الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
لست أعدُّ هذا ناشئاً عن نقص في الحساسية، وإلا فكيف لنا لو أننا خصصنا المتفرج الإنجليزي بمزيد من الإحساس بالألم، أن نفسر سلوكه أمام المشكلات الاستعمارية، أعني أمام المأساة التي اشتملت على أكبر قدر من الألم الإنساني خلال التاريخ؟
بل الأمر غير ذلك تماما، فالمتفرج الأوربي عامة يفكر في جو من الحساسية الجمالية، بينما يفكر المتفرج المسلم في جو من الحساسية الأخلاقية؛ ومن أجل هذا لا يمكن أن يتشابه سلوكهما أمام المشهد الواحد.
فعندما يقتل عطيل (ديدمونا) وينتحر يبلغ انفعال المتفرج الأوربي أوجه، لأن الدائرة التي يعيشها في تلك اللحظة دائرة جمالية، أليس يرى نهاية مخلوقين جميلين!!
بينما يظل انفعال المتفرج المسلم هادئاً في هذا المشهد لأن دائرته أخلاقية، فهو يرى قاتلاً ومنتحراً.
ومن الطبيعي ألا يتدخل هذا الفرق في السلوك في صورة حكم موضوعي، بل في صورة ذاتية محض، إنه اللاشعور يتكلم بلغته الخاصة بصورة أو بأخرى، ليس الشعور وليس العقل.
الثقافة والمقاييس الذاتية:
وهكذا تواجهنا مشكلة التثقيف بوجهها الحقيقي، فنضع قدمنا بحديثنا عن اللاشعور على أرض، تمد فيها الثقافة جذورها في أعماق الفرد وفي ذاتيته.
إن مقاييسنا الذاتية التي تتمثل في قولنا (هذا جميل) و (ذاك قبيح) أو (هذا خير) و (ذلك شر)، هذه المقاييس هي التي تحدد سلوكنا الاجتماعي في عمومه، كما تحدد موقفنا أمام المشكلات قبل أن تتدخل عقولنا، إنها تحدد دور
العقل ذاته إلى درجة معينة، وهي مع ذلك درجة كافية تسمح لنا بتمييز فاعليته الاجتماعية في مجتمع معين بالنسبة لمجتمع آخر.
إنها تحدد في الواقع المباني الشخصية في الفرد، كما تحدد المباني الاجتماعية، أو ما أطلقنا عليه من قبل (أسلوب الحياة)، أعني: خاصية الثقافة، وهي بهذا نفسه تحدد رقعتها وحدودها.
وهذا يفسر لنا الفروق العامة في سلوك طبيبين ينتميان إلى ثقافتين مختلفتين، كما يفسر لنا الفروق المنطبعة في أسلوب الحياة في مجتمعين تفصل بينهما حدود ثقافية. حتى لو كانا يتعايشان في مكان واحد، كجالية صينية مثلاً في نيويورك، ومجتمع نيويورك نفسه؛ فتكوين هذه المقاييس يعد إذن أهم أساس في ثقافة المجتمع، والطريقة التي ينقل بها هذا المجتمع إلى كل فرد راعياً أو طبيباً تراث هذه المقاييس الذاتية، في صورة عقائد وتقاليد وأعراف وعادات؛ هذه الطريقة تمثل جانباً جوهرياً في ظاهرة التثقيف.
فبدلاً من أن نواجه المشكلة في صورتها الاجتماعية بأن نتساءل: كيف ينقل المجتمع هذا التراث إلى الفرد؟ ينبغي أن نتناولها في صورتها النفسية بأن نتساءل: كيف ينتقي الفرد المقاييس الذاتية التي تحدد انتماءه إلى نمط ثقافة معينة، وبالتالي تحدد سلوكه خليفة كان أو بدوياً، طبيباً أو راعياً؟
الواقع أن الفرد يختارها لا بناء على عملية واعية يجريها عقله وتفكيره، فمثل هذه العملية غير متوقعة لدى الراعي ولا يمكن تصورها عند الطفل، وإنما هو يستنشقها في محيط حياته، وفي مجاله الروحي الذي يحوط وجوده المعنوي، كما يتنسم الأوكسجين في مجاله الحيوي الذي يحوط وجوده المادي.
فأشياء الوسط الاجتماعي وأفكاره التي تحوط الفرد، يتمثلها الفرد بواسطة
نوع من التحليل يدمجها في كيانه الروحي، تماماً كما تتجمع عناصر الوسط الحيوي التي تحوطه وتندمج في كيانه المادي بواسطة التنفس والتمثيل.
والفرد منذ ولادته غارق في عالم من الأفكار والأشياء التي يعيش معها في حوار دائم، فالمحيط الداخلي الذي ينام الإنسان في ثناياه ويصحو، والصورة التي تجري عليها حياتنا اليومية، تكون في الحقيقة إطارنا الثقافي الذي يخاطب كل تفصيل فيه روحنا بلغة ملغزة؛ ولكن سرعان ما تصبح بعض عباراتنا مفهومة لنا ولمعاصرينا، عندما تفسرها لنا ظروف استثنائية تتصل مرة واحدة بعالم الأفكار وعالم الأشياء وعالم العناصر، فإذا بها تكشف عن مضمونها تماماً كما كشفت التفاحة لنيوتن عن سر الجاذبية، وكما أوحت نافورات المياه في قصر (الإست Este) إلى عبقرية (ليتز Litz) بمقطوعته الموسيقية الرائعة.
فلكل تفصيل لغة لا تدرك قدرتنا العقلية أحيانا معانيها، وهي مع ذلك واضحة لذاتيتنا، فتلك التحفة الصغيرة أمامنا في حجرة النوم أو العمل ليست أبداً خامدة، إن فيها بعض شيء، بعض ما يشبه الروح يدعونا إلى الكلام كما ندعوه.
وفي الإطار الثقافي يحدثنا الشيء بما فيه من مادة بلغة موضوعية تهم الكيميائي أو التاجر، كما يتحدث بما انطوى عليه من روح بلغة ذاتية، تؤدي إلى روح الطفل والشاعر والوسيقي والمخترع رسالة ملغزة، قد ينكشف مضمونها في إحدى لحظات فقدان الشعور.
وبذلك نستطيع أن نفهم أن (شيئاً) ما قد يموت بصورة ما إذا ما قُطعَ عن وسطه الثقافي المعتاد، إذ أن لغته خارج هذا الإطار تفقد معناها. ولنآخذ مثلاً صاروخاً كونياً يقترب من بعض الكواكب التي تسكنها مخلوقات متخلفة، فمن الواضح أن هذا الصاروخ وهو (شيء) يفقد كل معنى خارج إطاره الثقافي، وقد سبق أن بيَّنا في أي الظروف تموت فكرة معينة بالطريقة نفسها.
وبذلك نفهم ضمنا أهمية الصلة الثقافية، تلك الصلة التي تمنح الأفكار والأشياء قيمتها الذاتية والموضوعية في إطار معين.
ومهما يكن من شيء فإن هذه العلاقة التي تتيح لنا أن نتلقى مقاييس ذاتية، تنقل إلينا غالباً كرسائل ملغزة.
فإذا حدث أن فسر فردان هذه الرسالة بصورة واحدة مع ما بينهما من فروق اجتماعية، فإن ذلك دليل على أنهما ينتهيان إلى ثقافة واحدة.
والشواهد على ذلك سبق إيرادها، فالخليفة والبدوي المسلمان يتصرفان بصورة واحدة إذا ما واجها مشكلة سياسية أخلاقية معينة، لأن كليهما ينتميان إلى الثقافة الإسلامية.
والطبيب والراعي الإنجليزيان يتصرفان بصورة واحدة أيضاً أمام حل عقدة عطيل، لأنهما يمثلان نموذجاً ثقافياً آخر.
ومن هذا نرى أن ذاتيتنا تؤدي دوراً رئيسيا في تحديد الثقافة وفي رسم خصائصها.
لكن إثراء هذه الذاتية لا يقتصر على الأشخاص والأفكار التي تكون المجال الروحي؛ فإن لدينا حواراً آخر مع الطبيعة التي تنقل إلينا رسالتها، مكتوبة بأبجدية ملغزة أيضاً، هي: أبجدية الألوان والأصوات والروائح والحركات والظلال والأضواء والأشكال والصور؛ هذه العناصر الطبيعية ذاتها تتجمع في نفسيتنا ثم تذوب وتهضم في صورة عناصر ثقافية، تندمج في وجودنا الأخلاقي وفي بنائنا الأساسي.
فليس من قبيل الصدفة أن تغنى الشعراء وخلد الرسامون شروق الشمس وغروبها، فرسموا خفة حركة وجمال صورة، كما نشدوا ذكاء رائحة ورقة لون.
فكل هذا إذا ما ذاب في كياننا وانسكب في لا شعورنا، تجلى في عقلنا في صورة أفكار عملية، ثم تحول إلى صيغ فنية، إلى تنوع في الأزياء وفي الصناعة، أو سما صُعُداً لدى الموسيقار فألهمه فناً من الموسيقا الآسرة، أو لدى الرسام فمنحه صوراً رائعة، أو لدى الشاعر فأوحى إليه نفحة صوفية.
وهذا كله لب الثقافة ودمها وروحها.
***