الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تصديق على وجوده، وهو القوة التي تستخرجه من الفوضى المبهمة فتسجله في عقلنا في صورة حقيقية محددة.
والاسم بهذا الوضع يعد إذن أول درجة من درجات المعرفة، وأول خطوة نخطوها نحو العلم. فإذا سميتَ (شيئاً) فمعنى ذلك أنك تستخرج منه فكرة معينة، أي أنك تؤدي أول عمل من أعمال المعرفة بالنسبة لذلك الشيء، وهو العمل الذي يغير ((حضوره)) المجرد في ذلك الامتداد الهائل الذي يحوط (الأنا) إلى (وجود) تدركه (الأنا).
ولو أننا قرأنا وصف الحق تبارك وتعالى للمشهد الذي يدعو فيه عز وجل آدم إلى تسمية الأشياء بأسمائها في قوله: {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} [البقرة 2/ 31 و 32]- فربما أخطأنا فلم ندرك معنى الآية إلا على أنه يصف لنا مشهداً بسيطاً؛ والأمر على عكس ذلك تماماً، فينبغي أن نرى هنا في تلك الصورة الرمزية أول عمل جوهري للعقل الإنساني حين يسيطر على الأشياء، وهو يخلع عليها أسماءها، الأمر الذي لم تستطعه الملأئكة.
عملية التعريف:
ومع ذلك فهذا العمل الأول لا يعطينا سوى معرفة تجريبية، أعني معرفة تدخل في مفهوم التجربة، فإذا ما نظمت هذه المعرفة تبعاً لقواعد الفكر أخذت صفة العلم بسبب هذه القواعد.
فهناك إذن عملية تعريف تبدأ عندما يطلق الاسم على الشيء، وتنمو كلما أخذ الشيء معنى مركباً، أي أنه بعد أن يصبح اسماً يصبح فكرةً ثم مفهوماً .. إلخ.
ولقد اتبعت فكرة الزمن- مثلاً- هذا السياق، فإن الزمن لم يكن شيئاً مذكوراً، أو بمعنى أصح كان شيئاً لا عنوان له طالما لم يخترع الإنسان كلمة يطلقها عليه.
ثم أخذ اسماً حقق وجوده، فانتقل بذلك من مرحلة (الحضور) إلى مرحلة (الوجود) المعبر عنه بكلمة، ولكنه في ظل هذه الكلمة لم يكن يعني شيئاً كبيراً، بل كان فقط فكرة غامضة عن المدة الزمنية، تلك معرفة تجريبية.
لكن هذه الفكرة سوف تنمو في عقل الإنسان كما نظّم نشاطه في نطاق المدة، فكان من نتيجة تقسيم العمل في المجال الاجتماعي تقسيم الزمن في المجال النفسي، ومنذ ذلك الحين أصبح الزمن كمية تخضع للقياس، وإن كان هذا القياس ما زال في أول الطريق؛ فالعمل يقدر باليوم لا بالساعة لسبب بسيط، هو أن وحدة الزمن لم يتم تحديدها بعد، فحديث القدماء عن الساعة لم يكن حديثاً عن كمية محددة من الزمان، فكان على الإنسانية أن تنتظر الحضارة العربية لترى الزمان يقاس في النهاية قياساً رياضياً، لأن أحد الفلكيين المسلمين بالغرب وهو (أبو الحسن المراكشي) قد اخترع وحدته حين حدد (الساعات المتساوية)، أعني حين قسم مدة دوران الأرض أربعة وعشرين جزءاً متساوياً.
فمنذ ذلك الحين انتقل تحديد الزمن من المرحلة التجريبية إلى المرحلة العلمية.
ومنذ ذلك الحين أيضاً نمت فكرة الزمن حتى انتهت إلى (تايلور)، الذي جعل منها قاعدة جوهرية في التنظيم الصناعي في القرن التاسع عشر.
وها نحن أولاء اليوم نرى أن تلك القاعدة تسيطر على جميع نواحي النشاط الإنساني، حتى لنراها قد صارت جزءاً من مفهوم (الثقافة) في القرن العشرين، باعتبارها عنصراً جوهرياً في بناء (أنا) الفرد في المجتمع الحديث.