الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
آثار تلك العلاقات الاجتماعية التي وحدت جهوداً مختلفة لـ (هرتز Hertz) الألماني، و (بو بوف Popov) الروسي، و (برانلي Branly) الفرنسي، و (ماركوني Marconi) الإيطالي، و (فليمن Fleming) الأمريكي، فكان الراديو نتيجة هذه الجهود جميعاً.
وهل هذه العلاقات الخاصة في أصلها سوى الرابطة المسيحية التي أنتجت الحضارة الغربية منذ عهد شارلمان؟.
ولسوف نصل في النهاية- إذا ما تتبعنا كل مدني من مظاهر الحضارة الغربية- إلى الروابط الدينية الأولى التي بعثت الحضارة، وهذه حقيقة كل عصر وكل حضارة.
إن روح الإسلام هو الذي خلق من عناصر متفرقة كالأنصار والمهاجرين أول مجتمع إسلامي، حتى كان الرجل في المجتمع الجديد يعرض على أخيه أن ينكحه من يختار من أزواجه بعد أن يطلقها له كي يبني بذلك أسرة.
فقوة التماسك الضرورية للمجتمع الإسلامي موجودة بكل وضوح في الإسلام، ولكن أي إسلام؟ الإسلام المتحرك في عقولنا وسلوكنا والمنبعث في صورة إسلام اجتماعي.
وقوة التماسك هذه جديرة بأن تؤلف لنا حضارتنا المنشودة، وفي يدها - ضماناً لذلك- تجربة عمرها ألف عام، وحضارة ولدت على أرض قاحلة، وسط البدو رجال الفطرة والصحراء.
التوجيه الجمالي:
لا يمكن لصورة قبيحة أن توحي بالخيال الجميل أو بالأفكار الكبيرة، فإن لمنظرها القبيح في النفس خيالاً أقبح، والمجتمع الذي ينطوي على صور قبيحة، لا بد أن يظهر أثر هذه الصور في أفكاره وأعماله ومساعيه.
ولقد دفعت هذه الملاحظة كل من عنوا بالنفس الاجتماعية من علماء الأخلاق أمثال الغزالي إلى دراسة الجمال وتأثيره في الروح الاجتماعبة.
ويمكن أن نلخص أفكارهم في هذا الصدد في أنه لا يمكن تصور الخير منفصلاً عن الجمال.
وترجمة هذا الاعتبار في لغة الاجماع: أن الأفكار هي المنوال الذي تنسج عليه الأعمال، وهي تتولد من الصور المحسة الموجودة في الإطار الاجتماعي فتنعكس في نفس من يعيش فيه، وهنا تصبح صوراً معنوية يصدر عنها تفكيره، فالجمال الموجود في الإطار الذي يشتمل على ألوان وأصوات وروائح وحركات وأشكال، يوحي للإنسان بأفكاره ويطبعها بطابعه الخاص من الذوق الجميل أو السماجة المستهجنة.
فبالذوق الجميل الذي ينطبع فيه فكر الفرد، يجد الإنسان في نفسه نزوعاً إلى الإحسان في العمل وتوخياً للكريم من العادات.
ولاشك أن للجمال أهمية اجتماعية كبيرة، إذا ما عددناه المنبع الذي تصدر عنه الأفكار، وتصدر عنه بواسطة تلك الأفكار أعمال الفرد في المجتمع.
والواقع أن أزهد الأعمال- في نظرنا- له صلة كبرى بالمجال، فالشيء الواحد قد يختلف تأثيره في المجتمع باختلاف صورته التي تنطق بالجمال، أو تنضح بالقبح، ونحن نرى أثر تلك الصورة في تفكير الإنسان، وفي عمله وفي السياسة التي يرسمها لنفسه، بل حتى في الحقيبة التي يحمل فيها ملابس سفره.
ولعل من الواضح لكل إنسان أننا أصبحنا اليوم نفقد ذوق الجمال، ولو أنه كان موجوداً في ثقافتنا، إذن لسخرناه لحل مشكلات جزئية، تكون في مجموعها جانباً من حياة الإنسان.
ويكفينا للتدليل على ذلك ما نراه مثلاً من شأن ذلك الطفل الذي يلبس الأسمال البالية والثياب القذرة، التي إن شئنا وصفها لقلنا إنها ثياب حيكت من قاذورات وجراثيم، إن مثل هذا الطفل الذي يعيش جسده وسط هذه القاذورات والرقعات غير المتناسبة، يحمل في المجتمع صورة القبح والتعاسة معاً، بينما هو جزء من ملايين السواعد والعقول التي تحرك التاريخ، لكنه لا يحرك شيئاً لأن نفسه قد دفنت في أوساخه، ولن تكفينا عشرات من الخطب السياسية لتغيير ما به من القبح وما يحتويه من الضعة النفسية والبؤس الشنيع.
فهذا الطفل لا يعبر عن فقرنا المسلم به بل عن تفريطنا في حياتنا.
ولنستخدم أبسط معنى للمجال ولننظر من قريب إلى أسمال هذا الطفل، فهي على كونها أسمالاً تحمل أكثر من ذلك جراثيم تقتله مادياً وأدبياً، فليست هذه الأسمال جراباً للوسخ فحسب وإنما هي سجن لنفس الطفل أيضاً.
أما من الوجهة الخلقية فقد أراد الطفل ستر عورته لكن مرقعاته قتلت كرامته، لأن العدالة الشكلية تذهب أحياناً إلى أن (الجبة) تصنع الشيخ.
وليس من شك في أن (مصطفى كمال) حينما فرض القبعة لباساً وطنياً للشعب إنما أراد بذلك تغيير نفس لا تغيير ملبس، إذ أن الملبس يحكم تصرفات الإنسان إلى حد بعيد.
فإذا ما لاحظنا أن مرقعات طفلنا قد أصبحت بما تحمل من أوساخ لا تقيه البرد أو الحر، وجدنا أيضاً أنها لا تستدر في الإنسان عطفاً، بل تثير فيه اشمئزازاً، وذلك بتأثير الصور الشنيعة والرائحة الكريهة والألوان المتنافرة.
وإن دستور الجمال في النفس الإنسانية ليعبر عن هذه المأساة كلها بكلمة واحدة: إنه لمنظر قبيح. إلا أنه لا يقف عند هذا الحد بل يوحي بالحل والمعالجة
الممكنة. ومن المؤكد أننا لن نأتي له بثوب آخر، فنحن نريد أن نخلصه من قبحه في سعة ويسر؛ بأن نأخذ بيده إلى الماء فننزع عنه مرقعاته ونأمره بأن يقوم بغسل واحدة منها ذات لون أقرب إلى الذوق، قطعة تكفي لستر عورته، يغسلها ثم يرتديها بعد أن يغتسل هو أيضا مما به من وسخ، ثم نقتاده إلى حلاق يحلق له رأسه ونتركه بعد ذلك يسير في حاله، بعد أن نعلمه كيف يقصد في مشيته وكيف لا يطأطئ رأسه، بهذا لا يظل كومة متحركة من الأوساخ، بل يصبح طفلاً فقيراً يسعى لقوته تجد فيه صورة للفقر والكرامة لا للقبح والمهانة.
ولا يظنن ظان أننا بإيرادنا هذا المثل نرى أن ذوق الجمال يسعى لحل مشكلات المساكين فحسب، بل أردنا التدليل على تأثيره في المجتمع باختيار نموذج من صميم أوضاعنا الاجتماعية، أما تأثيره فعام يمس كل دقيقة من دقائق الحياة كذوقنا في الموسيقا والملابس والعادات وأساليب الضحك والعطاس، وطريقة تنظيم بيوتنا وتمشيط أولادنا ومسح أحذيتنا وتنظيف أرجلنا.
لقد صدرت بعض الأوامر في مدينة موسكو- نقلتها إلينا الصحافة- تلزم سكانها بأن يرعوا في يقظة نظافة مدينتهم، وإلا فهم مهددون بفرض غرامة تبدأ من خمسة وعشرين إلى مئة روبل على كل من يبصق في الشارع، أو يلقي بأعقاب (السجائر) على الرصيف، أو يعلق ملابسه في الشباك المطل على الشارع، أو يلصق إعلانات على الحوائط، أو من يركب السيارات العامة بملابس العمل المتسخة.
فلو أننا سألنا عمدة موسكو مثلاً عن السبب الذي دعا إلى مثل هذه الأوامر لأجابنا بأنه: النظام
…
، ويجيب طبيب من وجهة نظره بأنه: الصحة .. ، وثالث فنان يذهب إلى أنه: جمال المدينة.
وكل إجابة من هذه الإجابات صادقة بوصفها سلوكاً يمليه وضع خاص،