الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الروح
لفظ الروح يرد كثيراً في كتب العقائد، وفيما يلي بعض المعالم في هذا اللفظ.
أولاً: حقيقة الروح التي في البدن: اختلف الناس في حقيقة الروح التي في البدن اختلافاً كثيراً، وأحسن ما قيل في ذلك؛ ما ذكره ابن القيم رحمه الله في كتابه الروح؛ حيث ساق ستة أقوال في الروح نقلها عن الرازي، واختار آخرها، وقال: "السادس: إنه جسم مخالف بالماهية لهذا الجسم المحسوس، وهو جسم نوراني، علوي، خفيف، حي، متحرك ينفذ في جوهر الأعضاء، ويسري فيها سريان الماء في الورد، وسريان الدهن في الزيتون، والنار في الفحم.
فما دامت هذه الأعضاء صالحة لقبول الآثار الفائضة عليها من هذا الجسم اللطيف بقي ذلك الجسم اللطيف مشابكاً لهذه الأعضاء، وإفادتها هذه الآثار من الحس والحركة الإرادية.
وإذا فسدت هذه الأعضاء بسبب استيلاء الأخلاط الغليظة عليها، وخرجت عن قبول تلك الآثار _ فارق الروح البدن، وانفصل إلى عالم الأرواح "1.
وبعد أن ساق ابن القيم رحمه الله هذا القول قال: "وهذا القول هو الصواب في المسألة، وهو الذي لا يصح غيره، وكل الأقوال سواه باطلة، وعليه دل الكتاب والسنة، وإجماع الصحابة، وأدلة العقل والفطرة "2.
1_ الروح ص 276.
2_
المرجع السابق وهذا القول هو الذي ارتضاه شارح الطحاوية انظر شرح العقيدة الطحاوية ص393.
ثم أورد رحمه الله بعد ذلك مائة وستة عشر وجهاً على صحة ما ذكر، ثم ناقش أدلة القائلين بغير ذلك.
ثانياً: لم سميت الروح بهذا الاسم؟ لأن بها حياة البدن.
ثالثاً: هل الروح والنفس شيء واحد أو أنهما متغايران؟ الروح التي في البدن هي النفس؛ فهذا المخلوق الذي تكون به الحياة، وتفقد بفقده يسمى روحاً، ونفساً؛ فهما بهذا الاعتبار مترادفان، يُعَبَّر بكل واحد منهما عن الآخر، ويدل عليه، ولا يمنع أن يكون لكل واحد منهما إطلاقات أخرى1.
وبالجملة فإن النفس تطلق على أمور، والروح كذلك؛ فيتحد مدلولهما تارة، ويختلف تارة؛ فالنفس تطلق على الروح، ولكن غالباً ما تسمى به نفساً إذا كانت متصلة بالبدن، أما إذا أُخِذَتْ مجردةً فتسمية الروح أغلب عليها2.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "والروح المدبرة للبدن هي الروح المنفوخة فيه، وهي النفس التي تفارقه بالموت"3.
وقال: "لكن تسمى نفساً باعتبار تدبيره للبدن، وتسمى روحاً باعتبار لطفه"4.
وقال ابن القيم رحمه الله: "أما الروح التي تتوفى وتُقبض فهي روح واحدة، وهي النفس"5.
1_ انظر القيامة الصغرى د. عمر الأشقر ص85 ـ86.
2_
انظر شرح الطحاوية ص394.
3_
رسالة العقل والروح مجموعة الرسائل المنيرية 2/36.
4_
رسالة العقل والروح مجموعة الرسائل المنيرية 2/37.
5_
الروح ص 923.
رابعاً: من إطلاقات الروح: لفظ الروح له عدة معان غير الروح التي تفارق البدن بالموت التي هي النفس، فمن إطلاقات الروح ما يلي:
1_
تطلق الروح على الهواء الخارج من البدن والهواء الداخل فيه.
2_
وتطلق على البخار الخارج من تجويف القلب من سويداه الساري في العروق.
3_
وتطلق الروح على جبرائيل _ عليه السلام _ قال _ تعالى _: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ} [الشعراء: 193] .
4_
وتطلق على ما يؤيد الله به أولياءه من الروح، كما قال _ تعالى _:{أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمْ الإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ} [المجادلة: 22] .
5_
وتطلق على الروح الذي أيد الله به روحه المسيح بن مريم _ عليه السلام _ كما قال _ تعالى _: {إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ} [المائدة: 110] .
6_
وتطلق على الروح التي يلقيها الله على من يشاء من عباده.
7_
وتطلق الروح على القوى التي في البدن؛ فإنها تسمى أرواحاً، فيقال: الروح الباصر، والروح السامع، والروح الشامّ؛ فهذه الأرواح قوى مُوْدَعَةٌ في البدن تموت بموت الأبدان، وهي غير الروح التي لا تموت بموت البدن، ولا تبلى كما يبلى.
8_
ويطلق الروح على ما هو أخص مما مضى كله، وهو قوة المعرفة بالله والإنابة إليه، ومحبته، وانبعاث الهمة إلى طلبه وإرادته.
ونسبة هذه الروح إلى الروح كنسبة الروح إلى البدن؛ فإذا فقدته الروح كانت بمنزلة البدن إذا فقد روحه، وهي الروح التي يؤيد الله بها أهل ولايته.
ولهذا يقول الناس: فلان فيه روح، وفلان ليس فيه روح، وهو قصبةٌ فارغة، ونحو ذلك.
9_
ويطلق الروح على غير ما ذكر مما فيه معنى الحياة المعنوية، فللعلم روح، وللإحسان روح، وللإخلاص روح، وللمحبة والإنابة روح، وللتوكل والصدق روح.
والناس متفاوتون في هذه المعاني أعظم تفاوت؛ فمنهم من تغلب عليه هذه الأرواح، فيصير روحانياً، ومنهم من يفقدها أو أكثرها فيصير بهيمياً، والله المستعان.
خامساً: مسكن الروح: الجسد هو مسكن الروح، وهي تسري في الجسد كله.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "لا اختصاص للروح بشيء من الجسد؛ بل هي سارية في الجسد، كما تسري التي هي عَرَض في جميع الجسد؛ فإن الحياة مشروطة بالروح، فإذا كانت الروح في الجسد كان فيه حياة، وإذا فارقته الروح فارقته الحياة"1.
سادساً: الروح مخلوقة: فالحق الذي لا يجوز العدول عنه أن الروح مخلوقة، وقد دل على ذلك الكتاب والسنة والإجماع.
قال: شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله "روح الآدمي مُبْدَعَةٌ باتفاق سلف الأمة،
1_ رسالة العقل والروح 2/47.
وأئمتها، وسائر أهل السنة.
وقد حكى إجماع العلماء على أنها مخلوقة غَيرُ واحد من أئمة المسلمين، مثل محمد بن نصر المروزي الإمام المشهور، الذي هو أعلم أهل زمانه بالإجماع، والاختلاف، أو من أعلمهم.
وكذلك أبو محمد بن قتيبة، قال لما تكلم في كتاب اللقط لما تكلم على خلق الروح قال: النسم الأرواح، قال: وأجمع الناس أن الله خالق الجثة، وبارئ النسمة، أي الروح"1.
وقال ابن تيمية في موضع آخر: "فقد بان بما ذكرناه أن من قال أن أرواح بني آدم قديمة غير مخلوقة _ فهو من أعظم أهل البدع الحلولية الذي يجر قولهم إلى التعطيل، بجعل العبد هو الرب، وغير ذلك من البدع الكاذبة الضالة"2.
سابعاً: هل تموت الروح؟ الجواب أن الناس قد اختلفوا في ذلك، والصواب كما قال ابن القيم رحمه الله أن يقال "موت النفوس هو مفارقتها لأجسادها، وخروجها منها، فإن أريد بموتها هذا القدر فهي ذائقة الموت.
وإن أريد أنها تَعْدَم، وتضمحل، وتصير عدماً محضاً _ فهي لا تموت بهذا الاعتبار، بل هي باقية بعد خلقها في النعيم أو العذاب "3.
قال ابن تيمية رحمه الله: "وقد ثبت في الكتاب والسنة، واتفاق سلف الأمة أن
1_ مجموع الفتاوى 4/216.
2_
مجموع الفتاوى 4/ 216، وانظر الروح ص226_244.
3_
الروح ص 70 ـ71، وانظر شرح الطحاوية ص395.
الروح تبقى بعد فراق البدن، وأنها منعمة أو معذبة"1.
وقال في موضع آخر: "لكن موتها مفارقة الأبدان"2.
ثامناً: مستقر الأرواح في البرزخ: قال ابن القيم رحمه الله: "الأرواح متفاوتة في مستقرها في البرزخ أعظم تفاوت.
فمنها أرواح في أعلى عليين في الملأ الأعلى، وهي أرواح الأنبياء _ صلوات الله وسلامه عليهم _ وهم متفاوتون في منازلهم كما رآهم النبي " ليلة الإسراء.
ومنها أرواح في حواصل طير خضر تسرح في الجنة حيث شاءت، وهي أرواح بعض الشهداء لا جميعهم، بل من الشهداء من تحبس روحه عن دخول الجنة؛ لدين عليه، أو غيره، كما في المسند عن محمد بن عبد الله بن جحش أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! ما لي إن قتلت في سبيل الله؟
قال: "الجنة"
فلما ولى قال: "إلا الذي سارَّني به جبريل آنفاً".
ومنهم من يكون محبوساً على باب الجنة كما في الحديث الآخر: "رأيت صاحبكم محبوساً على باب الجنة".
ومنهم من يكون محبوساً في قبره كحديث صاحب الشملة التي غلَّها، واستشهد، فقال الناس: هنيئاً له الجنة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"والذي نفسي بيده إن الشملة التي غلها لتشتعل عليه ناراً في قبره".
ومنهم من يكون مقره باب الجنة، كما في حديث ابن عباس: "الشهداء على
1_ مجموع الفتاوى 4/283.
2_
مجموع الفتاوى 4/279.
بارق نهر باب الجنة في قبة خضراء، يخرج عليهم رزقهم من الجنة بكرة وعشية" رواه أحمد.
وهذا بخلاف جعفر بن أبي طالب، حيث أبدله الله بيديه جناحين يطير بهما في الجنة حيث شاء.
ومنهم من يكون محبوساً في الأرض لم تعلُ روحه إلى الملأ الأعلى؛ فإنها كانت روحاً سفلية أرضية؛ فإن الأنفس الأرضية لا تُجَامع الأنفس السماوية كما لا تجامعها في الدنيا، والنفس التي لم تكتسب في الدنيا معرفة ربها، ومحبته، وذكره، والأنس به، والتقرب إليه، بل هي أرضية سفلية _ لا تكون بعد المفارقة لبدنها إلا هناك.
كما أن النفس العلوية التي كانت في الدنيا عاكفة على محبة الله وذكره، والتقرب إليه، والأنس به تكون بعد المفارقة مع الأرواح العلوية المناسبة لها؛ فالمرء مع من أحب في البرزخ ويوم القيامة.
والله _ تعالى _ يزوج النفوس بعضها ببعض في البرزخ ويوم المعاد، كما تقدم في الحديث، ويجعل روحه _ يعني المؤمن _ مع النسيم الطيب _ أي الأرواح الطيبة المشاكِلة _ فالروح بعد المفارقة تلحق بأشكالها، وإخوانها وأصحاب عملها، فتكون معهم هناك.
ومنها أرواح تكون في تنور الزناة والزواني، وأرواح في نهر الدم تسبح فيه، وتُلقم الحجارة؛ فليس للأرواح سعيدها، وشقيها مستقر واحد.
بل روح في أعلى عليين، وروح أرضية سفلية لا تصعد عن الأرض"1.
1_ الروح ص 187_188، وانظر شرح العقيدة الطحاوية ص401_404.