الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
توجيه الثقافة:
لقد سبق أن حددنا الثقافة بما تحركه من قوى في الفرد وفي المجتمع، وهذا تحديد يجعل منها شيئاً شبيهاً (بحالة) نفسية واجتماعية.
لكن من الطبيعي أن تتطور هذه الحالة بتطور المجتمع، أو على الأصح أن يتطور المجتمع تبعاً لهذه الحالة.
ولذلك يجب أن نحدد الثقافة في ضوء تصورنا لوضعها التاريخي، أي بوصفها حركة مستمرة (صيرورة)؛ فإن في التاريخ منعطفات هائلة خطيرة يتحتم فيها هذا التعرف، والنهضة في العالم الإسلامي إحدى تلك المنعطفات، والثقافة من الأمور الأساسية التي تتطلب في إلحاح تعريفاً بل تعريفين:
الأول: يحددها في ضوء حالتنا الراهنة.
والثاني: يحددها في ضوء مصيرنا.
فإن جيلنا هذا حد فاصل بين عهدين: عهد الكساد والخمول، وعهد النشاط والحضارة.
فنحن قد شرعنا في بناء نهضتنا منذ خمسين عاماً، ذلك هو مكاننا، أي تلك هي اللحظة الخاطفة، التي تسجل نهاية الظلام في ضميرنا ودبيب الحياة في ذلك الضمير؛ فهي اللحظة الفارقة بين عهد الفوضى الجامدة والجمود الفوضوي وعهد التنظيم والتركيب والتوجيه.
وحينما يصل التاريخ إلى مثل هذا المنعطف من دورة الحضارة، فإنه يصل إلى المنطقة التي تتصل فيها نهاية عهد ببداية عهد آخر، ويتجاور فيها ماضي الأمة المظلم مع مستقبلها المشرق البسام.
وهكذا حين نتحدث عن النهضة نحتاج إلى أن نتصورها من ناحيتين:
1 -
تلك التي تتصل بالماضي، أي بخلاصة التدهور، وتشعبها في الأنفس وفي الأشياء.
2 -
تلك التي تتصل بخمائر المصير وجذور المستقبل.
هذا التمييز الضروري لا يتصل بمظاهر الترف العقلي لطائفة من الناس، وإنما يهتم بتكييف حالة شعب وتقرير مصيره بما في ذلك وضع السائل، ما دام السؤال موجوداً في النظام الاجتماعي.
ومن أول واجباتنا تصفية عاداتنا وتقاليدنا وإطارنا الخلقي والاجتماعي، مما فيه من عوامل قتّالة ورمَمٍ لا فائدة منها، حتى يصفو الجو للعوامل الحية والداعية إلى الحياة.
ولن تتأتى هذه التصفية إلا بفكر جديد، يحطم ذلك الوضع الموروث عن فترة تدهور مجتمع، يبحث عن وضع جديد هو وضع النهضة.
ونخلص من ذلك إلى ضرورة تجديد الأوضاع بطريقتين:
الأولى: سلبية تفصلنا عن رواسب الماضي.
والثانية: إيجابية تصلنا بالحياة الكريمة.
ولعل أثر هذه النظرية قد لوحظ في الثقافة الغربية في عهد نهضتنا، حين كان (توماس الأكويني) ينقيها- ولو عن غير قصد منه- لتكون الأساس الفكري للحضارة الغربية، ولم تكن ثورته ضد ابن رشد وضد القديس (أوغسطين)، إلا مظهراً للتجديد السلبي، حتى يستطيع تصفية ثقافته مما كان يراه فكرة إسلامية أو ميراثاً ميتافيزيقياً للكنيسة البيزنطية.
وأتى بعده (ديكارت) بالتجديد الإيجابي، الذي رسم للثقافة الغربية طريقها الموضوعي، الطريق الذي بني على المنهج التجريبي، والذي هو في الواقع السبب المباشر لتقدم الحضارة الحديثة تقدمها المادي.
والحضارة الإسلامية نفسها قامت بعملية التجديد هذه من ناحيتها السلبية والإيجابية، إلا أن الحضارة الإسلامية قد جاءت بهذين التجديدين مرة واحدة، وصدرت فيهما عن القرآن الكريم الذي نفى الأفكار الجاهلية البالية، ثم رسم طريق الفكرة الإسلامية الصافية التي تخطط للمستقبل بطريقة إيجابية.
وهذا العمل نفسه ضروري اليوم للنهضة الإسلامية.
ولعله قد أصبح منذ زمن قريب موضع بحث وتأمل، فإن في ريح الإصلاح التي هبت على العالم الإسلامي منذ محمد عبده وتلامذته كـ (بن باديس)، بشائر ذلك التحديد السلبي الذي حاول تحطيم عللنا وعوامل انحطاطنا.
ولكن الدوائر الأزهرية والزيتونية لم تعبأ بتلك المحاولة من قبل محمد عبده وتلامذته، ولم تستطع أن تتصور أحياناً النتائج التي تقتضيها الحركة الإصلاحية، وهو أمر يعود بلا شك إلى ما بقي في أنفسنا من وطأة شديدة للانحطاط.
وأما التجديد الإيجابي فهو- وإن كان قد وضع لنا مجمله- إلا أنه لا يزال غامضاً غير محدد.
فليس المقصود هنا من التجديد الإيجابي وضع منهاج جديد للتفكير، فإن ديكارت قد وضعه بصورة لا نتوهم تغييرها، إلا بانقلاب عملي هائل لا تحتمله الظروف الآن.
وإنما المقصود تجديد محتواه من العناصر الجوهرية التي سبق أن صنفناها في أربعة فصول، وهذا التجديد المزدوج للثقافة لا أثر له، إلا إذا زال ذلك الخلط الخطير الشائع في العالم الإسلامي بين ما تفيده كلمتا (ثقافة) و (تعليم).
ففي الغرب يعرفون الثقافة: على أنها تراث (الإنسانيات) الإغريقية
اللاتينية، بمعنى أن مشكلتها ذات علاقة وظيفية بالإنسان، (فالثقافة) في رأيهم هي:(فلسفة الإنسان).
وفي البلاد الاشتراكية، حيث يطبع تفكير ماركس كل القيم، عرف (يادانوف) الثقافة في تقريره المشهور الذي قدمه منذ عشر سنوات لمؤتمر الحزب الشيوعي في موسكو، على أنها ذات علاقة وظيفية بالجماعة، فالثقافة عنده هي:(فلسفة المجتمع).
ونزيد هنا أن هذين التعريفين يعدان من الوجهة التربوية مشتملين على (فكرة عامة) عن الثقافة، دون تحديد لمضونها القابل لأن يدخله التعليم في عقلية الجماعة.
وهذا ما نريد أن نحاوله هنا حين نربط ربطاً وثيقاً بين الثقافة والحضارة.
وفي ضوء هذا الربط تصبح الثقافة نظرية في السلوك، أكثر من أن تكون نظرية في المعرفة، وبهذا يمكن أن يقاس الفرق الضروري بين الثقافة والتعليم.
ولكي نفهم هذا الفرق فلا بأس أن نتصور- من ناحية- فردين مختلفين في الوظيفة وفي الظروف الاجتماعية، ولكنهما ينتميان لمجتمع واحد، كطبيب إنجليزي وراع إنجليزي مثلاً.
ومن ناحية أخرى نتصور فردين متحدين في العمل والوظيفة، ولكنهما ينتميان إلى مجتمعين مختلفين في درجة تقدمهما وتطورهما، كطبيب صيني وطبيب إنجليزي؛ فالأولان يتميز سلوكهما إزاء مشكلات الحياة بتماثل معين في الرأي يتجلى فيه ما يسمى (الثقافة الإنجليزية).
بينما يختلف سلوك الآخرين أحياناً اختلافاً عجيباً يدل على طابع الثقافة الذي يميز كليهما عن صاحبه، لأنه يميز المجتمع الذي ينتمي إليه.
هذا التماثل في السلوك في الحالة الأولى، والاختلاف في السلوك في الثانية، هما الملاحظتان المسلّم بهما في المشكلة التي أمامنا، وعليه فالتماثل أو الاختلاف في السلوك ناتج عن الثقافة لا عن التعليم.
ونحن نريد أن نؤكد هذا، لندرك أن السلوك الاجتماعي للفرد خاضع لأشياء أعم من المعرفة، وأوثق صلة بالشخصية منها بجمع المعلومات، وهذه هي الثقافة.
فالثقافة إذن تتعرف بصورة عملية على أنها: ((مجموعة من الصفات الخلقية والقيم الاجتماعية، التي تؤثر في الفرد منذ ولادته وتصبح لا شعورياً العلاقة التي تربط سلوكه بأسلوب الحياة في الوسط الذي ولد فيه))؛ فهي على هذا التعريف المحيط الذي يشكل فيه الفرد طباعه وشخصيته.
وهذا التعريف الشامل للثقافة هو الذي يحدد مفهومها، فهي المحيط الذي يعكس حضارة معينة، والذي يتحرك في نطاقه الإنسان المتحضر. وهكذا نرى أن هذا التعريف يضم بين دفتيه فلسفة الإنسان وفلسفة الجماعة، أي مقومات الإنسان ومقومات المجتمع، مع أخذنا في الاعتبار ضرورة انسجام هذه المقومات جميعاً في كيان واحد، تحدثه عملية التركيب التي تجريها الشرارة الروحية، عندما يؤذن فجر إحدى الحضارات.
***