الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
13 - (فضل عثمان رضي الله عنه
-)
أي هذا باب ذكر الأحاديث الدالّة على مزايا عثمان رضي الله عنه.
وهو: عثمان بن عَفّان بن أبي العاص بن أُمية بن عبد شمس القرشي الأموي، أمير المؤمنين، أَبو عبد الله، وأبو عمر، وأمه أَرْوَى بنت كُرَيز بن ربيعة بن حبيب بن عبد شمس، أسلمت، وأمها البيضاء بنت عبد المطلب، عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم وُلِد بعد الفيل بست سنين على الصحيح، وكان رَبْعَةً، حسن الوجه، رقيق البشرة، عظيم اللحية، بعيد ما بين المنكبين، أسلم قديمًا، قال ابن إسحاق: كان أَبو بكر مؤلّفًا لقومه، فجعل يدعو إلى الإسلام مَن يَثقُ به، فأسلم على يده فيما بلغني: الزبير، وطلحة، وعثمان، وزَوَّجَ النبي صلى الله عليه وسلم ابنته رُقَيّة من عثمان، وماتت عنده في أيام بدر، فزوجه بعدها أختها أم كلثوم، فلذلك كان يلقب ذا النورين.
وجاء من أوجه متواترة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بَشّره بالجنة، وعَدّه من أهل الجنة، وشهد له بالشهادة. ورَوَى أَبو خيثمة في "فضائل الصحابة" من طريق الضحاك، عن النّزّال بن سَبْرَة قلنا لعلي: حَدَّثنا عن عثمان، قال ذاك امرؤ يُدْعَى في الملأ الأعلى ذا النورين. وجاء من طرُق كثيرة شهيرة صحيحة عن عثمان رضي الله عنه لمّا أن حصروه انتشد الصحابةَ في أشياء، منها: تجهيزه جيش العسرة، ومنها مبايعة النبي صلى الله عليه وسلم عنه تحت الشجرة لمّا أرسله إلى مكة، ومنها شراؤه بئر رُومة، وغير ذلك.
وهو أول من هاجر إلى الحبشة، ومعه زوجته رُقيّة، وتخلف عن بدر لتمريضها، فكتب له النبي صلى الله عليه وسلم بسهمه وأجره، وتخلف عن بيعة الرضوان؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان بعثه إلى مكة، فأُشيع أنهم قتلوه، فكان ذلك سبب البيعة، فضرب إحدى يديه على الأخرى، وقال: هذه عن عثمان. وقال ابن مسعود لمّا بويع: بايعنا خيرنا ولم نَأْلُ. وقال علي رضي الله عنه: كان عثمان أوصلنا للرحم. وكذا قالت عائشة لما بلغها قتله: قتلوه، وإنه لأوصلهم للرحم، وأتقاهم للرب.
وكان سبب قتله أن أمراء الأمصار كانوا من أقاربه، كان بالشام كلها معاوية،
وبالبصرة سعيد بن العاص، وبمصر عبد الله بن سعد بن أبي سَرْح، وبخراسان عبد الله ابن عامر، وكان مَنْ حَجّ منهم يشكو من أميره، وكان عثمان لَيِّنَ العَرِيكة (1)، كثير الإحسان والحلم، وكان يستبدل ببعض أمرائه فيرضيهم، ثم يعيده بعدُ إلى أن رحل أهل مصر يشكون من ابن أبي سرح، فعزله وكتب له كتابًا بتولية محمد بن أبي بكر الصديق، فرضوا بذلك، فلما كانوا في أثناء الطريق رأوا راكبا على راحلة، فاستخبروه، فأخبرهم أنه من عند عثمان باستقرار ابن أبي سرح، ومعاقبة جماعة من أعيانهم، فأخذوا الكتاب ورجعوا، وواجهوه به، فحلف أنه ما كتب ولا أذن، فقالوا: سَلِّمْنا كاتبك، فخَشِي عليه منهم القتل، وكان كاتبه مروان بن الحكم، وهو ابن عمه، فغضبوا وحصروه بها داره، واجتمع جماعة يَحمُونه منهم، فكان ينهاهم عن القتال إلى أن تسوروا عليه من دار إلى دار، فدخلوا عليه فقتلوه، فعظم ذلك على أهل الخير من الصحابة وغيرهم، وانفتح باب الفتنة، فكان ما كان، والله المستعان (2).
وقد ساق الإمام ابن حبّان رحمه الله قصّة قتله مطوّلة في "صحيحه"، فقال رحمه الله تعالى: أخبرنا محمد بن إسحاق بن إبراهيم، مولى ثقيف، حدثنا يعقوب بن إبراهيم الدَّوْرقي، وأحمد بن المقدام، قالا: حدّثنا المعتمر بن سليمان، حدثنا أبي، حدثنا أَبو نَضْرَة، عن أبي سعيد، مولى أبي أُسَيد الأنصاري، قال: سمع عثمان أن وفد أهل مصر قد أقبلوا، فاستقبلهم، فلما سمعوا به، أقبلوا نحوه إلى المكان الذي هو فيه، فقالوا له: ادع المصحف، فدعا بالمصحف، فقال له: افتح السابعة، قال: وكانوا يُسَمُّون "سورة يونس" السابعة، فقرأها حتى أتى على هذه الآية:{قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ} [يونس: 59] قالوا له: قِفْ أرأيت ما حميتَ من الحمى آلله أذن لك به أم على الله
(1) أي سَلِسَ الْخُلُق.
(2)
راجع "الإصابة" 4/ 377 - 379.
تفتري؟ فقال: أَمضِه نزلت في كذا وكذا، وأما الحمى لإبل الصدقة، فلما ولدت زادت إبل الصدقة، فزدت في الحمى لمّا زاد في إبل الصدقة، أَمِضه، قالوا: فجعلوا يأخذونه بآية آية، فيقول: أَمْضِه نزلت في كذا وكذا، فقال لهم: ما تريدون؟ قالوا: ميثاقك، قال: فكتبوا عليه شرطًا، فأَخَذَ عليهم أن لا يَشُقُّوا عصًا، ولا يفارقوا جماعة، ما قام لهم بشرطهم، وقال لهم: ما تريدون؟ قالوا: نريد أن لا يأخذ أهل المدينة عطاءً، قال: لا، إنما هذا المال لمن قاتل عليه، ولهؤلاء الشيوخ من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، قال: فرَضُوا، وأقبلوا معه إلى المدينة راضين.
قال: فقام فخطب، فقال: ألا من كان له زرع فليلحق بزرعه، ومن كان له ضرع فليحتلبه، ألا إنه لا مال لكم عندنا، إنما هذا المال لمن قاتل عليه، ولهؤلاء الشيوخ من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، قال: فغضب الناس، وقالوا: هذا مكر بني أمية قال: ثم رجع المصريون، فبينما هم في الطريق إذا هم براكب يتعرض لهم، ثم يفارقهم، ثم يرجع إليهم ثم يفارقهم ويسبهم، قالوا: مالك إن لك الأمانَ ما شأنك؟ قال: أنا رسول أمير المؤمنين إلى عامله بمصر، قال: ففتشوه، فإذا هم بالكتاب على لسان عثمان عليه خاتمه إلى عامله بمصر أن يصلبهم أو يقتلهم، أو يقطع أيديهم وأرجلهم، فأقبلوا حتى قدموا المدينة، فأتوا عليّا، فقالوا: ألم تر إلى عدو الله كتب فينا بكذا وكذا، وإن الله قد أحلّ دمه، قم معنا إليه، قال: والله لا أقوم معكم، قالوا: فلم كتبت إلينا؟ قال: والله ما كتبت إليكم كتابًا قطّ، فنظر بعضهم إلى بعض، ثم قال بعضهم إلى بعض: ألهذا تقاتلون؟ أو لهذا تغضبون؟.
فانطلق عليّ، فخرج من المدينة إلى قرية، وانطلقوا حتى دخلوا على عثمان، فقالوا: كتبتَ بكذا وكذا: فقال: إنما هما اثنتان: أن تقيموا عليّ رجلين من المسلمين، أو يميني بالله الذي لا إله إلا الله ما كتبت، ولا أمليت، ولا علمت، وقد تعلمون أن الكتاب يُكتَب على لسان الرجل، وقد يُنقَش الخاتم على الخاتم، فقالوا: والله أحل الله دمك، ونقضوا العهد والميثاق، فحاصروه، فأشرف عليهم ذات يوم، فقال: السلام عليكم، فما
أسمع أحدًا من الناس رَدّ عليه السلام، إلا أن يرد رجل في نفسه، فقال: أنشدكم الله هل علمتم أني اشتريت رُومة من مالي، فجعلت رِشائي فيها كرشاء رجل من المسلمين؟، قيل: نعم، قال: فعلام تمنعوني أن أشرب منها، حتى أفطر على ماء البحر؟ أنشدكم الله هل علمتم أني اشتريت كذا وكذا من الأرض، فزدته في المسجد؟ قيل: نعم، قال: فهل علمتم أن أحدًا من الناس مُنِع أن يصلي فيه قبلي؟ أنشدكم الله، هل سمعتم نبي الله صلى الله عليه وسلم يذكر كذا وكذا أشياء في شأنه عددها، قال: ورأيته أشرف عليهم مرة أخرى، فوعظهم وذكّرهم، فلم تأخذ منهم الوعظة، وكان الناس تأخذ منهم الموعظة في أول ما يسمعونها، فإذا أعيدت عليهم لم تأخذ منهم.
فقال لامرأته: افتحي الباب، ووضع المصحف بين يديه، وذلك أنه رأى من الليل أن نبي الله صلى الله عليه وسلم يقول له:"أفطر عندنا الليلةَ"، فدخل عليه رجل، فقال: بيني وبينك كتاب الله، فخرج وتركه، ثم دخل عليه آخر، فقال: بيني وبينك كتاب الله، والمصحف بين يديه، قال: فأهوى له بالسيف، فاتقاه بيده فقطعها، فلا أدري أقطعها ولم يُبِنْها أم أبانها، قال عثمان: أما والله إنها لأول كَفّ خَطّت المفَصَّل -وفي حديث غير أبي سعيد- فدخل عليه التُّجِيبي، فضربه مِشْقَصًا، فنضح الدم على هذه الآية:{فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [البقرة: 137]، قال: وإنها في المصحف ما حُكّت، قال: وأخذت بنت الفُرَافصة -في حديث أبي سعيد- حليها، ووضعته في حجرها، وذلك قبل أن يُقتَل، فلما قُتل تَفَاجّت عليه (1) قال بعضهم: قاتلها الله ما أعظم عجيزتها، فعلمتُ أن أعداء الله لم يريدوا إلا الدنيا. انتهى (2).
وروى البخاري في قصة قتل عمر رضي الله عنه أنه عَهِد إلى ستة، وأمرهم أن يختاروا رجلًا، فجعلوا الاختيار إلى عبد الرحمن بن عوف، فاختار عثمان فبايعوه، ويقال: كان
(1) أي وقته بنفسها، وبالغت في تفريج ما بين الرجلين، ووقعت عليه.
(2)
راجع "الإحسان في تقريب صحيح ابن حبّان" 15/ 356 - 361.
ذلك يوم السبت غُرّة المحرم، سنة أربع وعشرين. وقال ابن إسحاق قُتل على رأس إحدى عشرة سنة وأحد عشر شهرًا واثنين وعشرين يومًا من خلافته، فيكون ذلك في ثاني وعشرين ذي الحجة سنة خمس وثلاثين. وقال غيره: قُتل لسبع عشرة، وقيل: لثمان عشرة، رواه أحمد، عن إسحاق بن الطباع، عن أبي معشر.
وقال الزبير بن بكار: بويع يوم الاثنين من ذي الحجة سنة ثلاث وعشرين، وقُتل يوم الجمعة لثمان عشرة خلت من ذي الحجة بعد العصر، ودُفن ليلة السبت بين المغرب والعشاء في حَشّ كَوْكَب، كان عثمان اشتراه، فوسع به البقيع. وقُتل وهو ابن اثنتين وثمانين سنة وأشهر على الصحيح المشهور. وقيل: دون ذلك. وزعم أَبو محمد بن حزم أنه لم يبلغ الثمانين (1).
روى (146) حديثًا، اتفق الشيخان على ثلاثة، وانفرد البخاريّ بثمانية، ومسلم بخمسة. أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (23) حديثًا، والله تعالى أعلم بالصواب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام ابن ماجه رحمه الله في أول الكتاب قال:
109 -
(حَدَّثَنَا أَبُو مَرْوَانَ مُحَمَّدُ بْنُ عُثْمَانَ الْعُثْمَانِيُّ، حَدَّثَنَا أَبِي عُثْمَانُ بْنُ خَالِدٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي الزِّنَادِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَن رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لِكُلِّ نَبِيٍّ رَفِيقٌ في الجُنَّةِ، وَرَفِيقِي فِيهَا عُثْمانُ بْنُ عَفَّانَ").
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(أَبُو مَرْوَانَ مُحَمَّدُ بْنُ عُثْمَانَ الْعُثْمَانِيُّ) المدنيّ، نزيل مكة، صدوقٌ يُخطىء [10] تقدّم في 2/ 14.
2 -
(أَبوه عُثْمانُ بْنُ خَالِدٍ) بن عمر بن عبد الله بن الوليد بن عثمان بن عفان الأمويّ، أَبو عفان المدنيّ، متروك الحديث [10].
(1) راجع "الإصابة" 4/ 377 - 379.
روى عن قرينه سعيد بن خالد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان، ومالك، وابن أبي الزناد، وغيرهم.
وروى عنه ابنه أَبو مروان العثماني محمد، والقاسم بن بشر بن معروف، وأبو علي الحسين بن أبي يزيد الدباغ.
قال البخاري: عنده مناكير. وقال النسائي: ليس بثقة. وقال الْعُقيليّ: الغالب على حديثه الوهم. وقال الحاكم أَبو أحمد: منكر الحديث. وقال البخاري في "تاريخه الكبير"، وأبو حاتم: منكر الحديث. وقال الساجي: عنده مناكير غير معروفة. وقال الحاكم أَبو عبد الله، وأبو نعيم الأصبهاني: حَدّث عن مالك وغيره بأحاديث موضوعة. وقال ابن حبان: يروي المقلوبات عن الثقات، لا يجوز الاحتجاج به. وروى له ابن عدي أحاديث، وقال: وله غير ما ذكرت وكلها غير محفوظة.
تفرّد به المصنّف وله عنده في هذا الكتاب حديثان فقط برقم (109) و (110).
3 -
(عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي الزِّنَادِ) عبد الله بن ذكوان القرشيّ، مولاهم المدنيّ، صدوق تغيّر حفظه لمّا قدِم بغداد، وكان فقيهًا [7].
روى عن أبيه، وموسى بن عقبة، وهشام بن عروة، وغيرهم. وروى عنه ابن جريج، وزهير بن معاوية، ومعاذ بن معاذ العنبري، والأصمعيّ، وغيرهم. قال مصعب: كان أَبو الزناد أحب أهل المدينة، وابنه، وابن ابنه. وقال سعيد بن أبي مريم عن خاله موسى بن سلمة: قَدِمتُ المدينة، فأتيت مالك بن أنس، فقلت له: إني قَدِمت إليك لأسمع العلم، وأسمع ممن تأمرني به، فقال: عليك بابن أبي الزناد. وقال أَبو داود عن ابن معين: أثبت الناس في هشام بن عروة عبد الرحمن بن أبي الزناد. وقال أَبو طالب عن أحمد: يُروَى عنه، قلت: يُحتَمَل؟ قال: نعم. وقال أيضًا فيما حكاه الساجي: أحاديثه صحاح. وقال ابن معين فيما حكاه الساجي: عبد الرحمن بن أبي الزناد، عن أبيه، عن الأعرج، عن أبي هريرة حجة. وقال الآجري، عن أبي داود: كان عالما بالقرآن، عالما بالأخبار. وقال الترمذي، والعجلي: ثقة. وصحح الترمذي عدةً من أحاديثه.
وقال في "اللباس": ثقة حافظ. وقال ابن عديّ: هو ممن يُكتب حديثه. وقال الحاكم أَبو أحمد: ليس بالحافظ عندهم. وقال الواقدي: كان نبيلًا في علمه، ووَلِيَ خراج المدينة، فكان يستعين بأهل الخير والورع، وكان كثير الحديث، عالمًا. وقال الشافعي: كان ابن أبي الزناد يكاد يجاوز القصد في ذَمّ مذهب مالك. وقال ابن محُرز عن يحيى بن معين: ليس ممن يَحتَجّ به أصحاب الحديث، ليس بشيء.
وقال معاوية بن صالح وغيره عن ابن معين: ضعيف. وقال الدُّوري عن ابن معين: لا يحتج بحديثه، وهو دون الدراوردى. وقال صالح بن أحمد عن أبيه: مضطرب الحديث. وقال محمد بن عثمان عن ابن المديني: كان عند أصحابنا ضعيفًا. وقال عبد الله ابن علي بن المديني عن أبيه: ما حدث بالمدينة فهو صحيح، وما حدث ببغداد أفسده البغداديون. ورأيت عبد الرحمن بن مهدي يخط على أحاديثه، وكان يقول: في حديثه عن مشيختهم: فلان وفلان وفلان، قال: ولقنه البغداديون عن فقهائهم. وقال صالح ابن محمد: روى عن أبيه أشياء لم يروها غيره، وتكلم فيه مالك لروايته عن أبيه كتاب السبعة -يعني الفقهاء- وقال: أين كنا عن هذا؟. وقال يعقوب بن شيبة: ثقة صدوق، وفي حديثه ضعف، سمعت علي بن المديني يقول: حديثه بالمدينة مقارب، وما حدث به بالعراق فهو مصطرب، قال علي: وقد نظرت فيما روى عنه سليمان بن داود الهاشمي، فرأيتها مقاربة. وقال عمرو بن علي: فيه ضعف، فما حدث بالمدينة أصح مما حَدّث ببغداد كان عبد الرحمن يخط على حديثه.
وقال في موضع آخر: تركه عبد الرحمن. وقال الساجي: فيه ضعف، وما حدث بالمدينة أصح مما حدث ببغداد. وقال ابن أبي حاتم: سألت أبا زرعة عنه، وعن ورقاء، وشعيب، والمغيرة، أيهم أحب إليك في أبي الزناد؟ قال: كلهم أحب إلي من عبد الرحمن ابن أبي الزناد. وقال النسائي: لا يحتج بحديثه. وقال ابن سعد: قَدِمَ في حاجة، فسمع منه البغداديون، وكان كثير الحديث، وكان يضعف لروايته عن أبيه، وكان يفتي، مات ببغداد سنة أربع وسبعين ومائة، ومولده سنة (100)، وكذا أرخه أَبو موسى.
أخرج له البخاري في التعاليق، ومسلم في "المقدمة" والأربعة، وله في هذا الكتاب (11) حديثًا.
4 -
(أبوه) هو: عبد الله بن ذكوان القرشي، أَبو عبد الرحمن المدني المعروف بأبي الزناد، مولى رملة، وقيل: عائشة بنت شيبة بن ربيعة، وقيل: مولى عائشة بنت عثمان، وقيل: مولى آل عثمان، وقيل: إن أباه كان أخا أبي لؤلؤة، قاتل عمر، وقال ابن عيينة: كان يغضب من أبي الزناد، ثقةٌ، فقيهٌ [5].
روى عن أنس، وعائشة بنت سعد، وأبي أمامة بن سهل بن حنيف، وسعيد بن المسيب، وأبي سلمة بن عبد الرحمن، وأبان بن عثمان بن عفان، وغيرهم. وروى عنه ابناه: عبد الرحمن، وأبو القاسم، وصالح بن كيسان، وابن أبي مليكة، وخلق كثير. قال عبد الله بن أحمد عن أبيه: ثقة. وقال حرب عن أحمد: كان سفيان يسميه أمير المؤمنين. قال: وهو فوق العلاء بن عبد الرحمن، وسهيل بن أبي صالح، ومحمد بن عمرو. وقال أَبو زرعة الدمشقي عن أحمد: أَبو الزناد أعلم من ربيعة. وقال ابن أبي مريم عن ابن معين: ثقة حجة. وقال ابن المديني: لم يكن بالمدينة بعد كبار التابعين أعلم منه، ومن ابن شهاب، ويحيى بن سعيد، وبكير بن الأشج. وقال العجلي: مدني تابعي ثقة، سمع من أنس. وقال أَبو حاتم: ثقة فقيه صالح الحديث، صاحب سنة، وهو ممن تقوم به الحجة، إذا روى عن الثقات. وقال البخاري: أصح أسانيد أبي هريرة: أَبو الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة. وقال الليث عن عبد ربه بن سعيد: رأيت أبا الزناد دخل مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، ومعه من الأتباع مثل ما مع السلطان. وقال النسائي، والعجلي، والساجي، وأبو جعفر الطبري: كان ثقة.
وقال ابن حبان في "الثقات": كان فقيهًا، صاحب كتاب. وقال ابن عديّ: أحاديثه مستقيمة كلها. وقال ابن أبي حاتم عن أبيه: روى عن أنس مرسلًا، وعن ابن عمر، ولم يره. وقال أَبو يوسف، عن أبي حنيفة: قدمت المدينة، فأتيت أبا الزناد، ورأيت ربيعة، فإذا الناس على ربيعة، وأبو الزناد أفقه الرجلين، فقلت له: أنت أفقه، والعمل
على ربيعة، فقال: ويحك كَفٌّ من حظ، خير من جراب من علم. قال خليفة وغيره: مات سنة ثلاثين ومائة في رمضان، وهو ابن (66) سنة. وكذا قال ابن سعد، وزاد: كان ثقة، كثير الحديث، فصيحًا، بصيرا بالعربية، عالمًا، عاقلا. وقال ابن معين وغيره: مات سنة (31). وقيل: مات سنة (32).
أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (31) حديثًا.
5 -
(الْأَعْرَجُ) هو: عبد الرحمن بن هُرْمُز، أَبو داود المدنيّ، مولى ربيعة بن الحارث، ثقة ثبتٌ فقيه [3] تقدم في 10/ 79.
6 -
(أَبو هُرَيْرَة) الصحابيّ الشهير رضي الله عنه تقدّم في 1/ 1، والله تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه (أَن رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لِكُلِّ نَبِيٍّ رَفِيقٌ في الْجَنَّةِ، وَرَفِيقِي فِيهَا عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ) رضي الله عنه. قال السنديّ رحمه الله: أكثر ما يُطلق الرفيق على الصاحب في السفر، وقد يُطلق على الصاحب مطلقًا، وهو المراد هنا، ولعلّ سبب ذلك ما يُشير إليه قوله تعالى:{أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} [الطور: 21]، فتكون بناته صلى الله عليه وسلم عنده، وعثمان؛ لكونه زوج البنتين يتبعهما، فيكون عنده، وتخصيص عثمان رضي الله عنه إنما هو من أجل أنه ليس من الذرّيّة، وعليّ رضي الله عنه لشدّة قرابته، ولكونه نشأ في تربيته معدود في الذريّة، والمقصود هنا هو الإخبار بأنه يكون في الجنّة رفيقًا، لا الحصر. انتهى.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا تفرّد به المصنّف، وهو ضعيفٌ؛ لتفرّد عثمان بن خالد به، وهو متروك. قال الحافظ البوصيريّ رحمه الله: وهذا إسناد ضعيف، فيه عثمان بن خالد، وهو ضعيف باتّفاقهم، ورواه الترمذيّ في "الجامع" من طريق (1) طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لكل نبي رفيق، ورفيقي -يعني
(1) هكذا عبارة البوصيريّ بلفظ "من طريق طلحة"، وكان الأولى التعبير بلفظ "من حديث طلحة"، كما لا يخفى.
في الجنة- عثمان". قال أَبو عيسى: هذا حديث غريب، ليس إسناده بالقويّ، وهو منقطع. انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام ابن ماجه رحمه الله في أول الكتاب قال:
110 -
(حَدَّثَنَا أَبُو مَرْوَانَ مُحَمَّدُ بْنُ عُثْمَانَ الْعُثْمَانِيُّ، حَدَّثَنَا أَبِي عُثْمَانُ بْنُ خَالِدٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي الزِّنَادِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الْأَعْرَج، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَقِيَ عُثْمَانَ عِنْدَ بَابِ الْمَسْجِدِ، فَقَالَ: يَا عُثْمَانُ هَذَا جِبْرِيلُ، أَخْبَرَنِي أَنَّ الله قَدْ زَوَّجَكَ أُمَّ كُلْثُومٍ بِمِثْلِ صَدَاقِ رُقَيَّةَ، عَلَى مِثْلِ صُحْبَتِهَا").
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا الإسناد هو الإسناد المذكور في الحديث الماضي، وقد سبق بيان ضعفه، فلا تغفل، والله تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه (أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَقِيَ عُثْمَانَ) بن عفّان رضي الله عنه (عِنْدَ بَابِ الْمَسْجِدِ) أي النبويّ، فـ "أل" عهديّة (فَقالَ) صلى الله عليه وسلم (يَا عُثْمَانُ هَذَا جِبْرِيلُ) عليه السلام (أَخْبَرَنِي أَنَّ الله قَدْ زَوَّجَكَ) قال السنديّ رحمه الله: ظاهره أنه تعالى كان هو العاقد، كما في أزواج النبيّ صلى الله عليه وسلم نحو زينب المذكورة في قوله تعالى:{فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا} [الأحزاب: 37]. انتهى (1)(أُمَّ كُلْثُومٍ) بنت النبيّ صلى الله عليه وسلم، اختُلف هل هي أصغر، أو فاطمة، وتزوجها عثمان بعد موت أختها رُقَيّة رضي الله عنهم عنده.
قال أَبو عُمَر: كان عتبة بن أبي لهب تزوج أم كلثوم قبل البعثة، فلم يدخل عليها حتى بُعِث النبي صلى الله عليه وسلم، فأمره أبوه بفراقها، ثم تزوجها عثمان بعد موت أختها سنة ثلاث من الهجرة، وتوفيت عنده أيضًا سنة تسع، ولم تلد له، قال: وهي التي شَهِدَت أم عطية غسلها وتكفينها، وحدثت بذلك.
(1)"شرح السنديّ" 1/ 79.
قال الحافظ: المحفوظ أن قصة أم عطية إنما هي في زينب، كما ثبت في "صحيح مسلم"، ويحتمل أن تشهدهما جميعًا.
قال ابن سعد: خرجت أم كلثوم إلى المدينة لما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم مع فاطمة وغيرها من عيال النبي صلى الله عليه وسلم، فتزوجها عثمان بعد موت أختها رقية في ربيع الأول سنة ثلاث، وماتت عنده في شعبان سنة تسع، ولم تلد له، وساق بسند له عن أسماء بنت عميس قالت: أنا غسلت أمَّ كلثوم وصفية بنت عبد المطلب. ومن طريق عمرة غسلتها نسوة منهن أم عطية. وفي "صحيح البخاري"، وطبقات ابن سعد عن أنس رضي الله عنه: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم على قبرها، فرأيت عينيه تدمعان، فقال:" فيكم أحدٌ لم يقارف الليلة؟ "، فقال أَبو طلحة: أنا، فقال انزل في قبرها. وقال الواقدي بسند له: نزل في حفرتها عليّ، والفضل، وأسامة بن زيد. وقال غيره: كان عتبة وعتيبة ابنا أبي لهب تزوجا رقية وأم كلثوم ابنتي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما نزلت:{تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} [المسد: 1] قال أَبو لهب لابنيه: رأسي بين رءوسكما حرام إن لم تطلقا ابنتي محمد، وقالت لهما أمهما حمالة الحطب: إن رقية وأم كلثوم صَبَتَا فطَلِّقاهما، فطَلَّقَاهما قبل الدخول (1).
[تنبيه]: "الْكُلْثُوم" بضم الكاف وسكون اللام، كزُنْبُور في أصل اللغة: كثير لحم الخدّين والوجه، من الْكَلْثَمة، وهي اجتماع لحم الوجه (2).
[تنبيه آخر]: ذكر الخضريّ في "حاشية شرح ابن عَقِيل على الخلاصة": ما نصّه: وقع السؤال عن "أمّ كُلثوم"، هل يمنع عجزه من الصرف للعلميّة والتأنيث المعنويّ، كما مُنِع في "أبي هريرة"، و"أبي بكرة" للتأنيث اللفظيّ؟.
فأجبت بالفرق بينهما بأن العلة الثانية، وهي التأنيث في "هُريرة" تامّة مستقلّة به قبل التركيب وبعده، فانضمّت لجزء العلميّة الحاصلة بعد التركيب، ومنعته، بخلاف
(1) راجع "الإصابة" 8/ 460 - 461.
(2)
أفاده في "القاموس"، بزيادة من "حاشية الخضري" 2/ 160.
كلثوم، فإن فيه جزء كلٍّ من العلميّة والتأنيث المعنويّ؛ لأنه مدلول لمجموع الجزأين، لا للعجز وحده، فالظاهر أن لا يُمنع، وهو الجاري على ألسنة المحدّثين، كما في الدمامينيّ على "المغني"؛ لتجزىء كلٍّ من العلّتين فيه، وهذا فرق وجيه. انتهى (1).
(بِمِثْلِ صَدَاقِ رُقَيَّةَ) بضم الراء، وفتح القاف، وتشديد الياء التحتانيّة: أي بمثل مهر أختها رقيّة بنت النبيّ صلى الله عليه وسلم. قال الفيّوميّ: صِداق المرأة فيه لغات، أكثرها فتح الصاد، والثانية كسرها، والجمع صُدُقٌ بضمّتين، والثالثة لغة الحجاز صَدُقَةٌ، وتُجمَع على صَدُقات على لفظها، وفي التّنْزِيل:{وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ} الآية [النساء:4]. والرابعة لغة تميم صُدْقةٌ بضم، فسكون، والجمع صُدُقات، مثل غرفة وغرُفات في وجوهها. وصَدْقة بفتح، فسكون لغة خامسة، وجمعها صُدَقٌ، مثل قرية وقُرًى، وأصدقتها: أعطيتها صداقها، وأصدقتها: تزوجتها على صداق. انتهى (2).
ورقية بنت النبيّ صلى الله عليه وسلم زوج عثمان بن عفان، وأم ابنه عبد الله رضي الله عنهم. قال أَبو عمر: لا أعرف خلافا أن زينب أكبر بنات النبي صلى الله عليه وسلم، واختُلِف في رقية وفاطمة وأم كلثوم، والأكثر أنهن على هذا الترتيب. ونقل أَبو عمر عن الجرجاني أنه صحح أن رقية أصغرهن. وقيل: كانت فاطمة أصغرهن. وقال ابن هشام: تزوج عثمان رقية، وهاجر بها إلى الحبشة، فولدت له عبد الله هناك، فكان يُكنى به.
وقال ابن سعد: بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم هي وأخواتها، وتزوجها عتبة بن أبي لهب قبل النبوة، فلما بُعِث قال أَبو لهب: رأسي من رأسك حرام إن لم تُطَلِّق ابنته ففارقها، ولم يكن دخل بها فتزوجها عثمان، فأسقطت منه سِقْطًا، ثم ولدت له بعد ذلك ولدًا، فسماه عبد الله، وبه كان يُكنى، ونقره ديك فمات، فلم تلد له بعد ذلك. وأخرج ابن سعد من
(1) راجع "حاشية الخضري على شرح ابن عقيل لألفية ابن مالك" في باب "ما لا ينصرف" 2/ 160.
(2)
"المصباح المنير" 1/ 335 - 336.
طريق علي بن زيد، عن يوسف بن مهران، عن ابن عباس قال: لما ماتت رقية قال النبي صلى الله عليه وسلم:- "الحقي بسلفنا عثمان بن مظعون"، فبكت النساء على رقية، فجاء عمر بن الخطاب، فجعل يضربهن، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"مهما يكن من العين ومن القلب فمن الله والرحمة، ومهما يكن من اليد واللسان فمن الشيطان"، فقعدت فاطمة على شفير القبر تبكي، فجعل يمسح عن عينها بطرف ثوبه.
والظاهر أن هذا وَهَمٌ، ولعلها غيرها من بناته؛ لأن الثابت أن رقية ماتت ببدر، إلا أن يُحمَل على أنه أتى قبرها بعد أن جاء من بدر.
وقد روى ابن المبارك عن يونس، عن الزهري قال: تخلف عثمان عن بدر على امرأته رقية، وكانت قد أصابها الْحَصْبة فماتت، وجاء زيد -يعني ابن حارثة- بشيرًا بوقعة بدر، قال: وعثمان على قبر رقية. وذكر السَّرَّاج في "تاريخه" من طريق هشام بن عروة عن أبيه قال: تخلف عثمان وأسامة بن زيد عن بدر، فبينا هم يدفنون رقية سمع عثمان تكبيرًا، فقال: يا أسامة ما هذا، فنظروا فإذا زيد بن حارثة على ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم الجدْعاء بشيرًا بقتل المشركين يوم بدر (1).
(عَلَى مِثْلِ صُحْبَتِهَا) بضم، فسكون: أي على أن تصحبها مثل ما صاحبت أختها من حسن العِشرة، وكريم المعاملة، والرفق بها، والتودّد إليها.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا الحديث مما انفرد به المصنّف، وهو ضعيف؛ لما أسلفناه في الحديث الذي قبله، فتنبّه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام ابن ماجه رحمه الله في أول الكتاب قال:
111 -
(حَدَّثَنَا عَليُّ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الله بْنُ إِدْرِيسَ، عَنْ هِشَامِ بْنِ حَسَّانَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، عَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ، قَالَ: ذَكرَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِتْنَةً، فَقَرَّبَهَا، فَمَرَّ
(1) راجع "الإصابة" 8/ 138 - 139.
رَجُل مُقَنَّعٌ رَأْسُهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"هَذَا يَوْمَئِذٍ عَلَى الْهُدَى"، فَوَثَبْتُ، فَأَخَذْتُ بِضَبْعَيْ عُثْمَانَ، ثُمَّ اسْتَقْبَلْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقُلْتُ: هَذَا؟ قَالَ: "هَذَا").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(عَليُّ بْنُ مُحَمَّدٍ) الطنافسيّ الكوفيّ، ثقة عابد [10] تقدّم في 9/ 57.
2 -
(عَبْدُ اللهِ بْنُ إِدْرِيسَ) بن يزيد الأوديّ، أَبو محمد الكوفيّ، ثقة فقيه عابد [8] تقدّم في 7/ 52.
3 -
(هِشَامُ بْنُ حَسَّانَ) الأزديّ الْقُرْسيّ -بضم القاف، والدال- يقال: كان نازلا في القراديس، ويقال: مولاهم، أبو عبد الله البصريّ، ثقة، من أثبت الناس في ابن سيرين، وفي روايته عن الحسن، وعطاء مقال؛ لأنه قيل: كان يرسل عنهما [6].
رَوَى عن حميد بن هلال، والحسن البصري، ومحمد، وأنس، وحفصة بني سيرين، وغيرهم. وعنه عكرمة بن عمار، وسعيد بن أبي عروبة، وشعبة، وزائدة والحمادان، والسفيانان، وخلق كثير.
قال عارم: ثنا حماد بن زيد، عن سعيد بن أبي صدقة، أن محمد بن سيرين قال: هشام منا أهل البيت، قال حماد: وكان أيوب يقول: سل لي هشاما عن حديث كذا. وقال سعيد بن أبي عروبة: ما رأيت أحفظ عن محمد بن سيرين من هشام. وقال نعيم ابن حماد. سمعت ابن عيينة يقول: لقد أتى هشام أمرا عظيما بروايته عن الحسن، قيل لنعيم: لم؟ قال: إنه كان صغيرا، قال نعيم: قال ابن عيينة: وكان هشام أعلم الناس بحديث الحسن. وقال أَبو بكر بن أبي شيبة عن ابن علية: ما كنا نَعُدّ هشام بن حسان في الحسن شيئا. وقال إبراهيم بن مهدي: سمعت حماد بن زيد يقول: أنبأنا هشام وأيوب، وحسبك بهشام. وقال مخلد بن الحسين عن هشام بن حسان: ما كتبت للحسن حديثا قط، إلا حديث الأعماق.
وقال علي عن يحيى بن سعيد: هشام بن حسان في ابن سيرين أحب إلي من عاصم الأحول، وخالد الحذاء، وهو عندي في الحسن دون محمد بن عمرو -يعني
الأنصاري. وقال حجاج بن المنهال: كان حماد بن سلمة لا يختار على هشام في ابن سيرين أحدًا. وقال ابن المديني: كان يحيى بن سعيد، وكبار أصحابنا يُثَبِّتون هشام بن حسان، وكان يحيى يضعف حديثه عن عطاء، وكان الناس يرون أنه أخذ حديثه عن حَوْشَب. وقال ابن المديني أيضًا: أما حديث هشام عن محمد فصحاح، وحديثه عن الحسن عامتها يدور على حوشب، وهشام أثبت من خالد الحذاء في ابن سيرين، وهشام ثَبْتٌ. وقال العجلي: بصري ثقة، حسن الحديث، يقال: إن عنده ألف حديث حسن ليست عند غيره. وقال ابن سعد: كان ثقة إن شاء الله تعالى، كثير الحديث.
وقال ابن شاهين في "الثقات": قال عثمان بن أبي شيبة: كان ثقة. وقال أَبو داود: إنما تكلموا في حديثه عن الحسن وعطاء؛ لأنه كان يرسل، وكانوا يرون أنه أخذ كتب حَوْشَب. وقال ابن عدي: أحاديثه مستقيمة، ولم أر في حديثه منكرًا، وهو صدوق. وقال أَبو بكر بن أبي شيبة وغيره: مات سنة ست. وقال يحيى القطان وغيره: مات سنة سبع. وقال الترمذي وغيره: مات سنة ثمان وأربعين ومائة. قلت وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: مات سنة سبع أو ثمان، وكان من العباد الْخُشُن البكائين.
أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (23) حديثًا.
4 -
(مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ) الأنصاريّ، أَبو بكر ابن أبي عمرة البصريّ، ثقة ثبتٌ عابدٌ كبير القدر [3] تقدّم في 3/ 24.
5 -
(كَعْبُ بْنُ عُجْرَةَ) بن أُميّة بن عديّ بن عُبيد بن خالد بن عمرو بن عوف بن غَنْم بن سَوَاد بن مُرّيّ بن أراشة الْبَلَويّ، الأنصاري المدنيّ، أَبو محمد، وقيل: أَبو عبد الله، وقيل: أَبو إسحاق، من بني سالم بن عوف، وقيل: من بني سالم بن يَليّ، حليف بني الخزرج. وقيل في نسبه غير ذلك.
روى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعن عمر بن الخطاب، وبلال. وروى عنه بنوه: إسحاق، والربيع، ومحمد، وعبد الملك، وابن عمر، وابن عمرو، وابن عباس، وجابر، وعبد الله ابن مَعْقِل بن مُقَرن الْمُزنِيّ، وعبد الرحمن بن أبي ليلى، وأبو وائل، ومحمد بن سيرين، وأبو
عبيدة بن عبد الله بن مسعود، وطارق بن شهاب، ومحمد بن كعب القرظي، وأبو ثُمامة الحناط، وسعيد المقبري، وقيل: بينهما رجل، وإبراهيم، وليس بالنخعي، وعاصم العدوي، وموسى بن وَرْدان، وغيرهم.
قال الواقديّ: كان استأخر إسلامه، ثم أسلم، وشهد الشاهد، وهو الذي نزلت فيه بالحديبية الرخصة في حلق رأس المحرم والفدية.
وأخرج ابن سعد بسند جيّد عن ثابت بن عبيد أن يد كعب بن عجرة قُطعت في بعض المغازي، ثم سكن الكوفة.
قال خليفة: مات سنة إحدى وخمسين. وقال الواقدي، وآخرون: مات سنة (2)، قال بعضهم: وهو ابن خمس، وقيل: سبع وسبعين سنة.
روى له الجماعة، وله في هذا الكتاب سبعة أحاديث فقط برقم (111) و (561) و (904) و (967) و (1064) و (3079) و (3080)، والله تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ) رضي الله عنه، أنه (قَالَ: ذَكَرَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم فِتْنَةً) أي ابتلاءً واختبارًا، والمراد القتال والكفر (فَقَرَّبَهَا) بتشديد الراء من التقريب: أي ذكر النبيّ صلى الله عليه وسلم كونها قريبة الوقوع (فَمَرَّ رَجُلٌ مُقَنَّعٌ) بضم الميم، وفتح النون المشدّدة اسم مفعول من التقنيع، وهو ستر الرأس بالرداء، وإلقاء طرفه على الكتف، وهو صفة لـ"رجل"، وقوله (رَأْسُهُ) مرفوع على أنه نائب فاعله، ويحتمل أن يكون "مُقنَّع" مبتدأ، و"رأسه" نائب فاعله؛ لاعتماده على الموصوف، أغنى عن الخبر، والجملة صفة في محل رفع صفة لـ"رجل"، والمعنى أن ذلك الرجل مستتر في ثوب، وقد جعله كالقناع (فَقَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: هَذَا) مشيرًا إلى الرجل المقنّع (يَوْمَئِذٍ) أي يوم وقوع الفتنة (عَلَى الهدَى) أي على الحقّ، وهو من قبيل قوله عز وجل:{أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ} [لقمان: 5](فَوَثَبْتُ) أي قمت مسرعًا (فَأَخَذْتُ بِضَبْعَيْ عُثْمَانَ) تثنية "ضَبْع" بفتح، فسكون: هو العضد، والجمع أَضْباع، مثل فَرْخ وأَفْراخ. (ثُمَّ اسْتَقْبَلْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم) أي توجهت إليه آخذًا
بضبعي عثمان رضي الله عنه، وفي حديث مرة بن كعب رضي الله عنه عند الترمذيّ: فقمت إليه، فأقبلت عليه بوجهه، والمعنى أنه أدار وجه عثمان رضي الله عنه إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم ليتبيّن الأمر عليه (فَقُلْتُ: هَذَا؟) أي أهذا هو الرجل الذي قلتَ: إنه يومئذ على الهدى؟ (قَالَ) صلى الله عليه وسلم (هَذَا) خبر لمحذوف: أي هو هذا، أو مبتدأ محذوف الخبر: أي هذا هو المعنيّ. وفيه مبالغة في استحضار القضيّة، وتأكيدها بتحقّق الصورة الجليّة، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): في درجته:
حديث كعب بن عُجْرة رضي الله عنه هذا صحيح.
[فإن قلت]: كيف يصحّ، وفيه انقطاع؛ لأن ابن سيرين لم يسمع من كعب بن عجرة رضي الله عنه، كما ذكره في "تهذيب التهذيب" 3/ 578 نقلًا عن ابن أبي حاتم عن أبيه، وقال في "المراسيل" جـ 2/ ص 380 - 381 يقال: هذا الحديث عن كعب بن مرّة البهزيّ انتهى؟.
[قلت]: إنما صحّ بشواهده، فقد أخرجه الإمام أحمد في "مسنده"، فقال:
(18068)
حدثنا محمد بن بَكْر -يعني البرساني- أخبرنا وهيب بن خالد، حدثنا أيوب، عن أبي قلابة، عن أبي الأشعث، قال: قامت خطباء بإيلياء في إمارة معاوية رضي الله عنه، فتكلموا، وكان آخر من تكلم مُرّة بن كعب، فقال: لولا حديث سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قمت، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر فتنة، فقربها، فمر رجل مُتَقَنِّعٌ، فقال:"هذا يومئذ وأصحابه على الحق والهدى"، فقلت: هذا يا رسول الله، وأقبلت بوجهه إليه؟ فقال:"هذا"، فإذا هو عثمان رضي الله عنه.
وهذا حديث صحيح، رجال إسناده ثقات، رجال الشيخين، غير أبي الأشعث، واسمه شَرَاحيل بن آدة -فمن رجال مسلم، وصحابيّ الحديث لم يُخرج له سوى أصحاب السنن (1).
(1) راجع ما كتبه محقّقوا "المسند" 29/ 609 رقم الحديث (18068).
وقال أيضًا (20372): حدثنا أَبو أسامة، حماد بن أسامة، أخبرنا كهمس، عن عبد الله بن شقيق، حدثني هَرَمِي بن الحارث، وأسامة بن خُرَيم، وكانا يغازيان، فحدثاني حديثًا، ولم يشعر كل واحد منهما أن صاحبه حدثنيه، عن مُرّة الْبَهْزيّ، قال: بينما نحن مع نبي الله قال في طريق من طُرُق المدينة، فقال:"كيف تصنعون في فتنة تثور في أقطار الأرض (1) كأنها صياصي بقر؟ (2) " قالوا: نصنع ماذا يا نبي الله؟ قال: "عليكم هذا وأصحابه، أو اتبعوا هذا وأصحابه"، قال: فأسرعت حتى عَيِيتُ فلحقت الرجلَ، فقلت: هذا يا رسول الله؟ قال: "هذا"، فإذا هو عثمان بن عفان رضي الله عنه، فقال:"هذا وأصحابه"، وذكره (3).
وهذا الحديث صحيح أيضًا، والإسناد حسن، وأسامة بن خُريم تفرد بالرواية عنه عبد الله بن شقيق، وقال العجلي: تابعيّ ثقة، وذكره ابن حبّان في "الثقات"(4).
وهرمي، ويقال: هَرِم مجهول، ذكر هنا مقرونًا بأسامة.
والحاصل أن الحديث صحيح.
وقال أيضًا (20354): حدثنا يزيد (5) أخبرنا كهمس بن الحسن، حدثنا عبد الله ابن شقيق، حدثني رجل من عَنَزَة يقال له: زائدة، أو مزيدة بن حوالة، قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر من أسفاره، فنزل الناس منزلًا، ونزل النبي صلى الله عليه وسلم في ظل دَوْحَة، فرآني وأنا مقبلٌ، من حاجة لي، وليس غيره وغير كاتبه، فقال:"أنكتبك يا ابن حوالة؟ "، قلت: علام يا رسول الله؟ قال: فَلَهَا عني، وأقبل على الكاتب، قال: ثم دنوت دون
(1) أي أنحائها.
(2)
أي قرون البقر.
(3)
رواه أحمد في "مسنده" جـ 33 رقم (20372) وإسناده حسن، لكن الحديث صحيح لشواهده.
(4)
انظر "لسان الميزان" 1/ 341.
(5)
هو ابن هارون.
ذلك، قال: فقال: "أنكتبك يا ابن حوالة؟ " قلت: علام يا رسول الله؟ قال: فلها عني، وأقبل على الكاتب، قال: ثم جئت، فقمت عليهما، فإذا في صدر الكتاب أَبو بكر وعمر، فظننت أنهما لن يُكتبا إلا في خير، فقال:"أنكتبك يا ابن حوالة؟ " فقلت: نعم يا نبي الله، فقال:"يا ابن حوالة، كيف تصنع في فتنة تثور في أقطار الأرض، كأنها صياصي بقر؟ " قال: قلت: أصنع ماذا يا رسول الله؟ قال: "عليك بالشام"، ثم قال:"كيف تصنع في فتنة كأن الأولى فيها نَفْجَة أرنب؟ " قال: فلا أدري كيف قال في الآخرة؟ ولأن أكون علمت كيف قال في الآخرة أحب إلي من كذا وكذا.
وهذا إسناد صحيح، رجاله رجال الصحيح، غير صحابيّه زائدة، أو مزيدة بن حوالة، فلم يخرج له إلا أحمد.
والحاصل أن حديث كعب بن عُجرة رضي الله عنه المذكور في الباب صحيح؛ لهذه الشواهد. فتنبّه. والله تعالى أعلم.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا (13/ 111) بهذا السند فقط، ولم يخرجه من أصحاب الأصول غيره، وأخرجه (ابن أبي شيبة) في "مصنفه"(12/ 41) و (أحمد) في "مسنده"(4/ 242 و 243) و (الترمذيّ)(3704) من حديث كعب بن مرّة، وقال الترمذيّ: حديث حسن صحيح، وقد سبق في المسألة السابقة بقية تخريج أحمد، فلا تنس نصيبك منها، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله، وهو بيان فضل عثمان بن عفّان رضي الله عنه.
2 -
(ومنها): أن فيه علمًا من أعلام النبوّة، ومعجزةً ظاهرة للنبيّ صلى الله عليه وسلم وهو إخباره صلى الله عليه وسلم بما سيقع في أمته من الفتن العظام.
3 -
(ومنها): ما كان عليه النبيّ صلى الله عليه وسلم من الحرص على إرشاد أمته إلى طريق نجاتهم من فتن الدنيا والآخرة، فما من خير يكون في الدنيا والآخر إلا دلّها عليه، وما من شرّ
يقع في الدنيا والآخرة إلا حذّرها منه، فهو صلى الله عليه وسلم الموصوف بأبي هو وأمي بقوله تعالى:{لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَاعَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة:128].
4 -
(ومنها): ما كان عليه الصحابة رضي الله عنهم من الحرص على التأكّد في تحقيق العلم، حيث إن هذا الصحابي رضي الله عنه لم يكتف بإشارة النبيّ صلى الله عليه وسلم على الرجل المتقنّع، بل مشى إليه حتى لحقه، وأخذ بيده، ووجه بوجهه إليه صلى الله عليه وسلم، وقال: هذا هو؟.
5 -
(ومنها): أنه إذا وقعت الفتن يتعيّن على المسلم أن يلزم أهل الحقّ، ويقوم معهم، إن وجدهم، وإلا اعتزل أهل الفتن كلهم، وقد بيّن النبيّ صلى الله عليه وسلم ذلك في غير ما حديث، أخرج الشيخان في "صحيحهما"(1) من طريق أبي إدريس الخولاني، أنه سمع حذيفة بن اليمان يقول: كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير، وكنت أسأله عن الشر، مخافة أن يدركني، فقلت: يا رسول الله، إنا كنا في جاهلية وشر، فجاءنا الله بهذا الخير، فهل بعد هذا الخير من شر؟ قال:"نعم"، قلت: وهل بعد ذلك الشر من خير؟ قال: "نعم، وفيه دَخَنٌ (2) "، قلت: وما دَخَنه؟ قال: "قوم يَهْدُون بغير هديي، تعرف منهم وتنكر"، قلت: فهل بعد ذلك الخير من شر؟ قال: "نعم دُعاة إلى أبواب جهنم، من أجابهم إليها قَذَفُوه فيها"، قلت: يا رسول الله صفهم لنا، فقال:"هم من جِلْدَتنا، ويتكلمون بألسنتنا"، قلت: فما تأمرني إن أدركني ذلك؟ قال: "تَلْزَم جماعةَ المسلمين وإمامهم"، قلت: فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام؟ قال: "فاعتزل تلك الفرق كلها، ولو أن تَعَضَّ بأصل شجرة، حتى يُدركك الموت، وأنت على ذلك".
وأخرج أَبو داود، والترمذيّ، والمصنف بإسناد صحيح، عن أبي كبشة، قال: سمعت أبا موسى، يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن بين أيديكم فتنا كقطع الليل المظلم
(1) سيأتي للمصنّف في "كتاب الفتن" برقم (3979) و (3981).
(2)
بفتحتين: أي شوائب.
يصبح الرجل فيها مؤمنا، ويمسي كافرًا، القاعد فيها خير من القائم، والقائم فيها خير من الماشي، والماشي فيها خير من الساعي"، قالوا: فما تأمرنا؟ قال: "كونوا أَحْلاس بيوتكم".
وهذا إسناد صحيح، رجاله رجال الصحيح، غير أبي كبشة، وهو مجهول العين لم يرو عنه غير عاصم الأحول، لكن لم ينفرد به، بل تابعه هُزيل بن شُرحبيل عند المصنف (3961)، وهو ثقة.
اللهم جنبنا الفتن ما ظهر منها وما بطن بفضلك وكرمك يا أكرم الأكرمين، ويا أرحم الراحمين آمين آمين آمين، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام ابن ماجه رحمه الله في أول الكتاب قال:
112 -
(حَدَّثَنَا عَليُّ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، حَدَّثَنَا الْفَرَجُ بْنُ فَضَالَةَ، عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ يَزِيدَ الدِّمَشْقِيِّ، عَنِ النُّعمانِ بْنِ بَشِيرٍ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "يَا عُثْمانُ إِنْ وَلَّاكَ الله هَذَا الْأَمْرَ يَوْمًا، فَأَرَادَكَ المنافِقُونَ أَنْ تَخْلَعَ قَمِيصَكَ الَّذِي قَمَّصَكَ الله، فَلَا تَخْلَعْهُ"، يَقُولُ ذَلِكَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، قَالَ النُّعْمَانُ: فَقُلْتُ لِعَائِشَةَ: مَا مَنَعَكِ أَنْ تُعْلِمِي النّاسَ بِهَذَا؟ قَالَتْ: أُنْسِيتُهُ).
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(عَليُّ بْنُ مُحَمَّدٍ) الطنافسيّ المذكور في السند الماضي.
2 -
(أَبُو مُعَاوِيَةَ) محمد بن خازم الضرير الكوفيّ، ثقة، من كبار [9] تقدّم في 1/ 3.
3 -
(الْفَرَجُ بْنُ فَضَالَةَ) بن النعمان بن نُعَيم التَّنُوخي القُضَاعيّ، أَبو فَضَالة الحمصيّ، ويقال: الدمشقيّ، ضعيفٌ [8].
روى عن يحيى بن سعيد الأنصاري، وأبي سعد صاحب واثلة، وربيعة بن يزيد، وعبد الخبير بن قيس، وعبد الرحمن بن زياد بن أَنْعُم، ولقمان بن عامر، وغيرهم.
وروى عنه ابنه محمد، وشعبة، وهو أكبر منه، وأبو معاوية، ووكيع، ومعاذ بن معاذ، والنضر بن شُميل، وحجاج بن محمد، وغيرهم.
قال أَبو داود عن أحمد: إذا حَدّث عن الشاميين فليس به بأس، ولكنه حدث عن يحيى بن سعيد مناكير. وقال أيضًا عنه: يُحَدّث عن ثقاتٍ أحاديث مناكير. وقال ابن أبي خيثمة عن ابن معين: ضعيف الحديث. وقال ابن الجنيد: قال رجل لابن معين: أيما أعجب إليك إسماعيل بن عياش، أو فرج بن فضالة؟ قال: لا، بل إسماعيل، ثم قال: فرج ضعيف الحديث، وأَيْشٍ عند فرج؟. وقال عثمان الدارمي عن ابن معين: ليس به بأس. وقال الفلاس عن ابن معين: صالح. وقال ابن أبي شيبة عن ابن المديني: هو وسط، وليس بالقوي. وقال عبد الله بن المديني عن أبيه: ضعيف، لا أحدث عنه. وقال البخاري ومسلم: منكر الحديث. وقال النسائي: ضعيف. وقال أَبو حاتم: صدوق يُكتب حديثه، ولا يحتج به، حديثه عن يحيى بن سعيد فيه نكارة، وهو في غيره أحسن حالًا، وروايته عن ثابت لا تصح.
وقال الحاكم أَبو أحمد: حديثه ليس بالقائم. وقال ابن عديّ: وهذه الأحاديث التي أمليتها غير محفوظة، وحديث يحيى بن سعيد عن عمرة لا يرويها عن يحيى غير فرج، وله عن يحيى غيرها مناكير، وله غيرما أمليتُ أحاديث صالحة، وهو مع ضعفه يُكتب حديثه. وقال الدارقطني: ضعيف الحديث، يروي عن يحيى بن سعيد أحاديث لا يُتَابَع عليها. وقال الْبَرْقاني: قلت للدارقطني: حديثه عن يحيى بن سعيد، عن محمد ابن علي، عن علي، عن النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا عَمِلَت أمتي خمس عشرة خصلة
…
" الحديث؟ فقال: هذا باطل، قلت: من جهة الفرج؟ قال: نعم، قلت: يُخَرَّج هذا الحديث؟ قال: لا، قلت: فحديثه عن لقمان بن عامر، عن أبي أمامة؟ قال: هذا كأنه قريب، يُخَرَّج. وقال عمرو بن علي: سمعت عبد الرحمن بن مهدي يقول: حَدّث فرج بن فضالة عن أهل الحجاز بأحاديث منكرة مقلوبة، قال: وكنا عند يحيى بن سعيد، فقال معاذ: حدثنا فرج ابن فضالة، فرأيت يحيى كَلَحَ وجهه. وقال الساجي: ضعيف الحديث، روى عن يحيى
ابن سعيد مناكير، كان يحيى وعبد الرحمن لا يحدثان عنه. وقال علي بن عبد العزيز البغوي، عن سليمان بن أحمد: سمعت عبد الرحمن بن مهدي يقول: ما رأيت شاميا أثبت منه، وما حدثت عنه، وأنا أستخير الله تعالى في التحديث عنه، فقلت: يا أبا سعيد حَدِّثْنِي، فقال: اكتب: حدثني فرج بن فضالة.
قال الحافظ: لا يَغتَرّ أحد بهذه الحكاية المروية في توثيق فرج عن ابن مهدي؛ لأنها من رواية سليمان بن أحمد، وهو الواسطيّ، وهو كذّاب، وقد قال البخاري: تركه ابن مهدي. وقد ذكره يعقوب بن سفيان في "باب من يُرغَب عن الرواية عنهم"، والْبَرْقي في "باب من نُسب إلى الضعف لا يَكاد حديثه ممن احتُمِلَت روايته". وقال ابن حبان: يُقَلِّب الأسانيد، ويُلْزِق المتون الواهية بالأسانيد الصحيحة، لا يحل الاحتجاج به. وقال الخليلي في "الإرشاد": ضعفوه، ومنهم من يُقَوِّيه، وينفرد بأحاديث. وقال مسعود السِّجْزيّ، عن الحاكم: هو ممن لا يُحتَجّ به.
قال الخطيب: ذَكَر رجل من ولده أن مولده في خلافة الوليد بن عبد الملك، وذلك سنة ثمان وثمانين. وقال ابن سعد: قدم بغداد وولي بيت المال في أول خلافة المهدي، ومات بها سنة سبع وسبعين ومائة.
أخرج له أَبو داود، والترمذيّ، وابن ماجه، وله في هذا الكتاب حديثان فقط برقم (112) و (1500).
4 -
(رَبِيعَةُ بْنُ يَزِيدَ الدِّمَشْقِيُّ) هو: ربيعة بن يزيد الِإيَاديّ، أَبو شعيب القصير، ثقةٌ عابدٌ [4].
روى عن عبد الله بن عمرو بن العاص، والنعمان بن بشير، وواثلة بن الأسقع، وعبد الله بن حَوَالة ولم يدركه، وجبير بن نفير، وأبي كَبْشة السَّلُولي، وغيرهم.
وروى عنه عبد الله بن يزيد الدمشقي، وحيوة بن شُريح، والأوزاعي، وسعيد ابن عبد العزيز، ومعاوية بن صالح، والفرج بن فضالة، وغيرهم.
قال العجلي، وابن عمار، ويعقوب بن شيبة، ويعقوب بن سفيان، والنسائي: ثقة.
وقال أَبو مسهر، عن سعيد بن عبد العزيز: لم يكن عندنا أحدٌ أحسنُ سمتًا في العبادة من مكحول، وربيعة بن يزيد. وقال ابن حبان في "الثقات": كان من خيار أهل الشام.
وقال ابن سعد: كان ثقة.
قال أَبو مسهر: مات بإفريقية في إمارة هشام بن إسماعيل، خرج غازيا فقتله الْبَرْبَر. وقال ابن يونس: قتلته البربر سنة (123). وأرّخه ابن أبي عاصم سنة (21).
أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب ستة أحاديث فقط برقم (112) و (825) و (2867) و (3207) و (3377) و (4215).
5 -
(النُّعْمَانُ بْنُ بَشِيرٍ) بن سَعْد بن ثَعلبة بن جُلاس بن زيد بن مالك بن ثعلبة بن كعب بن الخزرج الأنصاري الخزرجيّ، أَبو عبد الله المدنيّ، له ولأبويه صحبة، وأمه عمرة بنت رَوَاحة.
روى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعن خاله عبد الله بن رواحة، وعمر، وعائشة رضي الله عنهم.
وروى عنه ابنه محمد، ومولاه حبيب بن سالم، والشعبيّ، وعبيد الله بن عبد الله ابن عتبة، وعروة بن الزبير، وأبو قلابة الجرمي، وأبو سلام الأسود، وسالم بن أبي الجعد، وحميد بن عبد الرحمن بن عوف، وخيثمة بن عبد الرحمن، وسماك بن حرب، والْعَيْزار بن حُرَيث، والمفضل بن المهلب بن أبي صُفرة، وأزهر بن عبد الله الحرازيّ، وآخرون.
قال الواقدي: وُلد على رأس أربعة عشر شهرًا من الهجرة، وهو أول مولود وُلد في الأنصار بعد قدوم النبي صلى الله عليه وسلم، هذا قول الأكثر أنه وُلد هو وابنُ الزبير عام اثنتين من الهجرة، وقيل: غير ذلك. ورُوي نحوُه عن جابر أنه قال: أنا أسنّ منه بنحو من عشرين سنة، وما وُلد قبل بدر إلا بثلاثة أشهر أو أربعة. وقال يحيى بن معين: ليس يروي عن النبي صلى الله عليه وسلم حديثًا يقول فيه: "سمعت" إلا في حديث الشعبي: "الجسد مضغة
…
"، والباقي من حديثه إنما هو عن النبي صلى الله عليه وسلم ليس فيه "سمعت". وقال أيضًا: أهل المدينة يقولون: لم يسمع من النبي صلى الله عليه وسلم، وأهل العراق يصححون سماعه منه. وقال أَبو نعيم:
كان أميرًا على الكوفة في عهد معاوية. وقال أَبو حاتم: كان أميرًا على الكوفة تسعة أشهر. وقال أَبو مسهر عن سعيد بن عبد العزيز: كان قاضي دمشق بعد فَضَالة بن عُبيد. وقال سماك بن حرب: استعمله معاوية على الكوفة، وكان من أخطب من سمعت. وقال الهيثم بن عديّ: عزله معاوية عن الكوفة، ثم ولاه حمص.
وقال ابن سعد: أُخبرت عن أبي اليمان، عن إسماعيل بن عياش، عن يزيد بن سعيد، عن عبد الملك بن عمير قال: أتى بشير بن سعد بالنعمان إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله ادع له، فقال:. "أما ترضى أن يبلغ ما بلغت، ثم يأتي الشام فيقتله منافق من أهل الشام". وقال أَبو مسهر: كان النعمان بن بشير عاملًا على حمص، فبايع لابن الزبير -يعني بعد موت يزيد بن معاوية- فلما تمرد أهل حمص خرج هاربًا، فاتبعه خالد بن خَلِيّ الكلاعي فقتله. وقال خليفة بن خياط: وفي أول سنة خمس وستين خرج النعمان من حمص، فاتبعه خالد بن خَلِيّ الكلاعي فقتله. وقال المفضل الغلابي وغيره: قُتل سنة ست وستين.
أخرج له الجماعة، وروى (124) حديثًا، اتفق الشيخان على خمسة، وانفرد البخاريّ بحديث، ومسلم بأربعة أحاديث، وله في هذا الكتاب (15) حديثًا.
6 -
(عَائِشَةُ) أم المؤمنين رضي الله عنها، تقدمت في 2/ 14، والله تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ، عَنْ عَائِشَةَ) رضي الله عنها، أنها (قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَا عُثْمانُ)
وفي رواية الإمام أحمد من طريق عبد الله بن أبي قيس، أن النعمان بن بشير حدثه قال: كتب معي معاوية إلى عائشة، قال: فقدمت على عائشة، فدفعت إليها كتاب معاوية، فقالت يا بُنَيّ ألا أحدثك بشيء سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قلت: بلى، قالت: فإني كنت أنا وحفصة يومًا من ذاك عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: لو كان عندنا رجل يُحدّثنا، فقلت: يا رسول الله ألا أبعث لك إلى أبي بكر، فسَكَتَ، ثم قال: لو كان عندنا رجل يحدثنا، فقالت حفصة: ألا أُرسل لك إلى عمر، فسكت، ثم قال: لا، ثم دعا
رجلَّا، فسارّه بشيء، فما كان إلا أن أقبل عثمان، فأقبل عليه بوجهه وحديثه، فسمعته يقول له: يا عثمان إن الله عز وجل لعله أن يقمصك قميصًا، فإن أرادوك على خلعه فلا تخلعه"، ثلاث مرار، قال: فقلت: يا أم المؤمنين، فأين كنتِ عن هذا الحديث؟ فقالت: يا بُنَيّ والله لقد أُنسيته حتى ما ظننت أني سمعته.
(إِنْ) بكسر الهمزة شرطيّة (وَلَّاكَ الله هَذَا الْأَمْرَ يَوْمًا) هو فعل ماض، من التولية: أي جعلك واليًا لهذا الأمر، والمراد أمر الخلافة (فَأَرَادَكَ المنافِقُونَ) فيه دلالة واضحة على أن قتلة عثمان رضي الله عنه منافقون، وليسوا بالمؤمنين (أَنْ) بفتح الهمزة مصدريّة، ولذا نُصب بها قوله:(تَخْلَعَ) بفتح أوله، وثالثه، من باب قطع: أي تَنزع.
قال السنديّ: قوله: "فأرادك إلخ" أي أرادوا منك الخلع، فهو على نزع الخافض، أو قهروك على الخلع، ويؤيّده ما في بعض النسح:"على أن تخلع"، فتعدية الإرادة إلى المخاطب، وبـ "على" لتضمينها معنى القهر، أو المراد قصدوك لخلعه. انتهى (1).
(قَمِيصَكَ) قال الطيبيّ: استعار القميص للخلافة، ورشّحها بذكر الخلع، قال في "أسرار البلاغة" ومن المجاز قمّصه الله وَشْيَ الخلافة، وتقمّص لباس العزّ، ومن هذا الباب قوله:"الكبرياء ردائي، والعظمة إزاري"(2)، وقولهم:"المجدُ بين ثوبيه، والكَرَم بين بُرْديه". انتهى (3).
(الَّذِي قَمَّصَكَ الله) بتشديد الميم؛ أي ألبسك الله إياه (فَلَا تَخْلَعْهُ) أي لا تطاوعهم على ذلك، والمعنى أنهم إن قصدوا عزلك، فلا تَعْزِل نفسك عن الخلافة؛ لأجلهم؛ لكونك على الحقّ، وهم على الباطل (يَقُولُ) صلى الله عليه وسلم (ذَلِكَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ) إنما كرّره تأكيدًا للأمر.
(1)"شرح السنديّ" 1/ 80.
(2)
قوله: "الكبرياء ردائي إلخ" حديث أخرجه أحمد، ومسلم، وأبو داود، والمصنف، ودعوى المجاز فيه محلّ نظر، فيتأمل.
(3)
"الكاشف عن حقائق السنن" 12/ 3877.
(قَالَ النُّعْمَانُ) بن بشير رضي الله عنهما (فَقُلْتُ لِعَائِشَةَ) رضي الله عنهما (مَا مَنَعَكِ أَنْ تُعْلِمِي) بضم أوله، وسكون ثانيه، من الإعلام، أو بضم أوله، وفتح ثانيه، وتشديد ثالثه، من التعليم (النَّاسَ بِهَذَا) الحديث حتى يكونوا على بصيرة من أن الذين قاموا على عثمان رضي الله عنه منافقون مبطلون، لا يريدون الحقّ (قَالَتْ: أُنْسِيتُهُ) بضم الهمزة، من الإنساء: أي أنسانيه الشيطان.
وأخرج الإمام من طريق عبد الله بن عامر، عن النعمان بن بشير، عن عائشة رضي الله عنها، قالت: أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عثمان بن عفان، فأقبل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما رأينا رسول الله صلى الله عليه وسلم أقبلت إحدانا على الأخرى، فكان من آخر كلام كلمه أن ضرب منكبه، وقال:"يا عثمان إن الله عز وجل عسى أن يُلبسك قميصًا، فإن أرادك المنافقون على خلعه فلا تخلعه، حتى تلقاني، يا عثمان إن الله عسى أن يلبسك قميصًا، فإن أرادك المنافقون على خلعه فلا تخلعه حتى تلقاني"، ثلاثًا، فقلت لها: يا أم المؤمنين، فأين كان هذا عنكِ؟ قالت: نسيته، والله فما ذكرته، قال: فأخبرته معاوية بن أبي سفيان، فلم يرض بالذي أخبرته، حتى كتب إلى أم المؤمنين أن اكتبي إلي به، فكتبت إليه به كتابًا، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): في درجته:
حديث عائشة هذا صحيح.
[فإن قلت]: كيف يصحّ، وفي سنده الفرج بن فَضَالة، والأكثرون على تضعيفه؟.
[قلت]: الحديث له أسانيد صحاح، فقد أخرجه المصنّف بالسند التالي، وهو إسناد رجاله رجال الصحيح، وأخرجه الإمام أحمد 6/ 149 عن عبد الرحمن بن مهديّ، عن معاوية بن صالح، عن ربيعة بن يزيد الدمشقيّ، عن عبد الله بن أبي قيس، عن النعمان رضي الله عنه. وهذا الإسناد رجاله ثقات.
وأخرجه أحمد أيضًا من طريق الوليد بن سليمان، والترمذيّ من طريق معاوية بن
صالح، كلاهما عن ربيعة بن يزيد، عن عبد الله عامر، عن النعمان بن بشير، عن عائشة" أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"يا عثمان إنه لعل الله يُقَمِّصك قميصًا، فإن أرادوك على خَلْعه فلا تخلعه لهم"، واللفظ للترمذيّ (1)، قال: وفي الحديث قصة طويلة (2)، ثم قال: هذا حديث حسن غريب.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال إسناد الترمذيّ كلهم ثقات، من رجال الصحيح، وعبد الله بن عامر هو الدمشقيّ المقرىء، أحد البدور السبعة المشهورين، ثقة أخرج له مسلم.
والحاصل أن الحديث صحيح، فتبصّر. والله تعالى أعلم.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا (13/ 112) بهذا السند، وأخرجه أيضًا من طريق قيس بن أبي حازم، عن عائشة رضي الله عنها في السند التالي. وأخرجه (الترمذيّ) في "المناقب"(3705)، و (أحمد) في "مسنده"(6/ 86) و (6/ 149) و (الحاكم) في "المستدرك"(3/ 99 - 100) و (ابن حبّان في "صحيحه" (6915)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله، وهو بيان فضل عثمان رضي الله عنه، وهو واضح.
2 -
(ومنها): أن فيه علمًا من أعلام النبوّة، حيث أخبر النبيّ صلى الله عليه وسلم بما يحدُث لعثمان رضي الله عنه من اختلاف الناس فيه، وخروجهم عليه، فوقع كما أخبر به.
3 -
(ومنها): أن فيه إشارةً إلى أن عثمان رضي الله عنه سيلي الخلافة.
4 -
(ومنها): بيان أن الذين خرجوا على عثمان رضي الله عنه هم منافقون، وليسوا من
(1) وأما لفظ أحمد فقد تقدّم قريبًا مطوّلًا.
(2)
لعله أراد القصّة التي تقدّمت في رواية أحمد قريبًا.
المؤمنين المخلصين.
5 -
(ومنها): أن المحدّث إذا نسي حديثه ثم تذكّره بعدُ، قبل عنه، فقد قبل الصحابة رضي الله عنهم حديث عائشة رضي الله عنها، مع أنها حدّثت به بعد النسيان، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
وبالسند المتّصل إلى الإمام ابن مَاجَه رحمه الله في أول الكتاب قال:
113 -
(حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ نُمَيْرٍ، وَعِليُّ بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي خَالِدٍ، عَنْ قَيْسِ بنِ أَبِي حَازِم، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم في مَرَضِهِ:" وَدِدْتُ أَنَّ عِنْدِي بَعْضَ أَصْحَابِي"، قُلْنَا: يَا رَسُولَ الله أَلا نَدْعُو لَكَ أَبَا بَكْرٍ؟، فَسَكَتَ، قُلْنَا: أَلا نَدْعُو لَكَ عُمَرَ؟، فَسَكَتَ، قُلْنَا: أَلا نَدْعُو لَكَ عُثْمَانَ؟ قَالَ: "نَعَمْ"، فَجَاءَ، فَخَلَا بِهِ، فَجَعَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُكَلِّمُهُ، وَوَجْهُ عُثْمَانَ يَتَغَيَّرُ، قَالَ قَيْسٌ: فَحَدَّثَنِى أَبُو سَهْلَةَ، مَوْلَى عُثْمَانَ، أَنَّ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ قَالَ يَوْمَ الدَّار: إِنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم عَهدَ إِلَيَّ عَهْدًا، فَأَنَا صَائِرٌ إِلَيْهِ، وَقَالَ عَلِيٌّ في حَدِيثِهِ: وَأَنَا صَابِرٌ عَلَيْهِ، قَالَ قَيْسٌ: فَكَانُوا يُرَوْنَهُ ذَلِكَ الْيَوْمَ).
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الله بْنِ نُمَيْرٍ) الْهَمْدانيّ، أَبو عبد الرحمن الكوفيّ، ثقة حافظ فاضل [10] تقدّم في 1/ 4.
2 -
(وَعِليُّ بْنُ مُحَمَّدٍ) الطنافسيّ المذكور قريبًا.
3 -
(وَكيعٌ) بن الجرّاح الكوفيّ الحافظ الثقة الثبت، من كبار [9] تقدّم في 1/ 3.
4 -
(إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي خَالِدٍ) الأحمسيّ مولاهم البجليّ الكوفيّ، ثقة ثبت [4].
روى عن أبيه، وأبي جُحَيفة، وعبد الله بن أبي أوفى، وعمرو بن حُريث، وأبي كاهل، وزيد بن وهب، ومحمد بن سَعْد، وقيس بن أبي حازم، وغيرهم.
قال ابن المبارك عن الثوري: حفاظ الناس ثلاثة: إسماعيل، وعبد الملك بن أبي سليمان، ويحيى بن سعيد الأنصاري، وهو -يعني إسماعيل- أعلم الناس بالشعبي،
وأثبتهم فيه. وقال مروان بن معاوية: كان إسماعيل يُسَمَّى الميزان. وقال عليّ: قلت ليحيى بن سعيد: ما حملتَ عن إسماعيل عن الشعبي صحاح؟ قال: نعم. وقال البخاري عن علي: له نحو ثلاثمائة حديث. وقال أحمد: أصح الناس حديثًا عن الشعبي ابن أبي خالد. وقال ابن مهدي، وابن معين، والنسائي: ثقة. وقال ابن عمار الموصلي: حجة. وقال العجلي: كوفي تابعي ثقة، وكان طحّانًا. وقال يعقوب بن شيبة: كان ثقة ثبتًا. وقال أَبو حاتم: لا أُقَدِّم عليه أحدًا من أصحاب الشعبي، وهو ثقة. وقال علي بن المديني: رأى أنسًا رؤية، ولم يسمع منه، ولم يسمع من إبراهيم التيمي، ولم يرو عن أبي وائل شيئًا. وقال يعقوب بن سفيان: كان أُميا حافظًا ثقة. وقال هُشيم: كان إسماعيل فَحِشَ اللحنِ، كان يقول: حدثني فلان عن أبوه.
وقال ابن عيينة: كان أقدم طلبًا وأحفط للحديث من الأعمش. وقال العجلي: كان ثبتًا في الحديث، وربما أرسل الشيء عن الشعبي، وإذا وُقِّف أخبر، وكان صاحب سنة، وكان حديثه نحو خمسمائة حديث، وكان لا يروي إلا عن ثقة. وحكى ابن أبي خيثمة في "تاريخه" عن يحيى بن سعيد قال: مرسلات ابن أبي خالد ليست بشيء. وقال أَبو نعيم في ترجمة داود الطائي في "الحلية": أدرك إسماعيل اثني عشر نفسًا من الصحابة، منهم من سمع منه، ومنهم من رآه رؤية.
قال البخاري عن أبي نعيم: مات سنة (146). وقال الخطيب: حدّث عنه الحكم ابن عتيبة، ويحيى بن هاشم، وبين وفاتيهما نحو من مائة وعشر سنين. وقال ابن حبان في "الثقات": كان شيخًا صالحًا، مات سنة خمس أو ست وأربعين.
أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (33) حديثًا.
5 -
(قَيْسُ بْنُ أَبِي حَازِمٍ) واسم أبيه حُصين بن عوف، ويقال: عوف بن عبد الحارث، ويقال: عبد عوف بن الحارث بن عوف البجلي الأحمسي، أَبو عبد الله الكوفيّ، أدرك الجاهلية، ورحل إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليبايعه، فقبض وهو في الطريق، وأبوه له صحبة، ويقال: إن لقيس رؤيةً ولم يثبت، ثقة مخضرم [2].
روى عن أبيه، وأبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وسعد، وسعيد، والزبير، وطلحة، وعبد الرحمن بن عوف، وقيل: لم يسمع منه، وأبي عبيدة، وبلال مولى أبي بكر، ومعاذ، وغيرهم.
قال علي بن المديني: روى عن بلال ولم يلقه، وعن عقبة بن عامر، ولا أدري سمع منه أم لا، ولم يسمع من أبي الدرداء، ولا من سلمان. وقال إسحاق بن إسماعيل عن ابن عيينة: ما كان بالكوفة أحدٌ أروى عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من قيس. وقال الآجري عن أبي داود: أجود التابعين إسنادا قيس بن أبي حازم، رَوَى عن تسعة من العشرة، ولم يرو عن عبد الرحمن بن عوف. وقال يعقوب بن شيبة: وقيس من قدماء التابعين، وقد روى عن أبي بكر فمن دونه، وأدركه وهو رجل كامل، ويقال: إنه ليس أحد من التابعين جمع أَنْ رَوَى عن العشرة مثله، إلا عبد الرحمن بن عوف، فإنا لا نعلمه روى عنه شيئا، ثم قد روى بعد العشرة عن جماعة من الصحابة، وكبرائهم، وهو متقن الرواية، وقد تكلم أصحابنا فيه، فمنهم من رفع قدره وعظمه، وجعل الحديث عنه من أصح الإسناد، ومنهم من حمل عليه، وقال: له أحاديث مناكير، والذين أطروه حملوا هذه الأحاديث على أنها عندهم غير مناكير، وقالوا: هي غرائب، ومنهم من حمل عليه في مذهبه، وقالوا: كان يحمل على علي، والمشهور عنه أنه كان يقدم عثمان، ولذلك تجنب كثير من قدماء الكوفيين الرواية عنه.
وقال ابن خِرَاش: كوفي جليل، وليس في التابعين أحد، روى عن العشرة إلا قيس بن أبي حازم. وقال ابن معين: هو أوثق من الزهري، وقال مرة: ثقة. وقال أَبو سعيد الأشج: سمعت أبا خالد الأحمر يقول لعبد الله بن نمير: يا أبا هشام أما تذكر إسماعيل بن أبي خالد، وهو يقول: حدثنا قيس هذه الأُسطوانة -يعني في الثقة؟ -.
وقال يحيى بن أبي غنية: ثنا إسماعيل بن أبي خالد، قال: كبر قيس حتى جاز المائة بسنين كثيرة، حتى خَرِف، وذهب عقله. وقال ابن المديني: قال لي يحيى بن سعيد: قيس بن أبي حازم منكر الحديث، ثم ذكر له يحيى أحاديث مناكير، منها حديث الحوأب.
وقال الذهبي: أجمعوا على الاحتجاج به، ومن تكلم فيه فقد آذى نفسه. كذا قال. قال عمرو بن علي: مات سنة أربع وثمانين. وقال ابن أبي خيثمة، عن ابن معين: مات سنة سبع، أو ثمان وتسعين. وقال خليفة، وأبو عبيد: سنة ثمان. وقال الهيثم بن عدي: مات في آخر خلافة سليمان.
أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (18) حديثًا.
6 -
(عَائِشَةُ) رضي الله عنها المذكورة في السند الماضي، والله تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من خماسيات المصنّف رحمه الله.
2 -
(ومنها): أن رجاله رجال الصحيح، غير شيخه الثاني، فمن أفراده.
3 -
(ومنها): أنه مسلسل بثقات الكوفيين، غير عائشة رضي الله عنها رضي الله عنها فمدنيّة.
4 -
(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ: إسماعيل عن قيس.
5 -
(ومنها): أن قيسًا هو التابعي المنفرد بالرواية عن العشرة المبشّرين بالجنة رضي الله عنهم، ولا يوجد ذلك لغيره من التابعين، وإن ذكر الحاكم ذلك لسعيد بن المسيّب وغيره، لكن خطّأه العلماء في ذلك، وإليه أشار السيوطيّ في "ألفية الحديث" بقوله:
وَالتَّابِعُونَ طَبَقَاتٌ عَشَرَهْ
…
مَعْ خَمْسَةٍ أَوَّلهُمْ ذُو الْعَشَرَهْ
وَذَاكَ قَيْسٌ مَا لَهُ نَظِيرُ
…
وَعُدَّ عِنْدَ حَاكِمِ كَثِيرُ
6 -
(ومنها): أن عائشة رضي الله عنها من المكثرين السبعة، وممن اشتهر بالفتوى، والله تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنْ عَائِشَةَ) رضي الله عنها، أنها (قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم في مَرَضِهِ) وفي رواية أحمد: "في مرضه الذي مات فيه"(وَدِدْتُ) بكسر الدال الأولى، من باب تَعِب، قال الفيّوميّ: ودِدتُ لو كان كذا وُدّا -بالضمّ- ووَدَادة -بالفتح-: تمنّيته، وفي لغة: وَدَدتُ أَوَدّ بفتحتين، حكاها الكسائيّ، وهو غَلَطٌ عند البصريين، وقال الزجّاج: لم يقل
الكسائيّ إلا ما سمع، ولكنه سمعه ممن لا يوثق بفصاحته. انتهى (1)(أَنَّ) بفتح الهمزة، لوقوعها موضع المفرد، حيث إن المصدر المؤوّل مفعول "ودّ"(عِنْدِي بَعْضَ أَصْحَابِي) بنصب "بعض" لأنه اسم "أنّ" مؤخّرًا عن خبرها، وهو الظرف (قُلْنَا) القائلة هي عائشة رضي الله عنها كما تقدّم في رواية أحمد (يَا رَسُولَ الله أَلا نَدْعُو لَكَ أَبَا بَكْرٍ؟) الصدّيق رضي الله عنه (فَسَكَتَ) وفي رواية لأحمد: فقال: "لا"، ويُجمع بأنه سكت أوّلًا، ثم قال: لا، ويوضّح ذلك ما في بعض روايات أحمد:"فقالت حفصة: ألا أرسل لك إلى عمر، فسكت، ثم قال: "لا".
(قُلْنَا) القائلة هنا هي حفصة رضي الله عنها، كما سبق في رواية أحمد أيضًا (أَلا نَدْعُو لَكَ عُمَرَ؟) بن الخطاب رضي الله عنه (فَسَكَتَ، قُلْنَا: أَلا نَدْعُو لَكَ عُثْمَانَ؟ قَالَ: "نَعَمْ") هذا فيه أنهم طلبوا منه أن يدعوا له عثمان، ولكن في رواية أحمد:"ثم دعا رجلًا، فسارّه بشيء، فما كان إلا أن أقبل عثمان .. "، وفي رواية: "ثم دعا وَصِيفًا بين يديه، فسارّه فذهب
…
".
ويمكن الجمع بأنهم طلبوا أن يدعوا له، لكنه لمّا رأى الوصيف أمامه بادر بإرساله إليه. والله تعالى أعلم.
(فَجَاءَ) أي عثمان رضي الله عنه (فَخَلَا بِهِ) أي انفرد النبيّ صلى الله عليه وسلم بعثمان رضي الله عنه، لكون الكلام الذي أراد أن يكلّمه به سرّا لا ينبغي إفشاؤه (فَجَعَلَ) أي شرع، وبدأ (النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُكَلِّمُهُ) أي عثمان رضي الله عنه (وَوَجْهُ عُثْمَانَ يَتَغَيَّرُ) جملة في محلّ نصب على الحال: أي والحال أن وجه عثمان رضي الله عنه يتغيّر؛ لسوء ما سمعه من النبيّ صلى الله عليه وسلم مما سيناله من عداوة المنافقين له، ومحاولتهم خلع خِلْعَة (2) الخلافة النبويّة (قَالَ قَيْسٌ) أي ابن أبي حازم الراوي عن عائشة رضي الله عنها، وهو موصول بالسند السابق، وليس معلّقًا.
(1)"المصباح المنير" 2/ 653.
(2)
"الْخِلْعة" بكسر، فسكون: ما يُعطيه الإنسان غيره من الثياب منحةً، وجمعها خِلَع.
أفاده في "المصباح".
وقد أخرجه أحمد في "مسنده"، فقال: حدثنا يحيى (1) عن إسماعيل (2) قال: حدثنا قيس (3)، عن أبي سَهْلة، عن عائشة، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ادعوا لي بعض أصحابي"، قلت: أَبو بكر؟ قال: "لا"، قلت: عمر؟ قال: "لا"، قلت: ابنُ عمك عليّ؟، قال:"لا"، قالت: قلت: عثمان؟ قال: "نعم"، فلما جاء، قال:"تَنَحَّيْ"، وجَعَلَ يُسَارُّه، ولون عثمان يتغير، فلما كان يومُ الدار، وحُصِر فيها، قلنا: يا أمير المؤمنين ألا تقاتل؟ قال: لا، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم عَهِدَ إليّ عَهدًا، وإني صابر نفسي عليه.
(فَحَدَّثَني أَبُو سَهْلَةَ) بفتح السين المهملة، وسكون الهاء (مَوْلَى عُثْمَانَ) رَوَى عن مولاه، وعائشة، وروى عنه قيس بن أبي حازم، قال أَبو زرعة: لا أعرف اسمه. وقال العجلي: تابعي ثقة. وذكره ابن حبان في "الثقات". وقال الدارقطني: صَحَّفَ فيه محمد ابن بِشْر، فقال: عن إسماعيل، عن قيس، عن أبي شَهْلَة -بالمعجمة- والصواب بالمهملة. قاله يحيى القطان، وجماعة، عن إسماعيل.
تفرّد به الترمذي، والمصنّف، وليس له عندهما غير هذا الحديث. وقال في "التقريب": أَبو سهلة مولى عثمان بن عفّان، ويقال: بالمعجمة، ثقة، من الثالثة. انتهى.
(أَنَّ عُثْمانَ بْنَ عَفَّانَ قَالَ يَوْمَ الدَّارِ) أي يوم حُوصر عثمان رضي الله عنه في داره بالمدينة، وقد تقدّم ذكر سبب قتله رضي الله عنه، في أول الباب، فراجعه تستفد.
(إِنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَهِدَ إِلَيَّ عَهْدًا) أي أوصاني وصيّةً، يقال: عَهِدَ إليه يَعْهَدُ، من باب تَعِبَ: إذا أوصاه. والعهد الوصيّة (4).
والأولى أن يقال: إنه أراد بالعهد إليه أمره رضي الله عنه بعدم خلع قميصه المكنيّ به خِلْعة الخلافة، بقوله:"فإن أرادوك على خلعه، فلا تخلعه لهم"، وكذلك أمره صلى الله عليه وسلم له بالصبر،
(1) هو ابن سعيد القطّان.
(2)
هو ابن أبي خالد.
(3)
هو ابن أبي حازم.
(4)
قاله في "المصباح" 2/ 435.
وعدم المقاتلة، كما بينته رواية أحمد من طريق أبي سهلة، عن عائشة رضي الله عنها، وفيه:"فلما كان يومُ الدار، وحُصِر فيها، قلنا: يا أمير المؤمنين، ألا تُقاتل؟ قال: لا، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم عَهِد إليّ عهدًا، وإني صابر نفسي عليه".
(فَأَنَا صَائِرٌ إِلَيْهِ) أي راجع إليه، يقال: صار الأمر إلى كذا: رجع إليه، وإليه مَصِيره: أي مرجعه ومآله. والمعنى: أنه راجع إلى ذلك العهد، ومتمسّك به.
(وَقَالَ عَلِيٌّ) يعني شيخه الثاني (في حَدِيثِهِ: وَأَنَا صَابِرٌ عَلَيْهِ) يعني أن شيخه محمد ابن عبد الله بن نمير رواه بلفظ: "فأنا صائر إليه" بالهمزة، وأما شيخه عليّ بن محمد الطنافسيّ، فرواه بلفظ:"فأنا صابر عليه" بالباء الموحّدة بدل الهمزة.
والمعنى: أنه حابسٌ نفسه على ذلك العهد، ومتمسّك به.
(قَالَ قَيْسٌ) أي ابن أبي حازم (فَكَانُوا) أي الصحابة الموجودون، ومن معهم من التابعين في ذلك الوقت (يُرَوْنَهُ) بضمّ أوله، وفتح ثالثه: أي يظنون ذلك العهد، أو بفتح أوله وثالثه، وهو بمعناه؛ لأن رأى تُستعمل بمعنى اليقين والظن، وقد اجتمعا في قوله عز وجل:{إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا (6) وَنَرَاهُ قَرِيبًا} [المعارج:6 - 7]، فالأول بمعنى الظنّ، والثاني بمعنى اليقين (ذَلِكَ الْيَوْمَ) بالنصب مفعولا ثانيًا لـ"يرونه".
والمعنى أن الناس لمّا رأوا صبر عثمان رضي الله عنه على اعتداء الخارجين عليه، وثباته وعدم التعرّض لهم بالمقاتلة والدفاع حينما طُلِب منه ذلك عَرَفوا أن ذلك اليوم هو يوم العهد الذي عهد إليه النبيّ صلى الله عليه وسلم، ولقد أصابوا في هذا الظنّ. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): في درجته:
حديث عائشة وعثمان رضي الله عنهما هذان صحيحان.
(المسألة الثانية): في تخريجهما:
أخرجهما (المصنّف) هنا (13/ 113) بهذا السند فقط، وأخرجهما (الحميديّ) في
"مسنده"(268) و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(12/ 44 - 45) و (ابن سعد) في "الطبقات"(3/ 66 - 67) و (أحمد) في "مسنده"(6/ 214) و (ابن حبّان) في "صحيحه"(6918) و (الحاكم) في "المستدرك"(3/ 99) وصححه، ووافقه الذهبيّ.
وأخرج القسم الأخير منه (أحمد)(1/ 58 و 69) و (الترمذيّ)(3711) عن وكيع به، وقرن الترمذيّ في روايته يحيى بن سعيد القطّان بوكيع، وقال: هذا حديث حسن صحيح غريب، لا نعرفه إلا من حديث إسماعيل بن أبي خالد. انتهى. والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله، وهو بيان فضل عثمان رضي الله عنه، وهو
واضح.
2 -
(ومنها): شدّة اهتمام النبيّ صلى الله عليه وسلم بأمته عامّة، وبأصحابه خاصّة.
3 -
(ومنها): أن فيه علمًا من أعلام النبوّة، حيث أخبر النبيّ صلى الله عليه وسلم بما سيقع لعثمان رضي الله عنه، فوقع كما أخبر.
4 -
(ومنها): قوة إيمان عثمان رضي الله عنه، حيث ثبت على ما عهِد إليه النبيّ صلى الله عليه وسلم، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.