الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الخامس
ما ضد الثقافة L'anti culture
في عام 1959 وعند كتابة الفصل السابق، كان العالم يمر بفترة من الانفراج النسبي. فمن ناحية نجحت (روح جنيف) إلى حد ما في ترطيب الجو الدولي للحرب الباردة، ومن ناحية أخرى، وفيما كانت الثورة الجزائرية مستمرة، تسارعت عملية تصفية الاستعمار في العالم الثالث. وأخيراً فإن الدول الأفروسيوية المستقلة اجتمعت في (باندونج)، محققة وعيها لحقوقها وواجباتها في العالم، ولتضع ثقلها بأكمله في الميزان تحت شعار عدم الانحياز.
فحين نطرح مشكلة ثقافة معينة على مستوى القارة الإفريقية مثلاً، أو على مستوى أي بلد تقدمي، دون أن نأخذ بعين الاعتبار كل هذه المعطيات السياسية والجغرافية، فإننا نكون بذلك قد أدرنا ظهرنا عن قصد لسائر أبعاد التاريخ في هذا النصف من القرن.
تلك كانت قناعة الكاتب في أعماقه وهو يضع رسالته، إذ رأى بأن أفضل وسيلة لإدخال إنسان العالم الثالث، والإنسان الإفريقي على وجه الخصوص في تلك الآفاق البارزة، أن ندعوه إلى المشاركة في تحقيقها في الإطار السياسي والأخلاقي والاجتماعي.
فمهمات هذه المشاركة التي أوضحناها في تلك الرسالة، قد صاغتها معطيات وضع عالمي معين، فضلاً عن وضع خاص بالعالم الثالث، هذا العالم الذي خرج من عصر الاستعمار ليجد نفسه في مواجهة مشاكل تخلفه.
كان ذلك منذ عشر سنين، لكن الأعوام الماضية عدلت دون أدنى شك، تلك الصورة التي فيها شيء من المثالية لعام 1959، فالعالم لا يتطور اليوم في جو من السلام فدون ذلك الكثير.
ذلك أن روح باندونح التي تركها كي تلقى مصيرها أولئك الذين أوجدوها أنفسهم، قد انطفأت كما تنطفئ نار معبد هجره سَدَنته.
وروح جنيف تبدد كما يتبدد الحلم، وخطط تصفية الاستعمار تتابعت وتتتابع اليوم في جوّ من العنف متزايد، مرتدة أحياناً إلى سيرورة استعمار جديد كما في فلسطين وفيتنام وإفريقية الجنوبية.
وأخيراً فالعالم الثالث ينزع نحو الإغراق في تخلفه أكثر فأكثر، اللهم إذا استثنينا تلك الحالات التي حدثت فيها بالتحديد تحولات ثقافية جادة كما هو شأن كوبا والصين.
وبكلمة أخرى فإذا قسنا الأمور بالمقياس الذي قسنا به المهمات، التي حددناها في الفصل السابق لعشر سنوات خلت رأينا:
أ- أن الرجل المتحضر قد أصبح أكثر همجية، فمستواه الأخلاقي قد انخفض بشكل ملحوظ.
ب- أن الإنسان الإفريقي لم ير مستواه الاجتماعي قد ارتفع إلى ما كان يأمل أن يرتفع إليه.
جـ- أن السلام أخيراً- تلك الفكرة المهيمنة، والموضوع المحوري لباندونج- هو اليوم كما لم يكن في يوم مضى في ظل السلاح.
يمكن في الواقع ومن خلال موقف كهذا، أن تتكون فلسفة تسمح بالقول: إن إنسان العالم الثالث، والإفريقي على وجه الخصوص، لم يخدم قضية السلام، إذ لم يكن بإمكانه القيام بهذه المهمة.
وبوضوح أكثر فإن إفريقيا (منظمة الوحدة الإفريقية) لم تطرح- كما هو معلوم- مشاكلها بلغة القوة في (أديس أبابا)، وهي لم تعلن عن استعداد ما
لخلق فكرة ثقافة سيطرة، وهي لا تستطيع ذلك حتى ولو كانت طبيعتها تدفعها في هذا الاتجاه.
يكفي هذا من وجهة موضوعية.
ويمكن أن يضاف إلى ذلك، أن الإنسان الإفريقي في المرحلة الحاضرة من تطوره، لا يستطيع أن يدعي دور الموجه للإنسان المتحضر، ليرفعه إلى مستوى (الأخلاق الإنسانية).
ثم إن هذا الإنسان المتحضر كبير بشكل يستطيع معه أن يتخبط وحيداً في مشاكله، وينبغي أن نترك له بمحض وسائله أن يرتبط بهذه المبادئ أو يتخلى عنها.
إننا إذا أخذنا الأمور بموضوعية، فهذه فلسفة مقبولة، ومع ذلك فإننا نشعر بمدى أي ضيق في الأفق، وعزلة عن العالم الخارجي، ستقود إليهما ثقافة إفريقية كهذه، تضع مثل هذه الفلسفة.
وإذا ما اندفعنا قليلاً في الاستسلام لهذا النوع من الموضوعية، وأوغلنا فيه دفعة واحدة، فذلك لن يكون سبباً في عزل هذه الثقافة عن الترفع والمثالية وروح الشعر، وسد آفاقها على العالم، وتبديد جميع تطلعاتها الكونية فحسب، ولكنه الانطواء في نفسها على العدم.
فإذا ما تخلت ثقافة أو قصرت عن رفع المستوى الاجتماعي للفرد، إذا ما أخفقت في أعمالها اليومية وذلك محكها الأخير، فإنها لن تكون ثقافة. إنها ستسقط في المعنى الأدق للكلمة في وهدة (لا ثقافة)، وستتمتع في هذا النطاق بقليل من الغرابة أو كثير، وقد تصطبغ بلون محلي أو توشيها مباهج الفولوكلور.
فالوظيفة الاجتماعية للثقافة تتطلب الكثير من التحديد، خصوصاً في المعطيات السياسية للبلاد الحديثة التي خرجت من عصر الاستعمار، وبدأت بناءها الاجتماعي.
هنا فإن كل وتيرة لهذا البناء، وكل قيمة اجتماعية له، وكل خلفية تاريخية، ترتكز على الثقافة وحدها التي تبعثه وتحييه.
ذلك أن حرب التحرير في أي بلد إفريقي، تفتح الطريق سياسياً إلى السيادة القومية، واجماعياً تقود إلى وضع تتراكم فيه المشاكل الناشئة عن النظام الجديد، وتضاف إلى المشاكل التي خلفها النظام الاستعماري.
والنظام الجديد يبنى أساساً في ظل تباشير دولة، هي أبعد من أن تكون مجرد تأكيد للسيادة الوطنية، بخطها الدستور في أسطره الأولى؛ إنها بناء الأجهزة الأساسية لتطوير هذه السيادة في أبعادها السياسية والاجتماعية والاقتصادية.
فتأكيد السيادة قد تحقق بدماء أولئك الذين قادوا معركة التحرير، لكن توطيدها في الحياة العامة يقع على عاتق الأحياء. إنه يرتكز على جلَدهم في العمل، على النظام، وعلى حماستهم في مهماتهم اليومية. وبكلمة واحدة على ميزة ثقافتهم.
وبتعبير آخر، فالثقافة تستطيع أن تمنحنا اللحظات الممتعة، إذ توحي إلينا أن نُنشد أحياناً مجتمعين، وأن نرقص مجتمعين، ونضحك مجتمعين؛ والأداء الحسن لذلك كله ظاهرة مشجعة وجمالية ينبغي عدم الاستخفاف بها. ولكن دورها الأساسي أن تعلمنا العيش المشترك والعمل المشترك، وخاصة الكفاح المشترك.
هذه هي وظيفتها الاجماعية الأساسية. ولن نتلهى بإضاعة الوقت في إيجاد تعريف لمفهوم الثقافة.
وجواب (هوريو) العفوي قد يكون كافياً حينما قال: ((الثقافة: إنها ذلك الذي نحتفظ به حينما ننسى ما تعلمناه)). لكن اختصاصياً كالأمريكي (هوركوفيست) تردد وهو يعطي لها تعريفاً، فأعطى لها تعاريف ثلاثة سماها (المتناقضات الظاهرة) من أجل أن يحيط بدلاً من أن يحدد لها تعريفاً منهجياً أفلت منه.
ومن أجل أن نتفادى الأفكار المسبقة، يمكن لنا أن نلجأ هنا إلى تلك الطريقة في المعالجة، بأن نتتبع المسائل التي ترد إلى الفكر من خلال المصالح المحورية، التي نحتاج أن نوليها أهمية معينة في البلاد الإفريقية، في هذه المرحلة من تطورها.
وهكذا فإن من حقنا في بلد متخلف، أن نصب معظم اهتماماتنا على الجانب الاقتصادي، ويمكن لنا وكيفما اتفق أن نعدد بعض القيم في هذا الإطار: الإنتاج، التسليف، العمل، الاستهلاك، العقد، الأمانة التجارية، الدقة، التنظيم، الادخار، المبادلة، أمن الأموال
…
إلخ.
ها نحن أولاء أمام جدول من المصالح المحورية، وارتباطها بعيشنا اليومي لا يخفى على أحد، وكل القيم الاقتصادية التي حددناها، لا تستطيع أن تُحقق دورها وأن تمارسه بصورة فعلية، في مخطط تنمية إفريقي، على سبيل المثال، دون بعض شروط تكيف تتعلق بالإنسان الإفريقي نفسه.
من الطبيعي أن هذه الضوابط ليست تعريفاً للثقافة، ولكنها تشكل أحد جوانبها الأساسية، إذا نظرنا إلى الموضوع من زاوية المشاكل الاقتصادية أي المشكلات الأهم في إفريقيا.
وعلى ضوء ذلك سنستطيع القول: إن معالجة الموضوع من هذه الناحية تتناول تعريفاً جزئياً للثقافة. ويمكن لنا أن نوسع إطارها لتشكل مواضيع أخرى:
الرياضة، بناء المدن، الفن .... إلخ، مثلاً، فإذا طبقنا مثل هذه الطريقة على تجربة الإفريقي الذي عاش في كلا المجتمعين: في العالم المتطور والعالم الثالث، فإن هذه الملاحظات ستتناول بالضرورة ذلك المظهر المزدوج للأشياء، إذ سيشاهد (العمل، الدقة، التنظيم، الادخار) من ناحية، ومن ناحية أخرى (عدم الفعالية، الغموض، التسيب، الإسراف). فإذا زان الأمر بالمعيار الثقافي وجد نفسه منساقاً إلى الحديث عن ثقافتين: ثقافة تنتج أسباب التقدم والتنمية، وتلك التي تخلق الشروط النفسية والاجتماعية لما هو التخلف.
وهكذا فإن وحدة مفهوم كفهوم الثقافة، له مثل هذه الأهمية التاريخية الكبرى، ستكون معرضة للخطر بطريقة فريدة إذا ما أعطيناها هذين الوجهين: وجهاً يمثل التنمية، وآخر يمثل ما دون التنمية.
من هنا نستطيع الجزم بأنه لا توجد ثقافة للتخلف، ومن أجل صفاء أكبر ولوضع أعلى درجات الوضوح لأفكارنا، فإنه من الجائز الحديث عن ثقافة في حالة، وفي حالة أخرى، ودون أن نكون منحازين عن (اللاثقافة)، شريطة أن نضع لهذه الكلمة محتوى اجماعياً صالحاً.
ونقول عن (لاثقافتنا) إنها ذلك المستوى الاجتماعي التاريخي، الذي لا بد أن ننطلق منه لنبني ثقافة تتمتع بالأصالة والعالمية في آن معاً.
هذا هو الرأسمال الأولي، وفي حالتنا هذه فإن مثل هذا الرأسمال، لا يستهان به من أجل أن يوظف في إطار برنامج ثقافة.
فهناك طهارة إفريقيا الأخلاقية، وجماع حماستها للخير والجمال، ونقاء
روحها وواسع عفويتها العاطفية المتعاطفة، وعميق مخزونها البكر من روحها كما تخلق القيم الجديدة النافعة والصلبة معاً.
لكن الثروة الثمينة هذه معرضة للأخطار، فنحن في عالم ما زال ملطخاً بخطيئة الاستعمار إزاء أولئك المشغوفين بـ (ثقافة سيطرة)، ولا يريدون أن يتيحوا للشعوب التي خرجت حديثاً من ربقة الاستعمار، إمكانية تحقيق (برنامج ثقافة) ولا أن يحافظوا على (لاثقافتهم) بكراً لا يمسها سوء.
هناك أفلام، وهناك أسطوانات، وهناك مجلات خلاعية. وهناك كتب التربية الجنسية، وهناك أساليب التخنث والترجل، وهناك مجون نشاهده أمام أبصارنا، وهناك حتى فلسفة اللذة الجنسية كما تضع الشباب على طريق الفرويدية. وهذه كلها ليست إلا مظاهر منظورة أو غير منظورة لوحش متعدد الأطراف، واسع المدى، قذر تسمم أنفاسه الملوثة مناخاً، تولد فيه القيم الثقافية الأصلية، وتمتد أطرافه تتلوى كالأفعى، لزجة الدبق، تمسك بقوة وتنزلق، لتحم الخناق وتخمد في أعماقنا وفي قلوبنا وفي عبقريتنا وفي روحنا، تلك الثروة الأساسية التي هي المنطلق في تحديد (منهج ثقافة).
ولا ريب أن هنالك مشاريع حقيقية لما هو ضد الثقافة، تولد تحت الأشكال والعناوين كافة، لتجهض بالوسائل المصطنعة أخلاقياً وفكرياً البرامج التي ينمو في إطارها هذا الرأسمال ويزداد.
لكن يضاف إلى هذا الخطر وهو يأتي من الخارج، خطر يأتي من أنفسنا، فـ (لينين) اشتم هذا الخطر في بداية مجتمع وليد، عندما وجه تحذيره الشديد (ضد كل محاولة تحجيم للقيم الثقافية لتتلاءم مع إطار الثقافة البروليتارية).
ينبغي أن ننقي مفهوم الثقافة من التراكم الأدبي، ومن كل أكاديمية ومن كل إقحام فولكلوري.
وإذا كان لا ريب في أن الفولكلور جزء من الثقافة، فالثقافة ليست فولكلوراً يتأنق في قليل أو كثير، بما يناسب ذوق العصر، وخاصة ذوق السائح الذي تستهويه المشاهد الغريبة عن وسطه.
فالثقافة هي أسلوب حياة، الأسلوب المشترك لمجتمع بأكله من علمائه إلى فلاحيه.
أما الفولكلور فهو إقليمي، أي إن عالم الأجناس يجد في حدود الإقليم كل ما يريده عن تاريخ الفولكلور ومغزاه ومعناه. وهكذا يمكن أن نجد لفولكلورنا الجزائري تفسيره في الأرض الجزائرية، التي تحدها حدودنا المتعددة الأضلاع كما نراها على الخريطة. ففي داخل هذه الحدود يمكن حصر سائر المعطيات التاريخية لنمط (عيسى الجرموني) على سبيل المثال.
لكننا لا نستطيع دراسة فكر وأعمال (ابن خلدون) ونحن نغلق عليهما وعلى أنفسنا حدود هذه الرقعة الجغرافية.
فمجال ثقافة ما إنما هو مدى حضارة. ومؤلف المقدمة شعر به بحدة كبيرة وبكل مأساوية، في ذلك العصر الذي انتهت به الحضارة. إذ حينما شهد بثاقب نظره الأفول الثقافي في المغرب، كان يعي بحسرة وحنين تدني الثقافة في الشرق الأوسط الإسلامي.
وقبل أن تصبح الثقافة وطنية وخاضعة لضرورات ومتغيرات الشعوب، وما يفاجئ مسيرتها، أو عالمية تتحسن وتنفتح لمصلحة مجموعة أكبر هي الإنسانية، فالثقافة هي أولاً ما يرسم قسمات المجتمع ويحدد مسيرته.
وحينما نطرح مسألة ثقافة إفريقية، فإننا بصورة أساسية نطرح قضية حضارة إفريقية ودوراً إفريقياً في العالم، وهذا الطرح يترك لنا الخيار بين ثقافة امبراطورية أو ثقافة حضارة.
وحينما يصبح هذا الاختيار حقيقة واقعة، فإن النخبة الإفريقية ملزمة بأن تضع في صيغته المحتوى الملائم.