الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
24 - (فَضْلُ سَلْمَان، وأبي ذَرٍّ وَالْمِقْدَادِ) رضي الله عنهم
-
أما سلمان رضي الله عنه، فهو: سلمان أبو عبد الله، ويقال له: سلمان ابن الإسلام، وسلمان الخير، وقال ابن حِبّان من زعم أن سلمان الخير آخر فقد وَهِمَ، أصله من رَامَهُرْمُز، وقيل: من أصبهان، وكان قد سمع بأن النّبيّ صلى الله عليه وسلم سيُبعَث، فخرج في طلب ذلك، فأُسِر، وبيع بالمدينة، فاشتغل بالرِّقّ حتّى كان أول مشاهده الخندق، وشهد بَقِيّة المشاهد، وفتوح العراق، وولي المدائن، وقال ابن عبد البرّ: يقال: إنّه شهد بدرًا، وكان عالمًا زاهدًا، رَوَى عنه أنس، وكعب بن عُجْرَة، وابن عبّاس، وأبو سعيد، وغيرهم من الصّحابة، ومن التابعين أبو عثمان النَّهْدي، وطارق بن شهاب، وسعيد بن وهب، وآخرون بعدهم.
قيل: كان اسمه ما به -بكسر الموحدة- ابن بود، قاله ابن منده بسنده، وساق له نسبًا، وقيل: اسمه بهبود، ويقال: إنّه أدرك عيسى ابن مريم، وقيل: بل أدرك وَصِيّ عيسى عليه السلام. ورُويت قصته من طرق كثيرة، من أصحها ما أخرجه أحمد من حديثه نفسه، وأخرجها الحاكم من وجه آخر عنه أيضًا، وأخرجه الحاكم من حديث بريدة، وعلق البخاريّ طرفًا منها، وفي سياق قصته في إسلامه اختلاف يَتَعَسّر الجمع فيه، ورَوَى البخاريّ في "صحيحه" عن سلمان أنه تداوله بضعة عشر سيدًا، قال الذهبي: وجدت الأقوال في سِنِّهِ كلها دالةً على أنه جاوز المائتين وخمسين، والاختلاف إنّما هو في الزائد، قال: ثمّ رجعت عن ذلك، وظهر لي أنه ما زاد على الثمانين.
قال الحافظ: لم يذكر مستنده في ذلك، وأظنه أخذه من شهود سلمان الفتوح بعد النّبيّ صلى الله عليه وسلم، وتزوجه امرأة من كِندَة، وغير ذلك ممّا يدلُّ على بقاء بعض النشاط، لكن إن ثبت ما ذكروه يكون ذلك من خوارق العادات في حقه، وما المانع من ذلك، فقد رَوَى أبو الشّيخ في "طبقات الأصبهانيين" من طريق العباس بن يزيد، قال: أهلُ العلم يقولون: عاش سلمان ثلاثمائة وخمسين سنة، فأمّا مائتان وخمسون فلا يشكون فيها، قال أبو ربيعة الإيادي عن أبي بُريدة، عن أبيه، أن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله يحب من أصحابي
أربعة
…
"، فذكره فيهم، وقال سلمان بن المغيرة، عن حميد بن هلال: "آخى النّبيّ صلى الله عليه وسلم بين أبي الدرداء وسلمان
…
"، ونحوه في البخاريّ، من حديث أبي جُحيفة في قصته، ووقع في هذه القصة، فقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم لأبي الدرداء: "سلمان أفقه منك"، مات سنة ست وثلاثين في قول أبي عبيد، أو سبع في قول خليفة، وروى عبد الرزّاق، عن جعفر بن سليمان، عن ثابت، عن أنس رضي الله عنه دخل ابن مسعود على سلمان رضي الله عنهما، عند الموت، فهذا يدلُّ على أنه مات قبل ابن مسعود، ومات ابن مسعود قبل سنة أربع وثلاثين، فكأنه مات سنة ثلاث، أو سنة اثنتين، وكان سلمان بيته إذا خَرَجَ عطاؤه تصدّق به، ويَنسُج الْخُوصَ، ويأكل من كسب يده، روى من الأحاديث (60) حديثًا، اتفق الشيخان على ثلاثة، وانفرد البخاريّ بحديث، ومسلم بثلاثة، أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (11) حديثًا.
وأما أبو ذرّ رضي الله عنه، فهو: جُندب بن جُنادة على الصّحيح من الأقوال في اسمه واسم أبيه الغفاري، الزاهد المشهور، الصادق اللَّهْجَة تقدّمت ترجمته رضي الله عنه في 12/ 108.
وأما المقداد، فهو: ابن الأسود الكِنْديّ، هو ابن عمرو بن ثعلبة بن مالك بن ربيعة بن عامر بن مَطْرُود الْبَهْرَانيّ، وقيل: الحضرميّ، قال ابن الكلبيّ: كان عمرو بن ثعلبة أصاب دمًا في قومه، فَلَحِقَ بحضرموت، فحالف كِندَة، فكان يقال له: الكنديّ، وتزوج هناك امرأة، فوَلَدت له المقداد، فلما كَبِر المقداد وقع بينه وبين أبي شمر بن حجر الكنديّ، فضرب رجله بالسيف، وهَرَبَ إلى مكّة، فحالف الأسود بن عبد يغوث الزّهريُّ، وكتب إلى أبيه، فَقَدِمَ عليه، فتبنى الأسودُ المقدادَ، فصار يقال: المقداد بن الأسود، وغَلَبت عليه، واشتَهَر بذلك، فلما نزلت:{ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ} قيل له: المقداد بن عمرو، واشتهرت شهرته بابن الأسود، وكان المقداد يُكنى أبا الأسود، وقيل: كنيته أبو عمرو، وقيل: أبو سعيد، وأسلم قديمًا، وتزوج ضُبَاعة بنت الزُّبير بن عبد المطلب، ابنة عم النّبيّ صلى الله عليه وسلم، وهاجر الهجرتين، وشهد بدرًا، والمشاهد بعدها، وكان فارسًا يوم بدر، حتّى إنّه لم يَثْبُت أنه كان فيها على فرس غيره، وقال زِرّ بن حُبَيش، عن
عبد الله بن مسعود: أول من أظهر إسلامه سبعة
…
" فذكره فيهم، وقال مخارق بن طارق، عن ابن مسعود: شهدت مع المقداد مَشْهَدًا لأن أكون صاحبه أحب إلي ممّا عُدِل به، وذكر الْبَغَوِيّ من طريق أبي بكر بن عياش عن عاصم، عن زِرّ أول من قاتل على فرس في سبيل الله المقداد بن الأسود، وعن المدائني قال: كان المقداد طويلا آدم كثير الشعر أعين مقرونا يُصَفِّر لحيته. واتفقوا على أنه مات سنة ثلاث وثلاثين في خلافة عثمان، قيل: وهو ابن سبعين سنة.
أخرج له الجماعة، وروى عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم (42) حديثًا، اتفق الشيخان على حديث، وانفرد مسلم بثلاثة أحاديث، وله في هذا الكتاب ثلاثة أحاديث فقط برقم (505) و (2508) و (3742)، والله تعالى أعلم بالصواب.
وبالسند المُتّصل إلى الإمام ابن مَاجَه رحمه الله في أول الكتاب قال:
149 -
(حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ مُوسَى، وَسُويدُ بْنُ سَعِيدٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا شَرِيكٌ، عَنْ أَبِي رَبِيعَةَ الإِيَادِيِّ، عَنِ ابْنِ بُرَيْد، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ الله أَمَرَنِي بِحُبِّ أَرْبَعَةٍ، وَأَخْبَرَنِي أَنَّهُ يُحِبّهمْ"، قِيلَ: يَا رَسُولَ الله مَنْ هُمْ؟، قَالَ: "عَليٌّ مِنْهُمْ" -يَقُولُ ذَلِكَ ثَلَاثًا- " وأَبُو ذَرٍّ، وَسَلْمَانُ، وَالمقْدَادُ").
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(إسماعيل بن موسى) الْفَزَاريّ، أبو محمّد، أو أبو إسحاق الكوفيّ، نَسِيب السدّيّ، أو ابن بنته، أو ابن أخته، صدوقٌ يُخطىء، ورُمي بالرفض [10] 4/ 30.
2 -
(سُويد بن سعيد) الحدَثَانيّ الهرويّ الأصل، صدوق في نفسه، إِلَّا أنه عَمِي فتلقّن، من قُدماء [10] 4/ 30.
3 -
(شريك) بن عبد الله النخعيّ، أبو عبد الله الكُوفيُّ القاضي، صدوقٌ يخطىء كثيرًا، وتغيّر حفظه منذ ولي القضاء بالكوفة، وكان عادلًا فَاضلًا عابدًا شديدًا على أهل البِدَع [8] 1/ 1.
4 -
(أبو ربيعة الإياديّ)(1) مقبول [6].
قيل: اسمه عُمر بن ربيعة، قاله ابن منده، روى عن عبد الله بن بُريدة، والحسن البصريّ، وعنه الحسن وعليّ ابنا صالح بن حَيّ، ومالك بن مِغْوَل، وشريك بن عبد الله النخعيّ، حسّن الترمذيّ بعض أفراده. وقال: ابن أبي حاتم: سألت أبي عنه، فقال: منكر الحديث، ثمّ نقل عن الدارميّ أنه قال: سألت يحيى بن معين عن أبي ربيعة الّذي يروي عنه شريك، فقال: كوفيّ ثقة (2).
تفرد به أبو داود له عنده حديث واحد فقط (3)، والترمذيّ له عنده ثلاثة أحاديث (4)، والمصنّف، وله في هذا الكتاب هذا الحديث.
5 -
(ابن بُريدة) هو: عبد الله بن بُريد بن الْحُصيب الأسلميّ، أبو سَهْل المروزيّ قاضيها، ثقة [3] 9/ 63.
6 -
(أبوه) بُريدة بن الْحُصيب بن عبد الله بن الحارث بن الأعرج بن سَعْد بن رَزَاح بن عَدِيّ بن سَهْم بن مازن بن الحارث بن سَلامان بن أَفْصى الأسلميّ الصحابيّ المشهور، قال: ابن السكن: أسلم حين مَرّ به النّبيّ صلى الله عليه وسلم مُهاجرًا بالغَمِيم، وأقام في موضعه حتّى مَضَت بدرٌ وأُحُدٌ، ثمّ قَدِمَ بعد ذلك، وقيل: أسلم بعد مُنصَرَف النّبيّ صلى الله عليه وسلم من بدر،
(1) بكسر الهمزة بوزن الإماميّ: نسبة إلى إياد بن نِزَار بن مَعَدّ بن عدنان. قاله في "لبّ اللباب" 1/ 83.
(2)
"الجرح والتعديل" 6/ التّرجمة (575). وراجع ما كتبه محقق "تهذيب الكمال" 33/ 305 تزدد علمًا.
(3)
1837 - حَدَّثَنَا إسماعيل بن موسى الفزاري، أَخْبَرَنَا شريك، عن أبي ربيعة الإيادي، عن ابن بريدة، عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي: "يا علي لا تتبع النظرة النظرة، فإن لك الأولى، وليست لك الآخرة".
(4)
حديث الباب، وحديث أبي داود المذكور، وحديث (3732) أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الجنَّة لتشتاق إلى ثلاثة: علي، وعمار، وسلمان"، قال هذا حديث حسن غريب، لا نعرفه إِلَّا من حديث الحسن بن صالح.
وسكن البصرة لما فُتحت، وفي "الصحيحين" عنه أنه غزا مع النّبيّ صلى الله عليه وسلم ست عشرة غزوةً، وقال أبو علي الطوسيّ، أحمد بن عثمان، صاحب ابن المبارك: اسم بريدة عامر، وبُريَدة لقب، وأخبار بريدة كثيرة، ومناقبة مشهورة، وكان غَزَا خُرَاسان في زمن عثمان، ثمّ تحول إلى مَرْوَ، فسكنها إلى أن مات في خلافة يزيد بن معاوية، قال ابن سعد: مات سنة ثلاث وستين.
أخرج له الجماعة، وروى من الأحاديث (164) حديثًا اتفق الشيخان على حديث، وانفرد البخاريّ بحديثين، ومسلم بأحد عشر حديثًا، وله في هذا الكتاب (31) حديثًا، والله تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَن) عبد الله (بْنِ بُرَيْدة، عَنْ أَبِيهِ) بُريدة بن الحصيب رضي الله عنه، أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ الله) تبارك وتعالى (أَمَرَنِي) قال السنديّ: الظّاهر أنه أمر إيجاب، ويحتمل الندب، وعلى الوجهين فما أُمر به النبيّ صلى الله عليه وسلم فقد أُمر به أمته، فينبغي للناس أن يُحبّوا هؤلاء الأربعة خصوصًا. انتهى (1)(بِحُبِّ أَرْبَعَةٍ) أي أربعة أشخاص بخصوصهم (وَأَخْبَرَنِي أَنَّهُ) صلى الله عليه وسلم (يُحِبّهمْ، قِيلَ: يَا رَسُولَ الله مَنْ هُمْ؟) أي من هؤلاء الأربعة؟ حتّى نحبّهم نحن تبعا لمحبّة الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، وفي رواية الترمذيّ:"سَمّهم لنا"(قَالَ) صلى الله عليه وسلم (عَليٌّ) أي ابن أبي طالب رضي الله عنه (مِنْهُمْ) أي من الأربعة (يَقُولُ) أي النبيّ صلى الله عليه وسلم (ذَلِكَ) أي قوله: "عليّ منهم"(ثَلَاثًا) إنّما كرّره للإشعار بأنه أفضلهم، أو يُحبّه قدر ثلاثتهم. قاله القاري (وَأَبُو ذَرٍّ) الغفاريّ (وَسَلْمَانُ) الفارسيّ (وَالمقْدَادُ) بن الأسود رضي الله عنهم، زاد في رواية الترمذيّ:"أمرني بحبّهم، وأخبرني أنه يُحبّهم"، قال القاري رحمه الله: هذا فَذْلَكة مفيدة لتأكيد ما سبق.
والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
(1)"شرح السنديّ" 1/ 99.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأوَّلى): في درجته:
حديث بُريدة رضي الله عنه هذا ضعيف؛ من أجل شريك القاضي، فإنّه كثير الخطإ، وتغيّر حفظه، وشيخه قاله عنه في "التقريب": مقبول، أي حيث يُتابع، وقد تفرّد به (1). والله تعالى أعلم.
(المسألة الثّانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا (24/ 149) فقط، وأخرجه (الترمذيّ)(3718)، وقال: حسنٌ غريب، ولكن من أين له الحسن؟ فتنبّه، و (أحمد) في "مسنده" 5/ 351 و 356، و (أبو نعيم) في "الحلية" 1/ 172 و (الحاكم) في "مستدركه" 3/ 130، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المُتَّصل إلى الإمام ابن مَاجَه رحمه الله في أول الكتاب قال:
150 -
(حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ سَعِيدٍ الدَّارِمِيُّ، حَدَّثَنَا يَحْيىَ بْنُ أَبِي بُكَيْرٍ، حَدَّثَنَا زَائِدَةُ بْنُ قُدَامَةَ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ أَبِي النَّجُودِ، عَنْ زِرِّ بْنِ حُبَيْشٍ، عَنْ عَبْدِ الله بْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: كَانَ أَوَّلَ مَنْ أَظْهَرَ إِسْلَامَهُ سَبْعَةٌ: رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم، وَأَبُو بَكْرٍ، وَعَمَّارٌ، وأُمُّهُ سُمَيَّةُ، وَصُهَيْبٌ، وَبِلَالٌ، وَالمقْدَادُ، فَأَمَّا رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم فَمَنَعَهُ الله بِعَمِّهِ أَبِي طَالِب، وَأَمَّا أَبُو بَكْرٍ فَمَنَعَهُ الله بِقَوْمِهِ، وَأَمَّا سَائِرُهُمْ فَأَخَذَهُمُ الْمُشْرِكُونَ، وَأَلْبَسُوهُمْ أَدْرَاعَ الحدِيدِ، وَصَهَرُوهُمْ في الشَّمْسِ، فَمَا مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا وَقَدْ وَاتَاهُمْ عَلَى مَا أَرَادُوا، إِلَّا بِلَالًا، فَإِنَّهُ هَانَتْ عَلَيْهِ نَفْسُهُ في الله، وَهَانَ عَلَى قَوْمِهِ، فَأَخَذُوهُ فَأَعْطَوْهُ الْوِلْدَانَ، فَجَعَلُوا يَطُوفُونَ بِهِ في شِعَابِ مَكَّةَ، وَهُوَ يَقُولُ: أَحَدٌ أَحَدٌ).
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(أحمد بن سعيد الدارميّ) هو: أحمد بن سعيد بن صخر الدارميّ، أبو جعفر
(1) ووثقه ابن معين، وقال أبو حاتم: منكر الحديث، كما سبق بيانه في ترجمته.
السَّرَخسيّ، ثمّ النيسابوريّ، سَرَدَ الخطيبُ نسبه إلى دارم، وقال: كان أحد المذكورين بالفقه ومعرفة الحديث والحفظ له، ثقة حافظٌ [11].
روى عن النضر بن شميل، وأبي عامر العَقَدي، وعلي بن الحسين المروزي، وعثمان بن عمرو أبي عاصم، ويحيى بن أبي بكير، وغيرهم.
وروى عنه الجماعة، سوى النَّسائيُّ، والفلاس، وأبو موسى، وهما أكبر منه، ووهب بن جرير، وهو من شيوخه، وزكريا السجزي، وأبو عوانة، وابن أبي الدنيا، وإبراهيم بن أبي طالب، وعثمان بن خُرَّزاذ، وجماعة.
قال أحمد: ما قَدِم إلى خراسان أفقه بَدَنًا منه، وعظّمه حجاج الشاعر. وقال يحيى ابن زكريا النيسابوري: كان ثقة جليلًا. وكتب إليه أحمد بن حنبل: لأبي جعفر أكرمه الله من أحمد بن حنبل. وقال أحمد بن محمّد بن سعيد بن عُقْدة: أَقْدَمه الطاهريّةُ هَرَاةَ، وكان أحد حفاظ الحديث المتقن الثقة العالم بالحديث وبالرواة، تولى قَضَاء سرخس، ثمّ انصرف إلى نيسابور، إلى أن مات بها سنة (253). وقال ابن حبّان: كان ثقة ثبتًا، صاحب حديث، يحفظ، مات سنة (265)، أو قبلها، أو بعدها بقليل.
روى عنه الجماعة، سوى النَّسائيّ، وله في هذا الكتاب (12) حديثًا.
2 -
(يحيى بن أبي بُكير) واسمه نَسْر -بفتح النون، وسكون المهملة- الأسدي القيسي، أبو زكريا الكرمانيّ، كوفيّ الأصل، نزيل بغداد، ثقة [9].
رَوَى عن حريز بن عثمان، وإبراهيم بن طهمان، وإبراهيم بن نافع المكي، وإسرائيل، وزائدة، وزهير بن محمّد، وزهير بن معاوية، وشعبة، وسفيان، وأبي جعفر الرازي، وغيرهم.
وروى عنه حفيده عبد الله بن محمّد بن يحيى، وعبد الله بن الحارث البغدادي، وأبو بكر بن أبي شيبة، ويعقوب بن إبراهيم الدَّوْرَقيّ، ومحمد بن أحمد بن أبي خَلَف، وأبو خيثمة، وأبو موسى، وأحمد بن سعيد الدارمي، وغيرهم.
قال الأثرم عن أحمد: كان كَيّسًا. وقال حرب بن إسماعيل: سمعت أحمد يُثْنِي
عليه. وقال عثمان الدارمي عن ابن معين: ثقة. وقال العجلي: كوفي ثقة. وقال أبو حاتم: صدوق. وقال ابن أبي حاتم عن أبيه، قال علي بن المديني: ابن أبي بكير ثقة. وذكره ابن حبّان في "الثِّقات"، وقال: مات بعد المائتين. وقال أبو موسى: مات سنة ثمان. وقال ابن قانع: مات سنة تسع ومائتين.
أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (12) حديثًا.
3 -
(زائدة بن قُدامة) الثقفيّ، أبو الصَّلْت الكوفيّ، ثقة ثبتٌ، صاحب سنّة [7].
رَوَى عن أبي إسحاق السبيعي، وعبد الملك بن عُمير، وسليمان التيمي، وإسماعيل بن أبي خالد، وإسماعيل السُّدّي، وحميد الطَّويل، وزياد بن عِلاقة، وغيرهم.
وروى عنه ابن المبارك، وأبو أُسامة، وحسين بن علي الجعفي، وابن عيينة، وأبو إسحاق الفزاري، وأبو سعيد مولى بني هاشم، والطيالسيان، وغيرهم.
قال عثمان بن زائدة: قَدِمت الكوفة، فقلت للثوري: ممّن أسمع؟ قال: عليك بزائدة. وقال أبو أُسامة: حَدَّثَنَا زائدة، وكان من أصدق النَّاس وأبره. وقال أبو داود الطيالسي، وسفيان بن عيينة: حَدَّثَنَا زائدة بن قدامة، وكان لا يحدث قَدَرِيًّا، ولا صاحب بدعة.
وقال أحمد: المتثبتون في الحديث أربعة: سفيان، وشعبة، وزهير، وزائدة. وقال أيضًا: إذا سمعت الحديث عن زائدة وزهير فلا تبالِ أن لا تسمعه عن غيرهما، إِلَّا حديث أبي إسحاق. وقال أبو زرعة: صدوق من أهل العلم. وقال أبو حاتم: كان ثقةً، صاحبَ سنة، وهو أحب إلي من أبي عوانة، وأحفظ من شريك، وأبي بكر بن عياش. وقال العجلي: كان ثقةً، صاحب سنة. وقال أحمد بن يونس: رأيت زهير بن معاوية جاء إلى زائدة، فكلمه في رجل يحدثه، فقال: من أهل السنة هو؟ قال: ما أعرفه ببدعة، فقال: من أهل السنة هو؟ فقال زهير: متى كان النَّاس هكذا؟ فقال زائدة: متى كان النَّاس يشتمون أبا بكر وعمر رضي الله عنهما؟. وقال النَّسائيُّ: ثقة. وقال أبو نعيم: كان زائدة لا يُكَلِّم أحدًا حتّى يمتحنه، فأتاه وكيع، فلم يحدثه. وقال عثمان بن سعيد: قلت
ليحيى: زهير أحب إليك من الأعمش أو زائدة؟ فقال: كلاهما ثقة. وقال الدارقطني: من الأثبات الأئمة. وقال أبو داود الطيالسي: لم يكن زائدة بالأستاذ في حديث أبي إسحاق. وقال الذهلي: ثقة حافظ. وقال ابن سعد: كان ثقة مأمونًا صاحبَ سنة. وقال ابن حبّان في "الثِّقات": كان من الحفاظ المتقنين، لا يَعُدُّ سماعًا حتّى يسمعه ثلاث مرات.
وقال محمّد بن عبد الله الحضرمي: مات في أرض الروم غازيّا سنة ستين أو إحدى وستين ومائة، وكذا قال ابن سعد، وأرّخه القرّاب تبعًا لعلي بن الجعد سنة (63)، وقال ابن حبّان: مات سنة إحدى، وكذا أرّخه ابن قانع.
أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (16).
4 -
(عاصم بن أبي النَّجُود) وهو ابن بَهْدلة، المقرىء، ثقة (1) له أوهام، حجة في القراءة، وحديثه في "الصحيحين" مقرون [6] 20/ 138.
5 -
(زِرّ بن حُبيش) الأسديّ، أبو مريم الكوفيّ، ثقة جليل مخضرم [2] 14/ 114.
6 -
(عبد الله بن مسعود) رضي الله عنه 2/ 19، والله تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من سُداسيات المصنّف.
2 -
(ومنها): أن رجاله رجال الصّحيح، وعاصم وإن قرنه الشيخان بغيره فإنّه ثقة.
3 -
(ومنها): أنه مسلسلٌ بالكوفيين، غير شيخه، فسرخسيّ، والله تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنْ عَبْدِ الله بْنِ مَسْعُودٍ) رضي الله عنه، أنه (قَالَ: كَانَ أَوَّلَ) بالنصب خبرًا مقدّمًا لـ "كان"
(1) وقال في "التقريب": صدوق، وما هنا أولى، كما يظهر من مراجعة ترجمته في "التهذيب"، فتنبّه.
(مَنْ أَظْهَرَ إِسْلَامَهُ سَبْعَةٌ) بالرفع على أنه اسم "كان"، وقوله:(رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم) بدل تفصيل من "سبعة"(وأَبُو بَكْرٍ) الصدّيق رضي الله عنه (وَعمّارٌ) بن ياسر (وَأُمُّهُ سُمَيَّةُ) بضم أوله مصغّرًا، روي أما رُبطت بين بعيرين، ووُجىء قُبُلُها بحربة، وقيل لها: أسلمت من أجل الرجال، فقُتلت، وقتل زوجها ياسر، وهما أول قتيلين في الإسلام (1)(وَصُهَيْبٌ) ابن سنان (وَبِلَالٌ) بن رباح المؤذّن (وَالمقْدَادُ) بن عمرو رضي الله عنهما (فَأَمَّا رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم فَمَنَعَهُ الله) أي عصمه من أذاهم (بِعَمِّهِ أَبِي طَالِبٍ) أي بسبب حمايته له (وَأَمَّا أَبُو بَكْرٍ) رضي الله عنه (فَمَنَعَهُ الله بِقَوْمِهِ) بني تيم بن مُرّة (وَأَمَّا سَائِرُهُمْ) أي بقيّتهم، قال ابن الأثير: السائر مهموز: الباقي، والناس يستعملونه في معنى الجميع، وليس بصحيح، وقد تكرّرت هذه اللفظة في الحديث، وكلها بمعنى باقي الشيء. انتهى (2).
وقال المجد في "القاموس": "والسائر الباقي، لا الجميع كما توهّمه جماعات (3)، أو قد يستعمل له. انتهى.
قال الشارح: ما معناه: أشار بهذا الكلام إلى أن في "السائر" قولين: الأوّل وهو قول الجمهور من أئمة اللُّغة، وأرباب الاشتقاق أنه بمعنى الباقي، ولا نزاع بينهم، واشتقاقه من السؤر، وهو البقيّة.
والثّاني بمعنى الجميع، وقد أثبته جماعة، وصوّبوه، وإليه ذهب الجوهريّ، والجواليقيّ، وحقّقه ابن بَرّيّ في "حواشي الدّرّة"، وأنشد عليه شواهد كثيرة، وأدلّة ظاهرة، وانتصر لهم الشّيخ النوويّ في مواضع من مصنّفاته، وسبقهم إمام العربيّة، أبو عليّ الفارسيّ، ونقله بعضٌ عن تلميذه ابن جني، واختلفوا في الاشتقاق، فقيل: من السير، وهو مذهب الجوهريّ والفارسيّ، ومن وافقهما، أو من السور المحيط بالبلد، كما
(1)"تفسير القرطبي" 10/ 180.
(2)
"النهاية" 2/ 327.
(3)
أي اعتمادًا على قول الحريري في "دُرّة الغواص في أوهام الخَوَاصّ"، وقال في "التكملة" سائر النَّاس بقيّتهم، وليس معناه جماعتهم كما زَعَمَ من قصرت معرفته. انتهى.
قاله آخرون، والظاهر أن صاحب "القاموس" أيضًا منتصر للقول الثّاني؛ لأنه أورد له شاهدًا ومَثَلين. انتهى ملخّصًا (1).
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: قد تبيّن بنا سبق أن "السائر" يُستعمل بمعنى الباقي، وهو قول الجمهور، وهو الأكثر استعمالًا، وبمعنى الجميع، وهو قول جماعات.
والحاصل أن استعمال "السائر" بالمعنيين هو الحقّ، فتبصّر، والله تعالى أعلم.
(فَأَخَذَهُمُ الْمُشْرِكُونَ) أي لأنهم لا قرابة لهم بمكة تحميهم منهم، لأن بلالًا وصُهيبًا وعمّارًا كانوا من الموالي، والمقداد من الحلفاء؛ لأنه من كندة (وَأَلْبَسُوهُمْ أَدْرَاعَ الحدِيدِ) بفتح الهمزة، جمع دِرْع، بكسر فسكون، كحِمل وأحماله، قال: الفيّوميّ: دِرْع الحديد مؤنّثة في الأكثر، وتُصغّر على دُرَيع بغير هاء على غير قياس، وجاز أن يكون التصغير على لغة من ذَكّر، وربّما قيل: دُرَيْعَةٌ بالهاء، وجمعها أدرُعٌ، ودُرُوعٌ، وأَدْرَاعٌ، قال ابن الأثير: وهي الزَّرَديّة، ودِرْع المرأة قميصها مذكّر. انتهى.
(وَصَهَرُوهُمْ في الشَّمسِ) بفتح الصاد والهاء، من باب منع: أي ألقوهم فيها ليذوب شحمهم، والصَّهْرُ: الإذابةُ، قاله في "الدرّ النثير" عذّبوهم، وأذابوهم بها (فَمَا مِنْهُمْ مِنْ) زائدة (أَحَدٍ إِلَّا وَقَدْ وَاتَاهُمْ) كذا في النسخ الصحيحة بالواو، من المواتاة، وهي الموافقة، قال ابن الأثير: المواتاة: حسن المطاوعة والموافقة، وأصله الهمز، فخُفّف، وكَثُر حتّى صار يقال بالواو الخالصة، وليس بالوجه. انتهى (2). وقال في "الصحاح": تقول: آتيته على ذلك الأمر مواتاةً: إذا وافقته وطاوعته، والعامّة تقول: واتيته. انتهى. وقال في "المصباح": آتيته على الأمر: إذا وافقته، وفي لغة لأهل اليمن تُبدل الهمزة واوًا، فيقال: واتيته على الأمر مواتاةً، وهو المشهور على ألسنة النَّاس. انتهى.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: قد تبيّن بما ذُكر أن المواتاة بالواو لغة، كان كان
(1) راجع "تاج العروس من جواهر القاموس" 3/ 351.
(2)
"النهاية" 1/ 102.
الأكثر في الاستعمال بالهمزة، والمعنى: أنهم وافقوهم (عَلَى مَا أَرَادُوا) أي المشركون من ترك إظهار الإسلام تقيّةً، والتقيّة في مثل هذا جائزة، لقوله عز وجل {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ} [النحل: 106]، (إِلَّا بِلَالًا) رضي الله عنه (فَإِنَّهُ هَانَتْ عَلَيْهِ نَفْسُهُ في الله) أي صغُرت، وحقرت عنده لأجل الله عز وجل أخذًا بالعزيمة (وَهَانَ عَلَى قَوْمِهِ) أي فلَم يمنعوه؛ لأنه ليس من أنفسهم، وإنّما هو من الموالي (فَأَخَذُوهُ) أي أخذه مواليه من المشركين (فَأَعْطَوْهُ الْوِلْدَانَ) بكسر الواو، وسكون اللام، جمع وَليد، أي الصبيان، والعبيد (فَجَعَلُوا) أي شرع الولدان (يَطُوفُونَ بِهِ في شِعَابِ مَكَّةَ) بكسر الشين المعجمة، جمع شِعْب بكسر فسكون، وهو الطريق في الجبل، أو مسيل الماء في بطن أرض، أو ما انفرج بين الجبلين، قاله في "القاموس" (وَهُوَ يَقُولُ: أَحَدٌ أَحَدٌ) جملة في محلّ نصب على الحال، أي والحال أن بلالًا يقول في حال طوافهم به: أحدٌ أحدٌ، أي ربي أحد، لا رب لي سواه، فلا أعبد ما تعبدون، ولا أوافقكم فيما طلبتموه، بل كان يقول لهم: والله لو أعلم كلمة هي أغيظ لكم منها لقلتها، وقال ابن إسحاق: كان أُمَيّة بن خَلَف يخرج بلالًا إذا حَمِيَت الظهيرة، فَيَطْرَحه على ظهره في بطحاء مكّة، ثمّ يأمر بالصخرة العظيمة على صدره، ثمّ يقول: لا يزال على ذلك حتّى يموت، أو يكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم، فيقول، وهو في ذلك: أحدٌ أحدٌ، فَمَرّ به أبو بكر رضي الله عنه، فاشتراه منه بعبد له أسود جَلْدٍ. انتهى، رضي الله تعالى عنه وأرضاه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه هذا صحيح.
(المسألة الثّانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) رحمه الله هنا (24/ 150) فقط، وهو من أفراده، فلم يُخرجه من أصحاب الأصول غيره، وأخرجه (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه" 12/ 149 و (أحمد) في "مسنده" 1/ 404 وفي "فضائل الصّحابة"(191) و (ابن حبّان) في "صحيحه"
(7083)
و (الحاكم) في "مستدركه"(3/ 284) و (البيهقيّ) في "دلائل النبوّة"(2/ 281 - 282) وصحح الحاكم إسناده، ووافقه الذهبيّ، وهو كما قالا، وقال البوصيريّ في "مصباح الزجاجة": هذا إسناد رجاله ثقات، انتهى، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثّالثة): في فوائده:
1 -
(منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله، وهو بيان فضائل الصّحابة المذكورين رضي الله عنهم.
2 -
(ومنها): بيان فضل السابقة في إظهار شعائر الدين.
3 -
(ومنها): الصبر على الأذى في سبيل الله.
4 -
(ومنها): فضل الله عز وجل في حفظ أوليائه بأعدائه، ونصرهم على أعدائهم بسببهم، وإن لم ينتفعوا به، فقد أخرج الشيخان وغيرهما من حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا:"إن الله عز وجل ليؤيّد هذا الدين بالرجل الفاجر".
5 -
(ومنها): بيان سماحة هذه الشّريعة الغرّاء، حيث وسّعت على الأمة في مواضع الضّرورة، وقد قال صلى الله عليه وسلم:"إنّما بُعثتُم ميسّرين، ولم تُبعثوا معسّرين".
6 -
(ومنها): جواز التقيّة عند الضّرورة، بالتلفّظ بكلمة الكفر، مع اطمئنان القلب؛ عملًا برخصة الله تعالى، حيث يقول:{إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ} [النحل: 106].
7 -
(ومنها): أن الأفضل الأخذ بالعزيمة، كما فعل بلال رضي الله عنه.
8 -
(ومنها): ما قاله أبو عبد الله القرطبيّ رحمه الله: لما سمح الله عز وجل بالكفر به، وهو أصل الشّريعة عند الإكراه، ولم يؤأخذ به، حَمَلَ العلّماءُ عليه فروعَ الشّريعة كلها، فإذا وقع الإكراه عليها لم يؤاخذ به، ولم يترتب عليه حكم، وبه جاء الأثر المشهور عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم:"رُفِع عن أُمَّتي الخطأ والنِّسيان، وما استكرهوا عليه"، الحديث، والخبر وإن لم يصح سنده فإن معناه صحيح باتِّفاق من العلماء قاله القاضي أبو بكر بن العربي: وذكر أبو محمّد عبد الحق أن إسناده صحيح (1)، قال: وقد ذكره أبو بكر الأصيلي في
(1) بل صحّ الحديث بلفظ: "وُضِع عن أُمَّتي
…
" الحديث، راجع "صحيح الجامع" =
"الفوائد"، وابن المنذر في "كتاب الإقناع". انتهى (1)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الرّابعة): أجمع أهل العلم على أن من أُكره على الكفر حتّى خَشِيَ على نفسه القتل أنه لا إثم عليه إن كفر، وقلبه مطمئن بالإيمان، ولا تَبِين منه زوجته، ولا يُحكَم عليه بحكم الكفر، هذا قول مالك، والكوفيين، والشّافعيّ، غير محمّد بن الحسن، فإنّه قال: إذا أظهر الشرك كان مُرتدًا في الظّاهر، وفيما بينه وبين الله تعالى على الإسلام، وتبين منه امرأته، ولا يُصَلَّى عليه إن مات، ولا يرث أباه إن مات مسلمًا، وهذا قول يرده الكتاب والسُّنَّة، قال الله تعالى:{إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ} الآية [النحل: 106]، وقال تعالى:{إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً} [آل عمران: 28]، وقال:{إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ في الْأَرْضِ} الآية [النساء: 97]، وقال:{إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ} الآية [النساء: 98]، فعَذَرَ الله المستضعفين الذين يمتنعون من ترك ما أمر الله به، والمكره لا يكون إِلَّا مستضعفًا غير ممتنع من فعل ما أُمِر به. وقال الحسن: التقيّة إلى يوم القيامة. وقال ابن عبّاس رضي الله عنهما فيمن يُكرِهه اللصوص، فيُطلق: ليس بشيء، وبه قال ابن عمر، وابن الزُّبير، والشعبيّ، والحسن، وقال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"الأعمال بالنيّة". ذكره الإمام البخاريّ في "صحيحه"(2)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الخامسة): ذهبت طائفة من العلماء إلى أن الرُّخصة إنّما جاءت في القول، وأما في الفعل فلا رخصة فيه، مثل أن يُكرِهوا على السجود لغير الله، أو الصّلاة لغير القبلة، أو قتل مسلم، أو ضربه، أو أكل ماله، أو الزنى، وشرب الخمْرِ، وأكل الرِّبَا،
= للشيخ الألباني رحمه الله 1/ 659 رقم الحديث (3515).
(1)
"الجامع لأحكام القرآن" 10/ 181 - 182.
(2)
"صحيح البخاريّ" 12/ 389 "كتاب الإكراه" بنسخة "الفتح".
يُرْوَى هذا عن الحسن البصري رحمه الله، وهو قول الأوزاعي، وسحنون من المالكيّة، وقال محمّد بن الحسن: إذا قيل للأسير: اسجد لهذا الصنم، وإلا قتلتك، فقال: إن كان الصنم مقابل القبلة فليسجد، ويكون نيته لله تعالى، وإن كان لغير القبلة فلا يسجد وإن قتلوه، والصّحيح أنه يسجد، وإن كان لغير القبلة، وما أحراه بالسجود حينئذ، ففي "الصحيح" عن ابن عمر قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلّي، وهو مقبل من مكّة إلى المدينة على راحلته، حيث كان وجهه، قال: وفيه نزلت: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} الآية [البقرة: 115]، وفي رواية: ويوتر عليها، غير أنه لا يصلّي عليها المكتوبة، فإذا كان هذا مباحًا في السَّفر في حالة الأمن؛ لتعب النزول عن الدابة للتنفل، فكيف بهذا، واحتج من قَصَرَ الرُّخصة على القول بقول ابن مسعود رضي الله عنه: ما من كلام يَدْرَأ عني سوطين من ذي سلطان إِلَّا كنت متكلما به، فَقَصَرَ الرُّخصة على القوله، ولم يذكر الفعل، وهذا لا حجة فيه؛ لأنه يحتمل أن يَجعَل للكلام مثالا، وهو يريد أن الفعل في حكمه.
وقالت طائفة: الإكراه في الفعل والقول سواء إذا أسر الإيمان، رُوِي ذلك عن عمر بن الخطّاب، ومكحول، وهو قول مالك، وطائفة من أهل العراق، رَوَى ابن القاسم عن مالك أن من أُكره على شرب الخمْرِ، وترك الصّلاة، أو الإفطار في رمضان أن الإثم عنه مرفوع، ذكره القرطبيّ.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: الأرجح عندي القول الثّاني، فيجري الإكراه في الفعل كما يجري في القول؛ لوضوح حجته، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة السّادسة): أجمع العلماء على أن من أُكره على الكفر فاختار القتل أنه أعظم أجرًا عند الله ممّن اختار الرُّخصة، واختلفوا فيمن أُكره على غير القتل من فعل ما لا يحل له، فقال: أصحاب مالك: الأخذ بالشدة في ذلك، واختيار القتل والضرب أفضل عند الله من الأخذ بالرخصة، ذكره ابن حبيب، وسحنون، وذكر ابن سحنون عن أهل العراق أنه إذا تُهُدّد بقتل أو قطع أو ضرب يخاف منه التلف، فله أن يفعل ما
أُكره عليه من شرب خمر، أو أكل خنزير، فإن لم يفعل حتّى قُتل خِفْنَا أن يكون آثما؛ لأنه كالمضطر، ورَوَى خباب بن الأرت رضي الله عنه قال: شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة، فقلت: ألا تستنصر لنا، ألا تدعو لنا؟ فقال:"قد كان مَنْ قبلكم يؤخذ الرَّجل، فيُحفَر له في الأرض، فيُجعَل فيها، فيجاء بالمنشار فيوضع على رأسه، فيجعل نصفين، ويُمشَط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه، فما يَصُدُّه ذلك عن دينه، والله لَيَتِمَّن هذا الأمرُ حتّى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت، لا يخاف إِلَّا الله، والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون"(1).
فوصفه صلى الله عليه وسلم هذا عن الأمم السالفة على جهة المدح لهم، والصبر على المكروه في ذات الله، وأنهم لم يكفروا في الظّاهر، وتبطنوا الإيمان ليدفعوا العذاب عن أنفسهم، وهذه حجة من آثر الضرب والقتل والهَوَان على الرُّخصة والمقام بدار الجنان.
وذكر أبو بكر محمّد بن محمّد بن الفرج البغدادي، قال: حَدَّثَنَا شريح بن يونس، عن إسماعيل بن إبراهيم، عن يونس بن عبيد، عن الحسن أن عيونًا لمسيلمة أخذوا رجلين من أصحاب النّبيّ صلى الله عليه وسلم، فذهبوا بهما إلى مسيلمة، فقال لأحدهما: أتشهد أن محمدًا رسول الله؟، قال: نعم، قال: أتشهد أني رسول الله؟، قال: نعم، فَخَلَّى عنه، وقال للآخر: أتشهد أن محمدًا رسول الله؟، قال: نعم، قال: وتشهد أني رسول الله؟، قال: أنا أصمّ لا أسمع، فقدمه وضرب عنقه، فجاء هذا إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال: هلكت، قال:"وما أهلكك؟ "، فذكر الحديث، قال:"أما صاحبك فأخذ بالثقة، وأما أنت فأخذت بالرخصة، على ما أنت عليه السّاعة؟ " قال: أشهد أنك رسول الله، قال:"أنت على ما أنت عليه"، ذكره القرطبيّ (2).
(1) أخرجه البخاريّ في "صحيحه" رقم (3612) وأبو داود (2278) وأحمد في "مسنده"(20148).
(2)
"الجامع لأحكام القرآن" 10/ 188 - 189.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: الحاصل أن الأخذ بالعزيمة هو الأولى، ولكن الترخّص مشروع، غير مذموم، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة السابعة): اختلف العلماء في حَدّ الإكراه، فروي عن عمر بن الخطّاب رضي الله عنه أنه قال: ليس الرَّجل آمَنَ على نفسه إذا أخفته، أو أوثقته، أو ضربته. وقال ابن مسعود رضي الله عنه: ما كلام يَدْرَأ عني سوطين إِلَّا كنت متكلما به. وقال الحسن: التَّقِيّة جائزة للمؤمن إلى يوم القيامة، إِلَّا أن الله تبارك وتعالى ليس يَجْعَل في قتل تقية. وقال النخعي: القيد إكراه، والسجن إكراه، وهذا قول مالك، إِلَّا أنه قال: والوعيد المخَوِّف إكراه، وإن لم يقع، إذا تحقق ظلم المعتدي، وإنفاذه لما يتوعد به، وليس عند مالك وأصحابه في الضرب والسجن توقيت، إنّما هو ما كان يؤلم من الضرب، وما كان من سجن يَدخُل منه الضِّيقُ على المُكْرَه، وإكراه السلطان وغيره عند مالك إكراه، وتناقض الكوفيون، فلم يَجعَلُوا السجن والقيد إكراهًا على شرب الخّمْرِ، وأكل الميتة؛ لأنه لا يَخاف منهما التلف، وجعلوهما إكراهًا في إقراره لفلان عندي ألف درهم. قال ابن سحنون: وفي إجماعهم على أن الألم والوجع الشديد إكراه، ما يدلُّ على أن الإكراه يكون من غير تَلَفِ نفسٍ، وذهبَ مالك إلى أن مَنْ أُكره على يمين بوعيد أو سجن أو ضرب أنه يَحلِف، ولا حنث عليه، وهو قول الشّافعيّ وأحمد وأبي ثور، وأكثر العلماء. ذكره القرطبيّ أيضًا (1).
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: ما قاله الإمام مالك وأكثر أهل العلم من أن الإكراه يكون بغير القتل، من السجن والضرب، ونحوهما هو الأرجح عندي؛ لإطلاق النصّ {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ} الآية، فلم يخصّ نوعًا من الإكراه حتّى نخصه به، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
(1)"الجامع لأحكام القرآن" 10/ 190 - 191 و"فتح الباري" 12/ 389 - 394 "كتاب الإكراه".
وبالسند المُتّصل إلى الإمام أبي مَاجَه رحمه الله في أول الكتاب قال:
151 -
(حَدَّثَنَا عَلي بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ ثَابتٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "لَقَدْ أُوذِيتُ في اللهَ، وَمَا يُؤْذَى أَحَدٌ، وَلَقَدْ أُخِفْتُ في الله، وَمَا يُخَافُ أَحَدٌ، وَلَقَدْ أَتَتْ عَليَّ ثَالِثَةٌ، وَمَا لِي وَلبِلَالٍ طَعَامٌ يَأْكلُهُ ذُو كَبِدٍ، إِلَّا مَا وَارَى إبِطُ بِلَالٍ").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(حمّاد بن سلمة) بن دينار، أبو سلمة البصريّ، ثقة عابدٌ، أثبت النَّاس في ثابت، وتغيّر حفظه بآخره، من كبار [8] 14/ 116.
2 -
(ثابت) بن أسلم البنانيّ، أبو محمّد البصريّ، ثقة عابدٌ [4].
رَوَى عن أنس، وابن الزُّبير، وابن عمر، وعبد الله بن مُغَفَّل، وعمر بن أبي سلمة، وشعيب والد عمرو، وابنه عمرو، وهو أكبر منه، وغيرهم.
وروى عنه حميد الطَّويل، وشعبة، وجرير بن حازم، والحمادان، ومعمر، وهمام، وأبو عوانة، وجعفر بن سليمان، وسليمان بن المغيرة، وداود بن أبي هند، والأعمش، وغيرهم.
قال: البخاريّ عن ابن المدينيّ: له نحو مائتين وخمبسين حديثًا. وقال: أبو طالب عن أحمد: ثابت يَتَثَبَّتُ في الحديث، وكان يَقُصّ، وقتادة كان يقص، وكان أَذْكَرَ. وقال العجلي: ثقة رجل صالح. وقال: النَّسائيُّ: ثقة. وقال: أبو حاتم: أثبت أصحاب أنس الزّهريُّ، ثمّ ثابت، ثمّ قتادة. وقال: ابن عديّ: أروى النَّاس عنه حمادُ بنُ سلمة، وأحاديثه مستقيمة إذا روى عنه ثقة، وما وقع في حديثه من النُّكرَة إنّما هو من الراوي عنه. وقال حماد بن سلمة: كنت أسمع أن القُصَّاص لا يحفظون الحديث، فكنت أقلب على ثابت الأحاديث، أجعل أنسا لابن أبي ليلى، وأجعل ابن أبي ليلى لأنس، أُشَوِّشها عليه، فيجيء بها على الاستواء. وقال شعبة: كان ثابت يقرأ القرآن في كلّ يوم وليلة، ويصوم الدهر. وقال بكر المزني: ما أدركنا أعبد منه. وقال: ابن حبّان في "الثِّقات": كان
من أعبد أهل البصرة. وقال ابن سعد: كان ثقةً مأمونًا، توفي في ولاية خالد القسريّ. وفي سؤالات أبي جعفر محمّد بن الحسين البغدادي لأحمد بن حنبل: سئل أبو عبد الله عن ثابت وحميد أيهما أثبت في أنس؟ فقال: قال يحيى القطان: ثابت اخْتَلَط، وحميد أثبت في أنس منه. وفي "الكامل" لابن عديّ عن القطان عَجَبٌ لأيوب يَدَعُ ثابتا البناني، لا يكتب عنه. وقال أبو بكر الْبَرْدِيجِيّ: ثابت عن أنس صحيح من حديث شعبة، والحمادين، وسليمان بن المغيرة، فهؤلاء ثقات، ما لم يكن الحديث مضطربًا. وفي "المراسيل" لابن أبي حاتم: ثابت عن أبي هريرة، قال أبو زرعة: مرسل.
قال ابن علية: مات ثابت سنة (127). وقال جعفر بن سليمان: سنة (23) حكاهما البخاريّ في "الأوسط"، وحَكَى عن ثابت، قال: صَحِبْتُ أنسًا أربعين سنة.
أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (43) حديثًا.
3 -
(أنس بن مالك) الصحابيّ المشهور رضي الله عنه 3/ 24، والله تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله.
2 -
(ومنها): أن رجاله رجال الصّحيح، بل رجال الجماعة، غير شيخه، فمن أفراده، والنَّسائيّ في "مسند عليّ صلى الله عليه وسلم".
3 -
(ومنها): أنه مسلسلٌ بثقات البصريين، غير شيخه، ووكيع، فكوفيّان.
4 -
(ومنها): أن فيه حمادًا، فإنّه أثبت من روى عن ثابت، وثابتًا، فإنّه ألزم من روى عن أنس، فقد لزمه أربعين سنة.
5 -
(ومنها): أن فيه أنسًا رضي الله عنه من المكثرين السبعة، روى (2286) حديثًا، وهو آخر من مات من الصّحابة رضي الله عنه في البصرة، مات سنة (3) أو (92)، وهو من المعمّرين، فقد جاوز عمرهُ مائة سنة، والله تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنْ أَنَس بْنِ مَالِكٍ) رضي الله عنه، أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: لَقَدْ أُوذِيتُ) بضمّ أوله، وكسر ثالثه، فعلٌ ونائب فاعله (في الله) أي في سبيل الدعوة إلى الله تعالى (وَمَا يُؤْذَى) بالبناء للمفعول (أَحَدٌ) أي منكم، وذلكَ لكون منزلته عند الله أرفع المنازله، فأُوذي على قدر رفعة منزلته، فقد أخرج الترمذيّ في "كتاب الزهد"(2322) والمصنّف في "كتاب الفتن"(4023) بإسناد صحيح، من طريق مُصْعَب بن سعد، عن أبيه رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله أيُّ النَّاس أشد بلاءً؟، قال: الأنبياء، ثمّ الأمثل فالأمثل، يُبتَلى العبد على حسب دينه، فإن كان في دينه صلْبًا اشتد بلاؤه، وإن كان في دينه رِقًّةٌ ابتُلي على حسب دينه، فما يَبْرَح البلاء بالعبد، حتّى يتركه يمشي على الأرض، وما عليه من "خطيئة". قال الترمذيّ: حديث حسن صحيح.
(وَلَقَدْ أُخِفْتُ) فعل ونائب فاعله أيضًا (في الله، وَمَا يُخَافُ أَحَدٌ، وَلَقَدْ أَتَتْ عَلَيَّ ثَالِثَةٌ) أي ليلة ثالثة، ولفظ الترمذيّ: "ولقد أتت عليّ ثَلاثون ما بين يوم وليلة
…
" (وَمَا لِي وَلبِلَالٍ طَعَامٌ يَأْكُلُهُ ذُو كبِدٍ) بفتح، فكسر: أي يأكله حيّ (إِلَّا مَا وَارَى) من المواراة، أي إِلَّا ما أخفاه (إِبِطُ بِلَالٍ) بكسر الهمزة، وسكون الباء الموحدة: ما تحت الجناح، ويُذكّر ويؤنثُ، فيقال: هو الإبط، وهي الإبط، والجمع آباط، مثلُ حِمْلٍ وأَحْمال، ويزعُمُ بعض المتأخّرين أن كسر الباء لغةٌ، وهو غير ثابت. قاله الفيّوميّ (1).
قال: الإمام الترمذيّ رحمه الله بعد إيراد الحديث: ما نصّه: ومعنى الحديث هذا حين خرج النبيّ صلى الله عليه وسلم هاربًا من مكّة، ومعه بلالٌ إنّما كان مع بلال من الطّعام ما يحمله تحت إبطه. انتهى (2)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
(1)"المصباح المنير" 1/ 3.
(2)
"الجامع" 4/ 645 رقم الحديث (2472).
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): في درجته:
حديث أنس بن مالك رضي الله عنه هذا صحيح.
(المسألة الثّانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا (24/ 151) فقط، وأخرجه (الترمذيّ)(2472) وفي "الشمائل"(375) و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه" 11/ 464 و 14/ 300 و (أحمد) في "مسنده" 3/ 120 و 286 و (عبد بن حُميد) في "مسنده"(1317) و (ابن حبّان) في "صحيحه"(6560) و (أبو يعلى) في "مسنده"(3423) و (أبو نعيم) في "الحلية" 1/ 150، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثّالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان فضل بلال رضي الله عنه، حيث كان يصحب النبيّ صلى الله عليه وسلم ويخدُمه في وقت رمته قريش إِلَّا من شاء الله من قوس واحدة بالعداوة والأذى، فكان بلال رضي الله عنه يصيبه ما أصابه صلى الله عليه وسلم، وهو صابر محتسبٌ في الله عز وجل.
2 -
(ومنها): بيان ما كان النّبيّ صلى الله عليه وسلم يلاقيه من قومه من الأذى، والإخافة في سبيل الدّعوة إلى الله عز وجل.
3 -
(ومنها): ما كان عليه من الصبر على قلّة العيش، وألم الجوع.
4 -
(ومنها): الحثّ على الصبر فيما يُصيب الإنسان في سبيل الدّعوة إلى الله تعالى، فإنّه عز وجل ما أخبر بهذه المحنة إِلَّا لتقتدي به أمته في ذلك، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.