الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أَمَرَ إنْسَانًا أَنْ يُحْضِرَ خَصْمَهُ، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ وَعَلَيْهِ أَكْثَرُ الْقَضَاءِ.
وَذَكَرَ الْخَصَّافُ أَنَّ الْقَاضِيَ يَدْفَعُ خَاتَمَهُ لِإِحْضَارِ الْخَصْمِ إذَا كَانَ فِي الْمِصْرِ.
وَيَبْعَثُ مَنْ يُحْضِرُهُ إنْ كَانَ خَارِجَ الْمِصْرِ، وَالْقُضَاةُ عَلَى عَكْسِ هَذَا فَإِنَّهُمْ يَبْعَثُونَ الرَّاجِلَ فِي الْمِصْرِ وَيَدْفَعُونَ الْعَلَامَةَ خَارِجَ الْمِصْرِ، وَبَعْضُ الْقُضَاةِ يَخْتَارُونَ فِي الْعَلَامَةِ دَفْعَ الْخَاتَمِ وَبَعْضُهُمْ دَفْعَ الطِّينَةِ وَبَعْضُهُمْ دَفْعَ قِطْعَةِ قِرْطَاسٍ؛ وَهَذَا لِأَنَّ الْخَصْمَ رُبَّمَا يَكُونُ بَعِيدًا عَنْ الْمِصْرِ، وَالْمُدَّعِي يَلْحَقُهُ مُؤْنَةُ الرَّاجِلِ وَيُرِيدُ أَنْ يَتَحَمَّلَ تِلْكَ الْمُؤْنَةَ بِنَفْسِهِ فَلَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ، فَقُلْنَا بِأَنَّ الْقَاضِيَ يَبْذُلُ لَهُ عَلَامَةً لِيَذْهَبَ بِهِ فَيُرِيَهُ خَصْمَهُ وَيَشْهَدُ عَلَى ذَلِكَ، فَإِنْ أَجَابَ الْخَصْمُ وَحَضَرَ مَجْلِسَ الْحُكْمِ وَإِلَّا بَعَثَ الْقَاضِي إلَيْهِ مَنْ يُحْضِرُهُ.
وَمُؤْنَةُ الشَّخْصِ تَقَدَّمَتْ إذَا تَقَرَّرَ ذَلِكَ، فَمِنْهَا أَنَّ مَنْ دُعِيَ مِنْ مَسَافَةِ مَا ذَكَرْنَا فَمَا دُونِهَا وَجَبَتْ عَلَيْهِ الْإِجَابَةُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتِمُّ عَلَيْهِ مَصَالِحُ الْأَحْكَامِ وَإِنْصَافُ الْمَظْلُومِينَ مِنْ الظَّالِمِينَ إلَّا بِذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ أَبْعَدَ لَا يُجِبْ.
وَمِنْهَا: أَنْ يَدْعُوَهُ الْخَصْمُ إلَى حَقٍّ مُخْتَلَفٍ فِي ثُبُوتِهِ وَخَصْمُهُ يَعْتَقِدُ ثُبُوتَهُ فَتَجِبُ الْإِجَابَةُ؛ لِأَنَّهَا دَعْوَى حَقٍّ، وَإِنْ اعْتَقَدَ عَدَمَ ثُبُوتِهِ لَمْ تَجِبْ؛ لِأَنَّهُ مُبْطِلٌ، وَإِنْ دَعَاهُ الْحَاكِمُ وَجَبَتْ الْإِجَابَةُ لَهُ؛ لِأَنَّ الْمَحِلَّ قَابِلٌ لِلْحُكْمِ وَالتَّصَرُّفِ وَالِاجْتِهَادِ وَمِنْهَا: النَّفَقَاتُ فَيَجِبُ الْحُضُورُ فِيهَا عِنْدَ الْحَاكِمِ لِتَقْدِيرِهَا إنْ كَانَتْ لِلْأَقَارِبِ، وَإِنْ كَانَتْ لِلزَّوْجَةِ أَوْ لِلرَّقِيقِ فَهُوَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ إبَانَةِ الزَّوْجَةِ وَعِتْقِ الرَّقِيقِ وَبَيْنَ الْإِجَابَةِ.
[فَصْلٌ امْتِنَاعُ الْخَصْمُ مِنْ الْحُضُورِ]
(فَصْلٌ) :
فَإِذَا امْتَنَعَ الْخَصْمُ مِنْ الْحُضُورِ عَزَّرَهُ؛ لِأَنَّهُ أَسَاءَ الْأَدَبَ فِيمَا صَنَعَ فَاسْتَوْجَبَ التَّعْزِيرَ فَيُعَزِّرُهُ الْقَاضِي إمَّا بِالضَّرْبِ أَوْ بِالصَّفْعِ أَوْ بِالْحَبْسِ عَلَى قَدْرِ مَا يَرَى، أَوْ يَعْبِسُ فِي وَجْهِهِ فَيُعَزِّرُهُ الْقَاضِي عَلَى مَا يَرَاهُ تَعْزِيرًا وَتَأْدِيبًا، وَكَذَلِكَ إذَا سَكَتَ وَلَمْ يَقُلْ: إنِّي أَحْضُرُ أَوْ لَا أَحْضُرُ. إلَّا أَنَّهُ لَمْ يَحْضُرْ فِي الْوَقْتِ الَّذِي وُقِّتَ لَهُ؛ لِأَنَّ السُّكُوتَ فِي مَوْضِعِ الْجَوَابِ يَكُونُ امْتِنَاعًا عَمَّا دُعِيَ إلَيْهِ.
[فَصْلٌ فِي بَيَانِ مَا لَا تَجِبُ فِيهِ الْإِجَابَةُ]
(فَصْلٌ) :
وَفِيمَا هُوَ مُخَيَّرٌ فِيهِ بَيْنَ الْإِجَابَةِ وَعَدَمِهَا فَمِنْهَا: إذَا دَعَاهُ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ عَلَيْهِ حَقٌّ لَمْ تَجِبْ الْإِجَابَةُ، أَوْ لَهُ عَلَيْهِ حَقٌّ وَلَكِنْ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى الْحَاكِمِ فَلَا تَجِبُ الْإِجَابَةُ، فَإِنْ كَانَ قَادِرًا عَلَى أَدَائِهِ لَزِمَهُ أَدَاؤُهُ وَلَا يَذْهَبُ إلَيْهِ.
وَمِنْهَا: مَتَى عَلِمَ الْخَصْمُ إعْسَارَ خَصْمِهِ حَرُمَ عَلَيْهِ طَلَبُهُ وَدَعْوَاهُ إلَى الْحَاكِمِ.
وَمِنْهَا: إذَا دَعَاهُ خَصْمُهُ وَعَلِمَ أَنَّهُ يَحْكُمُ عَلَيْهِ بِجَوْرٍ لَمْ تَجِبْ الْإِجَابَةُ، وَتَحْرُمُ الْإِجَابَةُ إذَا كَانَ الْحُكْمُ فِي الدِّمَاءِ وَالْفُرُوجِ وَالْحُدُودِ وَسَائِرِ الْعُقُوبَاتِ الشَّرْعِيَّةِ.
وَمِنْهَا: إذَا كَانَ الْحَقُّ مَوْقُوفًا عَلَى الْحَاكِمِ كَتَأْجِيلِ الْعِنِّينِ فَإِنَّ الزَّوْجَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ الطَّلَاقِ فَلَا تَجِبُ الْإِجَابَةُ، وَبَيْنَ الْإِجَابَةِ فَلَيْسَ لَهُ الِامْتِنَاعُ مِنْهَا.
وَمِنْهَا: الْقِسْمَةُ الْمُتَوَقِّفَةُ عَلَى الْحَاكِمِ فَيَتَخَيَّرُ الْمَطْلُوبُ بَيْنَ تَمْلِيكِ حِصَّتِهِ لِغَرِيمِهِ وَبَيْنَ الْإِجَابَةِ، وَلَيْسَ لَهُ الِامْتِنَاعُ مِنْهَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا فِي نَفَقَةِ الزَّوْجَةِ وَالرَّقِيقِ.
(تَنْبِيهٌ) :
مَتَى طُولِبَ بِحَقٍّ يَجِبُ عَلَيْهِ أَدَاؤُهُ عَلَى الْفَوْرِ كَرَدِّ الْمَغْصُوبِ فَلَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَقُولَ لِخَصْمِهِ: لَا أَدْفَعُهُ لَكَ إلَّا بِالْحُكْمِ؛ لِأَنَّ الْمَطْلَ ظُلْمٌ؛ وَالْوُقُوفَ عَلَى الْحُكَّامِ صَعَّبَ مِنْ الْقَوَاعِدِ.
[الْبَابُ التَّاسِعُ الْقَضَاءِ بِبَيِّنَةِ الْخَارِجِ عَلَى ذِي الْيَدِ إذَا أَقَامَ الْبَيِّنَةَ]
فِي الْقَضَاءِ بِبَيِّنَةِ الْخَارِجِ عَلَى ذِي الْيَدِ إذَا أَقَامَ الْبَيِّنَةَ، وَفِي تَارِيخِ الدَّعْوَى وَالشَّهَادَةِ. اعْلَمْ أَنَّ الرَّجُلَيْنِ إذَا تَدَاعَيَا عَيْنًا وَبَرْهَنَا فَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَدَّعِيَا مِلْكًا مُطْلَقًا أَوْ إرْثًا أَوْ شِرَاءً.
وَكُلُّ قِسْمٍ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ؛ لِأَنَّهُ إمَّا أَنْ يَكُونَ الْمُدَّعِي فِي يَدِ ثَالِثٍ، أَوْ فِي يَدِهِمَا، أَوْ فِي يَدِ أَحَدِهِمَا.
وَكُلُّ وَجْهٍ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ؛ لِأَنَّهُ إمَّا أَنْ يُؤَرِّخَا، أَوْ أَرَّخَا تَارِيخًا وَاحِدًا، أَوْ أَرَّخَا وَتَارِيخُ أَحَدِهِمَا أَسْبَقُ، أَوْ أَرَّخَ أَحَدُهُمَا لَا الْآخَرُ.
وَجُمْلَةُ ذَلِكَ سِتَّةٌ وَثَلَاثُونَ فَصْلًا.
أَمَّا لَوْ ادَّعَيَا مِلْكًا مُطْلَقًا وَالْعَيْنُ فِي يَدِ ثَالِثٍ وَلَمْ يُؤَرِّخَا أَوْ أَرَّخَا تَارِيخًا وَاحِدًا وَبَرْهَنَا يُقْضَى بَيْنَهُمَا؛ لِاسْتِوَائِهِمَا فِي الْحُجَّةِ، وَإِنْ أَرَّخَا وَتَارِيخُ أَحَدِهِمَا أَسْبَقُ يُقْضَى لِلْأَسْبَقِ؛ لِأَنَّهُ أَثْبَتَ الْمِلْكَ لِنَفْسِهِ فِي زَمَانٍ لَا يُنَازِعُهُ فِيهِ غَيْرُهُ فَيُقْضَى بِالْمِلْكِ لَهُ ثُمَّ لَا يُقْضَى بَعْدَهُ لِغَيْرِهِ إلَّا إذَا تَلَقَّى الْمِلْكَ مِنْهُ، وَمَنْ يُنَازِعُهُ لَمْ يَتَلَقَّ الْمِلْكَ مِنْهُ فَلَا يُقْضَى لَهُ.
وَلَوْ أَرَّخَ أَحَدُهُمَا لَا الْآخَرُ فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله لَا عِبْرَةَ لِلتَّارِيخِ وَيُقْضَى بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ، لِأَنَّ تَوْقِيتَ أَحَدِهِمَا لَا يَدُلُّ عَلَى تَقَدُّمِ مِلْكِهِ؛ لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْآخَرُ أَقْدَمَ مِنْهُ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مُتَأَخِّرًا عَنْهُ فَجُعِلَ مُقَارَنًا؛ رِعَايَةً لِلِاحْتِمَالَيْنِ.
وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لِلْمُؤَرِّخِ؛ لِأَنَّهُ أَثْبَتَ لِنَفْسِهِ الْمِلْكَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ يَقِينًا، وَمَنْ لَمْ يُؤَرِّخْ يُثْبِتُ لِلْحَالِ يَقِينًا، وَفِي ثُبُوتِهِ فِي وَقْتِ تَارِيخِ صَاحِبِهِ شَكٌّ فَلَا يُعَارِضُهُ.
وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ: يُقْضَى لِمَنْ أَطْلَقَ؛ لِأَنَّ دَعْوَى الْمِلْكِ الْمُطْلَقِ دَعْوَى الْمِلْكِ مِنْ الْأَصْلِ، وَدَعْوَى الْمُؤَرِّخِ يَقْتَصِرُ عَلَى وَقْتِ التَّارِيخِ، وَلِهَذَا تَرْجِعُ الْبَاعَةُ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَتُسْتَحَقُّ الزَّوَائِدُ الْمُتَّصِلَةُ وَالْمُنْفَصِلَةُ فَكَانَ الْمُطْلَقُ أَسْبَقَ تَارِيخًا فَكَانَ أَوْلَى، هَذَا إذَا كَانَ الْمُدَّعَى فِي يَدِ ثَالِثٍ.
فَإِنْ كَانَ فِي يَدِهِمَا فَكَذَلِكَ الْجَوَابُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَرَجَّحْ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ بِالْيَدِ وَلَمْ تَنْحَطَّ حَالُهُ عَنْ حَالِ الْآخَرِ بِالْيَدِ، وَإِنْ كَانَ فِي يَدِ أَحَدِهِمَا فَإِنْ أَرَّخَا سَوَاءٌ أَوْ لَمْ يُؤَرِّخَا فَهُوَ لِلْخَارِجِ؛ لِأَنَّ بَيِّنَتَهُ أَكْثَرُ إثْبَاتًا، وَإِنْ أَرَّخَا وَأَحَدُهُمَا أَسْبَقُ فَهَؤُلَاءِ سَبَقَهُمَا لِمَا مَرَّ.
وَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ رَجَعَ عَنْ هَذَا الْقَوْلِ وَقَالَ: لَا تُقْبَلُ بَيِّنَةُ ذِي الْيَدِ عَلَى الْوَقْتِ وَلَا عَلَى غَيْرِهِ؛ لِأَنَّ الْبَيِّنَتَيْنِ قَامَتَا عَلَى مُطْلَقِ الْمِلْكِ وَلَمْ يَتَعَرَّضَا لِجِهَةِ الْمِلْكِ فَاسْتَوَى التَّقَدُّمُ وَالتَّأَخُّرُ فَيُقْضَى لِلْخَارِجِ.
وَلَهُمَا أَنَّ الْبَيِّنَةَ مَعَ التَّارِيخِ يَتَضَمَّنُ مَعْنَى الدَّفْعِ، فَإِنَّ الْمِلْكَ إذَا ثَبَتَ لِشَخْصٍ فِي وَقْتٍ فَثُبُوتُهُ لِغَيْرِهِ بَعْدَهُ لَا يَكُونُ إلَّا بِالتَّلَقِّي مِنْهُ، فَصَارَتْ بَيِّنَةُ ذِي الْيَدِ بِذِكْرِ التَّارِيخِ مُتَضَمِّنَةً دَفْعَ بَيِّنَةِ الْخَارِجِ عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ لَا يَصِحُّ إلَّا بَعْدَ إثْبَاتِ التَّلَقِّي مِنْ قِبَلِهِ وَبَيِّنَتُهُ عَلَى الدَّفْعِ مَقْبُولَةٌ، هَذَا إذَا كَانَتْ الدَّارُ فِي أَيْدِيهِمَا، فَصَاحِبُ الْوَقْتِ الْأَوَّلِ أَوْلَى عِنْدَهُمَا. وَعِنْدَهُ يَكُونُ بَيْنَهُمَا.
وَإِذَا أَرَّخَ أَحَدُهُمَا لَا الْآخَرُ فَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يُقْضَى لِلْمُؤَرِّخِ؛ لِأَنَّ بَيِّنَتَهُ أَقْدَمُ مِنْ الْمُطْلِقِ، كَمَا لَوْ ادَّعَيَا شِرَاءَهُ مِنْ وَاحِدٍ وَأَرَّخَ أَحَدُهُمَا لَا الْآخَرُ كَانَ الْمُؤَرِّخُ أَوْلَى.
وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ: يُقْضَى لِلْخَارِجِ وَلَا عِبْرَةَ لِلْوَقْتِ؛ لِأَنَّ بَيِّنَةَ ذِي الْيَدِ إنَّمَا تُقْبَلُ إذَا كَانَتْ مُتَضَمِّنَةً مَعْنَى الدَّفْعِ، وَهُنَا وَقَعَ الِاحْتِمَالُ فِي مَعْنَى الدَّفْعِ؛ لِوُقُوعِ الشَّكِّ فِي وُجُوبِ التَّلَقِّي مِنْ جِهَتِهِ لِجَوَازِ أَنَّ شُهُودَ الْخَارِجِ لَوْ وَقَّتُوا لَكَانَ أَقْدَمَ، فَإِذَا وَقَعَ الشَّكُّ فِي تَضَمُّنِهِ مَعْنَى الدَّفْعِ فَلَا يُقْبَلُ مَعَ الشَّكِّ وَالِاحْتِمَالِ، وَإِذَا ادَّعَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْإِرْثَ مِنْ أَبِيهِ فَلَوْ كَانَتْ الْعَيْنُ فِي يَدِ ثَالِثٍ وَلَمْ يُؤَرِّخَا أَوْ أَرَّخَا سَوَاءٌ، فَهُوَ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ؛ لِاسْتِوَائِهِمَا فِي الْحُجَّةِ، وَإِنْ أَرَّخَا وَأَحَدُهُمَا أَسْبَقُ فَهُوَ لِأَسْبَقِهِمَا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ.
وَكَانَ أَبُو يُوسُفَ يَقُولُ أَوَّلًا: يُقْضَى بِهِ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ فِي الْإِرْثِ وَالْمِلْكِ الْمُطْلَقِ، ثُمَّ رَجَعَ إلَى مَا قُلْنَا.
وَقَالَ مُحَمَّدٌ فِي رِوَايَةِ أَبِي حَفْصٍ كَمَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَقَالَ فِي رِوَايَةِ أَبِي سُلَيْمَانَ: لَا عِبْرَةَ لِلتَّارِيخِ فِي الْإِرْثِ فَيُقْضَى بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ وَإِنْ سَبَقَ تَارِيخُ أَحَدِهِمَا؛ لِأَنَّهُمَا لَا يَدَّعِيَانِ الْمِلْكَ لِأَنْفُسِهِمَا ابْتِدَاءً بَلْ لِمُوَرِّثِهِمَا ثُمَّ يَجُرَّانِهِ إلَى أَنْفُسِهِمَا، وَلَا تَارِيخَ لِمِلْكِ الْمُوَرَّثَيْنِ فَصَارَ كَمَا لَوْ حَضَرَ الْمُوَرَّثَانِ وَبَرْهَنَا عَلَى الْمِلْكِ الْمُطْلَقِ حَتَّى لَوْ كَانَ لِمِلْكِ الْمُوَرَّثَيْنِ تَارِيخٌ يُقْضَى لِأَسْبَقِهِمَا.
وَإِنْ أَرَّخَ أَحَدُهُمَا لَا الْآخَرُ قُضِيَ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ إجْمَاعًا؛ لِأَنَّهُمَا ادَّعَيَا تَلَقِّيَ الْمِلْكِ مِنْ رَجُلَيْنِ فَلَا عِبْرَةَ لِلتَّارِيخِ.
وَقِيلَ: يُقْضَى لِلْمُؤَرِّخِ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ، وَلَوْ كَانَتْ الْعَيْنُ فِي أَيْدِيهِمَا فَكَذَلِكَ الْجَوَابُ، وَإِنْ كَانَتْ الْعَيْنُ فِي يَدِ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُؤَرِّخَا أَوْ أَرَّخَا سَوَاءٌ، يُقْضَى لِلْخَارِجِ، وَإِنْ أَرَّخَا وَأَحَدُهُمَا أَسْبَقُ فَهُوَ لِأَسْبَقِهِمَا.
وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لِلْخَارِجِ؛ لِأَنَّهُ لَا عِبْرَةَ لِلتَّارِيخِ هُنَا وَإِنْ أَرَّخَ أَحَدُهُمَا لَا الْآخَرُ فَهُوَ لِلْخَارِجِ إجْمَاعًا، وَقِيلَ: عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لِلْمُؤَرِّخِ.
وَإِنْ ادَّعَيَا الشِّرَاءَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُؤَرِّخَا أَوْ أَرَّخَا سَوَاءٌ، فَهُوَ بَيْنَهُمَا
نِصْفَانِ؛ لِاسْتِوَائِهِمَا فِي الْحُجَّةِ.
وَإِنْ أَرَّخَا وَأَحَدُهُمَا أَسْبَقُ يُقْضَى لِأَسْبَقِهِمَا اتِّفَاقًا، بِخِلَافِ مَا لَوْ ادَّعَيَا الشِّرَاءَ مِنْ رَجُلَيْنِ؛ لِأَنَّهُمَا لَا يُثْبِتَانِ الْمِلْكَ لِبَائِعِهِمَا وَلَا تَارِيخَ لِمِلْكِ الْبَائِعَيْنِ فَتَارِيخُهُ لِمِلْكِهِ لَا يُعْتَدُّ بِهِ، وَصَارَ كَأَنَّهُمَا حَضَرَا وَبَرْهَنَا عَلَى الْمِلْكِ بِلَا تَارِيخٍ فَيَكُونُ بَيْنَهُمَا.
أَمَّا هُنَا فَقَدْ اتَّفَقَا عَلَى أَنَّ الْمِلْكَ كَانَ لِهَذَا الرَّجُلِ وَإِنْ اخْتَلَفَا فِي التَّلَقِّي مِنْهُ، وَهَذَا الرَّجُلُ أَثْبَتَ التَّلَقِّيَ لِنَفْسِهِ فِي وَقْتٍ لَا يُنَازِعُهُ فِيهِ صَاحِبُهُ فَيُقْضَى لَهُ بِهِ ثُمَّ لَا يُقْضَى بِهِ لِغَيْرِهِ بَعْدَهُ إلَّا إذَا تَلَقَّى مِنْهُ وَهُوَ لَا يَتَلَقَّى مِنْهُ. وَإِنْ أَرَّخَ أَحَدُهُمَا لَا الْآخَرُ فَهُوَ لِلْمُؤَرِّخِ اتِّفَاقًا؛ لِأَنَّهُ أَثْبَتَ شِرَاءَهُ لِنَفْسِهِ فِي زَمَانٍ لَا يُنَازِعُهُ فِيهِ غَيْرُهُ فَيُقْضَى بِهِ لَهُ حَتَّى يَتَبَيَّنَ تَقَدُّمَ شِرَاءِ غَيْرِهِ عَلَيْهِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ ادَّعَيَا الشِّرَاءَ مِنْ رَجُلَيْنِ وَوَقَّتَ أَحَدُهُمَا لَا الْآخَرُ فَإِنَّهُ يُقْضَى بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ثَمَّ خَصْمٌ عَنْ بَائِعِهِ فِي إثْبَاتِ الْمِلْكِ لَهُ، وَتَوْقِيتُ أَحَدِهِمَا لَا يَدُلُّ عَلَى سَبْقِ مِلْكِ بَائِعِهِ، وَلَعَلَّ مِلْكَ الْبَائِعِ الْآخَرِ أَسْبَقُ؛ فَلِهَذَا قَضَيْنَا بَيْنَهُمَا، وَهُنَا اتَّفَقَا عَلَى أَنَّ الْمِلْكَ لِبَائِعٍ وَاحِدٍ، فَحَاجَةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إلَى إثْبَاتِ سَبَبِ الِانْتِقَالِ إلَيْهِ لَا إلَى إثْبَاتِ الْمِلْكِ لِلْبَائِعِ، وَسَبَبُ الْمِلْكِ فِي حَقِّ مَنْ وَقَّتَ شُهُودُهُ أَسْبَقَ فَكَانَ هُوَ مِنْ الْمُدَّعِي أَحَقَّ، وَإِنْ كَانَ الْحَقُّ فِي أَيْدِيهِمَا فَهُوَ بَيْنَهُمَا، إلَّا إذَا أَرَّخَا وَأَحَدُهُمَا أَسْبَقُ فَحِينَئِذٍ يُقْضَى لِأَسْبَقِهِمَا.
وَإِنْ كَانَ فِي يَدِ أَحَدِهِمَا فَهُوَ لِذِي الْيَدِ، سَوَاءٌ أَرَّخَ أَوْ لَمْ يُؤَرِّخْ، إلَّا إذَا أَرَّخَا وَتَارِيخُ الْخَارِجِ أَسْبَقُ فَيُقْضَى بِهِ لِلْخَارِجِ اُنْظُرْ الْكَافِيَ.
وَفِي الذَّخِيرَةِ: يُقْضَى فِي الْمِلْكِ الْمُطْلَقِ بِبَيِّنَةِ الْخَارِجِ لَا بَيِّنَةِ ذِي الْيَدِ عِنْدَنَا لَوْ لَمْ يَذْكُرَا تَارِيخًا أَوْ اسْتَوَيَا فِيهِ.
لَوْ كَانَ تَارِيخُ أَحَدِهِمَا أَسْبَقَ فَهُوَ أَوْلَى؛ إذْ لِلتَّارِيخِ عِبْرَةٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ فِي الْمِلْكِ الْمُطْلَقِ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ آخِرًا وَقَوْلُ مُحَمَّدٍ أَوَّلًا.
وَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ أَوَّلًا وَقَوْلِ مُحَمَّدٍ آخِرًا، لَا عِبْرَةَ لِلتَّارِيخِ فِي الْمِلْكِ الْمُطْلَقِ فَيُقْضَى لِلْخَارِجِ.
(مَسْأَلَةٌ) :
لَوْ أَقَامَتْ الْمَرْأَةُ بَيِّنَةً عَلَى دَارٍ فِي يَدِ الزَّوْجِ أَنَّهَا لَهَا وَقَالَتْ: قَدْ غَصَبْتَهَا مِنِّي. وَأَقَامَ الزَّوْجُ بَيِّنَةَ: إنَّهَا دَارِي اشْتَرَيْتُهَا مِنْكِ. قِيلَ: يُقْضَى بِهَا لِلْمَرْأَةِ؛ لِأَنَّ الدَّارَ وَالْمَرْأَةَ فِي يَدِ الزَّوْجِ فَكَانَتْ هِيَ خَارِجَةٌ.
وَقِيلَ: يُقْضَى بِهَا لِلزَّوْجِ؛ لِأَنَّهُ لَا تَنَافِي بَيْنَ الْبَيِّنَتَيْنِ فَيُقْبَلَانِ لِثَبْتِ الْغَصْبِ أَوَّلًا ثُمَّ الشِّرَاءِ آخِرًا مِنْ الْفَتَاوَى.
(مَسْأَلَةٌ) :
لَوْ كَانَتْ شَاتَانِ إحْدَاهُمَا سَوْدَاءُ وَالْأُخْرَى بَيْضَاءُ وَهُمَا فِي يَدِ رَجُلٍ فَأَقَامَ خَارِجٌ بَيِّنَةَ أَنَّ الْبَيْضَاءَ شَاتُهُ وَلَدَتْهَا السَّوْدَاءُ فِي مِلْكِهِ، وَأَقَامَ صَاحِبُ الْيَدِ الْبَيِّنَةَ أَنَّ السَّوْدَاءَ شَاتُهُ وَلَدَتْهَا الْبَيْضَاءُ فِي مِلْكِهِ، قُضِيَ لِكُلِّ وَاحِدٍ بِالشَّاةِ الَّتِي شَهِدَ شُهُودُهُ أَنَّهَا وُلِدَتْ فِي مِلْكِهِ إذَا كَانَ سِنُّ الشَّاتَيْنِ مُشْكِلًا. مِنْ الْإِيضَاحِ.
(مَسْأَلَةٌ) :
التَّارِيخُ فِي النِّتَاجِ لَغْوٌ عَلَى كُلِّ حَالٍ أَرَّخَا وَهُمَا سَوَاءٌ وَأَحَدُهُمَا أَسْبَقُ أَوْ أَرَّخَ أَحَدُهُمَا فَقَطْ؛ إذْ الْغَرَضُ مِنْ إثْبَاتِ النِّتَاجِ زِيَادَةُ الِاسْتِحْقَاقِ عَلَى خَصْمِهِ بِتَرَجُّحِ بَيِّنَتِهِ، وَإِثْبَاتُ زِيَادَةِ الِاسْتِحْقَاقِ لَا يُتَصَوَّرُ فِي النِّتَاجِ؛ لِأَنَّهُ دَعْوَى أَوْلَوِيَّةِ الْمِلْكِ اُنْظُرْ جَامِعَ الْفُصُولَيْنِ.
(فَصْلٌ) :
وَلَوْ ادَّعَى رَجُلَانِ دَارًا فِي يَدِ ثَالِثٍ فَادَّعَى أَحَدُهُمَا كُلَّ الدَّارِ وَادَّعَى الْآخَرُ نِصْفَهَا وَأَقَامَا جَمِيعًا الْبَيِّنَةَ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يُقْضَى بِطَرِيقِ الْمُنَازَعَةِ لِصَاحِبِ الْجَمِيعِ بِثَلَاثِ أَرْبَاعِهَا، وَلِصَاحِبِ النِّصْفِ بِالرُّبْعِ.
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: يُقْسَمُ أَثْلَاثًا بِطَرِيقِ الْمُضَارَبَةِ، وَلَوْ كَانَتْ الدَّارُ فِي أَيْدِيهِمَا وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا يُقْضَى لِصَاحِبِ الْجَمِيعِ بِالنِّصْفِ الَّذِي فِي يَدِ صَاحِبِهِ وَتَرْكِ النِّصْفِ الَّذِي فِي يَدِهِ بِحَالِهِ. اُنْظُرْ الْإِيضَاحَ.
(مَسْأَلَةٌ) :
لَوْ شَهِدَ بِمِلْكِيَّةِ الدَّارِ لِلْمُدَّعِي وَلَمْ يَشْهَدَا أَنَّهَا بِيَدِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ تُقْبَلُ عِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ.
وَلَوْ شَهِدَا بِالدَّارِ لِلْمُدَّعِي لَا بِيَدِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَشَهِدَ آخَرَانِ بِيَدِ الْمُدَّعِي يُقْبَلُ كِلَاهُمَا؛ إذْ الْحَاجَةُ إلَى الشَّهَادَةِ يَدُهُ لِيَصِيرَ خَصْمًا فِي إثْبَاتِ الْمِلْكِ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَثْبُتَ كِلَا الْحُكْمَيْنِ بِشَهَادَةِ فَرِيقٍ أَوْ فَرِيقَيْنِ.
ثُمَّ إذَا شَهِدَا بِيَدِهِ سَأَلَهُمَا الْقَاضِي عَنْ سَمَاعٍ هَلْ شَهِدَ بِيَدِهِ أَوْ عَنْ مُعَايَنَةٍ؛ لِأَنَّهُمَا رُبَّمَا سَمِعَا إقْرَارَهُ أَنَّهُ بِيَدِهِ فَظَنَّا أَنَّهُ يُطْلِقُ لَهُمَا الشَّهَادَةَ