الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الرابع
الثَقافة في اتّجاهِ العَالَميَّة
تناولنا مشكلة الثقافة فيما سبق بالنسبة لعناصرها الداخلية، أعني تلك التي تتصل بوجود مجتمع معين؛ كما تناولناها بالنسبة لمشكلاتها الاتصالية، وهي التي تتصل بتعايش مجتمعين أو أكثر، متشابهين في النموذج، كنموذج إفريقي آسيوي مثلاً، وهي مشكلات تنتج على حدودها نتيجة لاتصالهما وتواجههما.
وهذا يحدد- كما سبق أن عرضنا- مجالين متميزين، ينبغي على الثقافة أن تواجه في كل منهما مشكلات ذات طبيعة معينة.
فهي في أحدهما يجب أن تسجل أسلوب الحياة في مجتمع معين وسلوك أفراده، وهي في الآخر ينبغي أن تخلق إمكانيات اتصال وتعاون بين المجتمعات المختلفة.
ومع ذلك فإن نشاط الثقافة في المجال الأول يتم بصورة عادية، لأن يقظة الضمير أمام المشكلات الداخلية أو العضوية تتم هي الأخرى بصورة تلقائية.
أما يقظة الضمير أمام مشكلات الاتصال فقد ظلت غائمة زمناً طويلاً، ولذلك كان نشاط ثقافة معينة على حدودها أقل ظهوراً ولا يعطي ثمرة إلا في بعض الظروف التاريخية، وأحياناً تكون هذه الثمرات سلبية، أشبه بذلك التلفيق غير المنتظر الذي حاول الإمبراطور (أكبر) أن يحققه بالهند في القرن السادس عشر، بين الثقافة الإسلامية والثقافة البرهمية.
ومع ذلك فإن التطور الذي أعقب الحربين العالميتين قد أبرز كثيراً هذه الطائفة من المشكلات، كما تشهد بذلك محاولات كبرى، كمحاولة باندونج، حيث حاول المؤتمرون أن يضعوا لها حلولاً مناسبة.
لكن الحربين العالميتين قد عجلتا في الواقع هذا التطور، فأعطتا تلك المشكلات معنى أبعد مدى، حين أنشأت بصورة ما مجالاً ثالثاً، هو المجال الذي يتحتم فيه على كل ثقافة أدركت حقيقة مشكلاتها الداخلية والاتصالية، أن تدرك حقيقة مشكلات أخرى على مستوى عالمي.
ويبدو لنا أن منظمة اليونسكو لم تُنشأ إلا من أجل مواجهة هذا النوع من المشكلات، مهما شاب تفكيرها أحياناً جاذبية انطوائية تحول بينها وبين أن ترى الأشياء في هذا المستوى، وعلى ذلك نستطيع أن نحدد ثقافة معينة في حدود توقعها العالمي.
والصفحات التالية تعالج مشكلة الثقافة في ضوء هذا التوقع.
لقد استوحيت فكرة الكتابة في هذا الموضوع من الدعوة التي وجهتها إلي اللجنة التحضيرية لمؤتمر الكتاب الأفريقيين الذي انعقد بروما، حين دعتني إلى توجيه بلاغ إلى المؤتمر عن (الثقافة الإفريقية).
والتأملات التي تسجل في موضوع كهذا لا تهم- فيما يبدو لي- الرجل المثقف في إفريقية السوداء وحده، فسواء مضينا في الشوط على محور واشنطن - موسكو، أم على محور طنجة - جاكرتا، فإن مشكلات الساعة الحاسمة واحدة هنا وهناك، فإن تكامل النوع الإنساني وسلامه قد أصبحا أهم ما يهم نفسية القرن العشرين واجتماعه وسياسته إلى حد ما.
ونتيجة لهذا اتحدت المهمات الأساسية التي يتحمل عبئها الجيل الحالي في آسيا وفي إفريقية وفي أوروبا وفي أمريكا.
فالمثقف المسلم نفسه ملزم بأن ينظر إلى الأشياء من زاويتها الإنسانية الرحبة، حتى يدرك دوره الخاص ودور ثقافته في هذا الإطار العالمي.
هذا التغيير الذي أصاب المستوى لا يتوقف مطلقاً على ظروف مادية كما يحسب الناس غالباً في بلادنا، بل إنه يقوم على شروط أخلاقية، فهو يتم أولاً في الأفكار قبل أن يتم في نطاق الأشياء.
فغاندي لم يكن يتصرف في صاروخ كوني، أعني في (شيء) ذي مستوى عالمي، وإنما كان يملك ضميراً تراحب حتى وسع العالم.
ولقد خول له هذا الضمير قدراً من العالمية أكثر مما تخوله (الأقمار الصناعية) لأصحابها اليوم، فإذا بالهند التي ورثت عن غاندي مبدأ (عدم العنف)، قد أصبحت بفضل هذه الفكرة البسيطة أمة في الطليعة بالنسبة لمجموع المشكلات التي تثيرها قضية السلام.
فهيبة الأمة قد تكفلها لها أحياناً الأفكار، إذا ما تناغمت هذه الأفكار مع المرحلة التي تجتازها الإنسانية.
ولقد يحدث أن يخطئ الفتى المسلم في تقديره للمشكلات والأشياء، فهو غالباً ما يخطئ عندما يعتقد أن الذي ينقصه في وضعه الراهن إنما هو الصاروخ، أو على الأقل البندقية التي يؤدي بها كما يتوهم واجبه العاجل.
فضميره هنا قد أصيب بانحراف، لأنه يحسب حساب حضوره الفذ وسط عالم يشعر بأنه لا مكان له فيه، ولكنه يفسر أصل دائه تفسيراً خاطئاً حتى يعزوه إلى نقص (أشياء) كثيرة في حياته، على حين أن ما ينقصه إنما هو (الأفكار).
وسنظل نكرر ونلح في تكرارنا أن أزمة العالم الإسلامي منذ زمن طويل لم تكن أزمة في الوسائل، وإنما في الأفكار، وما لم يدرك هذا العالم تلك الحقيقة إدراكاً واضحاً، فسيظل داء الشبيبة العربية الإسلامية عضالاً، بسبب تخلفها عن ركب العالم المتقدم.
فلكي نتغلب على مرضنا ينبغي أن نكتشف طريق الأمة المرشدة، أعني الطريق الذي لم تترسمه أمة قبلها.
ولهذا ينبغي أن نختار من بين الاتجاهات التي تتجه نحوها الإنسانية فنأخذ بزمام أحدها، ثم نسبق إلى الطليعة.
وبوسعنا أن نقول: إن الهند قد بلغت اليوم مرتبة الأمة المرشدة في بعض الميادين، لا بفضل أنها تملك القنابل الهيدروجينية أو الصواريخ عابرة القارات، فهي لا تملكها، وإنما كان ذلك بفضل الروح الذي خلفه لها غاندي، فإذا بها تتصدر موكب الإنسانية في اتجاه السلام.
فعلى المربين في البلاد العربية والإسلامية أن يُعَلّموا الشبيبة كيف تستطيع أن تكتشف طريقاً تتصدر فيه موكب الإنسانية، لا أن يعلموها كيف تواكب الروس أو الأمريكيين في طرائقهم، أو كيف تتبعهم؟
ولو أتيح لهذه الشبيبة أن تعتنق مشكلة تكامل الإنسانية اعتناقاً تمنحها معه كل ذكائها وكل قلبها، حتى تجعل منها رسالتها، فسوف تحتل مقام الصدارة في الزحف نحو اتجاه جديد، نحو تقرير مصائر الإنسانية، ولعلها بذلك تمحو الشرور التي تفشت اليوم في حنايا أنفسنا، ولعلها أيضاً تمحو بعض الشوائب والمذاهب التي خامرت عقولنا.
تتحدد صورة الثقافة بصفة عامة عندما تصبح تاريخاً، فتتمثل لأعين الأجيال في صورة معجزة إغريقية أو إمبراطورية رومانية، غير أن القرن العشرين قد أدخل مقياساً جديداً في روح المنهج وفي الطريقة التي تحدد بها الثقافة، فالإنسانية قد دخلت عصر التخطيط منذ الحرب العالمية الأولى، وإذن فإذا أردنا أن نفهم الثقافة في هذا العصر، وجب أن نفهمها بوصفها منهاجاً قبل أن نحددها نتيجة. وعلى ذلك فإذا ما واجهنا اليوم مشكلة الثقافة الإفريقية وجب
أن نُعَرّفَها طبقاً لمقياس عملي، وذلك بأن تكون صالحة لشيء ما، وأن تكون على علم بهذا الشيء، أي أن تتحدد طبقاً لما يجب أن تقوم به من عمل.
فإلى أي حد سوف يهدينا التاريخ في هذا السبيل؟
هنالك نوعان من النماذج التي خلفها لنا الماضي، والتي من شأنها أن تفيدنا مثالاً تاريخياً يضع حدود تعريف لثقافة ما:
ففي عالم البحر الأبيض المتوسط يوجد النموذجان الروماني والإغريقي (1).
وفي آسيا يوجد النموذجان المنغولي والصيني.
فها نحن أولاء من أول خطوة في طريقنا أمام اختيار ريسي، فإما أن نُعَرّفَ الثقافة وسيلة للإمبراطورية، وإما أن نعرفها طريقاً إلى الحضارة، وبعبارة أخرى يواجه المجتمع مشكلاته بلغة القوة أو بلغة البقاء، بقدر ما تصوغ ثقافته أسلوب حياته وسلوك الأفراد فيه. وقد كان الذي صرف المجتمعات التي سبقتنا عن التماس حل نظري لمشكلة الثقافة، أن قضيتها لم تبرز واضحة أمام ضمائرها، فكان التاريخ في الواقع هو الذي يضعها ويحلها بوسائله الخاصة. فإذا كان الشعب الإغريقي والشعب الروماني قد سارا كلٌّ في طريق، فإن ذلك لم يكن ابتداء نتيجة اختيار، وإنما اتجها بكل بساطة إلى ما تميل إليه طباعهما. فنوع الثقافة إذن يتحدد في كل شعب تبعاً لحتمية منبعثة من نفسيته، وعلى أساس هذه النفسية اتجه الرومان نحو الإمبراطورية، بينما فرغ الإغريق لتحقيق معجزاتهم في صورة حضارة. فإذا ما نجم في نطاق ثقافة معينة نزوع يتعارض مع اتجاهها الطبيعي، فإن اتجاهها يقصيه بوصفه عنصراً غريباً عن ذاتها، وقد
(1) هذا الفصل بيان وجهه المؤلف إلى مؤتمر الكتاب الإفريقيين، وقد سبق أن ترجمه الزميل عمر كامل مسقاوي.
حدثنا التاريخ كيف طردت أثينا إسبرطة حينما أرادت أن تجعل من نفسها عاصمة لإميراطورية عسكرية.
وهناك حتمية أخرى تدخل في هذا التحديد نطلق عليها الحتمية الجغرافية، فلكل ثقافة رقعتها حيث تكتشف منابع إلهامها، ولها مجال معين تكون فيه وعيها للمشكلات، كما تجد فيه وسائل حل هذه المشكلات. وإنا لنرى في خريطة العالم القديم الرقعة التي انتشرت عليها الحضارة الهلينية، وهي الأرض التي عليها تكونت معجزة الإغريق من العناصر التي أمدّها بها إنسان هذه الرقعة وترابها ووقتها.
كما أننا نرى في الثقافة الرومانية الاستجابة للمشكلات التي نبتت على الأرض التي سيطر عليها (السلام الروماني Pax Romana)، فمن قبل أن تصبح هذه الأماكن (متحفاً) يقدم لنا التفسيرات التاريخية عن ثقافة الماضي، فإنها كانت معملاً تركبت فيه عناصر تلك الثقافة، وإن هذه الآثار التي خلفها لنا الماضي لتستطيع- بقدر ما في هذه النظرة من صواب- أن ترشدنا اليوم.
ولاريب أن في إفريقية متحفاً هاماً للثقافة، ينبغي ألا ننساه إذا ما أردنا أن نصنف بعض عناصرها، وخاصة ما يتصل بالقيم الأخلاقية والجمالية الإفريقية، التي لا يجوز إغفالها عند أي تخطيط للثقافة، فلسنا نشك في أن هذا المؤتمر يعد إلى حد ما مؤتمر تخطيط، وهذا يعني أن أعمالها تتجه نحو المستقبل أكثر مما تلتفت إلى الماضي.
فإذا سرنا على هدي التاريخ كان علينا أن ندرس المشكلة في ضوء عنصرين محددين هما: مزاج الثقافة ورقعتها.
أما المزاج: فإنني أرى أنه من غير سبر دقيق لأعماق النفسية الإفريقية، ودون إضرار بالنتائج التي يمكن أن نستخلصها، نستطيع أن نفترض عملياً أنه من
غير التوقع أن يأتي يوماً ما تهديدٌ من إفريقية، تحت شعار إمبراطورية عسكرية؛ وإذا ما احتاج الأمر إلى التدليل على صحة الفرض دون تأسيس على الاعتبار الأخلاقي وحده، فإننا نجد الاتجاه يتحدد طريقه بقوة الواقع، فإفريقية لا تملك في الواقع رصيداً من القنابل الذرية، ولاهي تملك صناعة ثقيلة لإنتاجها، وإذن فمن غير الممكن أن تسطر مشكلاتها بلغة القوة، وإنما على العكس من ذلك سوف تسطرها- بقوة واقعها- بلغة البقاء.
فالمشكلة من الناحية النفسية واضحة لا لبس فيها، فإن المزاج الإفريقي لا يحمل أية عقدة من نوع إمبراطوري، وليس في صدره أية نواة لإرادة قوة تأتي بثقافة إمبراطورية، وإذن فنحن من أول خطوة أمام ثقافة حضارية.
وفي ظل هذه الصياغة للمشكلة ينبغي تحديد العنصر الآخر: (الرقعة) فما هي الحدود التي يجب أن نضعها للثقافة الإفريقية، تلك الحدود التي في داخلها سوف تجد منابع إلهامها من ناحية، كما تجد فيها الأعمال التي ينبغي أن تقوم بها؟. وفي كلمة مجملة: ما هي مهماتها؟
إن من الواضح أن الضمير الإنساني في القرن العشرين لم يعد يتكون في إطار الوطن أو الإقليم، هذا مع اعترافنا بأن أرض المولد التي يعيش عليها الناس تمدهم بالبواعث الحقيقية لمواقفهم العميقة، غير أن الضمير الإنساني في القرن العشرين إنما يتكون على ضوء الحوادث العالمية التي لا يستطيع أن يتخلص من تبعاتها، فإن مصير أي جماعة إنسانية يتحدد جزء منه خارج حدودها الجغرافية.
فالثقافة أصبحت تتحدد أخلاقياً وتاريخياً داخل تخطيط عالمي، لأن المنابع التي سوف تستقي منها أفكارها ومشاعرها، والقضايا التي سوف تتبناها، والاستفزازات التي سوف تستجيب لها، والأعمال التي سوف تقوم بها، لا تستطيع هذه كلها أن تتجمع في أرض الوطن؛ فالثقافة الإفريقية مجالها العالم ضرورة،
فيجب أن تصعد أعمالها إلى هذا المستوى، مميزة بين الأعمال التي تتصل ببناء حضارة إفريقية، وتلك التي تبعث بإشعاع تلك الحضارة خارج حدودها.
والنظر في التخطيط العالمي الذي يجب أن تندمج فيه الثقافة الإفريقية يكشف عن ناحيتين، فإنه يوجد نوعان من الناس يختلفان اجتماعياً: نوع كان أو لايزال مستعمَراً، ونوع كان ولا يزال مستعمِراً.
وجميع المشكلات الكبرى للعالم الراهن ترد نفسياً وسياسياً واقتصادياً إلى هذا النظام الثنائي الذي خلفه لنا القرن التاسع عشر، بل إن مشكلة العلاقات الداخلية لكلا النوعين هي فعل أو رد فعل لهذا النظام، فإن السباق الخطر في مجال القوة بين الدول المتقدمة، من أهدافه الرقابة على الجماهير، وعلى المساحات التي تملكها الشعوب المتخلفة، وهذه الشعوب الأخيرة بدورها قد مزقتها الأحلاف التي تربطها عسكرياً وسياسياً بالشعوب المتقدمة، فضلاً عن أن بينها أحقاداً مستحكمة، وأحقاداً أخرى تبعث بها هذه الشعوب عبر حدودها إلى البقعة المتحضرة من هذا العالم، وفي هذا كله تحميل لمشكلة السلام أثقالاً مع أثقالها.
وهكذا نرى القرن العشرين يضع قضاياه Thèses في مواجهة ما خلفه لنا القرن التاسع عشر من مناقضات (الاستعمار) Antithèses، فنحن نعيش هذا الصراع اليوم في جميع أشكاله في انتظار ساعة (التركيب Synthèses) التي تصهر النزعتين في السلام العالمي.
ويبدو أن هذه الساعة قد آذنت في مؤتمر باندونج، لو أن التاريخ يحقق مشاريعه. فهذا كله في جملته هو التخطيط العالمي الذي ينبغي أن تندمج فيه الثقافة الإفريقية.
أما المهام التي ينبغي أن تواجهها الثقافة الإفريقية داخل هذا التخطيط فإنها تتألف من قضايا ثلاث هي:
(1)
الارتفاع بمستوى الرجل الإفريقي المتحرر من الاستعمار، أو الذي لا يزال يرسف في أغلاله إلى مستوى الحضارة.
(2)
الارتفاع بالرجل المتحضر الذي لا يزال ضميره ملطخاً بإثم الاستعمار إلى مستوى الإنسانية ..
(3)
إدخال الشخصية الإفريقية في المسألة الرئيسية للسلام.
وهذه المهام الثلاث ترجع في الواقع إلى مهمة واحدة تعبر في عومها عن مشكلة الإنسانية، وهي مشكلة تتطلب في حلها ذلك التركيب المنتظر، ولسوف يجد المجتمع الإفريقي دون شك في مزاجه وفي ظروف تطوره الإلهامات الضرورية، التي تضطره ألا يواجه مشكلاته بلغة الإمبراطورية. ومن هنا فقد وجب على الثقافة الإفريقية أن تضعها بلغة الحضارة.
وحتى تستطيع النخبة الإفريقية أن تقوم بدورها الحضاري على أتمه، فإن عليها أن تدرك بدقة وضعها الحالي، إذ أنها تجد نفسها أحياناً منفصلة عن وسطها، فإن المثقف الإفريقي الذي كونته باريس ولندن، هو في أغلب الأحيان أوثق اتصالاً بمنشأ ثقافته منه بمنشأ حياته، وهذه ولاريب نقطة اتصال مهمة في ضمير هذا المثقف إذا ما نظرنا إليه بالنسبة لمشروع تركيب إنساني، فهو يستطيع أن يقوم بدور مهم بفضل ما انغرس في فكره من نبات الثقافة الأوربية، وذلك يجعله ينظر إلى المشكلات نظرة مزدوجة، فهو ينظر إليها مرة من خلال ثقافته، وأخرى بإيحاء من منشئه، غير أن هذا الوضع الغريب له جانب سلبي يتجلى بوضوح في موقف النخبة الإفريقية، حينما نرى مثقفاً يبحث في الأزياء ما يعوض به عن نقص هن نوع آخر، فنراه مثلاً في بعض الحفلات يلبس زي أبيه القديم فكأنه بهذا يعوض نقصاً يشعر به في اتصاله الروحي بالجماهير الإفريقية، ويوشك هذا المظهر السلبي أن يؤدي بتلك النخبة إلى انفصال ثقافي في وقت هي
أحوج ما تكون فيه إلى الاتصال، فإن الحضارة التي دانت بها النخبة الإفريقية في نواحٍ شتى، قد فصلتها عمن دونها من المجاهير التي لا تزال في تطورها البدائي، وربما انفصلت عن وسط ثقافتها إذا ما حاولت العودة إلى منشئها، لكن الأمر قد يأخذ صورة أخرى لو أن هذه النخبة الإفريقية قامت بدور الوسيط بين العالم الذي نشأت فيه وبين الحضارة.
فقيامها بهذا الدور ليس وفاء منها لأحد العالمين، وإنما هو وفاء مزدوج لأصلها ولثقافتها، فحضورها ( Présence) في إفريقية ينبغي أن يبرأ من العقد، كما ينبغي على ثقافتها ألا تكون في برج عاجي، لا تصل إليها أيدي الجماهير الجاهلة، بل ينبغي أن تكون القاعدة التي ترتفع عليها هذه الجماهير إلى مستوى الحضارة.
وهذا يبدو لي بصورة مختصرة المشكلة الأولى للثقافة الإفريقية، أما مشكلتها الثانية التي عليها أن تواجهها فهي الضمير الأوربي ..
فإن أوربا التي ورثت التقاليد الرومانية من عصر النهضة قد أصبحت اليوم رهينة ثقافة إمبراطورية. فقد تغذى ضميرها بما أثار القرن التاسع عشر من قضايا، وهو القرن الذي شهد ازدهار فكرة (جوبينو)، ذلك الكاتب الذي طبق أفكار (دارون) عن أصل الأنواع على مجال الإنسان، فخلّف بهذا القرن العشرين تراثاً روحياً ضاراً ثقيلاً أنتج أمثال (هتلر) والدكتور (مالون).
لكن هذه الأرض التي أقامت عليها بناءها الفكري خلال القرنين الأخيرين قد انهارت به اليوم وبما كان يحمل، فالذي يبدو أن أوربا تبحث اليوم عن مسوغات جديدة لوضعها الجديد، فمن وراء هذه الحقيقة يمكن أن نجد جميع التفسيرات لمأساة الأوربية الراهنة، أعني بذلك أصل المأساة التي يعيشها العالم اليوم، وربما استطعنا بهذا أن نفسر بعض ألوان الأدب الأوربي كالوجودية مثلاً،
وبكلمة واحدة: فإن العالم يعيش الأزمة الأوربية، إنه يعيشها سياسياً وفكرياً واقتصادياً وإلى حد ما أخلاقياً؛ وإذن فتعريف الثقافة الإفريقية لا يكون دون أن نأخذ في حسابنا هذا العنصر الأساسي للأزمة العالمية التي هي (الحالة Le cas) الأوربية.
ولاشك أن النخبة الإفريقية ستجد نفسها حيال هذه (الحالة) أمام إحدى مهماتها، التي تتطلب منها قسطاً أوفر من الصفات الأخلاقية، بقدر ما تحتاج إلى الصفات الفكرية، وبكلمة أخرى كل الصفات التي يحتاجها الطبيب الصالح.
والسير في معالجة حالة ما يقتضي دراسة مرضية وأخرى علاجية. فإذا كانت الدراسة الأولى سهلة التحديد فإنه من الصعب تحديد الأخرى، لأن السير في العلاج يتوقف نجاحه على المريض نفسه أي على أوربا، فأوربا تعيش في عالم كوَّنه علمها، غير أن ضميرها لا يعلمه تماماً، لأنها تجهل فيه مسألة رئيسية، تجهل الإنسان الذي اعتادت أن تنظر إليه حتى الآن على أنه من أبناء المستعمرات.
فإذا ما أراد الضمير الأوربي أن يجدد بناءه فإن عليه أن يبدأ فترة من التدريب المؤلم القاسي، شأنه في ذلك شأن أي عضو فقد صلاحيته.
يجب على هذا الضمير أن يشعر في العالم الذي سيطرت عليه أوربا بوجود الآخرين، ومهمة النخبة الإفريقية إزاء ذلك أن تسهم في ترويضه على صلاحيته تلك بأقل ألم ممكن؛ ولاشك فإن الذي يسهل قيامها بهذه المهمة أن تكون قد قامت بمهمتها الأولى، فبقدر ما ترتفع بالجماهير الإفريقية إلى مستوى الحضارة فإنها ترتفع بالضمير الأوربي إلى مستوى الإنسانية، لتضع أمامه صورة صحيحة عن الرجل الذي يعده الاستعمار شيئاً تافهاً، فالمهمتان مترابطتان ونتائجهما الاجتماعية والنفسية متلازمة، فكل ما سوف يحضر الرجل الإفريقي سوف يعطي للأوربي فكرة أصح عن العالم الإنساني.
ولسنا بحاجة إلى القول: إن المنظمات الثقافية العالمية كاليونسكو تستطيع أن تقوم من ناحيتها بدور مؤثر في معالجة الضمير الأوربي، وحينئذ تكون المهمة أسهل، وخاصة إذا اختيرت لها طرق أقل تزمتاً مما جرت به العادة، وذلك حتى تواجه بها الجماهير، وليس النخبة فقط. فالثقافة الإفريقية ينبغي ألا تكون أقل إشعاعاً خارج إفريقية منها في أعمالها لتحضير قارتها. وحينها تكون قد خلصت الدول المتحضرة من الاستعمار، والشعوب المتخلفة من القابلية للاستعمار فإنها تكون بذلك قد أسهمت في تكوين الضمير الإنساني، وبهذا تكون قد كونت لحظة هامة في التطور الاجتماعي والروحي للإنسانية، لحظة تتلاشى فيها قضايا الماضي ونقائصها لتخلي مكانها للتركيب الذي من شأنه أن يعيد للإنسان قيمته، حتى لا يبقى مستعمِر ولا قابل للاستعمار، غير أن مهمة الإنسانية اليوم خاضعة في عمومها لقضية السلام، التي تفرض نفسها مقدماً على كل مشروع اجتماعي أو روحي في العالم الراهن، فمشكلة السلام قدى أصبحت هي النقطة التي تلتقي عندها خيوط التاريخ جميعاً.
ولن يتاح للثقافة الإفريقية أن تأخذ مكانها بحق في التخطيط العالمي للقرن العشرين، ما لم تتجه نحو هذه النقطة الرئيسية، واضعة مشكلة السلام من بين المهام الرئيسية التي تضطلع بمواجهتها.
وهذه المهمة الثالثة تضعها أمام اختبار:
فماذا يمكن، وماذا يجب على هذه الثقافة الإفريقية أن تقدم لحل هذه المشكلة العالمية؟
إن العالم مثقل بالعلم وبثقافة الإمبراطورية، إنه يضج بروح الحرب وبوسائل الحرب، ولكن هناك فراغًا كبيراً من الضمير ينبغي له أن يمتلئ، وعلى الثقافة الإفريقية أن تتحدد طبقاً لهذا.
إن روح القرن التاسع عشر التي ادّعت تحقيق سعادة الإنسان بواسطة الآلة قد انتهت إلى إفلاس محزن، فلم يعد العالم ينتظر الخلاص على يد العلم، ولكن في أن يُبْعَث الضمير الإنساني من جديد، والعبقرية الإفريقية لا تستطيع أن تنقذه باكتشاف طريقة جديدة في صناعة الكوتشوك، أو وسيلة مستحدثة في تحليل الذرة، ومن ثم فإن ما ينبغي أن تقدمه لخدمة السلام هو الضمير .. وليس العلم.
والثقافة إنما تتجه إلى الإمبراطورية أو إلى الحضارة بما تتضمنه من الكفاءات الفنية والمبادئ الأخلاقية، ونسبة هذا المضمون- التي تقرر مصير الثقافة- يحددها المزاج، وغالباً الظروف التاريخية، وهو ما يمكن خاصة أن يتحقق في الثقافة الإفريقية، هذه الثقافة التي سوف تقوم حينئذ بدور مهم في حل الأزمة العالمية، وذلك بما تأتي به من الإصلاحات لبعض المفاهيم الأساسية، فليس بخافٍ أن إفريقية لا تملك رصيداً من القنابل الذرية عليها أن تصفيه خدمة للسلام، ولكن في العالم أكداساً من الكراهية والحقد لابد من تصفيتها، ففي نفسية غالب الشعوب بذور فكرية مميتة. وليست الإنسانية مهددة من الغيوم المشبعة بالإشعاع الذي تعلقه فوق رؤوسنا التجارب الذرية فحسب، ولكنها أيضاً مختنقة في جو مشحون بهذه الجراثيم الميتة التي ورثتها عن العهد الاستعماري، والنخبة الإفريقية سوف تستطيع خدمة السلام في فكر الإنسان مباشرة، بما تغير من موقفه الفكري والأخلاق إزاء المشاكل القائمة اليوم.
إن الحرب جزء من التجارب الإنسانية في عهودها الأولى، وليس من قبيل المصادفة أن يلعب الأطفال ألعاب الحرب في العالم أجمع، والمثل القائل:(من أراد السلام فليتهيأ للحرب Si vis Pacym Para Bellum) الذي كان يضربه الرومان في عهدهم، يدلنا كيف تخضع فكرة السلام لفكرة الحرب، ولا تزال هذه النفسية تسيطر حتى الآن في كل المعاهد حيث تتكون الكفاءة العسكرية،
ولايزال السلام في البلاد المتحضرة يعد نتيجة لحرب ظافرة، وليس نتيجة لتخطيط صالح للحياة الدولية، تحت رقابة فعالة من الضمير العالمي؛ ففكرة السلام لم تحقق حتى الآن استقلالها وشخصيتها الخاصة، وهي تدين في خضوعها هذا للثقافة الإمبراطورية التي لا ترى السلام إلا حيثما يكون مؤيداً بالسلاح.
فالثقافة الحضارية ينبغي أن تعطي لفكرة السلام شخصيتها الحقيقية، بأن تضعها منذ الآن تحت ضمان المبادئ.
إن على الثقافة الإفريقية أن تتحدد بالنسبة لهذه القضية طبقاً لبعض المبادئ كالتي قررها مؤتمر باندونج، وإذا ما دان الكتّاب الإفريقيون بهذه المبادئ فخصصوا قسطاً من إنتاجهم لمشكلة السلام، فسوف نرى يوماً يبتدع فيه أطفال إفريقية لعباً أوحى إليهم بها السلام.
وأخيراً فإنه إذا ما كتب للثقافة الإفريقية أن تواجه هذه المهام الثلاث التي ألقينا عليها بعض الأضواء، فإن من حقها على التاريخ أن تحظى لديه بلقب (ثقافة كبرى)، لأنها تكون حينئذ قد أسهمت في تشييد عصر إنساني شامل في العالم.