الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
دراسة موجزة لبعض الكلمات المجملة
أولاً: الجهة: هذه اللفظة من الكلمات المجملة التي يطلقها أهل التعطيل، فما معناها في اللغة؟ وما مرادهم من إطلاقها؟ وما التحقيق في تلك اللفظة؟ وهل هي ثابتة لله، أو منفية عنه؟
أ_ معنى الجهة في اللغة: تطلق على الموضع الذي تتوجه إليه، وتقصده، وتطلق على الطريق، وعلى كل شيء استقبلته، وأخذت فيه1.
ب_ ومراد أهل التعطيل من إطلاق لفظ الجهة: نفي صفة العلو عن الله _عز وجل_.
ج_ والتحقيق في هذه اللفظة: أن يقال: إن إطلاق لفظ الجهة في حق الله _سبحانه وتعالى_ أمر مبتدع لم يرد في الكتاب ولا السنة، ولا عن أحد من سلف هذه الأمة.
وبناءاً على هذا لا يصح إطلاق الجهة على الله _ عز وجل _ لا نفياً ولا إثباتاً، بل لا بد من التفصيل؛ لأن هذا المعنى يحتمل حقاً، ويحتمل باطلاً.
فإن أريد بها جهةَ سفلٍ فإنها منتفية عن الله، وممتنعة عليه _أيضا_ فإن الله أعظم وأجل من أن يحيط به شيء من مخلوقاته، كيف وقد وسع كرسيه السموات والأرض؟
وإن أريد بالجهة أنه في جميع الجهات، وأنه حالٌّ في خلقه، وأنه بذاته في كل
1_ انظر لسان العرب 13/555_560.
مكان _ فإن ذلك ممتنع على الله، منتفٍ في حقه.
وإن أريد نفي الجهة عن الله كما يقول أهل التعطيل حيث يقولون: إن الله ليس في جهة، أي ليس في مكان، فهو لا داخل العالم، ولا خارجه، ولا متصل، ولا منفصل، ولا فوق، ولا تحت _ فإن ذلك _أيضاً_ ممتنع على الله، منتفٍ في حقه؛ إذ إن ذلك وصف له بالعدم المحض.
وإن أريد بالجهة أنه في جهة علوٍّ تليق بجلاله، وعظمته من غير إحاطة به، ومن غير أن يكون محتاجاً لأحد من خلقه _ فإن ذلك حق ثابت له، ومعنى صحيح دلت عليه النصوص، والعقول، والفطر السليمة.
ومعنى كونه في السماء _كما في قوله _تعالى_: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} ، أي في جهة العلو، أو أن في بمعنى على، أي على السماء، كما قال _ تعالى _:{وَلأصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} [طه: 71] أي على جذوع النخل.
وبهذا التفصيل يتبين الحق من الباطل في هذا الإطلاق.
أما بالنسبة للفظ فكما سبق لا يُثبت ولا يُنفى، بل يجب أن يستعمل بدلاً عنه اللفظ الشرعي، وهو العلو، والفوقية1.
ثانياً: الحد: وهذا _ أيضاً _ من الألفاظ المجملة التي يطلقها أهل التعطيل.
فما معنى الحد في اللغة؟ وماذا يريد أهل التعطيل من إطلاقه؟ وما شبهتهم في ذلك؟ وما جواب أهل السنة؟
أ_ معنى الحد في اللغة: يطلق على الفَصْل، والمنع، والحاجز بين الشيئين الذي
1_ انظر شرح العقيدة الطحاوية ص221، والتحفة المهدية شرح الرسالة التدمرية ص166_171. وتلخيص الحموية ص33_35.
يمنع اختلاط أحدهما بالآخر.
يقال: حددت كذا، جعلت له حداً يميزه.
وحدُّ الدار ما تتميز به عن غيرها، وحد الشيء: الوصف المحيط بمعناه، المميز له عن غيره1.
ب_ وأهل التعطيل يريدون من إطلاق لفظ الحد نفي استواء الله على عرشه.
ج_ وشبهتهم في ذلك: أنهم يقولون: لو أثبتنا استواء الله على عرشه للزم أن يكون محدوداً؛ لأن المستوي على الشيء يكون محدوداً؛ فالإنسان _مثلاً_ إذا استوى على البعير صار محدوداً بمنطقة معينة، محصوراً بها، وعلى محدود _أيضاً_ زهز ظهر البعير.
وبناءاً على ذلك فهم ينفون استواء الله على عرشه ويرون أنهم ينزهون الله _عز وجل_ عن الحد، أو الحدود.
د_ جواب أهل السنة: أهل السنة يقولون: إن لفظ الحد لم يرد في الكتاب، ولا في السنة، ولا في كلام سلف الأمة؛ فهو _ إذاً _ لفظ مبتدع حادث.
وليس لنا أن نصف الله بما لم يصف به نفسه، ولا وصفه به رسوله "لا نفياً، ولا إثباتاً، وإنما نحن متبعون لا مبتدعون.
هذا بالنسبة للفظ.
أما بالنسبة للمعنى فإننا نستفصل _كالعادة_ ونقول ماذا تريدون بالحد؟
1_ انظر معجم مفردات ألفاظ القرآن للراغب الأصفهاني ص108، والمصباح المنير للفيومي ص68.
إن أردتم بالحد أن الله _ عز وجل _ محدود، أي متميز عن خلقه، منفصل عنهم، مباين لهم _ فهذا حق ليس فيه شيء من النقص، وهو ثابت لله بهذا المعنى.
وإن أردتم بكونه محدوداً أن العرش محيط به وأنتم تريدون نفي ذلك عنه بنفي استوائه عليه _ فهذا باطل، وليس بلازم صحيح؛ فإن الله _تعالى_ مستوٍ على عرشه، وإن كان _ عز وجل _ أكبر من العرش ومن غير العرش.
ولا يلزم من كونه مستوياً على العرش أن يكون العرش محيطاً به؛ لأن الله _ عز وجل _ أعظم من كل شيء، وأكبر من كل شيء، والأرض جميعاً قبضته يوم القيامة، والسموات مطويات بيمينه1.
ثالثاً: الأعراض: هذا اللفظ من الألفاظ المجملة التي يطلقها أهل الكلام ومن أقوالهم في ذلك: "نحن نُنَزِّه الله _تعالى_ من الأعراض والأغراض، والأبعاض، والحدود، والجهات".
ويقولون: "سبحان من تنزه عن الأعراض والأغراض والأبعاض".
والحديث في الأسطر التالية سيكون حول لفظ الأعراض أما بقية الألفاظ فسيأتي ذكرها فيما بعد.
أ_ تعريف الأعراض في اللغة: الأعراض جمع عَرَض، والعَرض هو ما لا ثبات.
أو هو: ما ليس بلازم للشيء.
1_ انظر شرح عقيدة الطحاوية ص219، وشرح العقيدة الواسطية للشيخ محمد بن عثيمين 1/376 و379_380.
أو هو: ما لا يمتنع انفكاكه عن الشيء1.
ومن الأمثلة على ذلك: الفرح بالنسبة للإنسان فهو عَرَض؛ لأنه لا ثبات، بل هو عارض يعرض ويزول.
وكذلك الغضب، والرضا.
ب_ العَرَض في اصطلاح المتكلمين: قال الفيومي: "العَرَض عند المتكلمين ما لا يقوم بنفسه، ولا يوجد إلا في محل يقوم به"2.
وقال الراغب الأصفهاني: "والعرض ما لا يكون له ثبات، ومنه استعار المتكلمون العَرَض لما لا ثبات له إلا بالجوهر كاللون والمطعم"3.
ج_ ما مراد المتكلمين من قولهم: "إن الله منزه عن الأعراض؟ ": مرادهم من ذلك نفي الصفات عن الله _ تعالى _ لأن الأعراض عندهم هي الصفات.
د_ ما شبهتهم؟ يقولون: لأن الأعراض لا تقوم إلا بالأجسام، والأجسام متماثلة؛ فإثبات الصفات يعني أن الله جسم، والله منزه عن ذلك، وبناءاً عليه نقول بنفي الصفات؛ لأنه يترتب على إثباتها التجسيم، وهو وصف الله بأنه جسم، والتجسيم تمثيل، وهذا كفر وضلال؛ فهذه هي شبهة المتكلمين.
هـ _ الرد على أهل الكلام في هذه المسألة: الرد عليهم من وجوه:
1_
أن لفظة "الأعراض" لم ترد في الكتاب ولا في السنة في حق الله لا نفياً ولا إثباتاً، ولم ترد كذلك عن سلف الأمة.
1_ انظر التعريفات للجرجاني ص153_154.
2_
المصباح المنير للفيومي ص209.
3_
معجم مفردات ألفاظ القرآن ص342.
وطريقة أهل السنة المعهودة في مثل هذه الألفاظ التوقف في اللفظ، فلا نثبت الأعراض، ولا ننفيها.
أما معناها فيُستَفْصَل عن مرادهم في ذلك، ويقال لهم: إن أردتم بالأعراض التي تقولون بنفيها عن الله ما يقتضي نقصاً في حق الله _تعالى_ كالحزن، والندم، والمرض، والخوف _ فإن المعنى صحيح، والله منزه عن ذلك؛ لأنه نقص، لا لأنها أعراض.
وإن أردتم نفي ما أثبته الله لنفسه في كتابه أو على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم من الصفات كالغضب، والفرح، والرضا، ونحوها؛ بحجة أنها أعراض _ فإن ذلك باطل مردود، ولا يلزم من إثباتها أي لازم.
2_
أن الصفات الربانية ليست كلها أعراض، بل إن بعضها أعراض كالفرح، والغضب، وبعضها ليست أعراضاً، كبعض الصفات الذاتية كاليد، والوجه، والقدم، والساق؛ فهذه ليست أعراضاً، بل لازمة للذات لا تنفك عنها.
3_
أن قولكم: "إن الأعراض لا تقوم إلا بجسم" قول باطل؛ فالأعراض قد تقوم بغير الجسم كما يقال: ليل طويل، فقولنا: طويل، وصف لـ: ليل، والليل ليس بجسم، ومثل ذلك: حر شديد، ومرض مؤلم، وبرد قارس.
4_
أن القول بتماثل الأجسام قول باطل؛ فالأجسام غير متماثلة لا بالذوات ولا بالصفات، ولا بالحدوث؛ ففي الحجم تختلف الذرَّة عن الجمل، وفي الوزن يختلف جسم القيراط عن جسم القنطار، وفي الملمس يختلف الخشن عن الناعم، واللين عن القاسي، وهكذا.
5_
أن لفظ الجسم من إحداث المتكلمين، وهذا اللفظ كقاعدة الألفاظ المجملة؛ فإن كان إثبات الصفات يلزم منه أن يكون جسماً في مفهومك فليس ذلك يضيرنا.
لكن إن أردت بالجسم الشيء القائم بنفسه المتصف بما يليق به فهذا حق؛ لأننا نؤمن بأن لله ذاتاً موصوفة بالصفات اللائقة بها.
فإن أردت بالجسم هذا المعنى فصحيح.
وإن أردت بالجسم الشيء المكوَّن من أعضاء، ولحم ودم المفتقر بعضه إلى بعض وما أشبه ذلك _ فباطل غير صحيح؛ لأنه يلزم أن يكون الله حادثاً أو مُحْدَثاً، وهذا أمر مستحيل، على أننا لا نوافق على إثبات الجسم، ولا نفيه؛ لأنه يحتمل حقاً وباطلاً.
رابعاً: الأبعاض: أو الأعضاء، أو الأركان، أو الجوارح: وهذه _ أيضاً _ من الكلمات المجملة التي تطلق وتحتمل حقاً وباطلاً؛ فإليك نبذة في معانيها، ومقصود أهل التعطيل من إطلاقها وجواب أهل السنة على تلك الدعوى.
أ_ معاني هذه الكلمات: معاني هذه الكلمات متقاربة من بعض.
-فالأبعاض: جمع لكلمة بعض، يقال: بعض الشيء أي جزؤه، وبعّضْتُ كذا أي جعلته أبعاضاً1.
-والأركان: جمع ركن، وركن الشيء قوامه، وجانبه القوي الذي يتم به، ويسكن إليه.
-والأجزاء: جمع جزء، والجزء ما يتركب الشيء عنه وعن غيره، وجزء
1_ انظر معجم مفردات ألفاظ القرآن ص50 و 88 و 90 و 208 والتعريفات ص78 و 117.
الشيء ما تقوم به جملتُه كأجزاء السفينة، وأجزاء البيت.
-والجوارح: مفردها الجارحة، وتسمى الصائدة من الكلاب والفهود والطيور جارحة؛ إما لأنها تجرح، وإما لأنها تكسب.
وسميت الأعضاء الكاسبة جوارح؛ تشبيهاً بها لأحد هذين1.
-ويشبه هذه الألفاظ لفظ: الأعضاء، والأدوات، ونحوها.
ب_ مقصود أهل التعطيل من إطلاقها: مقصودهم نفي بعض الصفات الذاتية الثابتة لله بالأدلة القطعية، كاليد، والوجه، والساق، والقدم، والعين2.
ج_ ما الذي دعاهم إلى نفيها؟ الذي دعاهم إلى نفي تلك الصفات هو اعتقادهم أنها بالنسبة للمخلوق أبعاض، وأعضاء، وأركان، وأجزاء، وجوارح، وأدوات، ونحو ذلك؛ فيرون _بزعمهم_ أن إثبات تلك الصفات لله يقتضي التمثيل، والتجسيم؛ فوجب عندهم نفيها فراراً من ذلك.
وقد لجؤوا إلى تلك الألفاظ المجملة؛ لأجل أن يروج كلامهم، ويلقى القبول.
د_ جواب أهل السنة: أهل السنة يقولون: إن هذه الصفات _ وإن كانت تعد في حق المخلوق أبعاضاً، أو أعضاءاً، وجوارح ونحو ذلك _ لكنها تعدُّ في حق الله صفات أثبتها لنفسه، أو أثبتها له رسوله صلى الله عليه وسلم "فلا نخوض فيها بآرائنا وأهوائنا، بل نؤمن بها ونُمرُّها كما جاءت، ونفوض كنهها وحقيقتها إلى الله _عز وجل_ لعدم معرفتنا لحقيقة الذات؛ لأن حقيقة معرفة الصفة متوقفة على معرفة حقيقة الذات كما لا يخفى، وهذه الصفات _أعني اليد، والساق ونحوها وكثير من
1_ المرجع السابق.
2_
انظر شرح العقيدة الطحاوية ص219.
صفات الله_ قد تشترك مع صفات خلقه في اللفظ، وفي المعنى العام المطلق قبل أن تضاف.
وبمجرد إضافتها تختص صفات الخالق بالخالق، وصفات المخلوق بالمخلوق؛ فصفات الخالق تليق بجلاله، وعظمته، وربوبيته، وقيوميته.
وصفات المخلوق تليق بحدوثه، وضعفه، ومخلوقيته1.
وبناءاً على ذلك يقال لمن يطلق تلك الألفاظ المجملة السالفة: إن أردت أن تنفي عن الله _ عز وجل _ أن يكون جسماً، وجثة، وأعضاءاً، ونحو ذلك فكلامك صحيح، ونفيك في محله.
وإن أردت بذلك نفي الصفات الثابتة له والتي ظننت أن إثباتها يقتضي التجسيم، ونحو ذلك من اللوازم الباطلة _ فإن قولك باطل، ونفيك في غير محله.
هذا بالنسبة للمعنى.
أما بالنسبة للفظ فيجب ألا تعْدِل عن الألفاظ الشرعية في النفي أو الإثبات؛ لسلامتها من الاحتمالات الفاسدة.
يقول شارح الطحاوية رحمه الله: "ولكن لا يقال لهذه الصفات إنها أعضاء، أو جوارح، أو أدوات، أو أركان؛ لأن الركن جزء الماهية، والله _ تعالى _ هو الأحد، الصمد، لا يتجزأ _ سبحانه وتعالى _ والأعضاء فيها معنى التفريق والتعضية2، تعالى الله عن ذلك، ومن هذا المعنى قوله _ تعالى _:{الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ} [الحجر:91] .
1_ انظر الصفات الإلهية ص208_209.
2_
التعضية: التقطيع، وجعل الشيء أعضاء.
والجوارح فيها معنى الاكتساب والانتفاع؛ وكذلك الأدوات هي الآلات التي ينتفع بها في جلب المنفعة ودفع المضرة.
وكل هذه المعاني منتفية عن الله _ تعالى _ ولهذا لم يرد ذكرها في صفات الله _تعالى_ فالألفاظ الشرعية صحيحة المعاني، سالمة من الاحتمالات الفاسدة؛ فكذلك يجب أن لا يُعدل عن الألفاظ الشرعية نفياً ولا إثباتاً؛ لئلا يُثبت معنىً فاسدٌ، وأن ينفى معنى صحيح.
وكل هذه الألفاظ المجملة عُرضةٌ للمحق والمبطل"1.
خامساً: الأغراض: وهذا _أيضاً_ من إطلاقات المتكلمين، وإليك بعض التفصيل في هذا اللفظ.
أ_ الأغراض في اللغة: جمع غرض، والغرض هو الهدف الذي يرمى فيه، أو هو الهدف الذي ينصب فيرمى فيه.
والغرض يطلق في اللغة _ أيضاً _ على الحاجة، والبغية، والقصد2.
ب_ الغرض في اصطلاح علماء الكلام: قيل: هو ما لأجله يصدر الفعل من الفاعل3.
وقال الجلال الدواني: "الغرض هو الأمر الباعث للفاعل على الفعل، وهو المحرك الأول، وبه يصير الفاعل فاعلاً"4.
1_ شرح العقيدة الطحاوية ص220 _ 221.
2_
انظر لسان العرب 7/196.
3_
انظر شرح مطالع الأنظار على طوالع الأنوار لشمس الدين بن محمود الأصفهاني ص917.
4_
شرح العقائد العضدية للجلال الدواني 2/204.
وبذلك نرى توافق المعنى اللغوي والاصطلاحي للغرض، وأنه غاية الفاعل من فعله، وهو الباعث له على فعله1.
ج_ ماذا يريد أهل الكلام بهذه اللفظة؟ يريدون إبطال الحكمة في أفعال الله _عز وجل_ وشرعه.
د_ حجتهم في ذلك: يقول المتكلمون _وعلى وجه الخصوص الأشاعرة_: إننا ننزه الله عن الأغراض، فلا يكون له غرض فيما شرعه أو خلقه؛ فأبطلوا الحكمة من ذلك، وقرروا أن الله لم يشرع إلا لمجرد مشيئته فحسب؛ فإذا شاء تحريم شيء حرَّمه، أو شاء إيجابه أوجبه.
وقالوا: لو قررنا أن له حكمة فيما شرعه لوقعنا في محذورين:
الأول: أنه إذا كان لله غرض فإنه محتاج إلى ذلك الغرض؛ ليعود عليه من ذلك منفعة، والله منزه عن ذلك.
والثاني: أننا إذا عللنا الأحكام أي أثبتنا الحكمة والعلة لزم أن نوجب على الله ما تقتضيه الحكمة؛ لأن الحكم يدور مع علته؛ فنقع فيما وقع فيه المعتزلة من إيجاب الصلاح والأصلح على الله؛ لأن الغرض عند المعتزلة بمعنى الغاية التي فَعَل لها، وهم يوجبون أن يكون فعله معللاً بالأغراض.
هـ _ الرد عليهم:
1_
أن هذا اللفظ _الأغراض أو الغرض_ بِدْعِي لم يرد في حق الله لا في الكتاب ولا في السنة، ولا أطلقه أحد من أئمة الإسلام وأتباعهم؛ لأن هذه
1_ انظر الحكمة والتعليل في أفعال الله ص26_47.
الكلمة قد توهم النقص، ونفيها قد يفهم منه نفي الحكمة؛ فلا بد _ إذاً _ من التفصيل، والأولى أن يعبر بلفظ: الحكمة، والرحمة، والإرادة، ونحو ذلك مما ورد به النص1.
2_
أن الغرض الذي ينزه الله عنه ما كان لدفع ضرر، أو جلب مصلحة له؛ فالله _ سبحانه _ لم يَخْلُقْ، ولم يَشْرَعْ لأن مصلحة الخلق والأمر تعود إليه، وإنما ذلك لمصلحة الخلق.
ولا ريب أن ذلك كمال محض، قال _ تعالى _:{إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً} [آل عمران:176] .
وقال: {إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ} [الزمر:7] .
وفي الحديث القدسي يقول الله _ عز وجل _: "يا عبادي إنكم لن تبلغوا نفعي، فتنفعوني ولن تبلغوا ضري، فتضروني".
وهذا أمر مستقر في الفطر.
3_
أن إيجاب حصول الأشياء على الله متى وجدت الحكمة حق صحيح.
لكنه مخالف لما يراه المعتزلة من جهة أن الله _عز وجل_ هو الذي أوجب هذا على نفسه، ولم يوجبه عليه أحد، كما قال _تبارك وتعالى_:{كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} [الأنعام:54] .
وكما قال: {وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} [الروم:47] .
وكما في حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه قال صلى الله عليه وسلم: "يا معاذ أتدري ما حق الله على العباد؟ " قال: الله ورسوله أعلم.
1_ انظر مفتاح دار السعادة لابن القيم 1/66.
قال: "أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً".
"أتدري ما حقهم عليه؟ ".
قال: الله ورسوله أعلم.
قال: "ألا يعذبهم" الحديث1.
فهذا حق أوجبه الله على نفسه، ولله أن يوجب على نفسه ما يشاء.
ثم إن مقياس الصلاح والأصلح ليس راجعاً إلى عقول البشر، ومقاييسهم، بل إن ذلك راجع إلى ما تقتضيه حكمة الله _ تعالى _ فقد تكون على خلاف ما يراه الخلق بادئ الرأي في عقولهم القاصرة؛ فانقطاع المطر قد يبدو لكثير من الناس أنه ليس الأصلح بينما قد يكون هو الأصلح لكنه مراد لغيره؛ لقوله _تعالى_:{ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الروم:41] .
وكذلك استدراج الكفار بالنعم، وابتلاء المسلمين بالمصائب كل ذلك يحمل في طياته ضروباً من الحكم التي لا تحيط عقول البشر إلا بأقل القليل منها.
بل إن خلق إبليس، وتقدير المعاصي، وتقدير الآلام يتضمن حكماً تبهر العقول وتُبين عن عظيم حكمة أحكم الحاكمين.
وليس هذا مجال البسط لتلك الحكم2.
سادساً: حلول الحوادث بالله _ تعالى _: هذا اللفظ من إطلاقات أهل الكلام، وإليك بعض التفصيل في معناه، ومقصود أهل الكلام منه، والرد
1_ رواه البخاري 7373، ومسلم2856.
2_
انظر تفاصيل ذلك في كتاب القضاء والقدر للكاتب.
عليهم في ذلك.
أ_ معنى كلمة حلول: الحلول هو عبارة عن كون أحد الجسمين ظرفاً للآخر، كحلول الماء في الكوز1.
ب_معنى كلمة الحوادث: الحوادث جمع حادث، وهو الشيء المخلوق المسبوق بالعدم، ويسمى حدوثاً زمانياً.
وقد يعبر عن الحدوث بالحاجة إلى الغير، ويسمى حدوثاً ذاتياً.
والحدوث الذاتي: هو كون الشيء مفتقراً في وجوده إلى الغير.
والحدوث الزماني: هو كون الشيء مسبوقاً بالعدم سبقاً زمانياً 2.
ج_ معنى حلول الحوادث بالله _ تعالى _: أي قيامها بالله، ووجودها فيه _عز وجل_.
د_ ما مقصود أهل التعطيل من هذا الإطلاق؟ مقصودهم نفي اتصاف الله بالصفات الاختيارية الفعلية، وهي التي يفعلها متى شاء، كيف شاء، مثل الإتيان لفصل القضاء، والضحك، والعجب، والفرح؛ فينفون جميع الصفات الاختيارية.
هـ _ ما حجتهم في ذلك: حجتهم في ذلك أن قيام تلك الصفات بالله يعني قيام الحوادث أي الأشياء المخلوقة الموجودة بالله.
وإذا قامت به أصبح هو حادثاً بعد أن لم يكن، كما أنه يلزم أن تكون المخلوقات حالَّة فيه، وهذا ممتنع.
1_ انظر التعريفات للجرجاني ص97.
2_
انظر التعريفات ص85_86.
و_ جواب أهل السنة: أهل السنة يقولون: إن هذا الإطلاق لم يَردْ في كتاب ولا سنة، لا نفياً ولا إثباتاً، كما أنه ليس معروفاً عند سلف الأمة.
أما المعنى فيستفصل عنه؛ فإن أريد بنفي حلول الحوادث بالله أن لا يَحُلَّ بذاته المقدسة شيء من مخلوقاته المحدثة، أو لا يحدث له وصف متجدد لم يكن له من قبل _ فهذا النفي صحيح؛ فالله _عز وجل_ ليس مَحَلاً لمخلوقاته، وليست موجودة فيه، ولا يحدث له وصف متجدد لم يكن له من قبل.
وإن أريد بالحوادث: أفعاله الاختيارية التي يفعلها متى شاء كيف شاء كالنزول، والاستواء، والرضا، والغضب، والمجيء لفصل القضاء ونحو ذلك فهذا النفي باطل مردود.
بل يقال له: إننا نثبت ما أثبته الله لنفسه في كتابه، أو على لسان رسوله صلى الله عليه.
ومن ذلك تلك الصفات المذكورة وغيرها.
سابعاً: التسلسل: وهو أحد الألفاظ المجملة التي يطلقها المتكلمون.
ولأجل أن يتضح مفهوم هذه اللفظة، ومدلولها، ووجه الصواب والخطأ في إطلاقها إليك هذا العرض الموجز.
أ_ تعريف التسلسل: قال الجرجاني: "التسلسل هو ترتيب أمور غير متناهية"1.
ب_ سبب تسميته بذلك: سمي بذلك أخذاً من السلسلة؛ فهي قابلة لزيادة الحِلَق إلى ما لا نهاية؛ فالمناسبة بينهما عدم التناهي بين طرفيهما؛ ففي السلسلة
1_ التعريفات ص57.
مبدؤها ومنتهاها، وأما التسلسل فطرفاه الزمن الماضي والمستقبل.
ج_ مراد أهل الكلام من إطلاق هذه اللفظة: مرادهم يختلف باختلاف سياق الكلام، وباختلاف المتكلمين؛ فقد يكون مرادهم نفي قِدَمِ اتصاف الله ببعض صفاته، وقد يكون مرادهم نفي دوام أفعال الله ومفعولاته، وقد يكون مرادهم نفي أبدية الجنة والنار، وقد يكون غير ذلك.
د_ هل وردت هذه اللفظة في الكتاب أو السنة، أو أطلقها أحد من أئمة السلف؟ الجواب: لا.
هـ _ ما طريقة أهل السنة في التعامل مع هذا اللفظ؟
طريقتهم كطريقتهم في سائر الألفاظ المجملة؛ حيث إنهم يتوقفون في لفظ التسلسل فلا يثبتونه، ولا ينفونه؛ لأنه لفظ مبتدع، مجمل يحتمل حقاً وباطلاً، وصواباً وخطأ.
هذا بالنسبة للفظ.
أما بالنسبة للمعنى فإنهم يستفصلون، فإن أريد به حق قبلوه، وإن أريد به باطل ردوه.
و_ وبناءاً على ذلك فإنه يُنْظَرُ في هذا اللفظ، وتطبق عليه هذه القاعدة: فيقال لمن أطلقوا هذا اللفظ:
1_
إذا أردتم بالتسلسل: دوام أفعال الرب _أزلاً 1وأبداً 2_ فذلك معنى
1_ الأزل: هو القدم الذي لا بداية له، أو هو استمرار الوجود في أزمنة مقدرة غير متناهية في جانب الماضي.
2_
والأبد هو المستقبل الذي لا نهاية له، أو هو استمرار الوجود في أزمنة مقدرة غير متناهية في جانب المستقبل. انظر التعريفات للجرجاني ص16.
صحيح دل عليه العقل والشرع؛ فإثباته واجب، ونفيه ممتنع، قال الله _ تعالى _:{فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} [هود: 107] .
والفعال هو من يفعل على الدوام، ولو خلا من الفعل في أحد الزمانين لم يكن فعالاً؛ فوجب دوام الفعل أزلاً وأبداً.
ثم إن المتصف بالفعل أكمل ممن لا يتصف به، ولو خلا الرب منه لخلا من كمال يجب له، وهذا ممتنع.
ولأن الفعل لازم من لوازم الحياة، وكل حي فهو فعال، والله _ تعالى _ حي؛ فهو فعال، وحياته لا تنفك عنه أبداً وأزلاً.
ولأن الفرق بين الحيِّ والميتِ الفعلُ، والله حيٌّ فلا بد أن يكون فاعلاً، وخُلُوُّه من الفعل في أحد الزمانين: الماضي والمستقبل ممتنع، فوجب دوام فعله أزلاً وأبداً.
فخلاصة هذه المسألة: أنه إذا أريد بالتسلسل دوام أفعال الرب فذلك معنى صحيح واجب في حق الله، ونفيه ممتنع.
2_
وإذا أريد بالتسلسل: أنه _ تعالى _ كان معطلاً عن الفعل ثم فعل، أو أنه اتصف بصفة من الصفات بعد أن لم يكن متصفاً بها، أو أنه حصل له الكمال بعد أن لم يكن _ فذلك معنى باطل لا يجوز.
فالله _ عز وجل _ لم يزل متصفاً بصفات الكمال: صفات الذات، وصفات الفعل، ولا يجوز أن يُعتقد أن الله اتصف بصفة بعد أن لم يكن متصفاً بها؛ لأن صفاته _ سبحانه _ صفات كمال، وفَقْدُها صفة نقص؛ فلا يجوز أن يكون قد حصل له الكمال بعد أن كان متصفاً بضده.
قال الإمام الطحاوي رحمه الله: "ما زال بصفاته قديماً قبل خلقه لم يزدد بكونهم شيئاً لم يكن قبلهم من صفته.
وكما كان بصفاته أزلياً كذلك لا يزال عليها أبدياً"1.
مثال ذلك صفة الكلام؛ فالله _عز وجل_ لم يزل متكلماً إذا شاء.
ولم تحدث له صفة الكلام في وقت، ولم يكن معطلاً عنها في وقت، بل هو متصف بها أزلاً وأبداً.
وكذلك صفة الخلق، فلم تحدث له هذه الصفة بعد أن كان معطلاً عنها.
3_
وإذا كان المقصود بالتسلسل: التسلسل في مفعولات الله _ عز وجل _ وأنه ما زال ولا يزال يخلق خلْقاً بعد خلق إلى ما لا نهاية _ فذلك معنى صحيح، وتسلسل ممكن، وهو جائز في الشرع والعقل.
قال الله _ تعالى _: {أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ} [ق:15] .
ثم إنه _ عز وجل _ ما زال يخلق خلقاً، ويرتب الثاني على الأول وهكذا؛ فما زال الإنسان والحيوان منذ خلَقَهُ الله يترتب خلقه على خلق أبيه وأمه.
4_
وإن أريد بالتسلسل: التسلسل بالمؤثِّرين، أي بأن يؤثِّر الشيء بالشيء إلى ما لا نهاية، وأن يكون مؤثرون كلُّ واحد منهم استفاد تأثيره مما قبله لا إلى غاية_ فذلك تسلسل ممتنع شرعاً وعقلاً؛ لاستحالة وقوعه؛ فالله _ عز وجل _ خالق كل شيء، وإليه المنتهى؛ فهو الأول فليس قبله شيء، وهو الآخر فليس بعده شيء،
1_ شرح العقيدة الطحاوية ص124.
وهو الظاهر فليس فوقه شيء، وهو الباطن فليس دونه شيء.
والقول بالتسلسل في المؤثرين يؤدي إلى خُلُوِّ المُحدَث والمخلوق من مُحْدِثٍ وخالقٍ، وينتهي بإنكار الخالق _ جل وعلا _.
خلاصة القول في مسألة التسلسل عموماً:
* أن التسلسل هو ترتيب أمور غير متناهية، وأنه سمي بذلك أخذاً من السلسلة.
* وأن التسلسل من الألفاظ المجملة التي لا بد فيها من الاستفصال _ كما مر _.
* وأنه إن أريد بالتسلسل: دوام أفعال الرب ومفعولاته، وأنه متصف بصفات الكمال أزلاً وأبداً _ فذلك حق صحيح، يدل عليه الشرع والعقل.
* وأنه إن أريد بالتسلسل: أنه _ عز وجل _ كان معطلاً عن أفعاله وصفاته، ثم فعل، واتصف فحصل له الكمال بعد أن لم يكن متصفاً به، أو أريد بالتسلسل: التسلسل بالمؤثرين _ فذلك معنى باطل مردود بالشرع والعقل1.
1_ انظر تفصيل الحديث عن التسلسل في شرح العقيدة الطحاوية، ص130_135، وتوضيح المقاصد وتصحيح القواعد شرح النونية للشيخ أحمد بن عيسى 1/370، والقواعد الكلية للأسماء والصفات عند السلف د. إبراهيم البريكان ص208_214.