الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والواقع أن هذه العلاقة تنتج مباشرة من طبيعة الأشياء ذاتها، تلك التي سبق أن صنفناها.
وبوسعنا أخيراً أن نلخص الاعتبارات التي تقررت في هذا التصنيف في قولنا: إن الثقافة هي التركيب العام لتراكيب جزئية أربعة هي: الأخلاق، والجمال، والمنطق العملي، والصناعة.
توجيه الأفكار
(1):
مشكلة الثقافة من الوجهة التربوية هي في جوهرها مشكلة توجيه الأفكار، ولذلك كان علينا أن نحدد المعنى العام لفكرة التوجيه، فهو بصفة عامة قوة في الأساس وتوافق في السير ووحدة في الهدف؛ فكم من طاقات وقوى لم تستخدم لأننا لا نعرف كيف نكتلها، وكم من طاقات وقوى ضاعت فلم تحقق هدفها حين زحمتها قوى أخرى صادرة عن المصدر نفسه، متجهة إلى الهدف نفسه.
فالتوجيه هو تجنب الإسراف في الجهد وفي الوقت، فهناك ملايين السواعد العاملة والعقول المفكرة في البلاد الإسلامية، صالحة لأن تستخدم في كلا وقت؛ والمهم هو أن ندير هذا الجهاز الهائل الكون من ملايين السواعد والعقول، في أحسن ظروفه الزمنية والإنتاجية.
وهذا الجهاز حين يتحرك يحدد مجرى التاريخ نحو الهدف المنشود، وفي هذا تكن أساساً فكرة توجيه الإنسان الذي تحركه دوافع دينية؛ وبلغة الاجتماع: الإنسان الذي يكتسب من فكرته الدينية معنى (المجاعة) ومعنى (الكفاح).
وليس يكفي مطلقاً أن ننتج أفكارا، بل يجب أن نوجهها طبقاً لمهمتها الاجتماعية المتحدة التي نريد تحقيقها، وهنا يطالعنا موقفان متعارضان في
(1) أغلب هذا الفصل من كتاب (شروط النهضة).
الظاهر، ولكنهما مع ذلك نتيجة لوجهة النظر الاجتماعية، ففي البلاد العربية غالباً ما نصادف هذين الموقفين متجسدين في شخصيتين مختلفتين.
فهناك من يدعي أداء العمل السياسي مثلاً دون أن يرجع في عمله إلى قاعدة أو فكرة معينة؛ كأن من الممكن أن يكون النشاط فعالاً وفاعله أعمى، هذا (الرجل العملي) غالباً ما يكون سليم القصد، وحينئذ لا يُفسّر موقفه إلا بجهله في المشكلات الإنسانية.
لكن قد يحدث أن يعتلي المسرح مقاول ماهر في الدجل السياسي، يكتشف طيبة البسطاء وسرعة انقيادهم، فهو يريد أن يحتفظ بهذا النجم الثمين بأي ثمن، بينما يعلم أنه لن يحتفظ به إلا بنشر الظلام، يؤيده في ذلك خفية الاستعمار الذي يقدر بداهة ثمن ذلك الظلام.
وطبيعي أن يفقد النشاط فاعليته إذا ما أدار ظهره عمداً للمقاييس والقواعد، وفي كلمة واحدة: إذا ما أدار ظهره للأفكار، فإذا به يضل في متاهة من الإبهام والغموض والشك، دون أن يدرك أنه قد زاغ عن سواء السبيل.
لكن هناك شخصية أخرى تمثل نموذجاً آخر من انعدام الفاعلية:
فهي بصفة عامة رجل مخلص وهبته الطبيعة فكراً خصيباً، لكن لديه ذوقاً خالطه الترف العقلي، فهو طروب لا يتخيل الفكرة منوالاً تنسج عليه ضروب النشاط الاجتماعي، بل هي لديه لون من الترف يخلق المسرة، وغرام بالأفكار أشبه بالغرام بجمع التحف والأشياء الثمينة.
فلو أنني وصفت هذا الفكر بصورة أستعيرها قلت: إنه ليس مصنعاً تتحول فيه الأفكار إلى أشياء، بل هو مخزن تتكدس فيه الأفكار بعضها فوق بعض.
وهكذا نتمثل الوجه الآخر من الانحراف الذي يقع فيه بعض الناس، إن
النشاط هذه المرة يضل في غيوم من الأفكار؛ فيجب أن نطبق في هذا الميدان ما يطبق في الحساب الجبري، ففي هذا النوع من الحساب نلحظ علاقة رياضية بين عدد المقادير المعلومة وعدد المجاهيل.
ففي الحالة التي يكون فيها عدد المقادير المعلومة أقل من عدد المجاهيل أو أكثر منه بنسبة معينة، يصبح في المسألة نوع من (الاستحالة) أو (عدم التحديد)، وبذلك لا يمكن حلها.
فكذلك الأمر بالنسبة لما نحن بصدده، إذ أن هناك قواعد رياضية للأفكار (1) تؤكد وجود علاقات محددة بين الأفكار وبين ضروب النشاط.
فإذا انعدمت هذه العلاقة بزيادة أو نقص، واجهتنا (استحالة) في أدائنا لأي نشاط.
وبعبارة أخرى يصاب النشاط بالشلل عندما يدير ظهره للفكرة، كما تصاب الفكرة بالشلل إذا ما انحرفت عن النشاط، لكي تمضي في طريق اللهو والعبث.
ونحن لا نستطيع بصفة عامة أن نتخذ عدد الكتب التي تخرجها المطبعة في عام دليلاً على الصحة العقلية في بلد معين، أو أن نعد الورم أمارة على الصحة البدنية، فهناك أورام عقلية وأجسام اجتماعية مريضة مثقلة بالأفكار.
ومهما يكن من شيء فإن توجيه الأفكار يقوم على إقرار التوازن الضروري في هذا المجال، حتى لا يبقى هناك فراغ أو تورم.
فمفتاح المشكلة يكمن في وضع برنامج لتوجيه الثقافة، توجيهاً يتفق وسمو الغاية التي ننشدها.
(1) خص المؤلف هذا الجانب بدراسة تحت عنوان (الصراع الفكري في البلاد المستعمرة).