المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌كتاب السير كَانَ الْجِهَادُ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله - مغني المحتاج إلى معرفة معاني ألفاظ المنهاج - جـ ٦

[الخطيب الشربيني]

فهرس الكتاب

- ‌كتاب السير

- ‌[مَوَانِعِ الْجِهَادِ]

- ‌[فَصْل فِيمَا يُكْرَهُ مِنْ الْغَزْوِ وَمَنْ يَحْرُمُ]

- ‌[فَصْل فِي حُكْمِ مَا يُؤْخَذ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ]

- ‌[فَصَلِّ فِي حُكْمِ أَمْوَالِ الْحَرْبِيِّينَ]

- ‌[فَصْل فِي الْأَمَانِ]

- ‌[كِتَاب عَقْد الْجِزْيَةِ لِلْكُفَّارِ]

- ‌[فَصْل أَقَلُّ الْجِزْيَةِ دِينَارٌ لِكُلِّ سَنَةٍ]

- ‌[فَصْل فِي أَحْكَامِ عَقْدِ الْجِزْيَةِ الزَّائِدَةِ]

- ‌باب الهدنة

- ‌[فَصَلِّ فِي أَحْكَامِ الْهُدْنَةِ]

- ‌كِتَابُ الصَّيْدِ

- ‌[فَصْلٌ فِي شَرْطِ الرُّكْنِ الثَّانِي وَهُوَ الذَّابِحُ]

- ‌[فَصْلٌ فِي الرُّكْنِ الثَّالِثِ وَهُوَ الذَّبِيحُ]

- ‌[فَصْلٌ ذَبْحُ حَيَوَانٍ مَقْدُورٍ عَلَيْهِ وَجَرْحُ حَيَوَانٍ غَيْرِهِ]

- ‌[فَصْلٌ فِيمَا يَمْلِكُ بِهِ الصَّيْدَ]

- ‌[كِتَابُ الْأُضْحِيَّةِ]

- ‌[فَصْلٌ فِي الْعَقِيقَةِ]

- ‌[كِتَابُ الْأَطْعِمَةِ]

- ‌كِتَابُ الْمُسَابَقَةِ

- ‌كتاب الإيمان

- ‌[فَصَلِّ صِفَةُ كَفَّارَةِ الْيَمِينِ]

- ‌[فَصْلٌ فِي الْحَلِفِ عَلَى السُّكْنَى لَا يُقِيمُ فِيهَا وَهُوَ فِيهَا]

- ‌[فَصَلِّ فِي الْحَلِفِ عَلَى أَكْلٍ أَوْ شُرْبٍ]

- ‌[فَصَلِّ فِي مَسَائِلَ مَنْثُورَةٍ]

- ‌[كِتَابُ النَّذْرِ]

- ‌[فَصَلِّ فِيمَنْ نَذْرِ حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ أَوْ هَدْيٍ أَوْ غَيْرِهَا]

- ‌كتاب القضاء

- ‌[فَصَلِّ فِيمَا يَعْرِضُ لِلْقَاضِي مِمَّا يَقْتَضِي عَزْلَهُ أَوْ انْعِزَالَهُ]

- ‌[فَصَلِّ آدَابِ الْقَضَاءِ]

- ‌[فَصَلِّ التَّسْوِيَةِ بَيْنَ الْخَصْمَيْنِ]

- ‌بَابُ الْقَضَاءِ عَلَى الْغَائِبِ

- ‌[فَصَلِّ الدَّعْوَى بِعَيْنٍ غَائِبَةٍ أَوْ غَيْرِهَا وَسَمَاعِ الْبَيِّنَةِ وَالْحُكْمِ بِهَا]

- ‌[فَصَلِّ ضَابِطِ الْغَائِبِ الْمَحْكُومِ عَلَيْهِ]

- ‌باب القسمة

- ‌كِتَابُ الشَّهَادَاتِ

- ‌[فَصْلٌ فِيمَا يُعْتَبَرُ فِيهِ شَهَادَةُ الرِّجَالِ]

- ‌[فَصْلٌ فِي تَحَمُّلِ الشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ وَأَدَائِهَا]

- ‌[فَصْلٌ فِي رُجُوعِ الشُّهُودِ عَنْ شَهَادَتِهِمْ]

- ‌كتاب الدعوى

- ‌[فَصْلٌ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِجَوَابِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ]

- ‌[فَصْلٌ فِي كَيْفِيَّةِ الْحَلِفِ وَالتَّغْلِيظِ فِيهِ]

- ‌[فَصْلٌ فِي تَعَارُضِ الْبَيِّنَتَيْنِ مِنْ شَخْصَيْنِ]

- ‌[فَصْلٌ فِي اخْتِلَافِ الْمُتَدَاعِيَيْنِ]

- ‌[فَصْلٌ فِي شُرُوطِ الْقَائِفِ وَبَيَانِ إلْحَاقِهِ النَّسَبَ بِغَيْرِهِ]

- ‌كتاب العتق

- ‌[فَصْلٌ فِي الْعِتْقِ بِالْبَعْضِيَّةِ]

- ‌[فَصْلٌ فِي الْإِعْتَاقِ فِي مَرَضِ الْمَوْتِ]

- ‌فصل في الولاء

- ‌كتاب التدبير

- ‌[فَصَلِّ فِي حُكْمِ حَمْلِ الْمُدَبَّرَةِ وَالْمُعَلَّقِ عِتْقُهَا]

- ‌كِتَابُ الْكِتَابَةِ

- ‌[فَصَلِّ فِي لُزُومِ الْكِتَابَةِ وَجَوَازِهَا وَمَا يَعْرِضُ لَهَا]

- ‌[فَصَلِّ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ الْكِتَابَةِ الْبَاطِلَةِ وَالْفَاسِدَةِ]

- ‌كتاب أمهات الأولاد

- ‌[خَاتِمَة]

الفصل: ‌ ‌كتاب السير كَانَ الْجِهَادُ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله

‌كتاب السير

كَانَ الْجِهَادُ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَرْضَ كِفَايَةٍ،

ــ

[مغني المحتاج]

[كِتَابُ السِّيَرِ]

ِ بِكَسْرِ السِّينِ وَفَتْحِ الْمُثَنَّاةِ التَّحْتِيَّةِ، جَمْعُ سِيرَةٍ بِسُكُونِهَا، وَهِيَ السُّنَّةُ وَالطَّرِيقَةُ، وَغَرَضُهُ مِنْ التَّرْجَمَةِ ذِكْرُ الْجِهَادِ وَأَحْكَامِهِ، وَعَدَلَ عَنْ التَّرْجَمَةِ بِهِ أَوْ بِقِتَالِ الْمُشْرِكِينَ كَمَا تَرْجَمَ بِهِ بَعْضُهُمْ إلَى السِّيَرِ؛ لِأَنَّ الْجِهَادَ مُتَلَقٍّ مِنْ سَيْرِهِ صلى الله عليه وسلم فِي غَزَوَاتِهِ. وَالْأَصْلُ فِيهِ قَبْلَ الْإِجْمَاعِ آيَاتٌ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:{كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ} [البقرة: 216]{وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً} [التوبة: 36]{وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [النساء: 89] ، وَأَخْبَارٌ كَخَبَرِ الصَّحِيحَيْنِ «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ» وَخَبَرِ مُسْلِمٍ «لَغَدْوَةٌ أَوْ رَوْحَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ خَيْرٌ مِنْ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا» ، وَقَدْ جَرَتْ عَادَةُ الْأَصْحَابِ تَبَعًا لِلْإِمَامِ الشَّافِعِيِّ رضي الله عنه أَنْ يَذْكُرُوا مُقَدِّمَةً فِي صَدْرِ هَذَا الْكِتَابِ، فَلْنَذْكُرْ نُبْذَةً مِنْهَا عَلَى سَبِيلِ التَّبَرُّكِ فَنَقُولُ: بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ الِاثْنَيْنِ فِي رَمَضَانَ، وَهُوَ ابْنُ أَرْبَعِينَ سَنَةً، وَقِيلَ ثَلَاثٍ وَأَرْبَعِينَ، وَآمَنَتْ بِهِ خَدِيجَةُ رضي الله عنها ثُمَّ بَعْدَهَا قِيلَ عَلِيٌّ رضي الله عنه وَهُوَ ابْنُ تِسْعٍ، وَقِيلَ ابْنُ عَشْرٍ، وَقِيلَ أَبُو بَكْرٍ، وَقِيلَ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ -، ثُمَّ أُمِرَ بِتَبْلِيغِ قَوْمِهِ بَعْدَ ثَلَاثِ سِنِينَ مِنْ مَبْعَثِهِ. وَأَوَّلُ مَا فَرَضَ اللَّهُ عَلَيْهِ بَعْدَ الْإِنْذَارِ وَالدُّعَاءِ إلَى التَّوْحِيدِ مِنْ قِيَامِ اللَّيْلِ مَا ذُكِرَ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْمُزَمِّلِ، ثُمَّ نُسِخَ بِمَا فِي آخِرِهَا، ثُمَّ نُسِخَ بِالصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ إلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ بِمَكَّةَ بَعْدَ النُّبُوَّةِ بِعَشْرِ سِنِينَ وَثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ لَيْلَةَ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ مِنْ رَجَبٍ، وَقِيلَ بَعْدَ النُّبُوَّةِ بِخَمْسٍ أَوْ سِتٍّ، وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ، ثُمَّ أُمِرَ بِاسْتِقْبَالِ الْكَعْبَةِ، ثُمَّ فُرِضَ الصَّوْمُ بَعْدَ الْهِجْرَةِ بِسَنَتَيْنِ تَقْرِيبًا، وَفُرِضَتْ الزَّكَاةُ بَعْدَ الصَّوْمِ، وَقِيلَ قَبْلَهُ.

وَفِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ قِيلَ فِي نِصْفِ شَعْبَانَ، وَقِيلَ فِي رَجَبٍ مِنْ الْهِجْرَةِ حُوِّلَتْ الْقِبْلَةُ، وَفِيهَا فُرِضَتْ صَدَقَةُ الْفِطْرِ، وَفِيهَا ابْتَدَأَ صلى الله عليه وسلم صَلَاةَ عِيدِ الْفِطْرِ، ثُمَّ عِيدِ الْأَضْحَى. ثُمَّ فُرِضَ الْحَجُّ سَنَةَ سِتٍّ، وَقِيلَ سَنَةَ خَمْسٍ، وَلَمْ يَحُجَّ صلى الله عليه وسلم بَعْدَ الْهِجْرَةِ إلَّا حَجَّةَ الْوَدَاعِ سَنَةَ عَشْرٍ، وَاعْتَمَرَ أَرْبَعًا، وَ (كَانَ الْجِهَادُ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) بَعْدَ الْهِجْرَةِ (فَرْضَ كِفَايَةٍ) أَمَّا كَوْنُهُ فَرْضًا فَبِالْإِجْمَاعِ.

وَأَمَّا كَوْنُهُ عَلَى الْكِفَايَةِ:

ص: 3

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

[مغني المحتاج]

فَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ} [النساء: 95] إلَى قَوْله تَعَالَى: {وَكُلا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} [النساء: 95] فَفَاضَلَ سبحانه وتعالى بَيْنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْقَاعِدِينَ، وَوَعَدَ

ص: 4

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

[مغني المحتاج]

كُلًّا الْحُسْنَى، وَالْعَاصِي لَا يُوعَدُ بِهَا، وَلَا يُفَاضَلُ بَيْنَ مَأْجُورٍ وَمَأْزُورٍ، وَأَمَّا قَبْلَ الْهِجْرَةِ فَكَانَ مَمْنُوعًا أَوَّلَ الْإِسْلَامِ مِنْ قِتَالِ الْكُفَّارِ مَأْمُورًا بِالصَّبْرِ عَلَى الْأَذَى، وَكَذَلِكَ مَنْ تَبِعَهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:

ص: 5

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

[مغني المحتاج]

{لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ} [آل عمران: 186] الْآيَةَ، ثُمَّ هَاجَرَ إلَى الْمَدِينَةِ بَعْدَ ثَلَاثَ عَشْرَةَ سَنَةٍ مِنْ مَبْعَثِهِ، وَقِيلَ بَعْدَ عَشْرَةٍ فِي يَوْمِ الِاثْنَيْنِ الثَّانِي عَشَرَ مِنْ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، فَأَقَامَ بِهَا عَشْرًا

ص: 6

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

[مغني المحتاج]

بِالْإِجْمَاعِ، ثُمَّ أُمِرَ بِهِ إذَا اُبْتُدِئَ بِهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:{وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ} [البقرة: 190] ثُمَّ أُبِيحَ لَهُ ابْتِدَاؤُهُ فِي غَيْرِ الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِذَا انْسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ} [التوبة: 5] الْآيَةَ، ثُمَّ أُمِرَ بِهِ مِنْ غَيْرِ تَقْيِيدٍ بِشَرْطٍ وَلَا زَمَانٍ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:{وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ} [البقرة: 191] وَقَدْ غَزَا صلى الله عليه وسلم سَبْعًا وَعِشْرِينَ غَزْوَةً، قَاتَلَ فِيهَا فِي تِسْعِ سِنِينَ كَمَا حَكَاهُ الْمَاوَرْدِيُّ، فَفِي مُسْلِمٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ «أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم غَزَا تِسْعَ عَشْرَةَ، وَبَعَثَ صلى الله عليه وسلم سَرَايَا، وَلَمْ يَتَّفِقْ فِي كُلِّهَا قِتَالٌ» فَلْنَذْكُرْ مِنْ غَزَوَاتِهِ صلى الله عليه وسلم أَشْهَرَهَا.

فَفِي السَّنَةِ الْأُولَى مِنْ هِجْرَتِهِ لَمْ يَغْزُ، وَكَانَتْ غَزْوَةُ بَدْرٍ الْكُبْرَى فِي الثَّانِيَةِ، وَأُحُدٌ ثُمَّ بَدْرٍ الصُّغْرَى، ثُمَّ بَنِي النَّضِيرِ فِي الثَّالِثَةِ، وَالْخَنْدَقِ فِي الرَّابِعَةِ، وَذَاتُ الرِّقَاعِ، ثُمَّ دَوْمَةُ الْخَنْدَقِ وَبَنِي قُرَيْظَةَ فِي الْخَامِسَةِ، وَالْحُدَيْبِيَةُ وَبَنِي الْمُصْطَلِقِ فِي السَّادِسَةِ، وَخَيْبَرَ فِي السَّابِعَةِ، وَمُؤْتَةَ وَذَاتُ السَّلَاسِلِ وَفَتْحُ مَكَّةَ وَحُنَيْنٌ وَالطَّائِفُ فِي الثَّامِنَةِ، وَتَبُوكُ فِي التَّاسِعَةِ عَلَى خِلَافٍ فِي بَعْضِ ذَلِكَ، وَالْأَنْبِيَاءُ مَعْصُومُونَ قَبْلَ النُّبُوَّةِ مِنْ الْكُفْرِ، لِمَا رُوِيَ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ:

ص: 7

وَقِيلَ عَيْنٍ

وَأَمَّا بَعْدَهُ فَلِلْكُفَّارِ حَالَانِ: أَحَدُهُمَا يَكُونُونَ بِبِلَادِهِمْ فَفَرْضُ كِفَايَةٍ إذَا فَعَلَهُ مَنْ فِيهِمْ كِفَايَةٌ سَقَطَ الْحَرَجُ عَنْ الْبَاقِينَ

ــ

[مغني المحتاج]

«مَا كَفَرَ بِاَللَّهِ نَبِيٌّ

قَطُّ» وَفِي عِصْمَتِهِمْ قَبْلَهَا مِنْ الْمَعَاصِي خِلَافٌ، وَهُمْ مَعْصُومُونَ بَعْدَهَا مِنْ الْكَبَائِرِ، وَمِنْ كُلِّ مَا يُزْرِي بِالْمُرُوءَةِ، وَكَذَا مِنْ الصَّغَائِرِ وَلَوْ سَهْوًا عِنْدَ الْمُحَقِّقِينَ لِكَرَامَتِهِمْ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى أَنْ يَصْدُرَ عَنْهُمْ شَيْءٌ مِنْهَا وَتَأَوَّلُوا الظَّوَاهِرَ الْوَارِدَةَ فِيهَا، وَجَوَّزَ الْأَكْثَرُونَ صُدُورَهَا عَنْهُمْ سَهْوًا إلَّا الدَّالَّةَ عَلَى الْخِسَّةِ: كَسَرِقَةِ لُقْمَةٍ. قَالَ فِي الرَّوْضَةِ: وَاخْتَلَفُوا هَلْ كَانَ صلى الله عليه وسلم قَبْلَ النُّبُوَّةِ يَتَعَبَّدُ عَلَى دِينِ إبْرَاهِيمَ أَوْ نُوحٍ أَوْ مُوسَى أَوْ عِيسَى أَوْ لَمْ يَلْتَزِمْ دِينَ أَحَدٍ مِنْهُمْ؟ وَالْمُخْتَارُ أَنَّهُ لَا يُجْزَمُ فِي ذَلِكَ بِشَيْءٍ لِعَدَمِ الدَّلِيلِ انْتَهَى. وَصَحَّحَ الْوَاحِدِيُّ الْأَوَّلَ وَعُزِيَ إلَى الشَّافِعِيِّ، وَاقْتَصَرَ الرَّافِعِيُّ عَلَى نَقْلِهِ عَنْ صَاحِبِ الْبَيَانِ. وَتُوُفِّيَ صلى الله عليه وسلم ضُحَى يَوْمِ الِاثْنَيْنِ لِاثْنَيْ عَشَرَ خَلَتْ مِنْ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، سَنَةَ إحْدَى عَشْرَةَ مِنْ الْهِجْرَةِ (وَقِيلَ) كَانَ الْجِهَادُ فِي عَهْدِهِ صلى الله عليه وسلم فَرْضَ (عَيْنٍ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى:{انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالا} [التوبة: 41]{إِلا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [التوبة: 39]، وَقَائِلُهُ قَالَ: كَانَ الْقَاعِدُونَ حُرَّاسًا لِلْمَدِينَةِ، وَهُوَ نَوْعٌ مِنْ الْجِهَادِ.

وَأَجَابَ الْأَوَّلُ بِأَنَّ الْوَعِيدَ فِي الْآيَةِ لِمَنْ عَيَّنَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِتَعَيُّنِ الْإِجَابَةِ. وَقَالَ السُّهَيْلِيُّ: كَانَ فَرْضَ عَيْنٍ عَلَى الْأَنْصَارِ دُونَ غَيْرِهِمْ؛ لِأَنَّهُمْ بَايَعُوا عَلَيْهِ. قَالَ شَاعِرُهُمْ:

نَحْنُ الَّذِينَ بَايَعُوا مُحَمَّدًا

عَلَى الْجِهَادِ مَا بَقِينَا أَبَدَا

وَقَدْ يَكُونُ الْجِهَادُ فِي عَهْدِهِ صلى الله عليه وسلم فَرْضَ عَيْنٍ بِأَنْ أَحَاطَ عَدُوٌّ بِالْمُسْلِمِينَ كَالْأَحْزَابِ مِنْ الْكُفَّارِ الَّذِينَ تَحَزَّبُوا حَوْلَ الْمَدِينَةِ فَإِنَّهُ مُقْتَضٍ لِتَعَيُّنِ جِهَادِ الْمُسْلِمِينَ لَهُمْ فَصَارَ لَهُمْ حَالَانِ، خِلَافَ مَا يُوهِمُهُ قَوْلُهُ.

(وَأَمَّا بَعْدَهُ) صلى الله عليه وسلم (فَلِلْكُفَّارِ حَالَانِ: أَحَدُهُمَا يَكُونُونَ بِبِلَادِهِمْ) مُسْتَقِرِّينَ بِهَا غَيْرَ قَاصِدِينَ شَيْئًا مِنْ بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ (فَفَرْضُ كِفَايَةٍ) كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ سِيَرُ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ، وَحَكَى الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ فِيهِ الْإِجْمَاعَ، وَلَوْ فُرِضَ عَلَى الْأَعْيَانِ لَتَعَطَّلَ الْمَعَاشُ (إذَا فَعَلَهُ مَنْ فِيهِمْ كِفَايَةٌ سَقَطَ الْحَرَجُ عَنْ الْبَاقِينَ) ؛ لِأَنَّ هَذَا شَأْنُ فُرُوضِ الْكِفَايَاتِ وَتَعْبِيرُهُ بِالسُّقُوطِ ظَاهِرٌ فِي أَنَّ فَرْضَ الْكِفَايَةِ يَتَعَلَّقُ بِالْجَمِيعِ وَهُوَ الصَّحِيحُ عِنْدَ الْأُصُولِيِّينَ، وَقَوْلُ مَنْ فِيهِمْ كِفَايَةٌ يَشْمَلُ مَنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ فَرْضِ الْجِهَادِ وَهُوَ كَذَلِكَ، فَلَوْ قَامَ بِهِ مُرَاهِقُونَ سَقَطَ الْحَرَجُ عَنْ أَهْلِ الْفُرُوضِ. قَالَ فِي الرَّوْضَةِ: وَسَقَطَ فَرْضُ الْكِفَايَةِ مَعَ الصِّغَرِ وَالْجُنُونِ وَالْأُنُوثَةِ، فَإِنْ تَرَكَهُ الْجَمِيعُ أَثِمَ كُلُّ مَنْ لَا عُذْرَ لَهُ مِنْ الْأَعْذَارِ الْآتِي بَيَانُهَا.

تَنْبِيهٌ: أَقَلُّ الْجِهَادِ مَرَّةٌ فِي السَّنَةِ كَإِحْيَاءِ الْكَعْبَةِ، وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى:{أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ} [التوبة: 126] قَالَ مُجَاهِدٌ: نَزَلَتْ فِي الْجِهَادِ وَلِفِعْلِهِ صلى الله عليه وسلم مُنْذُ أُمِرَ بِهِ، وَلِأَنَّ الْجِزْيَةَ تَجِبُ بَدَلًا عَنْهُ وَهِيَ وَاجِبَةٌ فِي كُلِّ سَنَةٍ فَكَذَا بَدَلُهَا، وَلِأَنَّهُ فَرْضٌ يَتَكَرَّرُ، وَأَقَلُّ مَا وَجَبَ الْمُتَكَرِّرُ فِي كُلِّ سَنَةٍ كَالزَّكَاةِ وَالصَّوْمِ. فَإِنْ زَادَ عَلَى مَرَّةٍ فَهُوَ أَفْضَلُ، وَيَحْصُلُ فَرْضُ

ص: 8

وَمِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَةِ الْقِيَامُ بِإِقَامَةِ الْحُجَجِ وَحَلِّ الْمُشْكِلَاتِ فِي الدِّينِ.

وَبِعُلُومِ الشَّرْعِ كَتَفْسِيرٍ وَحَدِيثٍ، وَالْفُرُوعِ

ــ

[مغني المحتاج]

الْكِفَايَةِ بِأَنْ يَشْحَنَ الْإِمَامُ الثُّغُورَ بِمُكَافِئِينَ لِلْكُفَّارِ مَعَ إحْكَامِ الْحُصُونِ وَالْخَنَادِقِ وَتَقْلِيدِ الْأُمَرَاءِ، أَوْ بِأَنْ يَدْخُلَ الْإِمَامُ أَوْ نَائِبُهُ دَارَ الْكُفْرِ بِالْجُيُوشِ لِقِتَالِهِمْ، وَوُجُوبُ الْجِهَادِ وُجُوبُ الْوَسَائِلِ لَا الْمَقَاصِدِ، إذَا الْمَقْصُودُ بِالْقِتَالِ إنَّمَا هُوَ الْهِدَايَةُ وَمَا سِوَاهَا مِنْ الشَّهَادَةِ، وَأَمَّا قَتْلُ الْكُفَّارِ فَلَيْسَ بِمَقْصُودٍ حَتَّى لَوْ أَمْكَنَ الْهِدَايَةِ بِإِقَامَةِ الدَّلِيلِ بِغَيْرِ جِهَادٍ كَانَ أَوْلَى مِنْ الْجِهَادِ، وَمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ مَحِلُّهُ فِي الْغَزْوِ. وَأَمَّا حِرَاسَةُ حُصُونِ الْمُسْلِمِينَ فَمُتَعَيِّنَةٌ فَوْرًا.

وَاعْلَمْ أَنَّ فُرُوضَ الْكِفَايَةِ كَثِيرَةٌ جِدًّا، ذَكَرَ مِنْهَا الْمُصَنِّفُ فِي الْجَنَائِزِ غُسْلَ الْمَيِّتِ وَتَكْفِينَهُ وَالصَّلَاةَ عَلَيْهِ وَدَفْنَهُ، وَفِي اللَّقِيطِ الْتِقَاطَ الْمَنْبُوذِ، وَذَكَرَ هُنَا الْجِهَادَ. ثُمَّ اُسْتُطْرِدَ إلَى ذِكْرِ غَيْرِهِ.

فَقَالَ (وَمِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَةِ الْقِيَامُ بِإِقَامَةِ الْحُجَجِ) الْعِلْمِيَّةِ، وَهِيَ الْبَرَاهِينُ الْقَاطِعَةُ عَلَى إثْبَاتِ الصَّانِعِ سبحانه وتعالى وَمَا يَجِبُ لَهُ مِنْ الصِّفَاتِ وَمَا يَسْتَحِيلُ عَلَيْهِ مِنْهَا وَعَلَى إثْبَاتِ النُّبُوَّاتِ وَصِدْقِ الرُّسُلِ، وَمَا وَرَدَ الشَّرْعُ بِهِ مِنْ الْحِسَابِ وَالْمَعَادِ وَالْمِيزَانِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَكَمَا أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ إقَامَةِ الْحُجَجِ الْقَهْرِيَّةِ بِالسَّيْفِ لَا بُدَّ مِمَّنْ يُقِيمُ الْبَرَاهِينَ وَيُظْهِرُ الْحُجَجَ وَيَدْفَعُ الشُّبُهَاتِ وَيَحِلُّ الْمُشْكِلَاتِ كَمَا نَبَّهَ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ: الْقِيَامُ بِإِقَامَةِ (وَحَلِّ الْمُشْكِلَاتِ فِي الدِّينِ) وَدَفْعِ الشُّبْهَةِ وَيَتَعَيَّنُ عَلَى الْمُكَلَّفِ دَفْعُ شُبْهَةٍ أَدْخَلَهَا بِقَلْبِهِ، وَذَلِكَ بِأَنْ يَعْرِفَ أَدِلَّةَ الْمَعْقُولِ وَيَعْلَمَ دَوَاءَ أَمْرَاضِ الْقَلْبِ وَحُدُودَهَا وَأَسْبَابَهَا كَالْحَسَدِ وَالرِّيَاءِ وَالْكِبْرِ، وَأَنْ يَعْرِفَ مِنْ ظَوَاهِرِ الْعُلُومِ لَا دَقَائِقِهَا مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ لِإِقَامَةِ فَرَائِضِ الدِّينِ كَأَرْكَانِ الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ وَشُرُوطِهِمَا، وَإِنَّمَا يَجِبُ تَعَلُّمُهُ بَعْدَ الْوُجُوبِ، وَكَذَا قَبْلَهُ إنْ لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ تَعَلُّمِهِ بَعْدَ دُخُولِ الْوَقْتِ مَعَ الْفِعْلِ وَكَأَرْكَانِ الْحَجِّ وَشُرُوطِهِ وَتَعَلُّمِهَا عَلَى التَّرَاخِي كَالْحَجِّ وَكَالزَّكَاةِ إنْ مَلَكَ مَالًا، وَلَوْ كَانَ هُنَاكَ سَاعٍ يَكْفِيه الْأَمْرَ، وَأَحْكَامِ الْبَيْعِ وَالْقِرَاضِ إنْ أَرَادَ أَنْ يَبِيعَ وَيَتَّجِرَ فَيَتَعَيَّنُ عَلَى مَنْ يُرِيدُ بَيْعَ الْخُبْزِ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ بَيْعُ خُبْزِ الْبُرِّ بِالْبُرِّ وَلَا بِدَقِيقِهِ، وَعَلَى مَنْ يُرِيدُ الصَّرْفَ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ بَيْعُ دِرْهَمٍ بِدِرْهَمَيْنِ وَنَحْوُ ذَلِكَ. وَأَمَّا أُصُولُ الْعَقَائِدِ فَالِاعْتِقَادُ الْمُسْتَقِيمُ مَعَ التَّصْمِيمِ عَلَى مَا وَرَدَ بِهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ فَفَرْضُ عَيْنٍ.

وَأَمَّا الْعِلْمُ الْمُتَرْجَمُ بِعِلْمِ الْكَلَامِ فَلَيْسَ بِفَرْضِ عَيْنٍ، وَكَانَ الصَّحَابَةُ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - يَشْتَغِلُونَ بِهِ. قَالَ الْإِمَامُ: وَلَوْ كَانَ النَّاسُ عَلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ فِي صَفْوَةِ الْإِسْلَامِ لِمَا أَوْجَبْنَا التَّشَاغُلَ بِهِ، وَرُبَّمَا نُهِينَا عَنْهُ، وَأَمَّا الْآنَ وَقَدْ ثَارَتْ الْبِدْعَةُ وَلَا سَبِيلَ إلَى تَرْكِهَا تَلْتَطِمُ فَلَا بُدَّ مِنْ إعْدَادِ مَا يُدْعَى بِهِ إلَى الْمَسْلَكِ الْحَقِّ وَتُحَلُّ بِهِ الشُّبْهَةُ فَصَارَ الِاشْتِغَالُ بِأَدِلَّةِ الْمَعْقُولِ وَحَلُّ الشُّبْهَةِ مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَاتِ، وَمَا نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ مِنْ تَحْرِيمِ الِاشْتِغَالِ بِهِ، وَقَالَ: لَأَنْ يَلْقَى اللَّهَ الْعَبْدُ بِكُلِّ ذَنْبٍ مَا خَلَا الشِّرْكَ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَلْقَاهُ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِ الْكَلَامِ مَحْمُولٌ عَلَى التَّوَغُّلِ فِيهِ.

وَأَمَّا تَعَلُّمُ عِلْمِ الْفَلْسَفَةِ وَالشَّعْبَذَةِ وَالتَّنْجِيمِ وَالرَّمْلِ وَعُلُومِ الطَّبَائِعِيِّينَ وَالسِّحْرِ فَحَرَامٌ، وَالشِّعْرُ مُبَاحٌ إنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ سُخْفٌ أَوْ حَثٌّ عَلَى شَرٍّ وَإِنْ حَثَّ عَلَى التَّغَزُّلِ وَالْبَطَالَةِ كُرِهَ.

(وَ) مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَاتِ الْقِيَامُ (بِعُلُومِ الشَّرْعِ كَتَفْسِيرٍ وَحَدِيثٍ) وَسَبَقَ مَعْنَاهُمَا فِي كِتَابِ الْوَصَايَا (وَالْفُرُوعِ) الْفِقْهِيَّةِ

ص: 9

بِحَيْثُ يَصْلُحُ لِلْقَضَاءِ.

وَالْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنْ الْمُنْكَرِ.

ــ

[مغني المحتاج]

الزَّائِدَةِ عَلَى مَا لَا بُدَّ مِنْهُ (بِحَيْثُ يَصْلُحُ لِلْقَضَاءِ) وَالْفُتْيَا كَمَا فِي الْمُحَرَّرِ لِشِدَّةِ الْحَاجَةِ إلَى ذَلِكَ. فَإِنْ اُحْتِيجَ فِي التَّعْلِيمِ إلَى جَمَاعَةٍ لَزِمَهُمْ، وَيَجِبُ لِكُلِّ مَسَافَةٍ قَصْرٍ مُفْتٍ لِئَلَّا يَحْتَاجَ إلَى قَطْعِهَا، وَفَرَّقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَوْلِهِمْ؛ لَا يَجُوزُ إخْلَاءُ مَسَافَةِ الْعَدْوَى عَنْ قَاضٍ بِكَثْرَةِ الْخُصُومَاتِ وَتَكَرُّرِهَا فِي الْيَوْمِ الْوَاحِدِ مِنْ كَثِيرِينَ بِخِلَافِ الِاسْتِفْتَاءِ فِي الْوَقَائِعِ، وَلَوْ لَمْ يُفْتِ الْمُفْتِي وَهُنَاكَ مَنْ يُفْتِي وَهُوَ عَدْلٌ لَمْ يَأْثَمْ فَلَا يَلْزَمُهُ الْإِفْتَاءُ. قَالَ فِي الرَّوْضَةِ: وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْمُعَلِّمُ كَذَلِكَ. اهـ.

وَفَرَّقَ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ نَظِيرِهِ مِنْ أَوْلِيَاءِ النِّكَاحِ وَالشُّهُودِ بِأَنَّ اللُّزُومَ هُنَا فِيهِ حَرَجٌ وَمَشَقَّةٌ بِكَثْرَةِ الْوَقَائِعِ بِخِلَافِهِ ثُمَّ. قَالَ فِي الرَّوْضَةِ: وَيُسْتَحَبُّ الرِّفْقُ بِالْمُتَعَلِّمِ وَالْمُسْتَفْتِي. أَمَّا تَعَلُّمُ مَا لَا بُدَّ مِنْهُ مِنْ الْفُرُوعِ فَفَرْضُ عَيْنٍ كَمَا مَرَّتْ الْإِشَارَةُ إلَيْهِ.

تَنْبِيهٌ: مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَةِ عِلْمُ الطِّبِّ الْمُحْتَاجِ إلَيْهِ لِمُعَالَجَةِ الْأَبَدَانِ، وَالْحِسَابِ الْمُحْتَاجِ إلَيْهِ لِقِسْمَةِ الْمَوَارِيثِ وَالْوَصَايَا وَالْمُعَامَلَاتِ، وَأُصُولُ الْفِقْهِ، وَالنَّحْوِ، وَاللُّغَةُ، وَالتَّصْرِيفُ، وَأَسْمَاءُ الرُّوَاةِ وَالْجَرْحُ وَالتَّعْدِيلُ، وَاخْتِلَافُ الْعُلَمَاءِ وَاتِّفَاقُهُمْ، وَأَمَّا الْمَنْطِقُ فَقَالَ الْغَزَالِيُّ: إنَّ مَنْ جَهِلَهُ لَا وُثُوقَ بِعِلْمِهِ، وَقَالَ غَيْرُهُ يَحْرُمُ الِاشْتِغَالُ بِهِ، وَمَرَّ الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ فِي بَابِ الْحَدَثِ فِي الْكَلَامِ عَلَى الِاسْتِنْجَاءِ. قَالَ الشَّارِحُ: وَعَرَّفَ أَيْ الْمُصَنِّفُ الْفُرُوعَ: أَيْ بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ دُونَ مَا قَبْلَهُ لِمَا ذَكَرَهُ بَعْدَهُ: أَيْ: وَهُوَ قَوْلُهُ: " بِحَيْثُ يَصْلُحُ لِلْقَضَاءِ: لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ عَوْدُهُ لِمَا قَبْلَهُ أَيْضًا، وَهُنَا مُؤَاخَذَةٌ عَلَى الْمُصَنِّفِ وَهِيَ إمَّا أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: " وَالْفُرُوعِ " مَجْرُورًا بِالْعَطْفِ عَلَى تَفْسِيرٍ، أَوْ بِالْعَطْفِ عَلَى الْمَجْرُورِ بِالْبَاءِ، وَهُوَ قَوْلُهُ بِإِقَامَةِ. فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ اقْتَضَى أَنْ يَكُونَ بَقِيَ شَيْءٌ مِنْ عُلُومِ الشَّرْعِ لَمْ يَذْكُرْهُ وَلَمْ يَبْقَ شَيْءٌ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِي اقْتَضَى أَنَّ الْفُرُوعَ لَيْسَتْ مِنْ عُلُومِ الشَّرْعِ وَلَيْسَ مُرَادًا، وَقَدْ يُخْتَارُ الْأَوَّلُ. وَيُجَابُ عَنْهُ بِأَنَّ الْكَافَ اسْتِقْصَائِيَّةٌ.

فَائِدَةٌ: قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: إنَّمَا يَتَوَجَّهُ فَرْضُ الْكِفَايَةِ فِي الْعِلْمِ عَلَى مَنْ جَمَعَ أَرْبَعَةَ شُرُوطٍ: التَّكْلِيفُ، وَأَنْ يَكُونَ مِمَّنْ يَلِي الْقَضَاءَ: أَيْ حُرًّا ذَكَرًا لَا عَبْدًا وَامْرَأَةً، وَأَنْ لَا يَكُونَ بَلِيدًا، وَأَنْ يَقْدِرَ عَلَى الِانْقِطَاعِ بِأَنْ يَكُونَ لَهُ كِفَايَةٌ، وَيَدْخُلُ الْفَاسِقُ فِي الْفَرْضِ، وَلَا يَسْقُطُ بِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا تُقْبَلُ فَتْوَاهُ، وَفِي دُخُولِ الْمَرْأَةِ وَالْعَبْدِ وَجْهَانِ، أَوْجَهُهُمَا الدُّخُولُ؛ لِأَنَّهُمَا أَهْلٌ لِلْفَتْوَى دُونَ الْقَضَاءِ

(وَ) مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَاتِ (الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ) مِنْ وَاجِبَاتِ الشَّرْعِ (وَالنَّهْيُ عَنْ الْمُنْكَرِ) مِنْ مُحَرَّمَاتِهِ بِالْإِجْمَاعِ، إذَا لَمْ يَخَفْ عَلَى نَفْسِهِ أَوْ مَالِهِ أَوْ عَلَى غَيْرِهِ مَفْسَدَةً أَعْظَمَ مِنْ مَفْسَدَةِ الْمُنْكَرِ الْوَاقِعِ، أَوْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّ الْمُرْتَكِبَ يَزِيدُ فِيمَا هُوَ فِيهِ عِنَادًا كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ الْغَزَالِيُّ: فِي الْإِحْيَاءِ كَإِمَامِهِ، وَلَا يَخْتَصُّ بِالْوُلَاةِ: بَلْ يَجِبُ عَلَى كُلِّ مُكَلَّفٍ قَادِرٍ مِنْ رَجُلٍ وَامْرَأَةٍ حُرٍّ أَوْ عَبْدٍ وَلِلصَّبِيِّ ذَلِكَ وَيُثَابُ عَلَيْهِ إلَّا أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ، وَلَا يُشْتَرَطُ فِي الْآمِرِ بِالْمَعْرُوفِ الْعَدَالَةُ، بَلْ قَالَ الْإِمَامُ: وَعَلَى مُتَعَاطِي الْكَأْسَ أَنْ يُنْكِرَ عَلَى الْجُلَّاسِ، وَقَالَ الْغَزَالِيُّ: يَجِبُ عَلَى مَنْ غَصَبَ امْرَأَةً عَلَى الزِّنَا أَمْرُهَا بِسَتْرِ وَجْهِهَا عَنْهُ. اهـ.

وَالْإِنْكَارُ يَكُونُ بِالْيَدِ. فَإِنْ عَجَزَ فَبِاللِّسَانِ، وَيَرْفُقُ بِمَنْ يَخَافُ

ص: 10

وَإِحْيَاءُ الْكَعْبَةِ كُلَّ سَنَةٍ

ــ

[مغني المحتاج]

شَرَّهُ وَيَسْتَعِينُ عَلَيْهِ إنْ لَمْ يَخَفْ فِتْنَةً، فَإِنْ عَجَزَ رَفَعَ ذَلِكَ إلَى الْوَالِي. فَإِنْ عَجَزَ أَنْكَرَ بِقَلْبِهِ، وَلَا يُشْتَرَطُ فِيهِ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ مَسْمُوعَ الْقَوْلِ، بَلْ عَلَى الْمُكَلَّفِ أَنْ يَأْمُرَ وَيَنْهَى، وَإِنْ عَلِمَ بِالْعَادَةِ أَنَّهُ لَا يُفِيدُ {فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} [الذاريات: 55] وَلَا أَنْ يَكُونَ مُمْتَثِلًا مَا يَأْمُرُ بِهِ مُجْتَنِبًا مَا يَنْهَى عَنْهُ، بَلْ عَلَيْهِ أَنْ يَأْمُرَ وَيَنْهَى نَفْسَهُ. فَإِنْ اخْتَلَّ أَحَدُهُمَا لَمْ يَسْقُطْ الْآخَرُ، وَلَا يَأْمُرُ وَلَا يُنْهَى فِي دَقَائِقِ الْأُمُورِ إلَّا عَالِمٌ، فَلَيْسَ لِلْعَوَامِّ ذَلِكَ، وَلَا يُنْكِرُ الْعَالِمُ إلَّا مُجْمَعًا عَلَى إنْكَارِهِ، لَا مَا اُخْتُلِفَ فِيهِ إلَّا أَنْ يَرَى الْفَاعِلَ تَحْرِيمَهُ، فَإِنْ قِيلَ: قَدْ صَرَّحُوا بِأَنَّ الْحَنَفِيّ يَحُدُّ بِشُرْبِ النَّبِيذِ مَعَ أَنَّ الْإِنْكَارَ بِالْفِعْلِ أَبْلَغُ مِنْهُ بِالْقَوْلِ.

أُجِيبَ بِأَنَّ أَدِلَّةَ عَدَمِ تَحْرِيمِ النَّبِيذِ وَاهِيَةٌ، وَبِهَذَا فَرَّقَ بَيْنَ حَدِّنَا الشَّارِبَ بِهِ وَعَدَمِ حَدِّنَا الْوَاطِئَ فِي نِكَاحٍ بِلَا وَلِيٍّ، وَإِنْ نُدِبَ عَلَى جِهَةِ النَّصِيحَةِ إلَى الْخُرُوجِ مِنْ الْخِلَافِ بِرِفْقٍ فَحَسَنٌ إنْ لَمْ يَقَعْ فِي خِلَافٍ آخَرَ أَوْ فِي تَرْكِ سُنَّةٍ ثَابِتَةٍ لِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ عَلَى اسْتِحْبَابِ الْخُرُوجِ مِنْ الْخِلَافِ حِينَئِذٍ. وَلَيْسَ لِكُلٍّ مِنْ الْآمِرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهِي عَنْ الْمُنْكَرِ التَّجَسُّسُ وَالْبَحْثُ وَاقْتِحَامُ الدُّورِ بِالظُّنُونِ: بَلْ إنْ رَأَى شَيْئًا غَيَّرَهُ، نَعَمْ إنْ أَخْبَرَهُ ثِقَةٌ بِمَنْ اخْتَفَى بِمُنْكَرٍ فِيهِ انْتِهَاكُ حُرْمَةٍ يَفُوتُ تَدَارُكُهَا كَالزِّنَا وَالْقَتْلِ اقْتَحَمَ لَهُ الدَّارَ وَتَجَسَّسَ وُجُوبًا.

تَنْبِيهٌ: يَجِبُ عَلَى الْإِمَامِ أَنْ يَنْصَبَّ مُحْتَسِبًا يَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَى عَنْ الْمُنْكَرِ، وَإِنْ كَانَا لَا يَخْتَصَّانِ بِالْمُحْتَسِبِ فَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ الْأَمْرُ بِصَلَاةِ الْجُمُعَةِ إذَا اجْتَمَعَتْ شُرُوطُهَا، وَكَذَا بِصَلَاةِ الْعِيدِ، وَإِنْ قُلْنَا إنَّهَا سُنَّةٌ. فَإِنْ قِيلَ: قَالَ الْإِمَامُ: مُعْظَمُ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ فِي الْمُسْتَحَبِّ مُسْتَحَبٌّ، وَهَذَا مُسْتَحَبٌّ.

أُجِيبَ بِأَنَّ مَحِلَّهُ فِي غَيْرِ الْمُحْتَسِبِ، وَلَا يُقَاسُ بِالْوَالِي غَيْرُهُ، وَلِهَذَا لَوْ أَمَرَ الْإِمَامُ بِصَلَاةِ الِاسْتِسْقَاءِ أَوْ بِصَوْمِهِ صَارَ وَاجِبًا، وَلَا يَأْمُرُ الْمُخَالِفِينَ لَهُ فِي الْمَذْهَبِ بِمَا لَا يُجَوِّزُونَهُ، وَلَا يَنْهَاهُمْ عَمَّا يَرَوْنَهُ فَرْضًا عَلَيْهِمْ أَوْ سُنَّةً لَهُمْ، وَيَأْمُرُ بِمَا يَعُمُّ نَفْعُهُ كَعِمَارَةِ سُوَرِ الْبَلَدِ وَشِرْبِهِ وَمَعُونَةِ الْمُحْتَاجِينَ، وَيَجِبُ ذَلِكَ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ إنْ كَانَ فِيهِ مَالٌ، وَإِلَّا فَعَلَى مَنْ لَهُ قُدْرَةٌ عَلَى ذَلِكَ، وَيَنْهَى الْمُوسِرَ عَنْ مَطْلِ الْغَنِيِّ إنْ اسْتَعْدَاهُ الْغَرِيمُ عَلَيْهِ، وَيَنْهَى الرَّجُلَ عَنْ الْوُقُوفِ مَعَ الْمَرْأَةِ فِي طَرِيقٍ خَالٍ؛ لِأَنَّهُ مَوْضِعُ رِيبَةٍ بِخِلَافِ مَا لَوْ وَجَدَهُ مَعَهَا فِي طَرِيقٍ يَطْرُقَهُ النَّاسُ، وَيَأْمُرُ النِّسَاءَ بِإِيفَاءِ الْعِدَدِ، وَالْأَوْلِيَاءَ بِنِكَاحِ الْأَكْفَاءِ، وَالسَّادَةَ بِالرِّفْقِ بِالْمَمَالِيكِ، وَأَصْحَابَ الْبَهَائِمِ بِتَعَهُّدِهَا، وَأَنْ لَا يَسْتَعْمِلُوهَا فِيمَا لَا تُطِيقُ، وَيُنْكِرُ عَلَى مَنْ تَصَدَّى لِلتَّدْرِيسِ وَالْفَتْوَى وَالْوَعْظِ وَلَيْسَ هُوَ مِنْ أَهْلِهِ وَيُشْهِرُ أَمْرَهُ لِئَلَّا يُغْتَرَّ بِهِ، وَيُنْكِرُ عَلَى مَنْ أَسَرَّ فِي صَلَاةٍ جَهْرِيَّةٍ أَوْ زَادَ فِي الْأَذَانِ وَعَكَسَهُمَا، وَلَا يُنْكِرُ فِي حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ قَبْلَ الِاسْتِعْدَاءِ مِنْ ذِي الْحَقِّ عَلَيْهِ، وَلَا يَحْبِسُ وَلَا يَضْرِبُ لِلدَّيْنِ، وَيُنْكِرُ عَلَى الْقُضَاةِ إنْ احْتَجَبُوا عَنْ الْخُصُومِ أَوْ قَصَّرُوا فِي النَّظَرِ فِي الْخُصُومَاتِ وَعَلَى أَئِمَّةِ الْمَسَاجِدِ الْمَطْرُوقَةِ إنْ طَوَّلُوا الصَّلَاةَ كَمَا أَنْكَرَ صلى الله عليه وسلم عَلَى مُعَاذٍ ذَلِكَ، وَيَمْنَعُ الْخَوَنَةَ مِنْ مُعَامَلَةِ النِّسَاءِ لِمَا يَخْشَى فِيهَا مِنْ الْفَسَادِ، وَلَيْسَ لَهُ حَمْلُ النَّاسُ عَلَى مَذْهَبِهِ.

(وَ) مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَاتِ (إحْيَاءُ الْكَعْبَةِ) وَالْمَوَاقِفِ الَّتِي هُنَا (كُلَّ سَنَةٍ

ص: 11

بِالزِّيَارَةِ.

وَدَفْعُ ضَرَرِ الْمُسْلِمِينَ كَكِسْوَةِ عَارٍ، وَإِطْعَامِ جَائِعٍ إذَا لَمْ يَنْدَفِعْ بِزَكَاةٍ، وَبَيْتِ مَالٍ.

ــ

[مغني المحتاج]

بِالزِّيَارَةِ) مَرَّةً؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ شَعَائِرِ الْإِسْلَامِ.

تَنْبِيهٌ: الْمُرَادُ بِالزِّيَارَةِ كُلَّ سَنَةٍ أَنْ يَأْتِيَ بِحَجٍّ وَعُمْرَةٍ، فَلَا يَكْفِي إحْيَاؤُهَا بِالِاعْتِكَافِ وَالصَّلَاةِ، وَإِنْ أَوْهَمَتْ عِبَارَتُهُ الِاكْتِفَاءُ بِذَلِكَ وَلَا بِالْعُمْرَةِ كَمَا قَالَهُ الْمُصَنِّفُ، إذْ لَا يَحْصُلَ مَقْصُودَ الْحَجِّ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ الْأَعْظَمَ مِنْ بِنَاءِ الْكَعْبَةِ الْحَجُّ فَكَانَ بِهِ إحْيَاؤُهَا، فَيَجِبُ الْإِتْيَانُ كُلَّ سَنَةٍ بِحَجٍّ وَعُمْرَةٍ، وَلَا يُشْتَرَطُ فِي الْقَائِمِينَ بِهَذَا الْفَرْضِ قَدْرٌ مَخْصُوصٌ: بَلْ الْفَرْضُ أَنْ يَحُجَّهَا كُلَّ سَنَةٍ بَعْضُ الْمُكَلَّفِينَ. قَالَهُ فِي الْمَجْمُوعِ: قَالَ الْإِسْنَوِيُّ: وَيُتَّجَهُ اعْتِبَارُهُ مِنْ عَدَدٍ يَظْهَرُ بِهِمْ الشِّعَارُ. اهـ.

وَنُوزِعَ فِي ذَلِكَ. فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ الْجَمْعُ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ التَّطَوُّعِ بِالْحَجِّ؟ لِأَنَّ إحْيَاءَ الْكَعْبَةِ بِالْحَجِّ مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَاتِ، فَكُلُّ وَفْدٍ يَجِيئُونَ كُلَّ سَنَةٍ لِلْحَجِّ فَهُمْ يُحْيُونَ الْكَعْبَةَ، فَمَنْ كَانَ عَلَيْهِ فَرْضُ الْإِسْلَامِ حَصَلَ، بِمَا أَتَى بِهِ سُقُوطُ فَرْضِهِ، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ فَرْضُ الْإِسْلَامِ كَانَ قَائِمًا بِفَرْضِ كِفَايَةٍ، فَلَا يُتَصَوَّرُ حَجُّ التَّطَوُّعِ.

أُجِيبَ بِأَنَّ هُنَا جِهَتَيْنِ مِنْ حَيْثِيَّتَيْنِ: جِهَةُ التَّطَوُّعِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهِ فَرْضُ الْإِسْلَامِ، وَجِهَةُ فَرْضِ الْكِفَايَةِ مِنْ حَيْثُ الْأَمْرُ بِإِحْيَاءِ الْكَعْبَةِ، فَصَحَّ أَنْ يُقَالَ هُوَ تَطَوُّعٌ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهِ فَرْضُ عَيْنٍ، وَأَنْ يُقَالَ فَرْضُ كِفَايَةٍ مِنْ حَيْثُ الْإِحْيَاءُ، وَبِأَنَّ وُجُوبَ الْإِحْيَاءِ لَا يَسْتَلْزِمُ كَوْنُ الْعِبَادَةِ فَرْضًا؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ الْمُعَيَّنَ قَدْ يَسْقُطُ بِالْمَنْدُوبِ كَاللَّمْعَةِ الْمُغْفَلَةِ فِي الْوُضُوءِ تُغْسَلُ فِي الثَّانِيَةِ أَوْ الثَّالِثَةِ، وَالْجُلُوسِ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ بِجِلْسَةِ الِاسْتِرَاحَةِ، وَإِذَا سَقَطَ الْوَاجِبُ الْمُعَيَّنُ بِفِعْلِ الْمَنْدُوبِ فَفَرْضُ الْكِفَايَةِ أَوْلَى، وَلِهَذَا تَسْقُطُ صَلَاةُ الْجِنَازَةِ عَنْ الْمُكَلَّفِينَ بِفِعْلِ الصَّبِيِّ، وَلَوْ قِيلَ يُتَصَوَّرُ ذَلِكَ فِي الْعَبِيدِ وَالصَّبِيَّانِ وَالْمَجَانِين؛ لِأَنَّ فَرْضَ الْكِفَايَةِ لَا يَتَوَجَّهُ إلَيْهِمْ لَكَانَ جَوَابًا.

(وَ) مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَاتِ (دَفْعُ ضَرَرِ) الْمَعْصُومِينَ، وَلَوْ عَبَّرَ بِهِ كَانَ أَوْلَى (الْمُسْلِمِينَ) وَغَيْرِهِمْ عَلَى الْمُوسِرِينَ (كَكِسْوَةِ عَارٍ) مِنْهُمْ (وَإِطْعَامِ جَائِعٍ) مِنْهُمْ (إذَا لَمْ يَنْدَفِعْ) ضَرَرُهُمْ (بِزَكَاةٍ وَ) لَا (بَيْتِ مَالٍ) وَاقْتَصَرَ عَلَيْهِمَا؛ لِأَنَّهُمَا أَغْلَبُ مِنْ غَيْرِهِمَا، وَإِلَّا فَفِي مَعْنَاهُمَا سَهْمُ الْمَصَالِحِ وَنَحْوِهِ كَوَقْفٍ عَامٍّ وَنَذْرٍ وَكَفَّارَةٍ وَوَصِيَّةٍ صِيَانَةً لِلنُّفُوسِ.

تَنْبِيهٌ: ظَاهِرُ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْكِسْوَةِ سَتْرُ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ الْبَدَنُ. قَالَ فِي الْمُهِمَّاتِ: وَهُوَ كَذَلِكَ بِلَا شَكٍّ فَيَخْتَلِفُ الْحَالُ بَيْنَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ، وَتَعْبِيرُ الرَّوْضَةِ بِسَتْرِ الْعَوْرَةِ مُعْتَرَضٌ، وَظَاهِرُ كَلَامِهِ أَيْضًا وُجُوبُ دَفْعِ الضَّرَرِ، وَإِنْ لَمْ يَبْقَ لِنَفْسِهِ شَيْئًا، لَكِنَّ الْأَصَحَّ مَا فِي زِيَادَةِ الرَّوْضَةِ عَنْ الْإِمَامِ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْمُوسِرِ الْمُوَاسَاةِ بِمَا زَادَ عَلَى كِفَايَةِ سَنَةٍ، وَمُقْتَضَاهُ أَنَّهُ لَا يُوَجِّهُ فَرْضَ الْكِفَايَةِ بِمُوَاسَاةِ الْمُحْتَاجِ عَلَى مَنْ لَيْسَ مَعَهُ زِيَادَةٌ عَلَى كِفَايَةِ سَنَةٍ وَهُوَ كَذَلِكَ وَإِنْ قَالَ الْبُلْقِينِيُّ: هَذَا لَا يَقُولُهُ أَحَدٌ وَلَا يُنَافِيه مَا فِي الْأَطْعِمَةِ مِنْ وُجُوبِ إطْعَامِ الْمُضْطَرِّ، وَإِنْ كَانَ يَحْتَاجُهُ فِي ثَانِي الْحَالِ، فَإِنَّ هَذَا فِي الْمُحْتَاجِ غَيْرِ الْمُضْطَرِّ وَذَاكَ فِي

ص: 12

وَتَحَمُّلُ الشَّهَادَةِ، وَأَدَاؤُهَا، وَالْحِرَفُ وَالصَّنَائِعُ، وَمَا تَتِمُّ بِهِ الْمَعَايِشُ

ــ

[مغني المحتاج]

الْمُضْطَرِّ، وَهَلْ يَكْفِي سَدُّ الضَّرُورَةِ أَمْ يَجِبُ تَمَامُ الْكِفَايَةِ الَّتِي يَقُومُ بِهَا مَنْ تَلْزَمُهُ النَّفَقَةُ؟ فِيهِ وَجْهَانِ، مُقْتَضَى كَلَامِ الرَّافِعِيِّ فِي الْأَطْعِمَةِ أَنَّ ذَلِكَ عَلَى الْقَوْلَيْنِ فِيمَا إذَا وَجَدَ الْمُضْطَرُّ الْمَيْتَةَ تَرْجِيحُ الْأَوَّلِ.

وَالْأَوْجَهُ تَرْجِيحُ الثَّانِي، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ الْبِنَاءِ الِاتِّحَادُ فِي التَّرْجِيحِ، وَيَجِبُ أَيْضًا عَلَى الْمُوسِرِينَ فَكُّ أَسْرَى الْمُسْلِمِينَ مِنْ مَالِهِمْ، وَلَا يَجِبُ عَلَى الْإِمَامِ ابْتِيَاعِهِمْ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ كَذَا فِي بَعْضِ شُرُوحِ الْكِتَابِ. قَالَ بَعْضُهُمْ: وَلَعَلَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى أَسِيرٍ تُعَذِّبُهُ الْكُفَّارُ كَمَا فِي الرَّوْضَةِ فِي بَابِ الْجِزْيَةِ لَكِنْ فِي بَابِ الْهُدْنَةِ أَنَّ الْفِدَاءَ مُسْتَحَبٌّ، وَبِهَذَا الْحَمْلِ يُجْمَعُ بَيْنَ كَلَامَيْ الرَّوْضَةِ أَيْضًا. أَمَّا أُسَارَى الذِّمِّيِّينَ فَفِيهِمْ احْتِمَالَانِ: وَالْأَوْجَهُ فِيهِمْ التَّفْصِيلُ.

(وَ) مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَاتِ إعَانَةُ الْقُضَاةِ عَلَى اسْتِيفَاءِ الْحُقُوقِ لِلْحَاجَةِ إلَيْهَا، وَ (تَحَمُّلُ الشَّهَادَةِ) إنْ حَضَرَ الْمُتَحَمِّلُ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ، فَإِنْ دَعَا الشَّاهِدَ لِلتَّحَمُّلِ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ إلَّا إنْ دَعَاهُ قَاضٍ أَوْ مَعْذُورٌ بِمَرَضٍ وَنَحْوِهِ (وَأَدَاؤُهَا) إذَا تَحَمَّلَ أَكْثَرُ مِنْ نِصَابٍ، فَإِنْ تَحَمَّلَ اثْنَانِ فِي الْأَمْوَالِ فَالْأَدَاءُ فَرْضُ عَيْنٍ، وَسَيَأْتِي بَيَانُ التَّحَمُّلِ وَالْأَدَاءِ فِي الشَّهَادَاتِ مَعَ مَزِيدِ إيضَاحٍ.

تَنْبِيهٌ: التَّحَمُّلُ يُفَارِقُ الْأَدَاءَ مِنْ جِهَةِ أَنَّ التَّحَمُّلَ فَرْضُ كِفَايَةٍ عَلَى النَّاسِ، وَالْأَدَاءَ عَلَى مَنْ تَحَمَّلَ دُونَ غَيْرِهِ. قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ فِي بَابِ الشَّهَادَاتِ: وَفَرْضُ الْأَدَاءِ أَغْلَظُ مِنْ فَرْضِ التَّحَمُّلِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ} [البقرة: 283] الْآيَةَ (وَالْحِرَفُ وَالصَّنَائِعُ) كَالتِّجَارَةِ وَالْخِيَاطَةِ وَالْحِجَامَةِ؛ لِأَنَّ قِيَامَ الدُّنْيَا بِهَذِهِ الْأَسْبَابِ وَقِيَامَ الدِّينِ يَتَوَقَّفُ عَلَى أَمْرِ الدُّنْيَا حَتَّى لَوْ امْتَنَعَ الْخَلْقُ مِنْهُ أَثِمُوا وَكَانُوا سَاعِينَ فِي إهْلَاكِ أَنْفُسِهِمْ لَكِنَّ النُّفُوسَ مَجْبُولَةٌ عَلَى الْقِيَامِ بِهَا فَلَا يُحْتَاجُ إلَى حَثٍّ عَلَيْهَا وَتَرْغِيبٍ فِيهَا، وَفِي الْحَدِيثِ «اخْتِلَافُ أُمَّتِي رَحْمَةٌ» وَفَسَّرَهُ الْحَلِيمِيُّ بِاخْتِلَافِ الْهِمَمِ وَالْحِرَفِ.

تَنْبِيهٌ: عَطْفُ الصَّنَائِعِ عَلَى الْحِرَفِ يَقْتَضِي تَغَايُرَهُمَا مَعَ أَنَّ صَاحِبَ الصِّحَاحِ فَسَّرَ الصِّنَاعَةَ بِالْحِرْفَةِ، فَعَلَى هَذَا عَطَفَهَا عَلَيْهَا كَعَطْفِ رَحْمَةٍ عَلَى صَلَوَاتٍ فِي قَوْله تَعَالَى:{أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ} [البقرة: 157] وَقَالَ الزَّرْكَشِيُّ: الصِّنَاعَاتُ هِيَ الْمُعَالَجَاتُ كَالْخِيَاطَةِ وَالتِّجَارَةِ، وَالْحِرَفُ وَإِنْ كَانَتْ تُطْلَقُ عَلَى ذَلِكَ فَتُطْلَقُ عُرْفًا عَلَى مَنْ يَتَّخِذُ صُنَّاعًا وَيُدَوْلِبُهُمْ وَلَا يَعْمَلُ فَهِيَ أَعَمُّ. (وَمَا تَتِمُّ بِهِ الْمَعَايِشُ) الَّتِي بِهَا قِوَامُ الدِّينِ وَالدُّنْيَا كَالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ وَالْحِرَاثَةِ؛ لِأَنَّ كُلَّ فَرْدٍ مِنْ الْأَفْرَادِ عَاجِزٌ عَنْ الْقِيَامِ بِكُلِّ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ «سَمِعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلِيًّا - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - يَقُولُ: اللَّهُمَّ لَا تُحْوِجْنِي إلَى أَحَدٍ مِنْ خَلْقِكَ فَقَالَ: لَا تَقُلْ هَكَذَا لَيْسَ مِنْ أَحَدٍ إلَّا وَهُوَ مُحْتَاجٌ إلَى النَّاسِ. قَالَ فَكَيْفَ أَقُولُ؟ قَالَ قُلْ: اللَّهُمَّ لَا تُحْوِجْنِي إلَى شِرَارِ خَلْقِكَ. قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَنْ شَرُّ خَلْقِهِ؟ . قَالَ: الَّذِينَ إذَا أُعْطُوا أُمِنُوا وَإِذَا مُنِعُوا عَابُوا» «وَسَمِعَ صلى الله عليه وسلم أَبَا بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - يَقُولُ: اللَّهُمَّ إنِّي أَسْأَلُكَ الصَّبْرَ فَقَالَ: سَأَلْتَ اللَّهَ الْبَلَاءَ فَسَلْهُ الْعَافِيَةَ» وَسَمِعَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ رَجُلًا يَقُولُ: اللَّهُمَّ

ص: 13

وَجَوَابُ سَلَامٍ عَلَى جَمَاعَةٍ.

ــ

[مغني المحتاج]

لَا تُحَوِّجْنِي إلَى أَحَدٍ مِنْ خَلْقِكَ فَقَالَ: هَذَا رَجُلٌ تَمَنَّى الْمَوْتَ.

(وَ) مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَاتِ (جَوَابُ سَلَامٍ) لِمُسْلِمٍ عَاقِلٍ وَلَوْ صَبِيًّا مُمَيِّزًا (عَلَى جَمَاعَةٍ) مِنْ الْمُسْلِمِينَ الْمُكَلَّفِينَ. أَمَّا كَوْنَهُ فَرْضًا فَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} [النساء: 86] وَأَمَّا كَوْنَهُ كِفَايَةً فَلِخَبَرِ أَبِي دَاوُد " يُجْزِئُ عَنْ الْجَمَاعَةِ إذَا مَرُّوا أَنْ يُسَلِّمَ أَحَدُهُمْ وَيُجْزِئُ عَنْ الْجُلُوسِ أَنْ يَرُدَّ أَحَدُهُمْ " وَالْمُرَادُ مِنْهُمْ هُوَ الْمُخْتَصُّ بِالثَّوَابِ وَسَقَطَ الْحَرَجُ عَنْ الْبَاقِينَ، وَإِنْ أَجَابُوا كُلُّهُمْ كَانُوا مُؤَدِّينَ لِلْفَرْضِ، سَوَاءٌ كَانُوا مُجْتَمِعِينَ أَمْ مُتَرَتِّبِينَ، كَصَلَاةِ الْجِنَازَةِ، وَلَا يَسْقُطُ الْفَرْضُ بِرَدِّ الصَّبِيِّ الْمُمَيِّزِ عَلَى الصَّحِيحِ، فَإِنْ قِيلَ: سَقَطَ بِهِ فَرْضُ الصَّلَاةِ عَلَى الْجِنَازَةِ فَهَلَّا كَانَ هُنَا كَذَلِكَ؟ .

أُجِيبَ بِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ الصَّلَاةِ الدُّعَاءُ وَالصَّبِيُّ أَقْرَبُ إلَى الْإِجَابَةِ، وَالْمَقْصُودُ مِنْ السَّلَامِ الْأَمَانُ وَالصَّبِيُّ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهِ، وَلَا يَسْقُطُ أَيْضًا بِرَدِّ مَنْ لَمْ يَسْمَعْ السَّلَامَ عَلَى الْمَشْهُورِ، وَلَوْ سَلَّمَ عَلَى جَمَاعَةٍ فِيهِمْ امْرَأَةٌ فَرَدَّتْ هَلْ يَكْفِي؟ يَنْبَغِي كَمَا قَالَ الزَّرْكَشِيُّ بِنَاؤُهُ عَلَى أَنَّهُ هَلْ يُشْرَعُ لَهَا الِابْتِدَاءُ بِالسَّلَامِ أَمْ لَا؟ فَحَيْثُ شُرِعَ لَهَا كَفَى جَوَابُهَا، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ وَإِلَّا فَلَا، وَمِثْلُهَا كَمَا بَحَثَهُ شَيْخُنَا الْخُنْثَى، وَاحْتَرَزَ بِالْجَمَاعَةِ عَنْ الْوَاحِدِ فَإِنَّ الرَّدَّ عَلَيْهِ فَرْضُ عَيْنٍ إلَّا إنْ كَانَ الْمُسَلِّمُ أَوْ الْمُسَلَّمُ عَلَيْهِ أُنْثَى مُشْتَهَاةً وَالْآخَرُ رَجُلًا وَلَا مَحْرَمِيَّةٌ بَيْنَهُمَا فَلَا يَجِبُ الرَّدُّ ثُمَّ إنْ سَلَّمَ هُوَ حَرُمَ عَلَيْهَا.

أَمَّا إذَا كَانَ هُنَاكَ نَحْوُ مَحْرَمِيَّةٍ كَزَوْجَتِهِ وَعَبْدِ الْمَرْأَةِ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهَا، وَمِثْلُهُ كُلُّ مَنْ يُبَاحُ نَظَرُهُ إلَيْهَا فَيَجِبُ الرَّدُّ، وَلَا يُكْرَهُ عَلَى جَمْعِ نِسْوَةٍ أَوْ عَجُوزٍ لِانْتِفَاءِ خَوْفِ الْفِتْنَةِ، بَلْ يُنْدَبُ الِابْتِدَاءُ بِهِ مِنْهُنَّ عَلَى غَيْرِهِنَّ وَعَكْسَهُ، وَيَجِبُ الرَّدُّ كَذَلِكَ، وَالْخُنْثَى مَعَ الْمَرْأَةِ كَالرَّجُلِ مَعَهَا، وَمَعَ الرَّجُلِ كَالْمَرْأَةِ مَعَهُ وَمَعَ الْخُنْثَى كَالرَّجُلِ مَعَ الْمَرْأَةِ، وَيُشْتَرَطُ فِي الرَّدِّ اتِّصَالُهُ بِالِابْتِدَاءِ لِاتِّصَالِ الْإِيجَابِ بِالْقَبُولِ فِي الْعَقْدِ، فَلَوْ سَلَّمَ جَمَاعَةٌ مُتَفَرِّقُونَ عَلَى وَاحِدٍ فَقَالَ: وَعَلَيْكُمْ السَّلَامُ وَقَصَدَ الرَّدَّ عَلَى جَمِيعِهِمْ أَجْزَأَهُ وَيَسْقُطُ عَنْهُ فَرْضُ الْجَمِيعِ: كَمَا لَوْ صَلَّى عَلَى جَنَائِزَ صَلَاةً وَاحِدَةً كَمَا نَقَلَهُ فِي الْمَجْمُوعِ عَنْ الْمُتَوَلِّي وَالرَّافِعِيِّ وَأَقَرَّهُ، بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يَقْصِدْ الرَّدَّ عَلَيْهِمْ جَمِيعًا، وَقَضِيَّةُ هَذَا أَنَّهُ لَوْ أَطْلَقَ لَمْ يَكْفِهِ.

وَالْأَوْجَهُ كَمَا قَالَ شَيْخُنَا خِلَافُهُ، وَظَاهِرُ كَلَامِ الْمَجْمُوعِ أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يُسَلِّمُوا دُفْعَةً وَاحِدَةً أَوْ مُتَفَرِّقِينَ وَهُوَ كَمَا قَالَهُ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ ظَاهِرٌ فِيمَا إذَا سَلَّمُوا دُفْعَةً وَاحِدَةً. أَمَّا لَوْ سَلَّمُوا وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ وَكَانُوا كَثِيرِينَ فَلَا يَحْصُلَ الرَّدُّ لِكُلِّهِمْ إذْ قَدْ مَرَّ أَنَّ شَرْطَ حُصُولِ الْوَاجِبِ أَنْ يَقَعَ مُتَّصِلًا بِالِابْتِدَاءِ. وَلَا يَجِبُ الرَّدُّ عَلَى مَجْنُونٍ وَسَكْرَانَ وَإِنْ شَمَلَتْهُمَا عِبَارَةُ الْمُصَنِّفِ، وَكَذَا فَاسِقٌ وَنَحْوِهِ كَمُبْتَدَعٍ إنْ كَانَ فِي تَرْكِهِ زَجْرٌ لَهُمَا أَوْ لِغَيْرِهِمَا، وَلَوْ كَتَبَ كِتَابًا وَسَلَّمَ عَلَيْهِ فِيهِ أَوْ أَرْسَلَ رَسُولًا فَقَالَ: سَلِّمْ عَلَى فُلَانٍ فَإِذَا بَلَغَهُ خَبَرُ الْكِتَابِ وَالرِّسَالَةِ لَزِمَهُ الرَّدُّ، وَهَلْ صِيغَةُ إرْسَالِ السَّلَامِ مَعَ الْغَيْرِ السَّلَامُ عَلَى فُلَانٍ أَوْ يَكْفِي سَلِّمْ لِي عَلَى فُلَانٍ كَمَا هُوَ ظَاهِرُ مَا مَرَّ؟ يُؤْخَذُ مِنْ كَلَامِ التَّتِمَّةِ الثَّانِي، وَعِبَارَتُهُ أَنَّهُ لَوْ نَادَاهُ مِنْ وَرَاءِ سِتْرٍ أَوْ حَائِطٍ وَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا فُلَانُ، أَوْ كَتَبَ كِتَابًا وَسَلَّمَ عَلَيْهِ فِيهِ أَوْ أَرْسَلَ رَسُولًا فَقَالَ: سَلِّمْ عَلَى فُلَانٍ فَبَلَغَهُ الْكِتَابُ أَوْ الرِّسَالَةُ وَجَبَ عَلَيْهِ الْجَوَابُ؛ لِأَنَّ تَحِيَّةَ الْغَائِبِ إنَّمَا

ص: 14

وَيُسَنُّ ابْتِدَاؤُهُ.

لَا عَلَى قَاضِي حَاجَةٍ

ــ

[مغني المحتاج]

تَكُونُ بِالْمُنَادَاةِ أَوْ الْكِتَابِ أَوْ الرِّسَالَةِ اهـ.

وَلَوْ سَلَّمَ الْأَصَمُّ جَمَعَ بَيْنَ اللَّفْظِ وَالْإِشَارَةِ، أَمَّا اللَّفْظُ فَلِقُدْرَتِهِ عَلَيْهِ، وَأَمَّا الْإِشَارَةُ فَلِيَحْصُلَ بِهَا الْإِفْهَامُ، وَيَسْتَحِقُّ الْجَوَابَ، وَيَجِبُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا عَلَى مِنْ رَدَّ عَلَيْهِ لِيَحْصُلَ بِهِ الْإِفْهَامُ، وَيَسْقُطُ عَنْهُ فَرْضُ الْجَوَابِ، وَقَضِيَّةُ التَّعْلِيلِ أَنَّهُ إنْ عَلِمَ أَنَّهُ فَهِمَ ذَلِكَ بِقَرِينَةِ الْحَالِ وَالنَّظَرِ إلَى فَمِهِ لَمْ تَجِبْ الْإِشَارَةُ وَهُوَ مَا بَحَثَهُ الْأَذْرَعِيُّ، وَسَلَامُ الْأَخْرَسِ بِالْإِشَارَةِ مُعْتَدٌّ بِهِ وَكَذَا رَدُّهُ؛ لِأَنَّ إشَارَتَهُ قَائِمَةٌ مَقَامَ الْعِبَارَةِ.

تَنْبِيهٌ: لَوْ سَلَّمَ ذِمِّيٌّ عَلَى مُسْلِمٍ قَالَ لَهُ وُجُوبًا كَمَا قَالَهُ الْمَاوَرْدِيُّ وَالرُّويَانِيُّ: وَعَلَيْكَ فَقَطْ، لِخَبَرِ الصَّحِيحَيْنِ «إذَا سَلَّمَ عَلَيْكُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ فَقُولُوا وَعَلَيْكُمْ» وَرَوَى الْبُخَارِيُّ خَبَرَ «إذَا سَلَّمَ عَلَيْكُمْ الْيَهُودُ فَإِنَّمَا يَقُولُ أَحَدُهُمْ: السَّامُ عَلَيْكَ فَقُولُوا وَعَلَيْكَ» وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: كَانَ سُفْيَانُ يَرْوِي عَلَيْكُمْ بِحَذْفِ الْوَاوِ وَهُوَ الصَّوَابُ؛ لِأَنَّهُ إذَا حَذَفَهَا صَارَ قَوْلُهُمْ مَرْدُودًا عَلَيْهِمْ وَإِذَا ذَكَرَهَا وَقَعَ الِاشْتِرَاكُ مَعَهُمْ وَالدُّخُولُ فِيمَا قَالُوهُ. قَالَ الزَّرْكَشِيُّ: وَفِيهِ نَظَرٌ، إذْ الْمَعْنَى: وَنَحْنُ نَدْعُو عَلَيْكُمْ بِمَا دَعَوْتُمْ بِهِ عَلَيْنَا، عَلَى أَنَّا إذَا فَسَّرْنَا السَّامَ بِالْمَوْتِ فَلَا إشْكَالَ لِاشْتِرَاكِ الْخَلْقِ فِيهِ.

فَرْعٌ: لَوْ سَلَّمَ عَلَى إنْسَانٍ وَرَضِيَ أَنْ لَا يَرُدَّ عَلَيْهِ لَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ فَرْضُ الرَّدِّ كَمَا قَالَهُ الْمُتَوَلِّي؛ لِأَنَّهُ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى. وَيَأْثَمُ بِتَعْطِيلِ فَرْضِ الْكِفَايَةِ كُلُّ مَنْ عَلِمَ بِتَعْطِيلِهِ وَقَدَرَ عَلَى الْقِيَامِ بِهِ وَإِنْ بَعُدَ عَنْ الْمَحِلِّ، وَكَذَا يَأْثَمُ قَرِيبٌ مِنْهُ لَمْ يَعْلَمْ بِهِ لِتَقْصِيرِهِ فِي الْبَحْثِ عَنْهُ، وَيَخْتَلِفُ هَذَا بِكِبَرِ الْبَلَدِ وَصِغَرِهِ كَمَا قَالَهُ الْإِمَامُ، وَإِنْ قَامَ بِهِ الْجَمِيعُ فَكُلُّهُمْ مُؤَدٍّ فَرْضَ كِفَايَةٍ، وَإِنْ تَرَتَّبُوا فِي أَدَائِهِ، قَالَ الْإِمَامُ وَغَيْرُهُ: وَالْقِيَامُ بِهِ أَفْضَلُ مِنْ فَرْضِ الْعَيْنِ؛ لِأَنَّ الْقِيَامَ بِفَرْضِ الْعَيْنِ أَسْقَطَ الْحَرَجَ عَنْ نَفْسِهِ وَالْقِيَامَ بِفَرْضِ الْكِفَايَةِ أَسْقَطَ الْحَرَجَ عَنْهُ وَعَنْ الْأُمَّةِ، وَالْمُعْتَمَدُ أَنَّ فَرْضَ الْعَيْنِ أَفْضَلُ كَمَا جَرَى عَلَيْهِ الشَّارِحُ فِي شَرْحِهِ عَلَى جَمْعِ الْجَوَامِعِ.

(وَيُسَنُّ ابْتِدَاؤُهُ) أَيْ السَّلَامِ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ حَتَّى عَلَى الصَّبِيِّ، وَهُوَ سُنَّةُ عَيْنٍ إنْ كَانَ الْمُسَلِّمُ وَاحِدًا، وَسُنَّةُ كِفَايَةٍ إنْ كَانَ جَمَاعَةً. أَمَّا كَوْنُهُ سُنَّةً فَلِقَوْلِهِ تَعَالَى:{فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ} [النور: 61] أَيْ لِيُسَلِّمَ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلِلْأَمْرِ بِإِفْشَاءِ السَّلَامِ فِي الصَّحِيحَيْنِ. وَأَمَّا كَوْنُهُ كِفَايَةً فَلِخَبَرِ أَبِي دَاوُد السَّابِقِ.

أَمَّا الذِّمِّيُّ فَلَا يَجُوزُ ابْتِدَاؤُهُ بِهِ، وَقَدْ يُتَصَوَّرُ وُجُوبُ الِابْتِدَاءِ بِالسَّلَامِ، وَهُوَ مَا لَوْ أَرْسَلَ سَلَامَهُ إلَى غَائِبٍ فَفِي زَوَائِدِ الرَّوْضَةِ يَلْزَمُ الْمُرْسَلَ أَنْ يُبَلِّغَهُ فَإِنَّهُ أَمَانَةٌ وَيَجِبُ أَدَاؤُهَا وَيَجِبُ الرَّدُّ كَمَا مَرَّ، وَيُسَنُّ الرَّدُّ عَلَى الْمُبَلِّغِ وَابْتِدَاءُ السَّلَامِ أَفْضَلُ مِنْ رَدِّهِ كَمَا قَالَهُ الْقَاضِي فِي فَتَاوِيهِ، وَهَذِهِ سُنَّةٌ أَفْضَلُ مِنْ فَرْضٍ، وَنَظِيرُهُ إبْرَاءُ الْمُعْسِرِ سُنَّةٌ وَإِنْظَارُهُ فَرْضٌ وَإِبْرَاؤُهُ أَفْضَلُ.

تَنْبِيهٌ: قَوْلُ الْقَاضِي: لَيْسَ لَنَا سُنَّةُ كِفَايَةٍ غَيْرَ ابْتِدَاءُ السَّلَامِ مِنْ الْجَمَاعَةِ أُورِدَ عَلَيْهِ مَسَائِلُ. مِنْهَا التَّسْمِيَةُ عَلَى الْأَكْلِ، وَمِنْهَا الْأُضْحِيَّةُ فِي حَقِّ أَهْلِ الْبَيْتِ، وَمِنْهَا تَشْمِيتُ الْعَاطِسِ، وَمِنْهَا الْأَذَانُ وَالْإِقَامَةُ.

وَ (لَا) يُسَنُّ ابْتِدَاؤُهُ (عَلَى قَاضِي حَاجَةٍ) لِلنَّهْيِ عَنْهُ فِي سُنَنِ ابْنِ مَاجَهْ،

ص: 15

وَآكِلٍ وَفِي حَمَّامٍ، وَلَا جَوَابَ عَلَيْهِمْ.

ــ

[مغني المحتاج]

وَلِأَنَّ مُكَالَمَتَهُ بَعِيدَةٌ عَنْ الْأَدَبِ، وَالْمُرَادُ بِالْحَاجَةِ حَاجَةُ الْبَوْلِ وَالْغَائِطِ، وَلَا عَلَى الْمُجَامِعِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى (وَ) لَا عَلَى (آكِلٍ) - بِالْمَدِّ - لِشَغْلِهِ بِهِ (وَ) لَا عَلَى مَنْ (فِي حَمَّامٍ) لِاشْتِغَالِهِ بِالِاغْتِسَالِ، وَهُوَ مَأْوَى الشَّيَاطِينَ، وَلَيْسَ مَوْضِعُ تَحِيَّةٍ. وَاسْتَثْنَى مَعَ ذَلِكَ مَسَائِلَ كَثِيرَةً، مِنْهَا الْمُصَلِّي، وَمِنْهَا الْمُؤَذِّنُ، وَمِنْهَا الْخَطِيبُ، وَمِنْهَا الْمُلَبِّي فِي النُّسُكِ، وَمِنْهَا مُسْتَغْرِقُ الْقَلْبِ بِالدُّعَاءِ، وَبِالْقِرَاءَةِ كَمَا بَحَثَهُ الْأَذْرَعِيُّ، وَمِنْهَا النَّائِمُ أَوْ النَّاعِسُ، وَمِنْهَا الْفَاسِقُ وَالْمُبْتَدِعُ؛ لِأَنَّ حَالَتَهُمْ لَا تُنَاسِبُهُ. وَالضَّابِطُ كَمَا قَالَ الْإِمَامُ أَنْ يَكُونَ الشَّخْصُ عَلَى حَالَةٍ لَا يَجُوزُ أَوْ لَا يَلِيقُ بِالْمُرُوءَةِ الْقُرْبُ مِنْهُ (وَلَا جَوَابَ) وَاجِبٌ (عَلَيْهِمْ) لَوْ أُتِيَ بِهِ لِوَضْعِهِ السَّلَامَ فِي غَيْرِ مَحِلِّهِ لِعَدَمِ سَنِّهِ. وَاسْتَثْنَى الْإِمَامُ مِنْ الْأَكْلِ مَا إذَا سَلَّمَ عَلَيْهِ بَعْدَ الِابْتِلَاعِ وَقَبْلَ وَضْعِ لُقْمَةٍ أُخْرَى فَيُسَنُّ السَّلَامُ عَلَيْهِ وَيَجِبُ عَلَيْهِ الرَّدُّ، وَكَذَا مَنْ كَانَ فِي مَحِلِّ نَزْعِ الثِّيَابِ فِي الْحَمَّامِ كَمَا جَرَى عَلَيْهِ الزَّرْكَشِيُّ وَغَيْرُهُ.

تَنْبِيهٌ: مُقْتَضَى كَلَامِهِ اسْتِوَاءُ حُكْمِ الْجَمِيعِ، وَلَيْسَ مُرَادًا، بَلْ يُكْرَهُ الرَّدُّ لِقَاضِي الْحَاجَةِ وَالْمُجَامِعِ، وَيُنْدَبُ لِمَنْ يَأْكُلُ أَوْ فِي حَمَّامٍ، وَكَذَا الْمُصَلِّي وَنَحْوَهُ بِالْإِشَارَةِ.

وَلَوْ سَلَّمَ عَلَى الْمُؤَذِّنِ لَمْ يَجِبْ حَتَّى يَفْرُغَ، وَهَلْ الْإِجَابَةُ بَعْدَ الْفَرَاغِ وَاجِبَةٌ أَوْ مَنْدُوبَةٌ؟ لَمْ يُصَرِّحُوا بِهِ.

وَالْأَوْجَهُ كَمَا قَالَ الْبُلْقِينِيُّ أَنَّهُ لَا يَجِبُ، وَقِيلَ: يَجِبُ عَلَى الْمُصَلِّي الرَّدُّ بَعْدَ الْفَرَاغِ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الرَّدُّ مُطْلَقًا، وَإِذَا سَلَّمَ عَلَى حَاضِرِ الْخُطْبَةِ وَقُلْنَا بِالْجَدِيدِ أَنَّهُ لَا يَحْرُمُ عَلَيْهِمْ الْكَلَامُ، فَفِي الرَّدِّ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: أَصَحُّهَا عِنْدَ الْبَغَوِيِّ وُجُوبُ الرَّدِّ، وَصَحَّحَهُ الْبُلْقِينِيُّ. وَالثَّانِي اسْتِحْبَابُهُ. وَالثَّالِثُ جَوَازُهُ، وَالْخِلَافُ فِي غَيْرِ الْخَطِيبِ. أَمَّا هُوَ فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ الرَّدُّ قَطْعًا لِاشْتِغَالِهِ، وَالْقَارِئُ كَغَيْرِهِ فِي اسْتِحْبَابِ السَّلَامِ وَوُجُوبِ الرَّدِّ بِاللَّفْظِ عَلَى مَنْ سَلَّمَ عَلَيْهِ كَمَا جَرَى عَلَيْهِ ابْنُ الْمُقْرِي إلَّا مُسْتَغْرِقَ الْقَلْبِ كَمَا مَرَّ عَنْ الْأَذْرَعِيِّ.

تَنْبِيهٌ: صِيغَةُ السَّلَامِ ابْتِدَاءً: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ، فَإِنْ قَالَ: عَلَيْكُمْ السَّلَامُ جَازَ؛ لِأَنَّهُ تَسْلِيمٌ لَكِنْ مَعَ الْكَرَاهَةِ لِلنَّهْيِ عَنْهُ فِي خَبَرِ التِّرْمِذِيِّ وَغَيْرِهِ، وَيَجِبُ فِيهِ الرَّدُّ عَلَى الصَّحِيحِ كَمَا نَقَلَهُ فِي الرَّوْضَةِ عَنْ الْإِمَامِ وَأَقَرَّهُ، وَإِنْ بَحَثَ الْأَذْرَعِيُّ عَدَمَ الْوُجُوبِ، وَكَعَلَيْكُمْ السَّلَامُ عَلَيْكُمْ سَلَامٌ. أَمَّا لَوْ قَالَ: وَعَلَيْكُمْ السَّلَامُ فَلَيْسَ سَلَامًا فَلَا يَسْتَحِقُّ جَوَابًا؛ لِأَنَّهُ لَا يَصْلُحُ لِلِابْتِدَاءِ كَمَا نَقَلَهُ فِي الْأَذْكَارِ عَنْ الْمُتَوَلِّي وَأَقَرَّهُ، وَتُنْدَبُ صِيغَةُ الْجَمْعِ لِأَجْلِ الْمَلَائِكَةِ، سَوَاءٌ أَكَانَ الْمُسَلَّمُ عَلَيْهِ وَاحِدًا أَمْ جَمَاعَةً، وَيَكْفِي الْإِفْرَادُ لِلْوَاحِدِ - وَيَكُونُ آتِيًا بِأَصْلِ السُّنَّةِ - دُونَ الْجَمَاعَةِ فَلَا يَكْفِي، وَالْإِشَارَةُ بِهِ بِيَدٍ أَوْ نَحْوِهَا بِلَا لَفْظٍ لَا يَجِبُ لَهَا رَدٌّ لِلنَّهْيِ عَنْهُ فِي خَبَرِ التِّرْمِذِيِّ، وَالْجَمْعُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ اللَّفْظِ أَفْضَلُ مِنْ الِاقْتِصَارِ عَلَى اللَّفْظِ، وَصِيغَتُهُ رَدًّا: وَعَلَيْكُمْ السَّلَامُ، أَوْ وَعَلَيْكَ السَّلَامُ لِلْوَاحِدِ، وَلَوْ تَرَكَ الْوَاوُ فَقَالَ: عَلَيْكُمْ السَّلَامُ أَجْزَأَهُ، وَلَوْ قَالَ: وَالسَّلَامُ عَلَيْكُمْ، أَوْ السَّلَامُ عَلَيْكُمْ كَفَى، فَإِنْ قَالَ: وَعَلَيْكُمْ وَسَكَتَ عَنْ السَّلَامِ لَمْ يَكْفِ، إذْ لَيْسَ فِيهِ تَعَرُّضٌ لِلسَّلَامِ، وَقِيلَ: يُجْزِئُ. فَإِنْ

ص: 16

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

[مغني المحتاج]

قِيلَ: يُؤَيِّدُ هَذَا أَنَّهُ لَوْ سَلَّمَ ذِمِّيٌّ عَلَى مُسْلِمٍ لَمْ يَزِدْ فِي الرَّدِّ عَلَى قَوْلِهِ وَعَلَيْكَ.

أُجِيبَ بِأَنَّهُ لَيْسَ الْغَرَضُ ثَمَّ السَّلَامُ عَلَى الذِّمِّيِّ، بَلْ الْغَرَضُ أَنْ يَرُدَّ عَلَيْهِ بِمَا ثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ وَيَكْفِي سَلَامٌ عَلَيْكُمْ ابْتِدَاءً، وَعَلَيْكُمْ سَلَامٌ جَوَابًا، وَلَكِنَّ التَّعْرِيفَ فِيهِمَا أَفْضَلُ، وَزِيَادَةُ:" وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ " عَلَى السَّلَامِ ابْتِدَاءً وَرَدًّا أُكْمِلُ مِنْ تَرْكِهَا، وَظَاهِرُ كَلَامِهِمْ أَنَّهُ يَكْفِي وَعَلَيْكُمْ السَّلَامُ، وَإِنْ أَتَى الْمُسَلِّمُ بِلَفْظِ الرَّحْمَةِ وَالْبَرَكَةِ. قَالَ: ابْنُ شُهْبَةَ: وَفِيهِ نَظَرٌ أَيْ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ} [النساء: 86] الْآيَةَ، وَلَوْ سَلَّمَ كُلٌّ مِنْ اثْنَيْنِ تَلَاقِيًا عَلَى الْآخِرِ مَعًا لَزِمَ كُلًّا مِنْهُمَا الرَّدُّ عَلَى الْآخَرِ وَلَا يُحَصِّلُ الْجَوَابُ بِالسَّلَامِ، أَوْ مُرَتَّبًا كَفَى الثَّانِي سَلَامُهُ رَدًّا إلَّا إذَا قَصَدَ بِهِ الِابْتِدَاءُ فَلَا يَكْفِي كَمَا قَالَهُ الزَّرْكَشِيُّ لِصَرْفِهِ عَنْ الْجَوَابِ.

فُرُوعٌ: يُنْدَبُ أَنْ يُسَلِّمَ الرَّاكِبُ عَلَى الْمَاشِي، وَالْمَاشِي عَلَى الْوَاقِفِ، وَالصَّغِيرُ عَلَى الْكَبِيرِ، وَالْجَمْعُ الْقَلِيلُ عَلَى الْجَمْعِ الْكَثِيرِ فِي حَالِ التَّلَاقِي فِي طَرِيقٍ، فَإِنْ عَكَسَ لَمْ يُكْرَهْ، أَمَّا إذَا وَرَدَ مَنْ ذُكِرَ عَلَى قَاعِدٍ أَوْ وَاقِفٍ أَوْ مُضْطَجِعٍ فَإِنَّ الْوَارِدَ يُبْدَأُ، سَوَاءٌ أَكَانَ صَغِيرًا أَمْ لَا، قَلِيلًا أَمْ لَا، وَيُكْرَهُ تَخْصِيصُ الْبَعْضِ مِنْ الْجَمْعِ بِالسَّلَامِ ابْتِدَاءً وَرَدًّا.

وَلَوْ سَلَّمَ بِالْعَجَمِيَّةِ جَازَ إنْ أَفْهَمَ الْمُخَاطَبُ وَإِنْ قَدَرَ عَلَى الْعَرَبِيَّةِ، وَيَجِبُ الرَّدُّ؛ لِأَنَّهُ يُسَمَّى سَلَامًا. وَيَحْرُمُ أَنْ يَبْدَأَ بِهِ الشَّخْصُ ذِمِّيًّا لِلنَّهْيِ عَنْهُ، فَإِنْ بَانَ مَنْ سَلَّمَ عَلَيْهِ ذِمِّيًّا فَلْيَقُلْ لَهُ نَدْبًا: اسْتَرْجَعْتُ سَلَامِي كَمَا فِي الرَّوْضَةِ، أَوْ رُدَّ عَلَيَّ سَلَامِي كَمَا فِي الْأَذْكَارِ تَحْقِيرًا لَهُ، وَيَسْتَثْنِيه بِقَلْبِهِ إنْ كَانَ بَيْنَ مُسْلِمِينَ، وَلَا يَبْدَأُ بِتَحِيَّةٍ غَيْرِ السَّلَامِ أَيْضًا كَأَنْعَمَ اللَّهُ صَبَاحَكَ، أَوْ صُبِّحْت بِالْخَيْرِ إلَّا لِعُذْرٍ، وَإِنْ كَتَبَ إلَى كَافِرٍ كَتَبَ نَدْبًا السَّلَامُ عَلَى مَنْ اتَّبَعَ الْهُدَى.

وَلَوْ قَامَ عَنْ مَجْلِسٍ فَسَلَّمَ وَجَبَ الرَّدُّ عَلَيْهِ، وَمَنْ دَخَلَ دَارًا نُدِبَ أَنْ يُسَلِّمَ عَلَى أَهْلِهِ، وَإِنْ دَخَلَ مَوْضِعًا خَالِيًا عَنْ النَّاسِ نُدِبَ أَنْ يَقُولَ: السَّلَامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ، وَيُنْدَبُ أَنْ يُسَمِّيَ قَبْلَ دُخُولِهِ، وَيَدْعُوَ بِمَا أَحَبَّ ثُمَّ يُسَلِّمَ بَعْدَ دُخُولِهِ، وَأَنْ يَبْدَأُ بِالسَّلَامِ قَبْلَ الْكَلَامِ، وَإِنْ كَانَ مَارًّا فِي سُوقٍ وَجَمْعٍ لَا يَنْتَشِرُ فِيهِمْ 883 السَّلَامُ الْوَاحِدُ سَلَّمَ عَلَى مَنْ يَلِيه أَوَّلَ مُلَاقَاتَهُ، فَإِنْ جَلَسَ إلَى مَنْ سَمِعَهُ سَقَطَ عَنْهُ سُنَّةُ السَّلَامِ، أَوْ إلَى مَنْ لَمْ يَسْمَعْهُ سَلَّمَ ثَانِيًا،.

وَلَا يَتْرُكُ السَّلَامَ لِخَوْفِ عَدَمِ الرَّدِّ عَلَيْهِ لِتَكَبُّرٍ أَوْ غَيْرِهِ، وَالتَّحِيَّةُ مِنْ الْمَارِّ عَلَى مَنْ خَرَجَ مِنْ حَمَّامٍ أَوْ عَلَى غَيْرِهِ بِنَحْوِ صَبَّحَكَ اللَّهُ بِالْخَيْرِ أَوْ السَّعَادَةِ، أَوْ طَابَ حَمَّامُكَ، أَوْ قَوَّاك اللَّهُ لَا أَصْلَ لَهَا إذْ لَمْ يَثْبُتْ فِيهَا شَيْءٌ وَلَا جَوَابَ لِقَائِلِهَا، فَإِنْ أَجَابَ بِالدُّعَاءِ فَحَسَنٌ إلَّا أَنْ يُرِيدَ تَأْدِيبَهُ لِتَرْكِهِ السَّلَامَ فَتَرْكُ الدُّعَاءِ لَهُ أَحْسَنُ. وَأَمَّا التَّحِيَّةُ بِالطَّلْبَقَةِ وَهِيَ أَطَالَ اللَّهُ بَقَاءَكَ فَقِيلَ بِكَرَاهَتِهَا.

وَالْأَوْجَهُ أَنْ يُقَالَ: كَمَا قَالَ: الْأَذْرَعِيُّ: إنَّهُ إنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الدِّينِ أَوْ الْعِلْمِ، أَوْ مِنْ وُلَاةِ الْعَدْلِ فَالدُّعَاءُ لَهُ بِذَلِكَ قُرْبَةٌ وَإِلَّا فَمَكْرُوهٌ، وَحَنْيُ الظَّهْرِ مَكْرُوهٌ، وَلَا يُغْتَرُّ بِكَثْرَةِ مَنْ يَفْعَلُهُ.

وَتَقْبِيلُ الْيَدِ لِزُهْدٍ أَوْ صَلَاحٍ أَوْ نَحْوِهِ مِنْ الْأُمُورِ الدِّينِيَّةِ كَكِبَرِ سِنٍّ وَشَرَفٍ وَصِيَانَةٍ مُسْتَحَبٌّ، وَتَقْبِيلُهَا لِدُنْيَا أَوْ ثَرْوَةٍ أَوْ نَحْوِهَا كَشَوْكَةٍ وَوَجَاهَةٍ مَكْرُوهٌ شَدِيدُ الْكَرَاهَةِ، وَتَقْبِيلُ خَدِّ طِفْلٍ لَا يُشْتَهَى وَلَوْ لِغَيْرِهِ، وَتَقْبِيلُ كُلٍّ مِنْ أَطْرَافِهِ شَفَقَةً وَرَحْمَةً سُنَّةٌ.

وَلَا بَأْسَ بِتَقْبِيلِ وَجْهِ الْمَيِّتِ الصَّالِحِ لِلتَّبَرُّكِ، وَيُنْدَبُ الْقِيَامُ لِلدَّاخِلِ إنْ كَانَ فِيهِ فَضِيلَةٌ ظَاهِرَةٌ مِنْ عِلْمٍ أَوْ صَلَاحٍ، أَوْ شَرَفٍ، أَوْ

ص: 17