الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[الْقِسْمُ الثَّالِثُ مِنْ الْكِتَابِ فِي الْقَضَاءِ بِالسِّيَاسَةِ الشَّرْعِيَّةِ] [
الْفَصْلُ الْأَوَّلُ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ ذَلِكَ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ]
فِي الْقَضَاءِ بِالسِّيَاسَةِ الشَّرْعِيَّةِ
اعْلَمْ أَنَّ السِّيَاسَةَ شَرْعٌ مُغَلَّظٌ.
وَالسِّيَاسَةُ نَوْعَانِ: سِيَاسَةٌ ظَالِمَةٌ فَالشَّرْعِيَّةُ تُحَرِّمُهَا.
وَسِيَاسَةٌ عَادِلَةٌ تُخْرِجُ الْحَقَّ مِنْ الظَّالِمِ وَتَدْفَعُ كَثِيرًا مِنْ الْمَظَالِمِ وَتَرْدَعُ أَهْلَ الْفَسَادِ، وَيُتَوَصَّلُ بِهَا إلَى الْمَقَاصِدِ الشَّرْعِيَّةِ لِلْعِبَادِ.
فَالشَّرْعِيَّةُ يَجِبُ الْمَصِيرُ إلَيْهَا وَالِاعْتِمَادُ فِي إظْهَارِ الْحَقِّ عَلَيْهَا، وَهِيَ بَابٌ وَاسِعٌ تَضِلُّ فِيهِ الْأَفْهَامُ وَتَزِلُّ فِيهِ الْأَقْدَامُ، وَإِهْمَالُهُ يُضَيِّعُ الْحُقُوقَ وَيُعَطِّلُ الْحُدُودَ وَيُجْزِئُ أَهْلَ الْفَسَادِ وَيُعِينُ أَهْلَ الْعِنَادِ، وَالتَّوَسُّعُ فِيهِ يَفْتَحُ أَبْوَابَ الْمَظَالِمِ الشَّنِيعَةِ وَيُوجِبُ سَفْكَ الدِّمَاءِ وَأَخْذَ الْأَمْوَالِ الْغَيْرِ الشَّرْعِيَّةِ، وَلِهَذَا سَلَكَ فِيهِ طَائِفَةٌ مَسْلَكَ التَّفْرِيطِ الْمَذْمُومِ فَقَطَعُوا النَّظَرَ عَنْ هَذَا الْبَابِ إلَّا فِيمَا قَلَّ ظَنًّا مِنْهُمْ أَنَّ تَعَاطِيَ ذَلِكَ مُنَافٍ لِلْقَوَاعِدِ الشَّرْعِيَّةِ، فَسَدُّوا مِنْ طُرُقِ الْحَقِّ سُبُلًا وَاضِحَةً، وَعَدَلُوا إلَى طَرِيقٍ مِنْ الْعِنَادِ فَاضِحَةٍ؛ لِأَنَّ فِي إنْكَارِ السِّيَاسَةِ الشَّرْعِيَّةِ رَدًّا لِلنُّصُوصِ الشَّرْعِيَّةِ وَتَغْلِيطًا لِلْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ.
وَطَائِفَةٌ سَلَكَتْ فِي هَذَا الْبَابِ مَسْلَكَ الْإِفْرَاطِ فَتَعَدَّوْا حُدُودَ اللَّهِ وَخَرَجُوا عَنْ قَانُونِ الشَّرْعِ إلَى أَنْوَاعٍ مِنْ الظُّلْمِ وَالْبِدَعِ السِّيَاسِيَّةِ، وَتَوَهَّمُوا أَنَّ السِّيَاسَةَ الشَّرْعِيَّةَ قَاصِرَةٌ عَنْ سِيَاسَةِ الْحَقِّ وَمَصْلَحَةِ الْأُمَّةِ، وَهُوَ جَهْلٌ وَغَلَطٌ فَاحِشٌ، فَقَدْ قَالَ عَزَّ مِنْ قَائِلٍ «الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ» فَدَخَلَ فِي هَذَا جَمِيعُ مَصَالِحِ الْعِبَادِ الدِّينِيَّةِ وَالدُّنْيَوِيَّةِ عَلَى وَجْهِ الْكَمَالِ.
وَقَالَ صلى الله عليه وسلم «تَرَكْتُ فِيكُمْ مَا إنْ تَمَسَّكْتُمْ بِهِ لَنْ تَضِلُّوا: كِتَابَ اللَّهِ، وَسُنَّتِي» وَطَائِفَةٌ تَوَسَّطَتْ وَسَلَكَتْ فِيهِ مَسْلَكَ الْحَقِّ وَجَمَعُوا بَيْنَ السِّيَاسَةِ وَالشَّرْعِ فَقَمَعُوا الْبَاطِلَ وَدَحَضُوهُ وَنَصَبُوا الشَّرْعَ وَنَصَرُوهُ، وَاَللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ.
وَهَذَا الْقِسْمُ يَشْتَمِلُ عَلَى فُصُولٍ: الْفَصْلُ الْأَوَّلُ: فِي الدَّلَالَةِ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ ذَلِكَ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ اعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ - وَتَعَالَى - شَرَعَ الْأَحْكَامَ، فَمِنْهَا مَا أَدْرَكْنَاهُ، وَمِنْهَا مَا خَفِيَ عَلَيْنَا رَعْيًا لِمَصَالِح الْعِبَادِ وَدَرْءًا لِمَفَاسِدِهِمْ تَفَضُّلًا لَا وُجُوبًا.
وَهِيَ تَنْقَسِمُ إلَى خَمْسَةِ أَقْسَامٍ.
[الْقِسْمُ الْأَوَّلُ] : شَرْعٌ لِكَسْرِ النَّفْسِ بِالْعِبَادَاتِ.
[الْقِسْمُ الثَّانِي] : شَرْعٌ لِبَقَاءِ جِبِلَّةِ الْإِنْسَانِ كَالْإِذْنِ فِي الْمُبَاحَاتِ الْمُحَصَّلَةِ لِلرَّاحَةِ مِنْ الطَّعَامِ وَاللِّبَاسِ وَالْمَسْكَنِ وَالْوَطْءِ وَشِبْهِ ذَلِكَ.
[الْقِسْمُ الثَّالِثُ] : شَرْعٌ لِدَفْعِ الضَّرُورَاتِ كَالْبِيَاعَاتِ وَالْإِجَارَاتِ وَالْقِرَاضِ وَالْمُسَاقَاةِ، وَلِافْتِقَارِ الْإِنْسَانِ إلَى مَا لَيْسَ عِنْدَهُ مِنْ الْأَعْيَانِ وَاحْتِيَاجِهِ إلَى اسْتِخْدَامِ غَيْرِهِ فِي تَحْصِيلِ مَصَالِحِهِ.
الْقِسْمُ الرَّابِعُ: شُرِعَ تَنْبِيهًا عَلَى مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ كَالْحَضِّ عَلَى الْمُوَاسَاةِ وَعِتْقِ الرِّقَابِ وَالْهِبَاتِ وَالْأَحْبَاسِ وَالصَّدَقَاتِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ.
الْقِسْمُ الْخَامِسُ: وَهُوَ الْمَقْصُودُ شَرْعٌ لِلسِّيَاسَةِ وَالزَّجْرِ، وَهُوَ سِتَّةٌ أَصْنَافٍ.
الصِّنْفُ الْأَوَّلُ: شَرْعٌ لِصِيَانَةِ الْوُجُودِ كَالْقِصَاصِ فِي النُّفُوسِ وَالْأَطْرَافِ، فَمِنْ ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى -:{وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 179] مَعْنَاهُ: أَنَّ الْقِصَاصَ الَّذِي كَتَبْتُهُ عَلَيْكُمْ إذَا أُقِيمَ ازْدَجَرَ النَّاسُ عَنْ الْقَتْلِ.
قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ فِي أَحْكَامِ الْقُرْآنِ: فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ تَنْبِيهٌ عَلَى الْحِكْمَةِ فِي شَرْعِ الْقِصَاصِ، وَبِأَنَّهُ
الْغَرَضُ مِنْهُ.
وَقَالَ قَتَادَةُ: جَعَلَ اللَّهُ - تَعَالَى - هَذَا الْقِصَاصَ حَيَاةً وَنَكَالًا وَعِظَةً لِأَهْلِ الْجَهْلِ، فَكَمْ مِنْ رَجُلٍ هَمَّ بِدَاهِيَةٍ لَوْلَا مَخَافَةُ الْقِصَاصِ لَوَقَعَ بِهَا وَلَكِنَّ الْقِصَاصَ حَجَزَ بَعْضَهُمْ عَنْ بَعْضٍ، وَخَصَّ أُولِي الْأَلْبَابِ وَإِنْ كَانَ الْخِطَابُ عَامًّا؛ لِأَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْعُقُولِ الَّذِينَ يَنْظُرُونَ فِي الْعَوَاقِبِ.
ثُمَّ قَالَ (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) يَعْنِي الدِّمَاءَ.
وَأَمَّا الْقِصَاصُ فِي الْأَطْرَافِ فَقَوْلُهُ تَعَالَى -: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة: 45] الْآيَةَ لِيَزْدَجِرَ النَّاسُ عَنْ الْإِقْدَامِ عَلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، وَمِنْ ذَلِكَ قِتَالُ الْخَوَارِجِ وَالْمُحَارِبِينَ وَالْكُفَّارِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى -:{إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ} [المائدة: 33] الْآيَةَ.
وَفِي قِتَالِ الْكُفَّارِ زِيَادَةُ مَعْنًى، وَهِيَ إعْلَاءُ كَلِمَةِ الْحَقِّ وَمَحْوُ الشِّرْكِ.
الصِّنْفُ الثَّانِي مِنْ الْأَحْكَامِ: شَرْعٌ لِحِفْظِ الْأَنْسَابِ كَحَدِّ الزِّنَا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى -:{الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور: 2] وَانْظُرْ هُنَا كَلَامَ صَاحِبِ الْوِقَايَةِ حَيْثُ قَالَ: وَلَا يُجْمَعُ بَيْنَ جَلْدٍ وَرَجْمٍ وَلَا نَفْيٍ وَجَلْدٍ إلَّا أَنْ يَكُونَ سِيَاسَةً.
الصِّنْفُ الثَّالِثُ مِنْ الْأَحْكَامِ: شَرْعٌ لِصِيَانَةِ الْأَعْرَاضِ؛ لِأَنَّ صِيَانَتَهَا مِنْ أَكْبَرِ الْأَغْرَاضِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى -:{وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} [النور: 4] وَأَلْحَقَ الشَّرْعُ بِذَلِكَ التَّعْزِيرَ عَلَى السَّبِّ وَالْأَذَى بِالْقَوْلِ عَلَى حَسَبِ اجْتِهَادِ الْإِمَامِ فِي ذَلِكَ.
الصِّنْفُ الرَّابِعُ مِنْ الْأَحْكَامِ: شَرْعٌ لِصِيَانَةِ الْأَمْوَالِ كَحَدِّ السَّرِقَةِ وَحَدِّ الْجِنَايَةِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى -:{وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [المائدة: 38] .
الصِّنْفُ الْخَامِسُ مِنْ الْأَحْكَامِ: شَرْعٌ لِحِفْظِ الْعَقْلِ كَحَدِّ الْخَمْرِ، وَقَدْ نَهَى اللَّهُ - تَعَالَى - عَنْهُ فِي قَوْله تَعَالَى -:{إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ} [المائدة: 90] ثُمَّ قَالَ {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} [المائدة: 91] وَوَرَدَتْ السُّنَّةُ بِحَدِّ الشَّارِبِ.
الصِّنْفُ السَّادِسُ مِنْ الْأَحْكَامِ: شَرْعٌ لِلرَّدْعِ وَالتَّعْزِيرِ نَحْوُ قَوْله تَعَالَى -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} [المائدة: 95] إلَى قَوْله تَعَالَى -: {لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ} [المائدة: 95] أَيْ: لِيَذُوقَ جَزَاءَ فِعْلِهِ، وقَوْله تَعَالَى -:{الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ} [المجادلة: 2] إلَى قَوْلِهِ {وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا} [المجادلة: 2] ثُمَّ شُرِعَ كَفَّارَةُ ذَلِكَ فِي قَوْله تَعَالَى -: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ} [المجادلة: 3] إلَى قَوْلِهِ {وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ} [المجادلة: 4] وَقَوْلُهُ تَعَالَى -: {وَاللاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ} [النساء: 34] الْآيَةَ، وَقِصَّةُ الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا وَغَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا وَرَدَ بِهِ الْقُرْآنُ الْعَظِيمُ.
وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ مِنْ السُّنَّةِ مَا وَقَعَ فِي الْمُوَطَّإِ وَغَيْرِهِ مِنْ كُتُبِ الْحَدِيثِ قَالَ: حَدَّثَنَا مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ أَبِي مَالِكٍ الْغِفَارِيِّ «أَنَّ رَجُلَيْنِ مِنْ غِفَارٍ أَقْبَلَا يُرِيدَانِ الْإِسْلَامَ، حَتَّى إذَا كَانَا قَرِيبًا مِنْ الْمَدِينَةِ أَمْسَيَا فَبَاتَا، وَأَتَى أُنَاسٌ بِظَهْرٍ لَهُمْ إلَى الْمَدِينَةِ فَبَاتُوا قَرِيبًا مِنْهُمَا، فَلَمَّا كَانَ مِنْ السَّحَرِ قَامُوا لِيَذْهَبُوا فَفَقَدُوا قَرْنَيْنِ مِنْ الْإِبِلِ فَاتَّهَمُوا الْغِفَارِيِّينَ، فَأَخَذُوهُمَا فَأَتَوْا بِهِمَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَحَبَسَ الْوَاحِدَ وَأَرْسَلَ الْآخَرَ يَطْلُبُ فَوَجَدُوهُمَا قَرِيبًا مِنْ الْمَكَانِ الَّذِي بَاتُوا فِيهِ فَأَتَوْا بِهِمَا، فَقَالَ الْغِفَارِيَّانِ: وَاَللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ إنْ كُنَّا لَبُرَآءَ، فَقَالَ لَهُمَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: اسْتَغْفِرَا لِي، فَقَالَ أَحَدُهُمَا: غَفَرَ اللَّهُ لَكَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: وَلَكَ يَغْفِرُ اللَّهُ وَقَبِلَكَ فِي سَبِيلِهِ، وَقَالَ لِلْآخَرِ اسْتَغْفِرْ لِي، فَقَالَ: وَاَللَّهِ إنْ كُنَّا لَبُرَآءَ، فَقَالَ لَهُ النَّاسُ: اسْتَغْفِرْ لِرَسُولِ اللَّهِ وَيْحَكَ، فَقَالَ: غَفَرَ اللَّهُ لَكَ، فَسَكَتَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم» .
وَمِنْ ذَلِكَ مَا وَرَدَ مِنْ أَخْذِ الرَّجُلِ
بِجَرِيرَةِ غَيْرِهِ.
ذَكَرَهُ ابْنُ الْعَرَبِيِّ فِي أَحْكَامِ الْقُرْآنِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ فِي قَوْله تَعَالَى -: {فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 192] وَمِنْ ذَلِكَ «أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم لَمَّا أَجْلَى يَهُودَ بَنِي النَّضِيرِ مِنْ الْمَدِينَةِ عَلَى أَنَّ لَهُمْ مَا حَمَلَتْ الْإِبِلُ مِنْ أَمْوَالِهِمْ غَيْرَ الْحَلَقَةِ وَالسِّلَاحِ كَانَ لِأَبِي الْحَقِيقِ مَالٌ عَظِيمٌ بَلَغَ مَسْكَ ثَوْرٍ: أَيْ مِلْءَ جِلْدِ ثَوْرٍ مِنْ ذَهَبٍ وَحُلِيٍّ وَآنِيَةٍ مَصُوغَةٍ، فَلَمَّا فَتَحَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خَيْبَرَ حَاصَرَ الْحِصْنَ الَّذِي فِيهِ ابْنُ أَبِي الْحَقِيقِ، فَنَزَلَ فَصَالَحَ عَلَى حَقْنِ دِمَاءِ مَنْ فِي الْحِصْنِ مِنْ الْمُقَاتِلَةِ وَالذُّرِّيَّةِ عَلَى أَنْ يَخْرُجُوا بِذَرَارِيِّهِمْ وَيُخَلُّوا بَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَبَيْنَ مَا كَانَ لَهُمْ مِنْ مَالٍ وَأَرْضٍ، وَعَلَى تَرْكِ الْبَيْضَاءِ وَالصَّفْرَاءِ وَالْكُرَاعِ إلَّا ثَوْبًا عَلَى ظَهْرِ إنْسَانٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: وَبَرِئَتْ ذِمَّةُ اللَّهِ وَذِمَّةُ رَسُولِهِ مِنْكُمْ إنْ كَتَمْتُمُونِي شَيْئًا، فَصَالَحُوهُ عَلَى ذَلِكَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِكِنَانَةَ بْنِ الرَّبِيعِ عَمِّ حُيَيِّ بْنِ أَخْطَبَ: مَا فَعَلَ مَسْكُ حُيَيٍّ الَّذِي فَعَلَ بِهِ مِنْ بَنِي النَّضِيرِ؟ فَقَالَ: أَذْهَبَتْهُ النَّفَقَاتُ وَالْحُرُوبُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: الْعَهْدُ قَرِيبٌ وَالْمَالُ أَكْثَرُ، أَرَأَيْتَ إنْ وَجَدْنَاهُ عِنْدَكَ أَقْتُلُكَ؟ قَالَ: نَعَمْ، فَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ الْيَهُودِ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ لَهُ: إنِّي رَأَيْتُ كِنَانَةَ يَطُوفُ بِهَذِهِ الْخَرِبَةِ كُلَّ غَدَاةٍ، فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالْخَرِبَةِ فَحُفِرَتْ فَأَخْرَجَ مِنْهَا بَعْضَ كَنْزِهِمْ، ثُمَّ سَأَلَهُ عَمَّا بَقِيَ فَأَبَى أَنْ يُؤَدِّيَهُ، فَأَمَرَ بِهِ الزُّبَيْرَ بْنَ الْعَوَّامِ فَقَالَ: عَذِّبْهُ حَتَّى تَسْتَأْصِلَ مَا عِنْدَهُ، فَكَانَ الزُّبَيْرُ يَقْدَحُ بِزَنْدٍ فِي صَدْرِهِ حَتَّى أَشْرَفَ عَلَى نَفْسِهِ، ثُمَّ دَفَعَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إلَى مُحَمَّدِ بْنِ مَسْلَمَةَ فَضَرَبَ عُنُقَهُ بِأَخِيهِ مُحَمَّدِ بْنِ مَسْلَمَةَ» .
وَإِنَّمَا فَعَلَ ذَلِكَ بِكِنَانَةَ؛ لِأَنَّ الْكَنْزَ كَانَ عِنْدَهُ وَصَاحِبُ الْكَنْزِ مَعَ بَنِي قُرَيْظَةَ وَقُتِلَ مَعَهُمْ فِي غَزْوَةِ الْأَحْزَابِ.
وَهَذِهِ الْقِصَّةُ ذَكَرَهَا ابْنُ هِشَامٍ وَغَيْرُهُ مِنْ أَصْحَابِ السِّيَرِ.
فَهَذَا مِنْ السِّيَاسَةِ؛ لِأَنَّهُ ضَرَبَهَا لِتُقِرَّ بِمَا عِنْدَهَا.
وَمِنْ ذَلِكَ مَا رُوِيَ فِي جَامِعِ الْخَلَّالِ أَنَّهُ حَبَسَ فِي تُهْمَةِ دَمٍ يَوْمًا وَلَيْلَةً.
وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّهُ حَبَسَ فِي تُهْمَةٍ سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ، وَأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم حَبَسَ رَجُلًا اتَّهَمَهُ الْمَسْرُوقُ
مِنْهُ بِسَرِقَةٍ وَكَانَ صَاحِبُهُ فِي السَّفَرِ.
رَوَاهُ بَعْضُهُمْ. وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم " «لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ آمُرَ بِالصَّلَاةِ فَتُقَامَ، ثُمَّ آمُرَ رَجُلًا فَيُصَلِّيَ بِالنَّاسِ ثُمَّ أَنْطَلِقَ مَعِي بِرِجَالٍ مَعَهُمْ حُزَمٌ مِنْ حَطَبٍ إلَى قَوْمٍ لَا يَشْهَدُونَ الصَّلَاةَ فَأُحَرِّقَ عَلَيْهِمْ بُيُوتَهُمْ بِالنَّارِ» رَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَةَ فِي الصَّحِيحِ.
وَعَنْهُ أَيْضًا قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ «لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ آمُرَ فِتْيَانًا فَيَجْمَعُونَ حُزَمًا مِنْ حَطَبٍ ثُمَّ آتِيَ قَوْمًا يُصَلُّونَ فِي بُيُوتِهِمْ لَيْسَ لَهُمْ عُذْرٌ فَأُحَرِّقَهُمْ عَلَيْهِمْ» وَاخْتُلِفَ هَلْ هَذَا فِي الْمُؤْمِنِينَ أَوْ الْمُنَافِقِينَ؟ وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ فِي الْمُؤْمِنِينَ لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام " فِي بُيُوتِهِمْ " وَالْمُنَافِقُونَ لَا يُصَلُّونَ فِي بُيُوتِهِمْ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى -:{وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} [البقرة: 14] وَفَائِدَةُ قَوْلِهِ " لَقَدْ هَمَمْتُ " تَقْدِيمُ الْوَعِيدِ وَالتَّهْدِيدِ عَلَى الْعُقُوبَةِ؛ لِأَنَّ الْفَسَدَةَ إذَا ارْتَفَعَتْ وَانْدَفَعَتْ بِالْأَخَفِّ مِنْ الزَّوَاجِرِ لَمْ يَعْدِلْ إلَى الْأَعْلَى.
وَمِنْ ذَلِكَ مَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ فِي مُسْنَدِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: «قَالَ رَجُلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ لِي جَارًا يُؤْذِينِي، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: انْطَلِقْ فَأَخْرِجْ مَتَاعَكَ إلَى الطَّرِيقِ، فَانْطَلَقَ فَأَخْرَجَ مَتَاعَهُ، فَاجْتَمَعَ النَّاسُ إلَيْهِ فَقَالُوا: مَا شَأْنُكَ؟ فَقَالَ: لِي جَارٌ يُؤْذِينِي، فَجَعَلُوا يَقُولُونَ: اللَّهُمَّ الْعَنْهُ اللَّهُمَّ أَخْرِجْهُ، فَبَلَغَهُ ذَلِكَ فَأَتَاهُ فَقَالَ: ارْجِعْ إلَى مَنْزِلَكَ فَوَاَللَّهِ لَا أُوذِيكَ» وَمِنْ ذَلِكَ مَا وَرَدَ عَنْ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم قِتَالُ أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنه مَنْ مَنَعَ الزَّكَاةَ وَاجْتِهَادُهُ فِي الْحُكْمِ بِقِتَالِهِمْ.
وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رضي الله عنه أَمَرَ بِتَحْرِيقِ قَصْرِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ رضي الله عنه لَمَّا بَلَغَهُ أَنَّهُ احْتَجَبَ عَنْ الْخُرُوجِ لِلْحُكْمِ بَيْنَ النَّاسِ، وَصَارَ يَحْكُمُ فِي دَارِهِ، وَأَمَرَ أَيْضًا بِتَحْرِيقِ حَانُوتِ رُوَيْشِدٍ الثَّقَفِيِّ الَّذِي كَانَ يَبِيعُ الْخَمْرَ فِيهِ وَقَالَ لَهُ: أَنْتَ فُوَيْسِقٌ وَلَسْتَ بِرُوَيْشِدٍ.
وَمِنْ ذَلِكَ مَا فَعَلَهُ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ رضي الله عنه لَمَّا خَافَ عَلَى الْأُمَّةِ أَنْ يَخْتَلِفُوا فِي الْقُرْآنِ وَيَفْتَرِقَ النَّاسُ فِيهِ أَمَرَ بِتَحْرِيقِ الْمَصَاحِفِ وَجَمَعَ الْأُمَّةَ عَلَى مُصْحَفٍ وَاحِدٍ لِمَا رَأَى لَهُمْ مِنْ الْمَصْلَحَةِ فِي ذَلِكَ، وَوَافَقَهُ عَلَيْهِ الصَّحَابَةُ وَرَأَوْا ذَلِكَ مَصْلَحَةً لِلْأُمَّةِ.
وَمِنْ ذَلِكَ مَا فَعَلَهُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه لَمَّا بَعَثَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم هُوَ وَالزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَّامِ فِي أَثَرِ الْمَرْأَةِ الَّتِي كَتَبَ مَعَهَا حَاطِبُ بْنُ أَبِي بَلْتَعَةَ كِتَابًا وَجَعَلَ لَهَا عَلَيْهِ جَعْلًا عَلَى أَنْ تُوَصِّلَهُ إلَى قُرَيْشٍ يُخْبِرُهُمْ فِي الْكِتَابِ بِمَا عَزَمَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ الْمَسِيرِ إلَيْهِمْ فِي غَزْوَةِ الْفَتْحِ فَجَاءَ الْخَبَرُ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَخَرَجَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَالزُّبَيْرُ فِي أَثَرِ الْمَرْأَةِ حَتَّى أَدْرَكَاهَا فَاسْتَنْزَلَاهَا وَالْتَمَسَا فِي رَحْلِهَا الْكِتَابَ فَلَمْ يَجِدَا شَيْئًا، فَقَالَ لَهَا عَلِيٌّ رضي الله عنه: أَحْلِفُ بِاَللَّهِ مَا كَذَبَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَلَا كَذَبْنَا، وَلَتُخْرِجِنَّ هَذَا الْكِتَابَ أَوْ لَنَكْشِفَنَّكَ، فَلَمَّا رَأَتْ الْجَدَّ مِنْهُ اسْتَخْرَجَتْ الْكِتَابَ مِنْ قُرُونِ رَأْسِهَا وَكَانَتْ قَدْ جَعَلَتْهُ فِي شَعْرِهَا وَفَتَلَتْ عَلَيْهِ قُرُونَهَا فَدَفَعَتْهُ إلَيْهِ، فَأَتَى بِهِ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَاعْتَذَرَ حَاطِبٌ بِإِنَّمَا فَعَلَ ذَلِكَ مُصَانَعَةً لَهُمْ لِمَا لَهُ عِنْدَهُمْ مِنْ وَلَدٍ وَأَهْلٍ وَمَالٍ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى -:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ} [الممتحنة: 1] الْآيَةَ، فَالطَّرِيقُ الَّذِي اُسْتُخْرِجَ بِهَا الْكِتَابُ مِنْ السِّيَاسَةِ الشَّرْعِيَّةِ وَهِيَ التَّهْدِيدُ وَالْإِرْعَابُ، وَمِنْ ذَلِكَ مَا وَقَعَ لِعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه فِي بَعْضِ الْحُكُومَاتِ، وَذَلِكَ أَنَّ رَجُلَيْنِ مِنْ قُرَيْشٍ دَفَعَا إلَى امْرَأَةٍ مِنْ قُرَيْشٍ مِائَةَ دِينَارٍ وَدِيعَةً وَقَالَا لَهَا: لَا تَدْفَعِيهَا إلَى وَاحِدٍ مِنَّا دُونَ صَاحِبِهِ، فَلَبِثَا حَوْلًا وَجَاءَ أَحَدُهُمَا فَقَالَ: إنَّ صَاحِبِي قَدْ مَاتَ فَادْفَعِي إلَيَّ الدَّنَانِيرَ، فَأَبَتْ وَقَالَتْ: إنَّكُمَا قُلْتُمَا لِي: لَا تَدْفَعِيهَا إلَى وَاحِدٍ مِنَّا دُونَ صَاحِبِهِ، فَتَشَفَّعَ إلَيْهَا بِأَهْلِهَا وَجِيرَانِهَا وَتَلَطَّفَ بِهَا حَتَّى دَفَعَتْهَا إلَيْهِ، ثُمَّ جَاءَ الْآخَرُ بَعْدَ ذَلِكَ فَقَالَ: ادْفَعِي إلَيَّ الدَّنَانِيرَ فَقَالَتْ: إنَّ صَاحِبَكَ جَاءَ وَادَّعَى أَنَّكَ قَدْ مِتَّ وَدَفَعْتُهَا إلَيْهِ، فَتَرَافَعَا إلَى