الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تركيب ثقافتين هما: الثقافة الإسلامية والثقافة الهندية من أجل تحديد عمل ثقافي على مستوى إفريقي آسيوي.
فليس هن العبث إذن أن نضيف هذا الفصل في دراستنا هذه، كيما نمنح القارئ فرصة مطالعة مشكلة الثقافة من هذا الجانب، وحتى يلم أيضاً بفكرة أوضح عن نشاط ثقافة ما على حدود رقعتها. وبعد أن يقرأ ما قيل عن نوعية الثقافة وعن وجودها الخاص، سيكون في وسعه أن يفهم بسهولة أن كلمة (تركيب) قد استخدمت هنا في معناها الواسع الذي يعني (التعايش)، حتى لا نقع فيما وقع فيه الإمبراطور (أكبر) حين حاول استحداث (تلفيق) قصد به أن يكون (تركيباً).
فكل ما يرجى من الثقافات التي مثِّلَتْ في باندونج، هو أن تتعايش وأن تعمل متعاونة على طول المحور من طنجة إلى جاكرتا.
وسيتضح من الفصل التالي في أي الظروف يمكن أن يتم هذا العمل في رقعة معينة.
تعايش ثقافي على محور طنجة - جاكرتا:
تدلنا الدراسة المنهجية لمؤتمر باندونج على أنَّ المشكلة الجوهرية التي احتوتها روحه- وإن لم تعبر عنها مناقشاته- إنما كانت مصير الإنسان الأفرسيوي. وبعبارة أكثر تحديداً: مصير الشعوب المتخلفة التي تمتد رقعة سكناها على محور جغرافي من طنجة إلى جاكرتا.
لكن الأمر على ما صورناه في غير هذا المكان، يتلخص في ((أن كل تفكير في مشكلة الإنسان هو تفكير في مشكلة الحضارة (1)))، ولو أردنا محاكاة هذه الجملة
(1) انظر كتاب (فكرة الإفريقية الأسيوية) في الفصل المعنون (مشكلة الإنسان الأفرسيوي).
بصورة أخرى- مع اعتبار ما بين الحضارة والثقافة من ربط وثيق- لقلنا: ((إن أي تفكير في مشكلة الحضارة هو في جوهره تفكير في مشكلة الثقافة))، وبذلك تكون الحضارة في جوهرها عبارة عن مجموع من القيم الثقافية المحققة. وإذن فمصير الإنسان رهن دائماً بثقافته.
ومع ذلك فإن (باندونج) حين جمعت عناصر المشكلات العضوية الخاصة بالشعوب الأفرسيوية، قد دفعت المشكلة ضمناً إلى ضوء هو الذي نعالجها فيه هنا، على الرغم من أن تقارير الصحافة قد أكثرت في إلحاحها على الجوانب السياسية في المناقشات.
لكن منظمة اليونسكو لم يَفُتْها أن تخص الجانب الذي يهمنا بتقرير ذكرت فيه أن: ((المؤتمر الأفرسيوي قد أزمع نشر مجموعة من الدراسات عن الجوانب الاجتماعية والاقتصادية والثقافية في البلدان المشتركة فيه)).
وبقي علينا أن نعرف في أي الظروف يمكن لهذا التبادل في المعلومات أن يكون الأسس الثقافية للفكرة الأفرسيوية، وفي أي الظروف يمكننا عن طريق هذا التبادل أن نحدد طبيعة الثقافة، وأن ننشئ عناصرها من تغيير ظروف (البقاء) لدى الشعوب الأفرسيوية.
حقاً .. إن التبادل ضروري ولكن هل هو كاف؟
وسيكون لدينا في هذا الشأن مقياس متمثل في النموذج الغربي، فعلى محور واشنطن - موسكو حتى طوكيو، نجد أن المشكلات العلمية والعقلية والاجتماعية متحدة من طرف إلى آخر، بل على الرغم من التوتر السياسي بين الطرفين فإن التبادل الثقافي يتم في نطاق علاقة حضارية واحدة، حتى في المجال الذري، كما رأينا منذ مؤتمر جنيف.
فهناك ولاشك علاقة مباشرة بين هذا التبادل وبين المنظر السائد من واشنطن إلى موسكو، وبالتالي بين الظروف الإنسانية على هذا المحور.
ولكن إذا كان هذا التبادل حين يتم في إطار معين وفي طرف ما يعد سبباً محتماً قاطعاً، فإنه في جانب آخر أثر محتوم؛ فمن الأهمية بمكان أن نحتاط لأنفسنا حتى لا تُخفي عنا (ظاهرة سطحية Epiphénomène) ظاهرة جوهرية.
فعندما يذهب باليه الأوبرا في باريس إلى موسكو، أو عندما يأتي باليه الأوبرا من موسكو ليقدم بعض التمثيليات على المسرح الباريسي، فإن الذي يهمنا أن نستخلص لبناء فكرة (الأفرسيوية) ليس مجرد تبادل الفرق الراقصة، بل هو أن كلاً من هذه الفرق قد وجد خلال رحلاته جمهوره مع اختلاف بسيط في الألوان، كما وجد الجو نفسه والانفعال الجمالي نفسه. فمن المؤكد أن تطوافه لا بد أن يقوي هذه الوحدة في الإطار الفني، وأن يقوي (الروابط الثقافية) حسب التعبير الدبلوماسي، كما أن الفن ذاته يجد خلال هذا التبادل إلهاماً جديداً ودوافع جديدة.
وهكذا يتوافق السبب وأثره في نتيجة كلية تصدر عن الواقع الذي سبق وجوده، أي إطار الحضارة المشتركة. وواضح جداً أن الباليه الروسي لم يكن ليجد في (فاس) مثلاً جمهوره، ولا ذلك الصدى نفسه.
فالتبادل يصبح تقريباً غير ذي فائدة أو موضوع، عندما يخرج عن إطاره الذي يمنحه قيمته الاجماعية ومغزاه الثقافي.
وإذن فتحديد التبادل الفعال الذي نتصوره ليساعد على تكوين ثقافة معينة، يجب أن يبدأ من هذه النظرة العامة عن (المحيط) الثقافي، فالثقافة هي أولاً (محيط) معين يتحرك في حدوده الإنسان، فيغذي إلهامه ويكيف مدى صلاحيته للتأثير عن طريق التبادل؛ والثقافة (جو) من الألوان
والأنغام، والعادات والتقاليد والأشكال والأوزان والحركات، التي تطبع على حياة الإنسان اتجاهاً وأسلوباً خاصاً يقوي تصوره، ويلهم عبقريته، ويغذي طاقاته الخلاقة؛ إنها الرباط العضوي بين الإنسان والإطار الذي يحوطه.
لقد خضعت الثورة الصينية لمنطق طبيعي عندما قصدت من فورها إلى تعديل الإطار التقليدي، فمن أجل الإنسان ينبغي أن تغير وسطه الثقافي بإنشاء (محيط) جديد.
ولقد انتقدوا الثورة الصينية في أنها غيرت (الإنسان) إلى (نملة زرقاء)، حين فرضت على الشعب الصيني لباسأ أزرق؛ والواقع أنه يجب أن نغير أحد طرفي التشبيه كيما نكون محقين، لأن وجه الشبه ليس بين (الإنسان) وبين (النملة الزرقاء) بل هو بين (النملة الزرقاء) و (الدودة البائسة) التي كانت تدب في أقذارها وأسمالها في غرز الأفيون، هنالك حيث كان يجتمع الباحثون عن النسيان وعن الغرائب والعجائب.
فالنملة الزرقاء إذن ليست هدفاً، وإنما هي دليل على أن زمن الدودة الصغيرة قد وَلّى، وأن الصيني لن يلبث أن يصل إلى مستوى (الإنسان) إن كان لم يبلغه بعد، وفي هذه القرينة يعد ظهور (النملة الزرقاء) أمارة ثورة ثقافية، من شأنها أن تحدث تغيير المحيط الذي كانت تدب فيه الدودة الصينية، وهو الذي يشكل في الواقع هذه الدودة حتى تصل إلى الكمال.
فإطلاق هذا اللقب على الإنسان الصيني إنما يصف المأساة النفسية التي يعانيها مطلقوه تجاه الثورة الصينية، أكثر من أن يكون تعبيراً عن الحقيقة الموضوعية في هذه الثورة، ويخيل إلينا أن الأوربي في هذا الموقف يعبر عن خيبة أمله، حين عبر بلغة عالم الجمال الذي يأسى، لأنه يرى تلك الريشة الصلبة العنيفة أحياناً في يد (ماوتسي تونج)، ترسم وجه الصين الجديدة على تلك
اللوحة العتيقة المهيبة، وقد كان يهوى- وهو الأوربي المغرم بغرائب المشاهدات- أن يرى الملامح النبيلة على وجه الصين القديمة، وبذا نفهم حدة الانفعال عنده، وصيحاته التي تدوي: ياللبربرية. ولكنا نتساءل إذا ما كان يريد أن يتحدث بوصفه كاتباً مولعاً بالجمال أو مؤرخاً اجتماعياً؟
ومهما يكن من شيء فإن مشكلة الثقافة توضع بالنسبة للفكرة الأفرسيوية، في الخطوط نفسها التي وضعت فيها بالصين، في المستوى الأساسي، بقصد إحداث التغيير ابتداء من إطار جديد.
وفي هذا المستوى تقوم مشكلة الثقافة على تحديد يشمل أساساً الناحيتين الحيوية والتربوية، فالثقافة في مهمتها التاريخية تقوم بالنسبة للحضارة بوظيفة الدم بالنسبة للكائن الحي، فالدم ينقل الكريات البيضاء والحمراء التي تصون الحيوية والتوازن في الكائن، كما تكون جهاز مقاومته الذاتية.
والثقافة تنقل أفكار الجمهور الشعبية، وأفكار القادة الفنية، وهذان العنصران هما اللذان يغذيان عبقرية الحضارة، فهي تدين لهما بدفعتها وبمقدرتها الخلاقة. ولكن من أين يأتي جوهر هذين العنصرين؟
تلكم هي المشكلة التربوية التي نواجهها، فكل واقع اجتماعي هو في أصله قيمة ثقافية خرجت إلى حيز التنفيذ، فجوهر الأول هو جوهر الأخرى ضرورة. ولو أننا حللنا واقعاً اجتماعياً، أعني نشاطاً محساً، فسنجد فيه في وضعه الراهن، أو في اطّراد تطوره عناصر أساسية أربعة هي كما بينا في الفصول السابقة: المنهج الأخلاقي والذوق الجمالي والصناعة والمنطق العملي؛ فكل واقع اجتماعي أو ناتج حضارة هو في جوهره مركب من هذه العناصر الأربعة، وبالتالي فإن مشكلة الثقافة الأفرسيوية هي من الناحية التربوية مشكلة هذا التركيب، والفكرة الآسيوية تتمثل عند انطلاقها في صورة هيكل مكوَّن من القوى الأخلاقية
والعقلية، ومن الطاقات الاجماعية والاقتصادية والسياسية، وهي في غايتها باعتبارها حضارة يجب أن تتمثل تركيب هذه القوى جميعاً.
فالتماسك الداخلي الذي أودعته باندونج بين هذه الطاقات، قد استمدَّ من مبدأ فكري مشترك يكمن أساساً في النزعة المعادية للاستعمار لدى الشعوب الأفرسيوية .. ولكن التطور الذي يجب أن يخلف وراءه مرحلة الاستعمار، سيتجاوز حتماً نزعة العداوة للاستعمار أيضاً، وبالتالى فإن فكرة الأفرسيوية يجب أن تؤسس منهجها الأخلاقي على مبدأ إيجابي أكثر من ذلك، على ألا يكون في جوهره دينياً، حتى لا نخلع على الفكرة صفة (الكتلة) الدينية.
فإذا ما حاولنا المزاوجة في أساس هذه الفكرة بين الإسلام والهندوسية، فإن الأمر لن يكون محاولة للتلفيق والاصطناع، بل لابد من ميثاق أخلاقي بينهما ليتخذا وجهة دولية واحدة، وليس في هذا تجديد للمحاولة العابثة التي قام بها الإمبراطور (أكبر) الذي أراد في القرن السادس عشر أن يؤسس إمبراطوريته في الهند على أساس تلفيق وحدة إسلامية هندوسية.
إن الأديان لا يمكن أن تتنازل كيما تستغل وسائل لمثل هذه الغايات، ولو أننا أردنا درساً من الماضي فإن تاريخ الغرب يعطينا اياه، فلقد قامت الحضارة الغربية في بدايتها على هيكل أخلاقي مسيحي، أتاح لها التماسك والوثبة الضرورية لازدهارها؛ لكن تطورها قد غير هذا الأساس العقيدي شيئاً فشيئاً، إلى أن صار هيكلاً مختلطاً يتمثل فيه التفكير الكاثوليكي والبروتستانتي، وما يسمى بالتفكير الحر والتفكير اليهودي، وعليه فلا مجال لأن نبحث عن التماسك والتوافق في تلفيق ديني مصطنع.
ولقد كانت نزعة معاداة الاستعمار كافيذ في مبدئها لتكون وسيلة لإحداث التماسك بين العناصر الممثلة في باندونج، لكنها فضلاً عن أنها ستنتهي بفعل
التطور فإن من الواجب أن نمر بها سريعاً، فلقد كان الدبلوماسي الهندي (بانيكار) يعتقد أنها ضرورية دون شك باعتبارها (وحدة أساسية) تجعل منها باندونج نقطة انطلاق للفكرة الآفرسيوية، بيد أنه كان يعتقد أيضاً أنها غير كافية، إذ كان ينظر في الوقت نفسه إلى هذا الاجتماع على أنه ((اجتماع لعناصر غير متوافقة)). فمن الواضح أن مبدأ كهذا لا يكفي على الرغم من تأثيره المؤقت، أليس هو الذي ألهم الشعوب المستعمرة خلال فترة تحريرها تضحيات نبيلة وأعمالاً نزيهة؟
وهو الذي ألهمها أخيراً تلك الملحمة العظمى، ملحمة (الساتيا جراها) أو طريق الحقيقة الذي حرر الهند؟
لكن هذه المرحلة الحماسية حين تمر فإن نزعة معاداة الاستعمار لا تصلح أن تكون دافعاً سامياً، يحرك حضارة ويعطيها مثلها الأعلى ووثبتها الضرورية. وفضلاً عن ذلك فإن هذه النزعة إذا ما صفي مضمونها من (المشاعر الإيجابية) عبر الزمن، فقد لا تدع فيها هذه التصفية سوى (مشاعر سلبية)، تقوم على حقد الشعوب التي قاست ظلم طغاتها، بينما القضية ليست أن ننتزع العالم من موجة احتقار الكبار لنسلمه إلى حقد الصغار، ومن المطمئن في هذا السبيل أن قادة الثقافة الآفرسيوية يدركون ذلك جيداً، وهذا أحد كبارهم مولانا (أبو الكلام آزاد) قد تفضل فأعطانا شخصياً الدليل، حين أكد لنا فخامته:((إن مسؤولية التربية خطيرة، إذ ينبغي ألا تدع الحقد يتأصل في قلوب الجيل الجديد في الهند وعقولهم تحت ستار النزعة المعادية اللاستعمار)). ونحن نعتقد أن مهمة كهذه لا تخص المسؤولين عن توجيه الثقافة في وطن غاندي فحسب، بل تشمل جميع الأوطان الأفرسيوية، فهي تحدد لهذه الشعوب دونما لبس أو غموض طريق التحرر الداخلي، الذي يجب أن يكمل عملية التحرر السياسي والقومي بعملية التحرر الذاتي، أي في الإطار النفسي والأخلاقي، فإن الاستعمار لم يؤتر على
الرجل المستعمر في مفهومه السياسي، أي في علاقاته الاجتماعية فحسب، بل لقد أثر عليه في أعماقه وفي تكويناته الأساسية، حتى لقد وصل الى روحه وإلى ضميره في صورة حالات ذُهان، وحالات حرمان تشل عنده كل جهد خلاق، ولاسيما، في إفريقية الشمالية.
ومن المؤالم أن نرى الرجل المستعمر يقف دائماً في كتاباته موقف متهم أو متهَم، فإن هذا الموقف السلبي يسيء إلى (ذات) تكبت دائماً نقائصها، فلا تدعها تتفتح للحياة الجديدة.
فمشكلة التحرر يجب أن توضع إذن في الإطار النفسي، وسنكون قد صفينا هذه الحالات الذُهانية وصنوف الحرمان- بعض التصفية على الأقل- إذا ما خلّصنا الرجل الأفرسيوي من المشاعر السلبية التي أصابته بها نزعته المعادية للاستعمار، وأصابه بها حقده عليه.
وتبرز أهمية هذه المهمة النفسية في مشكلة الثقافة الأفرسيوية كلما ظهرت المهام الاجتماعية الضرورية إثر تحقق المطالب القومية، وكما أصبحت المقتضيات الإنسانية الدولية أكثر إلحاحاً.
إن مشكلة السلام والحرب تتطلب قرارات واضحة وصريحة، أما نزعة الحقد فهي عمياء، وهي بذلك لن تشجع بعض المساعي التي ينبغي أن تكون نزيهة لكي تكون فعالة.
فالثقافة الأفرسيوية لا يمكنها لأسباب مختلفة أن تجد إلهامها الجوهري في مجرد نزعة معادية للاستعمار، تختفي باختفاء سببها وهو: الاستعمار، فيجب أن تبحث عن روحها الأخلاقي في مجموع من القيم الروحية والتاريخية التي تُقرّها الشعوب الأفرسيوية بوصفها نوعاً من التراث، يشبه ما قدمته الإنسانيات الإغريقية اللاتينية إلى الغرب فوجد فيه دليل الطريق وزادها، والمصدر الذي
غذى عبقريته، ابتداء من (فيدياس Phîdias) حتى (ميشيل آنج Michel Ange) كما وجد فيه مقياس تنظيمه العقلي من أرسطو إلى ديكارت.
(والتراث) الأفرسيوي يمكن أن يجد عناصره أولاً في المركبات النفسية التي أدت دوراً في الصراع من أجل التحرر، وهي مشتركة بين جميع الشعوب التي خاضت هذا الصراع، ثم إنه سيجدها في الاتجاه الذي يختط للفكرة الأفرسيوية وجهتها الخاصة بها في العالم، وجهة المصير المشترك بين الشعوب السائرة تحت لواء خطر الحرب.
وإذا كان إلهام الثقافة الكلاسيكية في عصر النهضة الأوروبية قد اتجه بخاصة نحو الجمال وفلسفته أكثر من اتجاهه إلى أي شيء آخر، فإن الثقافة الأفرسيوية ملزمة بسبب مأساة هذا القرن العشرين، بأن تتجه أولاً نحو الأخلاق وفلسفتها لتحديد مثلها الأعلى، ثم نحو الصناعة لخلق وسائلها إلى هذا المثل الأعلى. فإنقاذ الإنسان من البؤس والفاقة على محور طنجة - جاكرتا، وإنقاذه من حتمية الحرب على محور واشنطن - موسكو، هما بالنسبة لنا الضرورتان المحددتان للمشكلة كلها: مشكلة بقائه، ومشكلة اتجاهه، وهذه الضرورة المزدوجة تسيطر بصورة طبيعية على تحديد ثقافته، وبالتالي تسيطر على تحديد منهجه الأخلاقي.
وستجد الفكرة الأفرسيوية- بمقتضى ازدواجها الروحي- مبدأها الثاني في فكرة (عدم العنف)، ذلك المبدأ الذي نعرف دوره المنقذ في تحرير الهند، والذي لا زال يلهم حتى يومنا الحوار الدولي، بوصفه قانوناً لا يقبل الانفكاك عن المحاولات الإنسانية في الميدان السياسي.
لكنا لا يمكننا أن نضم هذه الملحمة إلى الفكرة الأفرسيوية دون أن ندخل فيها في الوقت ذاته بطلها الأسطوري: (غاندي)، ذلك الوجه المحاط بهالة من نور الشهداء، الوجه الذي يتجلى في أروع صفحة من تاريخ عصرنا، ويزيد في
روعته أن الفصل الأول في مجموعة مواقفه فصل رمزي، نرى فيه المهاتما يدخل الميدان السياسي لأول مرة في صحبة رجل مسلم، هو (حاجي حبيب) الذي أيده مادياً وأدبياً منذ المؤتمر الأول الذي أعلن فيه المهاتما خطته (طريق الحقيقة Satyagraha) في 11 من أيلول (سبتمبر) 1906 بمسرح امبريال في (جوهانسبرج) بجنوب إفريقية.
هذا الرمز لا يقتصر في تأثيره على الناحية السياسية، بل يتعداها إلى نطاق الروح، وحسبنا أن نعرف كم كان غاندي يميل إلى أن يغذي فكره من جميع منابع الغذاء الروحي، كالقرآن والإنجيل و (التهاجافاد- جيتا: كتاب الديانة الهندوسية).
إن المتاحف في آسيا وإفريقية غنية بالوجوه الجليلة، وبالأسماء والمُثُل، لكي نستمد منها عناصر أخلاقية نحتاج إليها في بنائنا لتراث أفرسيوي، وسيكون غاندي ولا ريب في أحد الأبهاء الفخمة التي تحتوي صور الرجال العظماء.
وكما أن الثقافة تتحدد بعناصرها المستمدة من الروح الأخلاقي فإنها تتحدد أيضاً بالجمال، وإذا كانت الثقافة قبل كل شيء (محيطاً)، فمن الواضح أن العنصر الجمالي يؤدي فيها دوراً رئيسياً، إذ أن القدرة الخلاقة مرتبطة دائماً بالانفعال الجمالي، بل إن مقدرة الفرد على التأثير مرتبطة أيضاً ببعض المقاييس الجمالية، ومن المعلوم مثلاً في ميدان التجارة والصناعة أن ((الصنف الرديء لا يباع)).
على أن القيمة الجمالية يجب أن ينظر إليها خاصة من الوجهة التربوية، فهي تسهم في خلق نموذج إنشائي متميز يهب الحياة نسقاً معيناً، واتجاهاً ثابتاً في التاريخ بفضل ما وهب من أذواق وتناسب جمالي.
ومن المؤكد أن تتغير (الدودة الصينية) الجرباء ذات الأطمار إلى (نملة
زرقاء)، ذلك التغيير الخارجي البسيط قد زود الحياة في الصين بمثير فعال وبدافع إنشائي، ووضع أساساً للتربية الشعبية، وأبدع ذوقاً رفيعاً وحركة جديدة خلاقة للقيم الاجماعية.
ومهما يكن من شيء فإن الكنوز الفنية في إفريقية وآسيا تشهد بوجود ثروة، تستطيع الفكرة الأفرسيوية أن تجد فيها دائماً عناصر جوهرية لخلق هذا الجزء المهم من تراثها.
إن الثقافة الأفرسيوية في هذا العصر الحاضر، العصر الذي يخضع فيه التطور الإنساني في اتجاهه وفي سعته للعوامل الصناعية، ولاعتبارات المقدرة الإنتاجية، لا يمكن لها أن تحدد معالمها ما لم تأخذ في اعتبارها بعض العوامل الديناميكية، الصالحة لتشجيع النمو المادي لشعوب إفريقية وآسيا، والإسراع بحركته.
وخطط المشروعات القومية التي رأت النور في السنوات الأخيرة في بلادنا، تشعرنا عملياً بالحاجات التي تطابق في صورة طبيعية الفصول التي تتركب منها الثقافة، فالصناعة أو المنهج الفني والمنطق العملي فصلان من هذه الفصول الهامة ((حيث يتجاوب المنطق العملي مع القدرة الإنتاجية في الناحية الاقتصادية، وحيث يرسمان خطة للعمل والنشاط في السلوك الفردي)).
وللصناعة والمنطق العملي علاقة مباشرة بالمشكلات العضوية التي بحثها مؤتمر باندونج، والتي يجب أن يحلها كل بلد أفرسيوي لمصلحته الخاصة، ولهذين العنصرين تأثير مباشر عاجل على حظ الإنسان الأفرسيوي وعلى الإطار الذي يحوطه.
ويأتي دور العامل الصناعي عندما يضع بلد ما تخطيطاً لمشروع قومي، وبذا يتم إدخاله في برنامج تربوي بصورة آلية نوعاً ما، إذ هي ضرورة تفرض نفسها على المشروعات الحكومية من جهة، وعلى المحاولات الخاصة من جهة
أخرى، وهكذا يتلاقى احتياج دولة إلى الفنيين ورغبة الأفراد في أن يؤدوا وظائف معينة في مجال الفن الصناعي، يتلاقيان كاملاً في الضرورة العضوية نفسها.
ويتقرر المنطق العملي بالصورة نفسها بصفته حاجة عاجلة لثقافة (نهضة) تريد أن تحدث تغييراً في (المحيط) حيث تتشكل عبقرية الحضارة، وحيث يتطور الإنسان، فالمنطق العملي يكيف صورة النشاط وأسلوبه ونسقه وجميع أشكاله الديناميكية.
وعلى محور واشنطن - موسكو توجد ديناميكية خاصة تختلف عن ديناميكية محور طنجة - جاكرتا، والفرق منحصر في أن الثرثرة تكثر كلما قل النشاط والحركة، إذ حيثما يسود الكلام تبطئ الحركة، ومن أجل هذا وجدنا أن منظمي مؤتمر (باندونج) قد حددوا زمن الكلام بخمس عشرة دقيقة لكل متكلم، كان هذا ولاشك كيما يحولوا بينه وبين أن يغرق في لجة من الجعجعة وثرثرة اللسان.
وبهذا أنقذت الحكمة مقدرة المؤتمر على التأثير من طوفان الكلام الذي قد لا يدع مجالاً للعمل الإيجابي. وجدير بالذكر أن نعلم أن (شواين لاي) قد برهن على تقديره لهذا المبدأ حين صاغ كلمته في أقل من ربع ساعة وهو يتحدث باسم ست مئة مليون من البشر.
حقاً .. إن الكلمة لمن روح القدس. ولكن من الضروري أن يقر في أذهاننا التمييز بين الكلمة المقدسة الفعالة وبين الثرثرة والهذر، فهناك أناس ليست الكلمة بالنسبة إليهم سوى أداة تؤدي العدم، فهي عندهم مجرد صورة بيانية خلابة ترف في الهواء، أو مجرد كمية من المداد على صفحة من الورق.
لكن الواجب يفرض علينا أن نرعى واقعاً جلياً وجوهرياً، هو أن ميزانية
التاريخ ليست رصيداً من الكلام بل كتلاً من النشاط المادي ومن الأفكار التي لها كثافة الواقع ووزنه. وهذه الميزانية المكونة من صنوف النشاط الإيجابي هي في الحقيقة ميزانيات من القيم الثقافية تقوم على فصول الثقافة الأربعة: منهجها الأخلاقي، وفلسفتها الجمالية، وفنها الصناعي، ومنطقها العملي.
إننا حين عالجنا مشكلة الثقافة كنا نهدف إلى تبيان ضرورة التوجيه في الحياة الفكرية، تاركين جانباً المناقشة التي ستقرر إذا ما كان هذا الاتجاه يجب أن ينبع من ظروف الدولة طبقاً لاحتياجات البلاد، أي طبقاً لمنهج يفرض سيطرة التوجيه الجامعي، أو أن يصدر عن المنافع الشخصية والأذواق الفردية، أعني: عن التعليم الحر المنطلق، فمهما تكن الصورة التي نضع فيها المشكلة فمن الأهمية بمكان أن تحدد البلدان المتخلفة ثقافتها لتتدارك تأخرها، وتؤدي دورها في العالم بصورة فعالة.
ولكل بلد أن يحل هذه المشكلة بطرقه الخاصة، فكلّ الطرق تؤدي إلى هدف واحد ولكن بتوقيت مختلف. فالواجب أن نتجنب الطرق الطويلة، طرق الاعتباط والاستهواء، الطرق التي سلكتها الحضارات التي كان أمامها ما يكفيها من القرون ومن آلاف السنين؛ وبلغة التربية: يجب أن نطبق الطرق التي توجه الذكاء في اتجاه الحضارة، والتي تجعل تكوينها طبقاً للتطورات الضرورية في نطاق هذه الحضارة، فإذا ما صيغت المشكلة في تعبيرات هذه اللغة وجدناها تتجاوز بذلك النطاق القومي، لتقوم على أساس وضع (سياسة للثقافة)، تبعاً لتعبير الجمعية العامة الخامسة لمؤتمر الثقافة الأوروبية الذي انعقد في بروكسل في تشرين الأول (أكتوبر) 1955، أي أن المشكلة تتطلب في هذا الاتجاه (مؤتمراً للثقافة الأفرسيوية)، وربما عبّر البيان النهائي لمؤتمر باندونج عن هذه الضرورة تحت عنوان (التعاون الثقافي).