقت انصرافه من غزوة
(1)"النهاية" 1/ 276.
(2)
"المصباح المنير" 1/ 102.
حُنين، وكان ذلك في ذي القعدة سنة ثمان من الهجرة (وَهُوَ) صلى الله عليه وسلم جملة في محلّ نصب على الحال، أي والحال أنه صلى الله عليه وسلم (يَقْسِمُ) بفتح أوله، وكسر ثالثه، من باب ضرب (التِّبْرَ) بكسو التاء المثنّاة الفوقية، وسكون الموحّدة-: هو الذهب والفضّة قبل أن يُضرَبَا دنانير ودراهم، فإذا ضُرِبَا كانا عَيْنًا، وقد يُطلَق التبر على غيرهما من المعدنيّات، كالنحاس والحديد والرَّصاص، وأكثر اختصاصه بالذهب، ومنهم من يَجعله في الذهب أصلًا، وفي غيره فرعًا ومجازًا. أفاده في "النهاية"(1).
(وَالْغَنَائِمَ) بالفتح جمع غنيمة، وهو ما أُصيب من أموال أهل الحرب، وأوجف عليه المسلمون بالخيل والركاب. قاله في "النهاية"(2)، وقال في "المصباح":"الغنيمة": ما نِيل من أهل الشرك عَنْوَةً، والحربُ قائمةٌ، و"الْفَيْءُ": ما نِيل منهم بعد أن تَضَعَ الحرب أوزارها. انتهى (3).
(وَهُوَ) الواو للحال، أي والحال أن ذلك التبر موضوع (في حِجْرِ بِلَالٍ) الصحابيّ المؤذّن المشهور رضي الله عنه، و"الحَجْر" بفتح الحاء المهملة، وكسرها، وسكون الجيم: الثّوب، والحِضْنُ، قاله في "النهاية"(4)، وظاهرة عبارة "القاموس" أنه بكسر الحاء فقط، وفسّره بما بين يديك من ثوبك، والله تعالى أعلم.
(فَقَالَ رَجُلٌ) قيل: هو ذو الخويصرة، وفيه كلام سيأتي تحقيقه قريبًا -إن شاء الله تعالى- (اعْدِلْ يَا مُحَمَّدُ، فَإِنَّكَ لَمْ تَعْدِلْ) وفي لفظ منْ حديث أبي سعيد: "اتّق الله يا محمّد"، وفي حديث عبد الله بن عمرو عند البزّار والحاكم:"فقال: يا محمّد والله لئن كان الله أمرك أن تعدل ما أراك تعدل"، ووقع في رواية: "فقال: يا محمّد قد رأيتُ الّذي
(1)"النهاية" 1/ 179.
(2)
"النهاية" 3/ 389.
(3)
"المصباح المنير" 2/ 455.
(4)
"النهاية" 1/ 342.
صنعتَ، قال: وكيف رأيتَ؟ قال: لم أرك عدلت" (فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم ("وَيْلَكَ) وفي حديث أبي سعيد: "ويحك"(وَمَنْ يَعْدِلُ)"من" استفهامية، والاستفهام للإنكار، أي لا أحد يعدل (بَعْدِي إِذَا لَمْ أَعْدِلْ؟ ") يعني أنهم أمروا باتباعه صلى الله عليه وسلم، فإذا لم يعدل المتبع فمن الّذي يعدل بعده؟، ولفظ البخاريّ من طريق عمرو بن دينار، عن جابر رضي الله عنه قال:"بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يَقسم غنيمةً بالجعرانة، إذ قال له رجل: اعدل، قال: لقد شقيت إن لم أعدل".
وقوله: "لقد شقيت" بضم المثناة للأكثر، ومعناه ظاهر، ولا محذور فيه، والشرط لا يستلزم الوقوع؛ لأنه ليس ممّن لا يعدل حتّى يحصل له الشقاء، بل هو عادل فلا يَشقَى، وحكى عياض فتحها، ورجحه النووي، وحكاه الإسماعيليّ عن رواية شيخه المنيعيّ من طريق عثمان بن عمر، عن قُرّة، والمعنى: لقد شقيتَ، أي ضللتَ أنت أيها التابع حيث تقتدي بمن لا يعدل، أو حيث تعتقد في نبيّك هذا القول الّذي لا يصدُر عن مؤمن. قاله في "الفتح"(1).
ولفظ مسلم: "قال: ويلك ومن يعدل إذا لم أكن أعدل؟ لقد خِبْتُ وخَسِرتُ إن لم أكن أعدل"، وفي حديث أبي سعيد:"ومن يُطع الله إذا لم أُطعه"، وفي لفظ:"أو لست أحقّ أهل الأرض أن أطيع الله"، وفي حديث عبد الله بن عمرو:"عند مَنْ يُلْتَمسُ العدل بعدي؟ "، وفي رواية عنه:"فغضب صلى الله عليه وسلم وقال: العدل إذا لم يكن عندي فعند من يكون"، وفي حديث أبي بكرة:"فغضب حتّى احمرّت وجنتاه"، وفي حديث أبي برزة:"فغضب غضبًا شديدًا، وقال: والله لا تجدون بعدي رجلًا هو أعدل عليكم منّي".
(فَقَالَ عُمَرُ) بن الخطّاب رضي الله عنه، وهذا صريح في أن الّذي طلب قتله عمر رضي الله عنه، وكذا هو في حديث أبي سعيد رضي الله عنه عند البخاريّ، لكن وقع عند مسلم في حديث أبي سعيد أن الّذي طلب هو خالد بن الوليد، ويُمكن الجمع بأن كلا منهما طلب ذلك، ويؤيّد هذا الجمع ما في رواية لمسلم أيضًا من طريق جرير، عن عمارة بن القعقاع، عن
(1)"الفتح" 6/ 291 "كتاب فرض الخمس" الحديث (3138).
عبد الرّحمن بن أبي نُعم عنه، وفيه:"فقام عمر بن الخطاب، فقال: يا رسول الله ألا أضرب عنقه؟ قال: لا، ثمّ أدبر، فقام إليه خالد بن الوليد سيف الله، فقال: يا رسول الله أضرب عنقه؟، قال: لا"، فهذا نصّ صريح في أن كلا منهما سأل.
هذا بالنسبة لحديث أبي سعيد رضي الله عنه، وأمّا في حديث جابر رضي الله عنه المذكور هنا، وكذا حديث عبد الله بن عمرو فالسائل هو عمر رضي الله عنه، لكن المعترض واحد في الموضعين. أفاده في "الفتح"(1).
(دَعْنِي) أي اتركني (يَا رَسُولَ الله حَتَّى أَضْرِبَ عُنُقَ هَذَا المُنَافِقِ) وفي رواية مسلم بيان سبب الأمر بتركه، ولفظه: "فقال: معاذ الله أن يتحدَّث النَّاس أني أقتل أصحابي، إن هذا وأصحابه يقرءون القرآن
…
" الحديث، وأخرج أحمد، والطّبريّ من طريق بلال ابن بقطر، عن أبي بكرة قال: "أُتِيَ النّبيّ صلى الله عليه وسلم بِمُوَيْلٍ، فقعد يقسمه، فأتاه رجل، وهو على تلك الحال
…
" فذكر الحديث، وفيه: "فقال أصحابه ألَّا تضرب عنقه؟، فقال: لا أريد أن يسمع المشركون أني أقتل أصحابي".
[تنبيه]: القصة الّتي في حديث جابر المذكور هنا صُرِّح فيه بأنها كانت منصرف النّبيّ صلى الله عليه وسلم من الجعرانة، وكان ذلك في ذي القعدة سنة ثمان، وكان الّذي قسمه النّبيّ صلى الله عليه وسلم حينئذ تبرًا كان في حجر بلال رضي الله عنه، وكان يعطي كلّ من جاء منها، والقصة الّتي في حديث أبي سعيد صرح في رواية أبي نعيم عنه أنها كانت بعد بحث علي رضي الله عنه إلى اليمن، وكان ذلك في سنة تسع، وكان المقسوم فيها ذهبًا وخص به أربعة أنفس، فهما قصتان في وقتين، اتَّفَقَ في كلّ منهما إنكار القائل، وصرح في حديث أبي سعيد أنه ذو الخويصرة التَّميميّ، ولم يُسَمَّ القائل في حديث جابر.
قال الحافظ: ووَهِمَ من سماه ذا الخويصرة ظانّا اتحاد القصتين، قال: ووجدت لحديث جابر رضي الله عنه شاهدًا من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص، عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنه أتاه رجل يوم حنين، وهو يَقْسِم شيئًا، فقال: يا محمّد اعْدِل، ولم يُسَمِّ الرَّجل أيضًا، وسماه
(1) راجع "الفتح" 12/ 366.
محمّد بن إسحاق بسند حسن، عن عبد الله بن عمر، وأخرجه أحمد، والطّبريّ أيضًا، ولفظه: "أتى ذو الخويصرة التَّميميُّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو يَقْسِم الغنائم بحنين، فقال يا محمّد
…
فذكر نحو هذا الحديث المذكور، فيمكن أن يكون تكرر ذلك منه في الموضعين، عند قسمة غنائم حنين، وعند قسمة الذهب الّذي بعثه علي. انتهى كلام الحافظ (1).
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: آخر كلام الحافظ رحمه الله يعارض أوله؛ لأنه قال: ووهم من سمّاه ذا الخويصرة إلخ، ثمّ قرّر أخيرًا بإمكان أن يتكرّر ذلك منه، وهذا هو الّذي يظهر لي، والله تعالى أعلم.
(فَقَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ هَذَا في أَصْحَابٍ) أي مع أصحاب، ففي بمعنى:"مع"، والمعنى أنه ليس بواحد حتّى يندفع شرّه بقتله، بل له أصحاب، وأمثال (2)، ورواية مسلم المذكورة: "إن هذا وأصحابه يقرءون
…
" (أَوْ) للشكّ من الراوي ("أُصَيْحَابٍ) بالتصغير (لَهُ يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ ترَاقِيَهُمْ) بمثناة، وقاف جمع تَرْقُوة -بفتح أوله، وسكون الراء، وضم القاف، وفتح الواو- وهي العظم الّذي بين نُقرة النَّحر والعاتق، والمعنى أن قراءتهم لا يرفعها الله، ولا يقبلها، وقيل: لا يعملون بالقرآن، فلا يثابون على قراءته، فلا يحصُل لهم إِلَّا سَرْده (يَمْرُقُونَ) أي يخرجون (مِنَ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ") فَعِيلة بمعنى مفعولة، أي الغزالة المرميّة مثلًا، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): في درجته:
حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما هذا متّفق عليه.
(1)"الفتح" 12/ 363 - 364.
(2)
"شرح السنديّ" 1/ 112.
(المسألة الثّانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا (34/ 172) بهذا السند فقط، وأخرجه (البخاريّ) بها "صحيحه"(4/ 111 و 3138) مختصرًا و (مسلم) في "صحيحه"(3/ 109 و 110) و (الحميديّ) في "مسنده"(1271) و (أحمد) في "مسنده"(3/ 353 و 354) و (البخاريّ) في "الأدب المفرد"(774) و (النَّسائيّ) في "فضائل القرآن"(112 و 113) و (ابن حبّان) في "صحيحه"(4819) و (البيهقي) في "دلائل النبوّة"(5/ 185 - 186)، وفوائد الحديث تعلم ممّا سبق، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المُتَّصل إلى الإمام ابن مَاجَه رحمه الله في أول االكتاب قال:
173 -
(حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا إِسْحَقُ الْأَزْرَقُ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنِ ابْنِ أَبِي أَوْفَى، قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "الخَوَارِجُ كِلَابُ النَّارِ").
رجال هذا الإسناد: أربعة:
1 -
(إسحاق الأزرق) هو: إسحاق بن يوسف بن مِرْداس المخزوميّ الواسطي المعروف بالأزرق، ثقة [9].
رَوَى عن ابن عون، والأعمش، وشريك، والثوري، ومسعر، وعُمَر بن ذَرّ، وعوف، وغيرهم.
ورَوَى عنه أحمد بن حنبل، وأبو خيثمة، وأبو بكر بن أبي شيبة، ودُحَيم، وقتيبة، وعمرو الناقد، ويحيى بن معين، وجماعة، آخرهم سَعْدَان بن نصر البزاز.
قيل لأحمد: إسحاق الأزرق ثقة؟ فقال: إِي والله ثقة. وقال ابن معين والعجلي: ثقة. وقال أبو حاتم: صحيح الحديث، صدوق، لا بأس به. وقال يعقوب بن شيبة: كان من أعلمهم بحديث شريك. وقال الخطيب: كان من الثقات المأمونين. وقال وهب بن بقية: وُلِد سنة (117)، وقال خليفة، ومحمد بن سعد، وغير واحد: مات سنة (195) زاد ابن سعد: وكان ثقة، وربما غَلِطَ. وذكر ابن حبّان في "الثِّقات" أنه روى عن
إسماعيل بن أبي خالد، وقال البزار: كان ثقة.
أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب تسعة أحاديث برقم 173 و 667 و 680 و 1224 و 1606 و 2392 و 2617 و 3405 و 4032.
2 -
(الأعمش) سليمان بن مِهْرَان، أبو محمّد الكوفيّ الحافظ الحجة المشهور [5] 1/ 1.
3 -
(ابن أبي أوفى) هو: عبد الله بن أبي أوفى، واسمه علقمة بن خالد بن الحارث ابن أبي أسيد بن رِفاعة بن ثعلبة بن هوازن بن أسلم بن أفصَى بن حارثة الأسلمي، أبو إبراهيم، وبه جزم البخاريّ، وقيل: أبو محمّد، وقيل: أبو معاوية، وله ولأبيه صحبة، وشَهِدَ عبد الله بيعة الرضوان، ثم نزل الكوفة ومات بها.
رَوَى عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم، وعنه إبراهيم بن عبد الرّحمن السَّكْسَكِيُّ، وإبراهيم بن مسلم الْهَجَريّ، وإسماعيل بن أبي خالد، والحكم بن عُتيبة، وسالم أبو النضر فيما كتب إليه، وسلمة بن كُهيل، والأعمش -يقال مرسل- وطارق بن عبد الرّحمن البجلي، وطلحة بن مُصَرِّف، وعبد الله، ويقال: محمّد بن أبي المُجَالد، وعُبيد بن الحسن، وعدي ابن ثابت، وعطاء بن السائب، وعمرو بن مرّة، وفائد أبو الورقاء، والقاسم بن عوف الشيباني، ومَجْزأة بن زاهر، والوليد بن سَرِيع، ويحيى بن عَقِيل، وأبو آدم المحاربي، وأبو إسحاق الشيباني، وأبو المختار الأسدي، وأبو يعفور العبدي، وشَعْثاء الكوفية.
وأخرج أحمد عن يزيد، عن إسماعيل: رأيت على ساعد عبد الله بن أبي أوفى ضربة، فقال: ضُربتها يوم حُنين، فقلت: أشهد حُنينًا؟ قال: نعم، وقبل ذلك. وفي "الصّحيح" عن عمرو بن مرّة قال: سمعت ابن أبي أوفى، وكان من أصحاب الشجرة. وفي "الصّحيح" عنه قال: غزوت مع النبيّ صلى الله عليه وسلم ست غزوات نأكل الجراد، وفي رواية سبع غزوات، قال سفيان وعطاء -هو ابن السائب-: رأيت عبد الله بن أبي أوفى بعد ما ذهب بصره (1).
(1) راجع "الإصابة" 4/ 16 - 17.
قال يحيى بن بكير وغيره: مات سنة ست وثمانين. وقال البخاريّ عن أبي نعيم: مات سنة (87). وقال الذهلي عن أبي نعيم: مات سنة سبع أو ثمان وثمانين. قال عمرو ابن علي: وهو آخر من مات بالكوفة من الصّحابة، وهو أخو زيد بن أبي أوفي، لكن منع ذلك أبو أحمد العسكري وغيره، وفي "كتاب الجهاد" من البخاريّ ما يدلُّ على أنه شهد الخندق (1).
أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (17) حديثًا.
وشيخ المصنّف سبق قريبًا، والله تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَن) عبد الله (ابْنِ أَبِي أَوْفَى) علقمة بن خالد الصحابيّ ابن الصحابيّ رضي الله عنهما، أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم "الخوَارِجُ كِلَابُ النَّارِ) مبتدأ وخبره، والمعنى: هم كلاب أهلها، ويحتمل أن يكونَ أنهم على صورة كلاب فيها (2).
والحديث ساقه الإمام أحمد رحمه الله وغيره مطوّلًا، ولفظ أحمد:
18600 -
حَدَّثَنَا أبو النضر، حَدَّثَنَا الحَشْرج بن نُبَاتة العبسي كوفي، حدثني سعيد ابن جُمْهان، قال: لقيت عبد الله بن أبي أوفى، وهو محجوب البصر، فسلمت عليه، قال لي: من أنت؟ فقلت: أنا سعيد بن جُمْهان، قال: فما فَعَل والدك؟ قال: قلت: قتلته الأزارقة (3) قال: لعن الله الأزارقة، لعن الله الأزارقة، حَدَّثَنَا رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم كلاب النّار، قال: قلت: الأزارقة وحدهم أم الخوارج كلها؟ قال: بلى الخوارج كلها، قال: قلت: فإن السلطان يَظْلِم الناسَ، ويفعل بهم، قال: فتناول يدي فغَمَزَها بيده غَمْزة شديدة، ثمّ قال: ويحك يا ابن جُمْهان عليك بالسواد الأعظم، عليك بالسواد الأعظم، إن كان السلطان يَسمَع منك فأته في بيته فأخبره بما تعلم، فإن قَبِل منك وإلا فدعه،
(1)"تهذيب التهذيب" 2/ 304 - 305.
(2)
راجع "المرقاة" 7/ 120.
(3)
هم أتباع نافع بن الأزرق الخارجيّ المشهور.
فإنك لست بأعلم منه. وهذا إسناد صحيح، فإن الحَشْرَج وثقه أحمد، وابن معين، وأبو داود، وقال أبو زرعة: لا بأس به، مستقيم الحديث، وقال النَّسائيُّ: ليس به بأس، وسعيد بن جمهان وثقه أحمد، وابن معين، وأبو داود، وابن حبّان، وأبو النضر هاشم ابن القاسم حافظ حجة مشهور من رجال الجماعة، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه الرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): في درجته:
حديث ابن أبي أوفى رضي الله عنهما هذا صحيح.
[فإن قلت]: كيف يصحّ، وفيه انقطاع، فإن الأعمش لم يسمع من ابن أبي أوفى؟.
[قلت]: إنّما صحّ لشواهده، فقد تقدّم آنفًا أن أحمد أخرجه من طريق الحشْرَج بن نُباتة، عن سعيد بن جمهان، عنه، وهو إسناد صحيح على الصواب. والله تعالى أعلم.
(المسألة الثّانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا (34/ 173) بهذا الإسناد فقط، ولم يُخرجه من أصحاب الأصول غيره، وأخرجه (أحمد) في "مسنده"(4/ 355 و 19434) و (الحاكم) في "المستدرك"(3/ 571) و (ابن أبي عاصم) في "السنة"(904) و (عبد الله بن أحمد) في "السنة"(1513) و (أبو نعيم) في "الحلية"(5/ 56) و (الخطيب) في "التاريخ"(6/ 319).
والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المُتّصل إلى الإمام ابن مَاجَه رحمه الله في أول الكتاب قال:
174 -
حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عَمَّارٍ، حَدَّثَنَا يَحْيىَ بْنُ حَمْزَةَ، حَدَّثَنَا الْأَوْزَاعِيُّ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ: أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: "يَنْشَأُ نَشْءٌ يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ، لَا يجاوِزُ تَرَاقِيَهُمْ، كُلَّمَا خَرَجَ قَرْنٌ قُطِعَ"، قَالَ ابْنُ عُمَرَ: سَمِعْتُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "كُلَّمَا خَرَجَ قَرْنٌ قُطِعَ" -أَكْثَرَ مِنْ عِشْرِينَ مَرَّةً- "حَتَّى يَخْرُجَ في عِرَاضِهِمُ الدَّجَّالُ").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(هشام بن عمّار) السلميّ الدمشقيّ الخطيب، صدوقٌ مقرىء، كبر فصار يتلقّن، فحديثه القديم أصحّ، من كبار [10] 1/ 5.
2 -
(يحيى بن حمزة) بن واقد الحضرميّ، أبو عبد الرّحمن الدمشقي القاضي، ثقة رُمي بالقدر [8] 1/ 7.
3 -
(الأوزاعيِّ) عبد الرّحمن بن عمرو، أبو عمرو الدمشقيّ الفقيه الثقة الحجة [7] 5/ 8.
4 -
(نافع) مولى ابن عمر، أبو عبد الله المدنيّ الفقيه الثقة الثبت [3] 11/ 99.
5 -
(ابن عمر) بن الخطّاب رضي الله عنهما 1/ 4، والله تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من خماسيات المصنّف.
2 -
(ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصّحيح.
3 -
(ومنها): أنه مسلسل بالدمشقيين، إلى نافع، وهو ومولاه مدنيان.
4 -
(ومنها): أن ابن عمر أحد العبادلة الأربعة، والمكثرين السبعة، والمشهورين بالفتوى من الصّحابة رضي الله عنهم، والله تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنِ) عبد الله (ابْنِ عُمَرَ) رضي الله عنهما (أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: "يَنْشَأُ نَشْءٌ) أي يتجدّد أحداثٌ من الشباب، قال في "المصباح": ونَشَأَ الشيَءُ يَنْشَأُ نَشْأً مهموز من باب نَفَعَ: حَدَثَ وتَجَدَّد، وأنشأتُهُ أحدثته، والاسم النَّشْأَةُ، والنَّشَاءَة، وزانُ التّمرة والضلالة. انتهى (1)، وقال في "النهاية": ما حاصله: الناشىءُ السَّحَابُ لم يتكامل اجتماعه واصطحابه، ومنه نَشَأَ الصبيّ نَشْأً فهو ناشىء: إذا كَبِرَ وشَبَّ، ولم يتكامل،
(1)"المصباح المنير" 2/ 606.
ومنه حديث "نَشَأٌ يتخذون القرآن مَزَاميرَ" يُروى بفتح الشين، جمع ناشىء، كخادم وخَدَم، يريد جماعة أحداثًا، قال أبو موسى: والمحفوظ بسكون الشين، كأنه تسمية بالمصدر. انتهى (1). (يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ، لَا يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُمْ) أي حُلُوقهم بالصعود إلى محلّ القبول، أو النزول إلى القلوب ليؤثّر فيها (كُلَّمَا خَرَجَ قَرْنٌ) فعل وفاعل: أي كلما ظهرت طائفة منهم (قُطِعَ) بالبناء للمفعول: أي استحق أن يُقطع، وكثيرًا ما يُقطع أيضًا، كالحروريّة قطعهم عليّ رضي الله عنه. هكذا قاله السندي في "شرحه"(2).
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: الّذي يظهر لي أن معناه إخبار بأنهم يقطعهم الله، يدلُّ على ذلك ما في رواية الإمام أحمد في "مسنده" بلفظ:"كلما طلع منهم قرنٌ قطعه الله عز وجل".
(قَالَ ابْنُ عُمَرَ) رضي الله عنهما (سَمِعْتُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "كلمَا خَرَجَ قَرْنٌ قُطِعَ" -أَكْثَرَ مِنْ عِشْرِينَ مَرَّةً-) يعني أنه ردّده كثيرًا حتّى جَاوز عشرين، ولفظ أحمد من طريق شهر بن حَوْشب، عن ابن عمر رضي الله عنهما:"فردّد ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم عشرين مرّة أو أكثر، وأنا أسمع"("حَتَى يَخْرُجَ في عِرَاضِهِمُ الدَّجَّالُ) بكسر العين المهملة، جمع عُرْض، بضم فسكون، وهو الناحية، هكذا يُستفاد من عبارة "القاموس"(3)، والمعنى أن الدجّال يخرج في جملة هؤلاء النَّشْءِ الخارجين.
وقال السنديّ: أي خِدَاعهم، أي أن آخرهم يقابلهم، ويناظرهم في الأعمال، وفي بعض النسخ "أعراضهم" وهو جمع عَرْض، بفتح فسكون بمعنى الجيش العظيم، وهو
(1)"النهاية" 5/ 51 - 52.
(2)
"شرح السنديّ" 1/ 112.
(3)
فقد قال: "العِراض" بالكسر سِمَةٌ، أو خطٌّ في فخذ البعير عَرْضًا قال: وحديدةٌ يؤثّر بها أخفاف الإبل لتعرف آثارها، والناحية، والشِّقُّ، جمعُ عُرْضٍ. انتهى، والمناسب هنا هو معنى الناحية، فتأمله. والله تعالى أعلم.
مستعار من العرض بمعنى ناحية الجبل، أو بمعنى السحاب الّذي يسدّ الأُفُقِ، وهذه النسخة أظهر معنى. انتهى (1).
قال الجامع عفا الله عنه: قوله: "أي خداعهم إلخ" لا يظهر لي معناه، ولا أدري من أين له هذا المعنى، بل المعنى الّذي قدّمته هو الأوضح، فتأمله. والله تعالى أعلم.
وقال صاحب "إنجاح الحاجة"(2): ما نصُّه: قوله: "كلما خرج قرن قُطِع إلخ" أي أُهلك، ودُمِّر، ولفظ "عشرين مرّةً" يحتمل أن يكون مقولة ابن عمر، فيكون سماع ابن عمر هذا الكلام منه صلى الله عليه وسلم أكثر من عشرين مرّة، ويحتمل أن يكون من مقولة النّبيّ صلى الله عليه وسلم فالمراد منه -والله أعلم- أن أهل الحقّ يقاتلونهم، ويقطعون دابرهم أكثر من عشرين مرّة في كلّ قرن، ومع ذلك يبقى منهم فرقة حتّى يخرج في عراضهم ومواجهتهم الدجّال، والحاصل أن أهل الأهواء وإن قاتلهم أهل الحقّ في قرن واحد أكثر من عشرين مرّة لا يتركون أهواءهم. انتهى.
قال الجامع عفا الله عنه: قوله: ويحتمل أن يكون من مقولة النبيّ صلى الله عليه وسلم إلخ ممّا لا وجه له، بل الاحتمال الأوّل هو الصواب، فقد سبق في رواية أحمد بيانه، حيث رواه بلفظ:"فردّد ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم عشرين مرّة أو أكثر، وأنا أسمع"، فهذا صريح في كونه من كلام ابن عمر رضي الله عنهما، فلا وجه لترديد الاحتمالات، فتبصّر، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
(1)"شرح السنديّ" 1/ 112.
(2)
هو الشّيخ عبد الغني المجددي الدهلويّ المدنيّ المتوفّى سنة (1295 هـ).
وبالسند المُتّصل إلى الإمام ابن مَاجَه رحمه الله في أول الكتاب قال:
175 -
(حَدَّثَنَا بَكْرُ بْنُ خَلَفٍ أَبُو بشْرٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَس بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "يَخْرُجُ قَوْمٌ في آخِرِ الزَّمَانِ" أَوْ "في هَذِهِ الْأُمَّةِ، يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ، لَا يُجَاوِزُ ترَاقِيَهُمْ"، أَوْ "حُلُوقَهُمْ، سِيمَاهُمُ التَّحْلِيقُ، إِذَا رَأَيْتُمُوهُمْ" أَوْ "إِذَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاقْتُلُوهُمْ"").
رجال هذا الإسناد خمسة:
1 -
(بكر بن خَلَف أبو بِشْر) البصريّ، خَتَنُ أبي عبد الرّحمن المقرىء، ثقةٌ (1)[10].
روى عن غندر، ومحمد بن بكر الْبُرْساني، وإبراهيم بن خالد الصنعاني، وابن عيينة، وأبي عاصم، ومعتمر بن سليمان، ويزيد بن زريع، وجماعة.
ورَوَى عنه البخاريّ تعليقًا، وأبو داود، وابن ماجه، وعبد الله بن أحمد، وحنبل ابن إسحاق، وزكرياء السجزي، وأبو بكر محمّد بن إدريس بن عمر ورّاق الحميدي، وغيرهم.
قال ابن أبي خيثمة عن يحيى: ما به بأس. وقال هاشم بن مَرْثَد عنه: صدوق.
وقال أبو حاتم: ثقة. ووثقه مسلمة بن قاسم الأندلسيّ، وابن خلفون. وقال عبيد الله ابن واصل: رأيت محمّد بن إسماعيل يَخْتَلِف إلى محمّد بن المهَلَّب يكتب عنه أحاديث أبي بِشْر بن خَلَف، وكنت أَتَوَهَّم أن أبا بشر قد مات، فلما قدمت مكّة إذا هو حي فلزمته. وذكره ابن حبّان في "الثِّقات"، وقال: تُوُفّي سنة (240)، وكذا ذكر ابن يونس وفاته في "تاريخ الغرباء"، وقال أبو داود: أمرني أحمد بن حنبل أن أكتُب عنه.
أخرج له البخاريّ في التعاليق، وأبو داود، والمصنّف، وله في هذا الكتاب
(1) هذا أولى ممّا قال في "التقريب": صدوق، لأنه وثقه أبو حاتم الرازيّ، ومسلمة بن قاسم الأندلسيّ، وابن خَلْفون، وابن حبَّان، وأخرج حديثه في "صحيحه"، والذهبيّ، وقال ابن معين وحده: صدوق، ولا يعلم لأحد جرحُهُ، راجع ما كتبه دكتور بشار في تعليقه على "تهذيب الكمال" 4/ 208 وعلى "التقريب" 1/ 180.
(67)
حديثًا.
2 -
(عبد الرزّاق) بن همّام بن نافع، أبو بكر الصنعاني، ثقة حافظ مصنّف شهير، عَمِي في آخر عمره فتغيّر، وكان يتشيّع [9] 2/ 16.
3 -
(معمر) بن راشد الأزديّ مولاهم، أبو عروة البصريّ، نزيل اليمن، ثقة ثبت فاضل، من كبار [7] 2/ 16.
4 -
(قتاد) بن دِعَامة السدوسيّ، أبو الخطّاب البصريّ، ثقة ثبت يدلّس [4] 1/ 10.
5 -
(أنس) بن مالك الصحابيّ الشهير رضي الله عنه 3/ 23، والله تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله.
2 -
(ومنها): أن رجاله رجال الصّحيح، وشيخه أخرج له البخاريّ في التعاليق.
3 -
(ومنها): أنه مسلسل بثقات البصريين.
4 -
(ومنها): أن فيه أنسًا رضي الله عنه أحد المكثرين السبعة، روى (2286) حديثًا، وهو آخر من مات من الصّحابة بالبصرة، خدم النبيّ صلى الله عليه وسلم عشر سنين، وهو من المعمّرين عاش أكثر من مائة سنة رضي الله عنه، والله تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنْ أَنَس بْنِ مَالِكٍ) رضي الله عنه، أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "يَخْرُجُ قَوْمٌ في آخِرِ الزَّمَانِ") تقدّم أن المختار في معناه آخر زمان خلافة النبوة؛ لما في حديث سفينة رضي الله عنه عند أصحاب السنن و"صحيح ابن حبّان" مرفوعًا: "الخلافة بعدي ثلاثون سنة، ثمّ تصير ملكًا"، وكانت قصّة خروج الخوارج وقتلهم بالنهروان في أواخر خلافة عليّ رضي الله عنه سنة ثمان وعشرين بعد وفاة النبيّ صلى الله عليه وسلم بدون الثلاثين بنحو سنتين.
وهذا الحديث أخرجه أبو داود في "سننه" بإسناد صحيح، من طريق قتادة، عن أبي سعيد الخدري، وأنس رضي الله عنهما مطوّلًا، ولفظه:
4137 -
حَدَّثَنَا نصر بن عاصم الأنطاكي، حَدَّثَنَا الوليد ومبشر -يعني ابن إسماعيل الحلبي- عن أبي عمرو (1) قال -يعني الوليد- حَدَّثَنَا أبو عمرو، قال: حدثني قتادة عن أبي سعيد الخدري وأنس بن مالك، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"سيكون في أُمَّتي اختلاف وفُرْقة، قوم يحسنون القيل، ويسيئون الفعل، يقرءون القرآن لا يجاوز تراقيهم، يمرقون من الدين مروق السهم من الرَّمِيّة، لا يرجعون حتّى يَرْتَدّ على فُوقه، هم شر الخلق والخليقة، طُوبَى لمن قتلهم وقتلوه، يدعون إلى كتاب الله، وليسوا منه في شيء، مَنْ قاتلهم كان أولى بالله منهم"، قالوا: يا رسول الله ما سيماهم؟ قال: "التحليق".
حَدَّثَنَا الحسن بن علي، حَدَّثَنَا عبد الرزّاق، أَخْبَرَنَا معمر، عن قتادة، عن أنس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نحوه قال:"سيماهم التحليق والتسبيد، فإذا رأيتموهم فأَنِيموهم"، قال أبو داود:"التسبيد": استئصالُ الشعر.
(أَوْ) للشكّ من الراوي ("في هَذه الْأُمَّةِ) سبق الجمع بينه وبين رواية "من أُمَّتي" بأن المراد من قوله: "في هذه الأمة" أمة الإجابة، ومن قوله:"من أُمَّتي" أمة الدّعوة، فافهم (يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ، لَا يُجَاوِزُ ترَاقِيَهُمْ"، أَوْ) للشكّ أيضًا ("حُلُوقَهُمْ) بضمتين، وهو بمعنى التراقي (سِيمَاهُمُ التَّحْلِيقُ) قال النوويّ رحمه الله:"السيما" العلامة، وفيها ثلاث لغات: القصر، وهو الأفصح، وبه جاء القرآن، والمدّ، والثالثة السيمياء بزيادة ياء مع المدّ لا غير، والمراد به تحليق الرؤوس، واستدلّ به بعض النَّاس على كراهة حلق الرّأس، ولا دلالة فيه، وإنّما هو علامة لهم، والعلامة قد تكون بحرام، وقد تكون بمباح كما قال صلى الله عليه وسلم:"آيتهم رجلٌ أسود إحدى عضديه مثل ثدي المرأة"، ومعلوم أن هذا ليس بحرام، وقد ثبت في "سنن أبي داود" بإسناد صحيح على شرط البخاريّ ومسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى صبيّا قد حُلق بعض رأسه، فقال:"احلقوه كله، أو اتركوه كلّه"، وهذا صريح في إباحة حلق الرّأس لا يحتمل تأويلًا، قال أصحابنا -يعني الشّافعيّة-: حلق الرّأس
(1) هو الأوزاعيّ.
جائز بكلّ حال، لكن إن شقّ عليه تعهّده بالدَّهْن والتسريح استُحِبّ حلقه، وإن لم يشقّ استُحبّ تركه. انتهى كلام النوويّ رحمه الله، وهو تحقيق نفيسٌ جدًّا. والله تعالى أعلم.
وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "سيماهم التحليق": أي جعلوا ذلك علامةً لهم على رَفْضهم زينة الدنيا، وشِعَارًا لِيُعرَفوا به كما يَفعَل بعض رُهْبان النصارى يفحصون عن أوساط رؤوسهم، وقد جاء في وصفهم مرفوعًا:"سيماهم التسبيد"(1)، أي الحلق، يقال: سبد رأسه حلقه، وهذا كلّه منهم جهل بما يُزهَد فيه، وما لا يُزهد فيه، وابتداعٌ منهم في دين الله تعالى شيئًا كان النبيّ صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدون وأتباعهم على خلافه، فلم يُرْوَ عن أحد منهم أنهم اتَّسموا بذلك، ولا حَلَقُوا رؤوسهم في غير إحلال، ولا حاجة، وقد كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم شعرٌ، فتارة فرقه، وتارة صيّره جُمّةً، وأُخرى لِمَّةً، وقد رُوي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال:"من كانت له شعرة، أو جُمّة فليُكرمها"(2)، وقد كره مالك الحلق في غير إحرام، ولا حاجة ضروريّة. انتهى (3).
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: القول بكراهة الحلق ممّا لا وجه له؛ لحديث ابن عمر رضي الله عنهما: أن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "احلقوه كله، أو اتركوه كله"، وهو حديث صحيح، كما مرّ آنفًا، فالحقّ ما سبق تحقيقه عن النوويّ رحمه الله. والله تعالى أعلم.
(إِذَا رَأَيْتُمُوهُمْ أَوْ) للشكّ من الراوي ("إِذَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاقْتُلُوهُمْ") فيه الأمر بقتل الخوارج، وقد تقدّم تحقيقه، وأقوال أهل العلم فيهم، فلا تغفُل، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
(1) حديث صحيح رواه أحمد 3/ 64 وأبو داود (4766) راجع "صحيح أبي داود" للشيخ الألباني رحمه الله 3/ 904.
(2)
رواه أبو داود (4163) بلفظ: "من كان له شعرٌ فليُكرمه" راجع "صحيح أبي داود" 785 للشيخ الألباني رحمه الله.
(3)
"المفهم" 3/ 122 "كتاب الزَّكاة".
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): في درجته:
حديث أنس بن مالك رضي الله عنه هذا صحيح.
(المسألة الثّانية): في تخريجه:
أخرجه المصنّف هنا 34/ 175 بهذا الإسناد فقط، وأخرجه (أحمد) في "مسنده"(3/ 197 و 224)، و (أبو داود)(4765 و 4766).
وفوائده، وسائر متعلّقاته، قد تقدّمت، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المُتّصل إلى الإمام ابن مَاجَه رحمه الله في أول الكتاب قال:
176 -
(حَدَّثَنَا سَهْلُ بْنُ أَبِي سَهْلٍ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ أَبِي غَالِبٍ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ، يَقُولُ: "شَرُّ قَتْلَى قُتِلُوا تَحْتَ أَدِيمِ السَّمَاءِ، وَخَيْرُ قَتِيلٍ مَنْ قَتَلُوا، كِلَابُ أَهْلِ النَّارِ، قَدْ كَانَ هَؤُلَاءِ مُسْلِمِينَ، فَصَارُوا كُفَّارًا"، قُلْتُ: يَا أَبَا أُسَامَةَ هَذَا شَيْءٌ تَقُولُهُ؟ قَالَ" بَلْ سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم).
رجال هذا الإسناد: أربعة:
1 -
(سَهْلُ بْنُ أَبِي سَهْلٍ) هو: سهل بن زَنْجَلَة بن أبي الصغْديّ الرازيّ، أبو عمر الخيّاط الأشتر، ثقةٌ (1)[10] 9/ 58.
2 -
(سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ) الإمام الحجة الثبت المكيّ [8] 2/ 13.
3 -
(أبو غَالِبٍ) قيل: اسمه حَزَوَّر، وقيل: سعيد بن الحَزوّر، وقيل: نافع، بصريّ، نزل أصبهان، لا بأس به [5] 7/ 48.
4 -
(أبو أُمَامَةَ) صُديّ بن عَجلان الباهليّ الصحابيّ المشهور رضي الله عنه 7/ 48، والله تعالى أعلم.
(1) هذا أولى ممّا في "التقريب""صدوق"، لأنه روى عنه جماعة، ووثقه جماعة، ولا يُعلم فيه جرح لأحد. انظر ما كتبه د / بشار والشيخ شعيب على "التقريب" 2/ 87.
شرح الحديث:
(عَنْ أَبِي أُمَامَةَ) صُديّ بن عجلان رضي الله عنه (يَقُولُ) هكذا رواية المصنّف، ويقدّر قبله "سمعته"، أي سمعته يقول إلخ، ويوضح ذلك رواية الإمام أحمد، ولفظه:
21159 -
حَدَّثَنَا عبد الرزّاق، أَخْبَرَنَا معمر، قال: سمعت أبا غالب يقول: لمّا أُتي برءوس الأزارقة، فنُصِبت على درج دمشق، جاء أبو أمامة، فلَمّا رآهم دَمَعَتْ عيناه، فقال: كلاب النّار ثلاث مرات، هؤلاء شَرُّ قَتْلَى قُتِلوا تحت أديم السَّماء، وخَيْرُ قَتْلَى قَتَلُوا تحت أديم السَّماء الذين قَتَلَهم هؤلاء، قال: فقلت: فما شأنك دَمَعَت عيناك؟ قال: رحمةً لهم، إنهم كانوا من أهل الإسلام، قال: قلنا: أبرأيك قلت: هؤلاء كلاب النّار، أو شيء سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟، قال: إنِّي لجريء، بل سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم غير مرّة، ولا ثنتين، ولا ثلاث، قال: فَعَدَّ مِرَارًا.
21282 -
حَدَّثَنَا أنس بن عياض، قال: سمعت صفوان بن سليم يقول: دخل أبو أمامة الباهلي دمشق، فرأى رءوس حروراء، قد نُصِبت، فقال: كلاب النّار، كلاب النّار، ثلاثا، شَرُّ قتلى تحت ظل السَّماء، خير قتلى مَنْ قَتَلُوا، ثمّ بكى، فقام إليه رجل، فقال: يا أبا أمامة هذا الّذي تقول من رأيك أم سمعته؟ قال: إنِّي إذا لجريء، كيف أقول هذا عن رأي؟ قال: قد سمعته غير مرّة ولا مرتين، قال: فما يبكيك؟ قال أبكي لخروجهم من الإسلام، هؤلاء الذين تفرقوا، واتخذوا دينهم شيعًا.
21130 -
حَدَّثَنَا أبو سعيد، حَدَّثَنَا عبد الله بن بَحِير، حَدَّثَنَا سيار، قال: جيء برءوس من قبل العراق، فنُصبت عند باب المسجد، وجاء أبو أمامة، فدخل المسجد، فركع ركعتين، ثمّ خرج إليهم، فنظر إليهم فرفع رأسه، دقال: شَرُّ قتلى تحت ظل السَّماء ثلاثا، وخير قتلى تحت ظل السَّماء مَنْ قَتَلُوه، وقال: كلاب النّار ثلاثا، ثمّ إنّه بكى، ثم انصرف عنهم، فقال له قائل: يا أبا أمامة أرأيت هذا الحديث حيث قلت كلاب النّار شيء سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم أو شيء تقوله برأيك؟ قال: سبحان الله، إنِّي إذا لجريء، لو سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم مرّة أو مرتين حتّى ذكر سبعًا لخلت أن لا أذكره، فقال
الرَّجل: لأي شيء بكيت؟ قال: رحمة لهم، أو من رحمتهم.
(شَرُّ قَتْلَى) خبر لمبتدإ محذوف، أي هم شر قتلى، والضمير للخوارج (قُتِلُوا) بالبناء للمفعول جملة في محل جرّ صفة لـ "قَتْلَى"(تَحْتَ أَدِيمِ السَّمَاءِ) ظرف لـ "قُتِلُوا"، و"أديم السَّماء" بالفتح: ما يظهر منه (وَخَيْرُ قَتِيلٍ مَنْ قَتَلُوا) بالبناء للفاعل، والعائد محذوف، أي من قتلوه، يعني أن من قتله الخوارج خير مقتول، أي من خير المقتولين ظلمًا، فلا يردّ أنه يكون خيرًا ممّن قُتل مع النبيّ صلى الله عليه وسلم في غزواته (كِلَابُ أَهْلِ النَّارِ) خبر لمحذوف أيضًا، أي هم كلاب أهل النّار (قَدْ كَانَ هَؤُلَاءِ مُسْلِمِينَ، فَصَارُوا كُفَّارًا") فيه دليل لمن قال بكفر الخوارج، وقد سبق أنه الظّاهر، وإن كان الجمهور على خلافه، حيث إنهم يؤوّلونه، بما فيه تكلّف وتعسّف. والله تعالى أعلم.
(قُلْتُ) القائل هو أبو غالب (يَا أَبَا أُمَامَةَ هَذَا شَيْءٌ تَقُولُهُ؟) بتقدير الاستفهام، أي أهذا تقوله من عندك استنباطًا؟ أم لك فيه نصّ؟ (قَالَ) أبو أمامة رضي الله عنه (بَلْ سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم) يعني أن لديه نصّا صريحًا بذلك، وليس من عنده استنباطًا، واجتهادًا، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): في درجته:
حديث أبي أُمامة رضي الله عنه هذا صحيح.
[فإن قلت]: كيف يصحّ، وفي سنده أبو غالب، وقد تكلّم فيه بعضهم؟.
[قلت]: هو وإن تكلّم فيه أبو حاتم، والنَّسائيّ، وابن حبّان، فقد روي عنه جماعة، ووثقه الدارقطني، وقال ابن معين: صالح الحديث، وقال ابن عديّ: لا بأس به، وأقلّ أحواله أن يكون حسن الحديث، وأيضًا لم ينفرد به، فقد رواه معه عن أبي أمامة صفوان بن سُليم، وهو ثقة، وسيّار الشاميّ، وهو صدوق، كما سبق آنفًا.
والحاصل أن الحديث صحيح. والله تعالى أعلم.
(المسألة الثّانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا (34/ 176) بهذا السند فقط، وأخرجه (الحميديّ) في "مسنده"(908) و (أحمد) في مسنده" (5/ 250 و 253 و 256 و 269) و (الترمذيّ)(3000). وفوائد الحديث، وسائر متعلّقاته قد تقدّمت، فلا تغفل، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
قال الجامع الفقير إلى رحمة ربه القدير: محمّد ابن الشّيخ علي بن آدم بن موسى الإتيوبي -عفا الله عنه وعن والديه آمين-:
انتهى الجزء الثّالث: من شرح سنن الإمام الحافظ الحجة أبي عبد الله محمّد بن يزيد ابن ماجه رحمه الله تعالى المسمى "مشارق الأنوار الوهاجة، ومطالع الأسرار البهاجة في شرح سنن الإمام ابن ماجه".
وآخر دعوانا {أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} ، {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} ، {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (180) وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (181) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} .
"اللَّهُمَّ صل على محمّد وعلى آل محمّد كما صلّيت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد، اللَّهُمَّ بارك على محمّد وعلى آل محمّد كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد"، "السّلام على النّبيّ ورحمة الله وبركاته".
ويليه الجزء الرّابع مفتتحا بـ (25)(باب فيما أنكرت الجهمية). رقم الحديث (177).
أسأل الله تعالى أن يوفقني لإتمامه كله كما وفقني لهذا، إنّه جواد كريم رءوف رحيم.
"سبحانك اللَّهُمَّ وبحمدك أشهد أن لا إله إِلَّا أنت وحدك لا شريك لك أستغفرك وأتوب إليك".