المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌كتاب القضاء ــ ‌ ‌[مغني المحتاج] [كِتَابُ الْقَضَاءِ] بِالْمَدِّ: أَيْ الْحُكْمُ بَيْنَ النَّاسِ، وَجَمْعُهُ - مغني المحتاج إلى معرفة معاني ألفاظ المنهاج - جـ ٦

[الخطيب الشربيني]

فهرس الكتاب

- ‌كتاب السير

- ‌[مَوَانِعِ الْجِهَادِ]

- ‌[فَصْل فِيمَا يُكْرَهُ مِنْ الْغَزْوِ وَمَنْ يَحْرُمُ]

- ‌[فَصْل فِي حُكْمِ مَا يُؤْخَذ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ]

- ‌[فَصَلِّ فِي حُكْمِ أَمْوَالِ الْحَرْبِيِّينَ]

- ‌[فَصْل فِي الْأَمَانِ]

- ‌[كِتَاب عَقْد الْجِزْيَةِ لِلْكُفَّارِ]

- ‌[فَصْل أَقَلُّ الْجِزْيَةِ دِينَارٌ لِكُلِّ سَنَةٍ]

- ‌[فَصْل فِي أَحْكَامِ عَقْدِ الْجِزْيَةِ الزَّائِدَةِ]

- ‌باب الهدنة

- ‌[فَصَلِّ فِي أَحْكَامِ الْهُدْنَةِ]

- ‌كِتَابُ الصَّيْدِ

- ‌[فَصْلٌ فِي شَرْطِ الرُّكْنِ الثَّانِي وَهُوَ الذَّابِحُ]

- ‌[فَصْلٌ فِي الرُّكْنِ الثَّالِثِ وَهُوَ الذَّبِيحُ]

- ‌[فَصْلٌ ذَبْحُ حَيَوَانٍ مَقْدُورٍ عَلَيْهِ وَجَرْحُ حَيَوَانٍ غَيْرِهِ]

- ‌[فَصْلٌ فِيمَا يَمْلِكُ بِهِ الصَّيْدَ]

- ‌[كِتَابُ الْأُضْحِيَّةِ]

- ‌[فَصْلٌ فِي الْعَقِيقَةِ]

- ‌[كِتَابُ الْأَطْعِمَةِ]

- ‌كِتَابُ الْمُسَابَقَةِ

- ‌كتاب الإيمان

- ‌[فَصَلِّ صِفَةُ كَفَّارَةِ الْيَمِينِ]

- ‌[فَصْلٌ فِي الْحَلِفِ عَلَى السُّكْنَى لَا يُقِيمُ فِيهَا وَهُوَ فِيهَا]

- ‌[فَصَلِّ فِي الْحَلِفِ عَلَى أَكْلٍ أَوْ شُرْبٍ]

- ‌[فَصَلِّ فِي مَسَائِلَ مَنْثُورَةٍ]

- ‌[كِتَابُ النَّذْرِ]

- ‌[فَصَلِّ فِيمَنْ نَذْرِ حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ أَوْ هَدْيٍ أَوْ غَيْرِهَا]

- ‌كتاب القضاء

- ‌[فَصَلِّ فِيمَا يَعْرِضُ لِلْقَاضِي مِمَّا يَقْتَضِي عَزْلَهُ أَوْ انْعِزَالَهُ]

- ‌[فَصَلِّ آدَابِ الْقَضَاءِ]

- ‌[فَصَلِّ التَّسْوِيَةِ بَيْنَ الْخَصْمَيْنِ]

- ‌بَابُ الْقَضَاءِ عَلَى الْغَائِبِ

- ‌[فَصَلِّ الدَّعْوَى بِعَيْنٍ غَائِبَةٍ أَوْ غَيْرِهَا وَسَمَاعِ الْبَيِّنَةِ وَالْحُكْمِ بِهَا]

- ‌[فَصَلِّ ضَابِطِ الْغَائِبِ الْمَحْكُومِ عَلَيْهِ]

- ‌باب القسمة

- ‌كِتَابُ الشَّهَادَاتِ

- ‌[فَصْلٌ فِيمَا يُعْتَبَرُ فِيهِ شَهَادَةُ الرِّجَالِ]

- ‌[فَصْلٌ فِي تَحَمُّلِ الشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ وَأَدَائِهَا]

- ‌[فَصْلٌ فِي رُجُوعِ الشُّهُودِ عَنْ شَهَادَتِهِمْ]

- ‌كتاب الدعوى

- ‌[فَصْلٌ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِجَوَابِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ]

- ‌[فَصْلٌ فِي كَيْفِيَّةِ الْحَلِفِ وَالتَّغْلِيظِ فِيهِ]

- ‌[فَصْلٌ فِي تَعَارُضِ الْبَيِّنَتَيْنِ مِنْ شَخْصَيْنِ]

- ‌[فَصْلٌ فِي اخْتِلَافِ الْمُتَدَاعِيَيْنِ]

- ‌[فَصْلٌ فِي شُرُوطِ الْقَائِفِ وَبَيَانِ إلْحَاقِهِ النَّسَبَ بِغَيْرِهِ]

- ‌كتاب العتق

- ‌[فَصْلٌ فِي الْعِتْقِ بِالْبَعْضِيَّةِ]

- ‌[فَصْلٌ فِي الْإِعْتَاقِ فِي مَرَضِ الْمَوْتِ]

- ‌فصل في الولاء

- ‌كتاب التدبير

- ‌[فَصَلِّ فِي حُكْمِ حَمْلِ الْمُدَبَّرَةِ وَالْمُعَلَّقِ عِتْقُهَا]

- ‌كِتَابُ الْكِتَابَةِ

- ‌[فَصَلِّ فِي لُزُومِ الْكِتَابَةِ وَجَوَازِهَا وَمَا يَعْرِضُ لَهَا]

- ‌[فَصَلِّ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ الْكِتَابَةِ الْبَاطِلَةِ وَالْفَاسِدَةِ]

- ‌كتاب أمهات الأولاد

- ‌[خَاتِمَة]

الفصل: ‌ ‌كتاب القضاء ــ ‌ ‌[مغني المحتاج] [كِتَابُ الْقَضَاءِ] بِالْمَدِّ: أَيْ الْحُكْمُ بَيْنَ النَّاسِ، وَجَمْعُهُ

‌كتاب القضاء

ــ

[مغني المحتاج]

[كِتَابُ الْقَضَاءِ]

بِالْمَدِّ: أَيْ الْحُكْمُ بَيْنَ النَّاسِ، وَجَمْعُهُ أَقْضِيَةٌ كَقَبَاءٍ وَأَقْبِيَةٌ، وَهُوَ لُغَةً: إحْكَامُ الشَّيْءِ وَإِمْضَاؤُهُ، وَمِنْهُ:{وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ} [الإسراء: 4] وَفَرَاغُهُ مِنْهُ {فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ} [القصص: 15] أَيْ قَتَلَهُ، وَفَرَغَ مِنْهُ، وَإِتْمَامُهُ، وَمِنْهُ:{لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمًّى} [الأنعام: 60] لِيَتِمَّ الْأَجَلُ. وَشَرْعًا الْخُصُومَةُ بَيْنَ خَصْمَيْنِ فَأَكْثَرَ بِحُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى. قَالَ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ: الْحُكْمُ الَّذِي يَسْتَفِيدُهُ الْقَاضِي بِالْوِلَايَةِ هُوَ إظْهَارُ حُكْمِ الشَّرْعِ فِي الْوَاقِعَةِ فِيمَنْ يَجِبُ عَلَيْهِ إمْضَاؤُهُ فِيهِ بِخِلَافِ الْمُفْتِي، فَإِنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ إمْضَاؤُهُ، وَسُمِّيَ الْقَضَاءُ حُكْمًا لِمَا فِيهِ مِنْ الْحِكْمَةِ الَّتِي تُوجِبُ وَضْعَ الشَّيْءِ فِي مَحَلِّهِ لِكَوْنِهِ يَكُفُّ الظَّالِمَ عَنْ ظُلْمِهِ، أَوْ مِنْ إحْكَامِ الشَّيْءِ، وَمِنْهُ حَكَمَةُ اللِّجَامِ لِمَنْعِهِ الدَّابَّةَ مِنْ رُكُوبِهَا رَأْسِهَا، وَقَدْ قِيلَ: إنَّ الْحِكْمَةَ مَأْخُوذَةٌ مِنْ هَذَا أَيْضًا لِمَنْعِهَا النَّفْسَ مِنْ هَوَاهَا. وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْإِجْمَاعُ فَمِنْ الْكِتَابِ آيَاتٌ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} [المائدة: 49] وقَوْله تَعَالَى: {فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ} [المائدة: 42] وقَوْله تَعَالَى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ} [النساء: 105] وَمِنْ السُّنَّةِ أَخْبَارٌ كَخَبَرِ الصَّحِيحَيْنِ «إذَا اجْتَهَدَ الْحَاكِمُ فَأَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ، وَإِنْ أَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ» ، وَفِي رِوَايَةٍ صَحَّحَ الْحَاكِمُ إسْنَادَهَا «فَلَهُ عَشَرَةُ أُجُورٍ» ، وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ خَبَرَ «إذَا جَلَسَ الْحَاكِمُ لِلْحُكْمِ بَعَثَ اللَّهُ لَهُ مَلَكَيْنِ يُسَدِّدَانِهِ وَيُوَفِّقَانِهِ، فَإِنْ عَدَلَ أَقَامَا، وَإِنْ جَارَ عَرَجَا وَتَرَكَاهُ» .

قَالَ الْمُصَنِّفُ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ يَعْنِي الَّذِي فِي الصَّحِيحَيْنِ فِي حَاكِمٍ عَالِمٍ أَهْلٍ لِلْحُكْمِ إنْ أَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ بِاجْتِهَادِهِ، وَإِنْ أَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ بِاجْتِهَادِهِ فِي طَلَبِ الْحَقِّ. أَمَّا مَنْ لَيْسَ بِأَهْلٍ لِلْحُكْمِ فَلَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَحْكُمَ، وَإِنْ حَكَمَ فَلَا أَجْرَ لَهُ، بَلْ هُوَ آثِمٌ وَلَا يَنْفُذُ حُكْمُهُ سَوَاءٌ وَافَقَ الْحَقَّ أَمْ لَا؛ لِأَنَّ إصَابَتَهُ اتِّفَاقِيَّةٌ لَيْسَتْ صَادِرَةً عَنْ أَصْلٍ شَرْعِيٍّ، فَهُوَ عَاصٍ فِي جَمِيعِ أَحْكَامِهِ، سَوَاءٌ وَافَقَ الصَّوَابَ أَمْ لَا، وَهِيَ مَرْدُودَةٌ

ص: 257

هُوَ فَرْضُ كِفَايَةٍ.

ــ

[مغني المحتاج]

كُلُّهَا، وَلَا يُعْذَرُ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، وَقَدْ رَوَى الْأَرْبَعَةُ وَالْحَاكِمُ وَالْبَيْهَقِيُّ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«الْقُضَاةُ ثَلَاثَةٌ: قَاضِيَانِ فِي النَّارِ وَقَاضٍ فِي الْجَنَّةِ، فَأَمَّا الَّذِي فِي الْجَنَّةِ فَرَجُلٌ عَرَفَ الْحَقَّ وَقَضَى بِهِ، وَاَللَّذَانِ فِي النَّارِ: رَجُلٌ عَرَفَ الْحَقَّ فَجَارَ فِي الْحُكْمِ، وَرَجُلٌ قَضَى لِلنَّاسِ عَلَى جَهْلٍ» فَالْقَاضِي الَّذِي يَنْفُذُ حُكْمُهُ هُوَ الْأَوَّلُ، وَالثَّانِي وَالثَّالِثُ لَا اعْتِبَارَ بِحُكْمِهِمَا، وَالْإِجْمَاعُ مُنْعَقِدٌ عَلَى فِعْلِهِ سَلَفًا وَخَلَفًا. وَقَدْ اسْتَقْضَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَالْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ بَعْدَهُ فَمَنْ بَعْدَهُمْ وَوَلِيَهُ سَادَاتٌ وَتَوَرَّعَ عَنْهُ مِثْلُهُمْ، وَوَرَدَ مِنْ التَّرْغِيبِ وَالتَّحْذِيرِ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ، وَلَا شَكَّ أَنَّهُ مَنْصِبٌ عَظِيمٌ إذَا قَامَ الْعَبْدُ بِحَقِّهِ، وَلَكِنَّهُ خَطِرٌ وَالسَّلَامَةُ فِيهِ بَعِيدَةٌ إلَّا مَنْ عَصَمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَقَدْ كَتَبَ سَلْمَانُ الْفَارِسِيُّ إلَى أَبِي الدَّرْدَاءِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - لَمَّا كَانَ قَاضِيًا بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ:" إنَّ الْأَرْضَ لَا تُقَدِّسُ أَحَدًا، وَإِنَّمَا يُقَدِّسُ الْمَرْءَ عَمَلُهُ، وَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّك جُعِلْت طَبِيبًا تُدَاوِي، فَإِنْ كُنْت تُبْرِئُ فَنِعِمَّا لَك، وَإِنْ كُنْت مُطَبِّبًا فَاحْذَرْ أَنْ تَقْتُلَ أَحَدًا فَتَدْخُلَ النَّارَ "، فَمَا بَالُك بِمَنْ لَيْسَ بِطَبِيبٍ وَلَا مُطَبِّبٍ، وَقَالَ بَعْضُ الْأَكَابِرِ مِمَّنْ دَخَلَ فِي الْقَضَاءِ: أَنَا نَذِيرٌ لِمَنْ يَكُونُ عِنْدَهُ أَهْلِيَّةُ الْعِلْمِ أَنْ لَا يَتَوَلَّى الْقَضَاءَ. فَإِنَّ كَلَامَ الْعُلَمَاءِ يُؤْخَذُ بِالْقَبُولِ، وَكَلَامَ الْقُضَاةِ تَسْرِي إلَيْهِ الظُّنُونُ، وَإِنْ تَرَتَّبَ عَلَى الْقَضَاءِ أَجْرٌ فِي وَقَائِعَ جُزْئِيَّةٍ، فَالْعِلْمُ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ أُمُورٌ كُلِّيَّةٌ تَبْقَى إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَا وَرَدَ فِي التَّحْذِيرِ عَنْهُ «مَنْ جُعِلَ قَاضِيًا ذُبِحَ بِغَيْرِ سِكِّينٍ» ، فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى مَنْ يُكْرَهُ لَهُ الْقَضَاءُ، أَوْ يَحْرُمُ عَلَى مَا سَيَأْتِي (هُوَ) أَيْ قَبُولُ تَوْلِيَةِ الْقَضَاءِ مِنْ الْإِمَامِ (فَرْضُ كِفَايَةٍ) فِي حَقِّ الصَّالِحِينَ لَهُ فِي النَّاحِيَةِ.

أَمَّا كَوْنُهُ فَرْضًا فَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: {كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ} [النساء: 135] وَلِأَنَّ طِبَاعَ الْبَشَرِ مَجْبُولَةٌ عَلَى التَّظَالُمِ وَمَنْعِ الْحُقُوقِ وَقَلَّ مَنْ يُنْصِفُ مِنْ نَفْسِهِ، وَلَا يَقْدِرُ الْإِمَامُ عَلَى فَصْلِ الْخُصُومَاتِ بِنَفْسِهِ فَدَعَتْ الْحَاجَةُ إلَى تَوْلِيَةِ الْقَضَاءِ. وَأَمَّا كَوْنُهُ عَلَى الْكِفَايَةِ فَلِأَنَّهُ أَمْرٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ نَهْيٌ عَنْ مُنْكَرٍ، وَهُمَا عَلَى الْكِفَايَةِ «وَقَدْ بَعَثَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلِيًّا إلَى الْيَمَنِ قَاضِيًا، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ بَعَثْتَنِي أَقْضِي بَيْنَهُمْ وَأَنَا شَابٌّ لَا أَدْرِي مَا الْقَضَاءُ فَضَرَبَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم صَدْرَهُ وَقَالَ: اللَّهُمَّ اهْدِهِ وَثَبِّتْ لِسَانَهُ، قَالَ: فَوَاَلَّذِي فَلَقَ الْحَبَّةَ وَبَرَأَ النَّسَمَةَ مَا شَكَكْت فِي قَضَاءٍ بَيْنَ اثْنَيْنِ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالْحَاكِمُ وَقَالَ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ، وَاسْتَخْلَفَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَتَّابَ بْنَ أَسِيدٍ عَلَى مَكَّةَ وَالِيًا وَقَاضِيًا، وَقَلَّدَ مُعَاذًا قَضَاءَ الْيَمَنِ وَبَعَثَ أَبُو بَكْرٍ إنْسَانًا إلَى الْبَحْرَيْنِ: وَبَعَثَ عُمَرُ أَبَا مُوسَى الْأَشْعَرِيَّ إلَى الْبَصْرَةِ، فَلَوْ كَانَ فَرْضَ عَيْنٍ لَمْ

ص: 258

فَإِنْ تَعَيَّنَ لَزِمَهُ طَلَبُهُ.

وَإِلَّا فَإِنْ كَانَ غَيْرُهُ أَصْلَحَ، وَكَانَ يَتَوَلَّاهُ فَلِلْمَفْضُولِ الْقَبُولُ، وَقِيلَ: لَا، وَيُكْرَهُ طَلَبُهُ، وَقِيلَ: يَحْرُمُ،

ــ

[مغني المحتاج]

يَكْفِ وَاحِدٌ، وَعَنْ الْقَاضِي أَبِي الطَّيِّبِ اسْتِحْبَابُ نَصْبِ الْقُضَاةِ فِي الْبُلْدَانِ. قَالَ ابْنُ الرِّفْعَةِ: وَلَمْ أَرَهُ لِغَيْرِهِ، فَعَلَى الْمَشْهُورِ إذَا قَامَ بِالْفَرْضِ مَنْ يَصْلُحُ سَقَطَ الْفَرْضُ عَنْ الْبَاقِينَ، وَإِنْ امْتَنَعُوا أَثِمُوا وَأَجْبَرَ الْإِمَامُ أَحَدَ الصَّالِحِينَ عَلَى الصَّحِيحِ، وَخَرَجَ بِقَبُولِ التَّوْلِيَةَ إيقَاعُهَا لِلْقَاضِي مِنْ الْإِمَامِ فَإِنَّهَا فَرْضُ عَيْنٍ عَلَيْهِ لِدُخُولِهِ فِي عُمُومِ وِلَايَتِهِ وَلَا يَصِحُّ إلَّا مِنْ جِهَتِهِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَتَوَقَّفَ حَتَّى يُسْأَلَ لِأَنَّهَا مِنْ الْحُقُوقِ الْمُسْتَرْعَاةِ، وَقَدْ مَرَّ فِي كِتَابِ السِّيَرِ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْإِمَامِ أَنْ يُوَلِّيَ فِي كُلِّ مَسَافَةِ عَدْوَى قَاضِيًا كَمَا يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَجْعَلَ فِي كُلِّ مَسَافَةِ قَصْرٍ مُفْتِيًا، وَتَقَدَّمَ هُنَاكَ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا. قَالَ الْبُلْقِينِيُّ: وَأَمَّا إيقَاعُ الْقَضَاءِ بَيْنَ الْمُتَنَازِعَيْنِ فَفَرْضُ عَيْنٍ عَلَى الْإِمَامِ بِنَفْسِهِ أَوْ نَائِبِهِ، وَإِنْ تَرَافَعَا إلَى النَّائِبِ فَإِيقَاعُ الْقَضَاءِ بَيْنَهُمَا فَرْضُ عَيْنٍ عَلَيْهِ، وَلَا يَجُوزُ لَهُ الدَّفْعُ إذَا كَانَ فِيهِ تَعْطِيلٌ وَتَطْوِيلُ نِزَاعٍ.

(فَإِنْ)(تَعَيَّنَ) لِلْقَضَاءِ وَاحِدٌ فِي تِلْكَ النَّاحِيَةِ بِأَنْ لَمْ يَصْلُحْ غَيْرُهُ (لَزِمَهُ طَلَبُهُ) إنْ لَمْ يُعْرَضْ عَلَيْهِ لِلْحَاجَةِ إلَيْهِ، وَلَا يُعْذَرُ لِخَوْفِ مَيْلٍ مِنْهُ، بَلْ يَلْزَمُهُ أَنْ يَطْلُبَ وَيُقْبَلَ وَيُحْتَرَزَ مِنْ الْمَيْلِ كَسَائِرِ فُرُوضِ الْأَعْيَانِ.

تَنْبِيهٌ: مَحَلُّ وُجُوبِ الطَّلَبِ إذَا ظَنَّ الْإِجَابَةَ كَمَا بَحَثَهُ الْأَذْرَعِيُّ، فَإِنْ تَحَقَّقَ أَوْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ عَدَمُهَا لِمَا عَلِمَ مِنْ فَسَادِ الزَّمَانِ وَأَئِمَّتِهِ لَمْ يَلْزَمْهُ، فَإِنْ عُرِضَ عَلَيْهِ لَزِمَهُ الْقَبُولُ، فَإِنْ امْتَنَعَ عَصَى، وَلِلْإِمَامِ إجْبَارُهُ عَلَى الْأَصَحِّ؛ لِأَنَّ النَّاسَ مُضْطَرُّونَ إلَى عِلْمِهِ وَنَظَرِهِ فَأَشْبَهَ صَاحِبَ الطَّعَامِ إذَا مَنَعَهُ الْمُضْطَرُّ. فَإِنْ قِيلَ: إنَّهُ بِامْتِنَاعِهِ حِينَئِذٍ يَصِيرُ فَاسِقًا، وَيُحْمَلُ قَوْلُهُمْ عَلَى أَنَّهُ يُجْبَرُ أَنَّهُ يُؤْمَرُ بِالتَّوْبَةِ أَوَّلًا، فَإِذَا تَابَ أُجْبِرَ.

أُجِيبَ بِأَنَّهُ لَا يَفْسُقُ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ غَالِبًا إلَّا مُتَأَوِّلًا لِلتَّحْذِيرَاتِ الْوَارِدَةِ فِي الْبَابِ وَاسْتِشْعَارِهِ مِنْ نَفْسِهِ الْعَجْزَ، وَعَدَمِ اعْتِمَادِهِ عَلَى نَفْسِهِ الْأَمَّارَةِ بِالسُّوءِ. وَكَيْفَ يَفْسُقُ مَنْ امْتَنَعَ مُتَأَوِّلًا تَأْوِيلًا سَائِغًا أَدَّاهُ اجْتِهَادُهُ إلَيْهِ، وَأَنَّ الْمُنْجِيَ لَهُ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ وَسَخَطِهِ عَدَمُ التَّلَبُّسِ بِهَذَا الْأَمْرِ، وَقَدْ يَرَى هُوَ أَنَّهُ لَا يَعْرِفُ إلَّا بِاعْتِرَافِهِ، فَالْوَجْهُ عَدَمُ فِسْقِهِ بِمُجَرَّدِ امْتِنَاعِهِ خَوْفًا عَلَى دِينِهِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَعْذَارِ الْبَاطِنَةِ الْخَفِيَّةِ عَلَيْنَا، بَلْ وَلَا يُعْصِي بِذَلِكَ أَيْضًا لِمَا ذُكِرَ، وَلَوْ خَلَا الزَّمَانُ عَنْ إمَامٍ رَجَعَ النَّاسُ إلَى الْعُلَمَاءِ، فَإِنْ كَثُرَ عُلَمَاءُ النَّاحِيَةِ فَالْمُتَّبَعُ أَعْلَمُهُمْ، فَإِنْ اسْتَوَوْا وَتَنَازَعُوا أُقْرِعَ كَمَا قَالَهُ الْإِمَامُ.

(وَإِلَّا) بِأَنْ لَمْ يَتَعَيَّنْ لِلْقَضَاءِ وَاحِدٌ فِي تِلْكَ النَّاحِيَةِ لِوُجُودِ غَيْرِهِ مَعَهُ نَظَرْت (فَإِنْ كَانَ غَيْرُهُ أَصْلَحَ) لِتَوْلِيَةِ الْقَضَاءِ مِنْهُ (وَكَانَ) الْأَصْلَحُ (يَتَوَلَّاهُ) أَيْ يَرْضَى بِتَوْلِيَتِهِ (فَلِلْمَفْضُولِ) الْمُتَّصِفِ بِصِفَةِ الْقَضَاءِ وَهُوَ غَيْرُ الْأَصْلَحِ (الْقَبُولُ) لِلتَّوْلِيَةِ إذَا بَذَلَ لَهُ مِنْ غَيْرِ طَلَبٍ فِي الْأَصَحِّ (وَقِيلَ: لَا) يَجُوزُ لَهُ قَبُولُهَا (وَ) عَلَى الْأَوَّلِ (يُكْرَهُ طَلَبُهُ) لِوُجُودِ مَنْ هُوَ أَوْلَى مِنْهُ (وَقِيلَ: يَحْرُمُ) وَاسْتَشْكَلَهُ الْإِمَامُ بِأَنَّهُ إذَا كَانَ النَّصْبُ جَائِزًا، فَكَيْفَ يَحْرُمُ طَلَبُ الْجَائِزِ؟ ، وَنَظِيرُ هَذَا سُؤَالُ الصَّدَقَةِ فِي الْمَسْجِدِ، فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ، وَيَجُوزُ إعْطَاؤُهُ عَلَى الْأَصَحِّ، إذْ الْإِعْطَاءُ بِاخْتِيَارِ الْمُعْطِي فَالسُّؤَالُ كَالْعَدَمِ، وَعَلَى الثَّانِي يَحْرُمُ طَلَبُهُ.

ص: 259

وَإِنْ كَانَ مِثْلَهُ فَلَهُ الْقَبُولُ.

وَيُنْدَبُ الطَّلَبُ إنْ كَانَ خَامِلًا يَرْجُو بِهِ نَشْرَ الْعِلْمِ أَوْ مُحْتَاجًا إلَى الرِّزْقِ،

ــ

[مغني المحتاج]

تَنْبِيهٌ: أَشْعَرَ قَوْلُهُ يَتَوَلَّاهُ تَخْصِيصُ الْخِلَافِ بِرِضَاهُ بِالتَّوْلِيَةِ، فَإِنْ لَمْ يَرْضَ بِهَا فَكَالْعَدِمِ وَهُوَ كَذَلِكَ كَمَا فِي الرَّوْضَةِ وَأَصْلِهَا، وَمَحَلُّهُ أَيْضًا حَيْثُ لَا عُذْرَ، فَإِنْ كَانَ لِكَوْنِ الْمَفْضُولِ أَطْوَعَ فِي النَّاسِ أَوْ أَقْرَبَ لِلْقُلُوبِ، أَوْ كَانَ الْأَفْضَلُ غَائِبًا أَوْ مَرِيضًا انْعَقَدَ لِلْمَفْضُولِ جَزْمًا كَمَا قَالَهُ الْمَاوَرْدِيُّ (وَإِنْ كَانَ) غَيْرُهُ (مِثْلَهُ) وَسُئِلَ بِلَا طَلَبٍ (فَلَهُ الْقَبُولُ) لِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِهِ، وَلَا يَلْزَمُهُ عَلَى الْأَصَحِّ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَقُومُ بِهِ غَيْرُهُ، وَقَدْ امْتَنَعَ ابْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما لَمَّا سَأَلَهُ عُثْمَانُ رضي الله عنه الْقَضَاءَ، رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ.

وَعُرِضَ عَلَى الْحُسَيْنِ بْنِ مَنْصُورٍ النَّيْسَابُورِيِّ قَضَاءُ نَيْسَابُورَ، فَاخْتَفَى ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَدَعَا اللَّهَ تَعَالَى فَمَاتَ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ، وَوَرَدَ كِتَابُ السُّلْطَانِ بِتَوْلِيَةِ نَصْرِ بْنِ عَلِيٍّ الْجَهْضَمِيِّ عَشِيَّةَ قَضَاءِ الْبَصْرَةِ، فَقَالَ: أُشَاوِرُ نَفْسِي اللَّيْلَةَ وَأُخْبِرُكُمْ غَدًا، وَأَتَوْا عَلَيْهِ مِنْ الْغَدِ فَوَجَدُوهُ مَيِّتًا، وَقَالَ مَكْحُولٌ: لَوْ خُيِّرْت بَيْنَ الْقَضَاءِ وَالْقَتْلِ اخْتَرْت الْقَتْلَ وَامْتَنَعَ مِنْهُ الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ رضي الله عنه لَمَّا اسْتَدْعَاهُ الْمَأْمُونُ لِقَضَاءِ الشَّرْقِ وَالْغَرْبِ، وَامْتَنَعَ مِنْهُ الْإِمَامُ أَبُو حَنِيفَةَ رضي الله عنه لَمَّا اسْتَدْعَاهُ الْمَنْصُورُ فَحَبَسَهُ وَضَرَبَهُ، وَحَكَى الْقَاضِي الطَّبَرِيُّ وَغَيْرُهُ أَنَّ الْوَزِيرَ ابْنَ الْفُرَاتِ طَلَبَ أَبَا عَلِيِّ بْنَ خَيْرَانَ لِتَوْلِيَةِ الْقَضَاءِ فَهَرَبَ مِنْهُ فَخَتَمَ عَلَى دُورِهِ نَحْوًا مِنْ عِشْرِينَ يَوْمًا كَمَا قِيلَ فِيهِ:

وَطَيَّنُوا الْبَابَ عَلَى أَبِي عَلِيٍّ

عِشْرِينَ يَوْمًا لِيَلِيَ فَمَا وَلِي

وَقَالَ بَعْضُ الْقُضَاةِ:

وَلَيْت الْقَضَاءَ وَلَيْتَ الْقَضَاءَ

لَمْ يَكُ شَيْئًا تَوَلَّيْته

فَأَوْقَفَنِي فِي الْقَضَاءِ الْقَضَاءُ

وَمَا كُنْت قِدْمًا تَمَنَّيْته

وَقَالَ آخَرُ:

فَيَا لَيْتَنِي لَمْ أَكُنْ قَاضِيًا

وَيَا لَيْتَهَا كَانَتْ الْقَاضِيَة

تَنْبِيهٌ: قَوْلُ الْمُصَنِّفِ: وَلَهُ الْقَبُولُ يَقْتَضِي جَوَازَهُ وَإِنْ خَافَ عَلَى نَفْسِهِ اتِّبَاعَ الْهَوَى، وَقَالَ الْإِمَامُ وَالرَّافِعِيُّ: يَنْبَغِي أَنْ يَحْتَرِزَ، فَإِنَّ أَهَمَّ الْغَنَائِمِ حَفِظَ السَّلَامَةَ اهـ. وَقَضِيَّتُهُ مَنْعُ الْإِقْدَامِ حِينَئِذٍ وَهُوَ الظَّاهِرُ، بَلْ قَطَعَ فِي الذَّخَائِرِ بِوُجُوبِ الِامْتِنَاعِ.

(وَيُنْدَبُ) لَهُ (الطَّلَبُ) لِلْقَضَاءِ (إنْ كَانَ خَامِلًا) أَيْ غَيْرَ مَشْهُورٍ بَيْنَ النَّاسِ (يَرْجُو بِهِ) أَيْ الْقَضَاءِ (نَشْرَ الْعِلْمِ) لِتَحْصُلَ الْمَنْفَعَةُ بِنَشْرِهِ إذَا عَرَفَهُ النَّاسُ (أَوْ) لَمْ يَكُنْ خَامِلًا، لَكِنْ كَانَ (مُحْتَاجًا إلَى الرِّزْقِ) فَإِذَا وُلِّيَ حَصَلَ لَهُ كِفَايَتُهُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ بِسَبَبٍ هُوَ طَاعَةٌ لِمَا فِي الْعَدْلِ مِنْ جَزِيلِ الثَّوَابِ، وَفِي هَذَا إشْعَارٌ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ أَخْذُ الرِّزْقِ عَلَى الْقَضَاءِ، وَسَيَأْتِي إيضَاحُ ذَلِكَ.

تَنْبِيهٌ: يُنْدَبُ الطَّلَبُ أَيْضًا إذَا كَانَتْ الْحُقُوقُ مُضَاعَةً لِجَوْرٍ أَوْ عَجْزٍ، أَوْ فَسَدَتْ الْأَحْكَامُ

ص: 260

وَإِلَّا فَالْأَوْلَى تَرْكُهُ. قُلْت: وَيُكْرَهُ عَلَى الصَّحِيحِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

وَالِاعْتِبَارُ فِي التَّعْيِينِ وَعَدَمِهِ بِالنَّاحِيَةِ.

ــ

[مغني المحتاج]

بِتَوْلِيَةِ جَاهِلٍ فَيُقْصَدُ بِالطَّلَبِ تَدَارُكُ ذَلِكَ وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ نَبِيِّهِ يُوسُفَ - صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ - أَنَّهُ طَلَبَ، فَقَالَ:{اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ} [يوسف: 55] وَإِنَّمَا طَلَبَ ذَلِكَ شَفَقَةً عَلَى خَلْقِ اللَّهِ لَا مَنْفَعَةَ نَفْسِهِ (وَإِلَّا) بِأَنْ لَمْ يَكُنْ خَامِلًا، بَلْ مَشْهُورًا وَلَا مُحْتَاجًا لِلرِّزْقِ بَلْ مَكْفِيًّا بِهِ (فَالْأَوْلَى) لَهُ (تَرْكُهُ) أَيْ طَلَبِ الْقَضَاءِ لِمَا فِيهِ مِنْ الْخَطَرِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ، وَيَنْشُرُ الْعِلْمَ وَالْفُتْيَا (قُلْت:) كَمَا قَالَ الرَّافِعِيُّ فِي الشَّرْحِ (وَيُكْرَهُ) لَهُ حِينَئِذٍ الطَّلَبُ (عَلَى الصَّحِيحِ) وَكَذَا قَبُولُ التَّوْلِيَةِ أَيْضًا (وَاَللَّهُ أَعْلَمُ) لِأَنَّهُ وَرَدَ فِيهِ نَهْيٌ مَخْصُوصٌ، وَعَلَيْهِ حُمِلَتْ الْأَخْبَارُ الْوَارِدَةُ فِي التَّحْذِيرِ وَامْتِنَاعِ السَّلَفِ مِنْهُ، وَالثَّانِي لَا كَرَاهَةَ فِي طَلَبٍ وَلَا قَبُولٍ، بَلْ هُمَا خِلَافُ الْأُولَى.

تَنْبِيهٌ: أَهْمَلَ الْمُصَنِّفُ مِنْ أَقْسَامِ الطَّلَبِ التَّحْرِيمَ. قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: كَمَا إذَا قَصَدَ انْتِقَامًا مِنْ الْأَعْدَاءِ أَوْ اكْتِسَابًا بِالِارْتِشَاءِ، وَجُعِلَ مِنْ الْمَكْرُوهِ طَلَبُهُ لِلْمُبَاهَاةِ وَالِاسْتِعْلَاءِ، وَنُوزِعَ فِي ذَلِكَ، وَجَرَى بَعْضُهُمْ عَلَى الْحُرْمَةِ لِلْأَحَادِيثِ الدَّالَّةِ عَلَيْهِ وَهُوَ ظَاهِرٌ، وَهَذَا التَّفْصِيلُ إذَا لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ قَاضٍ مُوَلًّى، فَإِنْ كَانَ نُظِرَ، فَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُسْتَحَقِّ الْقَضَاءِ فَكَالْمَعْدُومِ، وَإِنْ كَانَ مُسْتَحَقًّا لَهُ فَطَلَبُ عَزْلِهِ حَرَامٌ وَلَوْ كَانَ دُونَ الطَّالِبِ، وَتَبْطُلُ بِذَلِكَ عَدَالَةُ الطَّالِبِ، فَإِنْ عُزِلَ وَوُلِّيَ الطَّالِبُ نَفَذَ حُكْمُهُ عِنْدَ الضَّرُورَةِ. أَمَّا عِنْدَ تَمَهُّدِ الْأُصُولِ الشَّرْعِيَّةِ فَلَا يَنْفُذُ، وَهَذَا فِي الطَّلَبِ بِلَا بَذْلِ مَالٍ، فَإِنْ كَانَ نَظَرَ إنْ تَعَيَّنَ عَلَى الْبَاذِلِ الْقَضَاءُ أَوْ كَانَ مِمَّنْ يُسَنُّ لَهُ جَازَ لَهُ بَذْلُ الْمَالِ، وَلَكِنَّ الْآخِذَ ظَالِمٌ بِالْأَخْذِ، وَهَذَا كَمَا إذَا تَعَذَّرَ الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ إلَّا بِبَذْلِ مَالٍ، فَإِنْ لَمْ يَتَعَيَّنْ وَلَمْ يُسَنَّ طَلَبُهُ لَمْ يَجُزْ بَذْلُ الْمَالِ لِيُوَلَّى، وَيَجُوزُ لَهُ الْبَذْلُ بَعْدَ التَّوْلِيَةِ لِئَلَّا يُعْزَلَ، وَالْآخِذُ ظَالِمٌ بِالْأَخْذِ، وَوَقَعَ فِي الرَّوْضَةِ أَنَّهُ يَجُوزُ لَهُ بَذْلُهُ لِيُوَلَّى وَنُسِبَ إلَى الْغَلَطِ، وَأَمَّا بَذْلُ الْمَالِ لِعَزْلِ قَاضٍ لَمْ يَكُنْ مُتَّصِفًا بِصِفَةِ الْقَضَاءِ فَمُسْتَحَبٌّ لِمَا فِيهِ مِنْ تَخْلِيصِ النَّاسِ مِنْهُ، وَلَكِنَّ آخِذَهُ ظَالِمٌ بِالْأَخْذِ، وَإِنْ كَانَ بِصِفَةِ الْقَضَاءِ فَهُوَ حَرَامٌ، فَإِنْ عَزَلَهُ وَوَلَّى الْبَاذِلَ نَفَذَ عِنْدَ الضَّرُورَةِ كَمَا مَرَّ. أَمَّا عِنْدَ تَمَهُّدِ الْأُصُولِ الشَّرْعِيَّةِ فَتَوْلِيَتُهُ بَاطِلَةٌ وَالْمَعْزُولُ عَلَى قَضَائِهِ؛ لِأَنَّ الْعَزْلَ بِالرِّشْوَةِ حَرَامٌ، وَتَوْلِيَةُ الْمُرْتَشِي لِلرَّاشِي حَرَامٌ.

(وَالِاعْتِبَارُ فِي التَّعْيِينِ) لِلْقَضَاءِ (وَعَدَمِهِ) بِبَلْدَةٍ (بِالنَّاحِيَةِ) وَكَذَا فِي وُجُوبِ الطَّلَبِ وَالْقَبُولِ وَعَدَمِهِ، فَلَا يَجِبُ عَلَى مَنْ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ طَلَبٌ وَلَا قَبُولٌ لَهُ فِي غَيْرِ نَاحِيَتِهِ لِمَا فِيهِ مِنْ الْهِجْرَةِ وَتَرْكِ الْوَطَنِ، وَفَارَقَ سَائِرَ فُرُوضِ الْكِفَايَاتِ بِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ الْقِيَامُ بِهَا وَالْعَوْدُ إلَى الْوَطَنِ وَالْقَضَاءُ لَا غَايَةَ لَهُ مَعَ قِيَامِ حَاجَةِ بَلَدِ الْمُعَيَّنِ إلَيْهِ، وَظَاهِرُ كَلَامِ أَصْلِ الرَّوْضَةِ أَنَّهُ لَوْ كَانَ بِنَاحِيَةٍ صَالِحَانِ وَوُلِّيَ أَحَدُهُمَا لَمْ يَجِبْ عَلَى الْآخَرِ ذَلِكَ فِي نَاحِيَةٍ لَيْسَ بِهَا صَالِحٌ، وَهُوَ كَذَلِكَ لِمَا ذُكِرَ خِلَافًا لِلْبُلْقِينِيِّ وَمَنْ تَبِعَهُ فِي الْوُجُوبِ عَلَيْهِ.

تَنْبِيهٌ: حُكْمُ الْمُقَلِّدِ الْآنَ حُكْمُ الْمُجْتَهِدِينَ فِي الْأَصْلَحِ وَعَدَمِهِ كَمَا قَالَهُ بَعْضُ

ص: 261

وَشَرْطُ الْقَاضِي مُسْلِمٌ مُكَلَّفٌ حُرٌّ ذَكَرٌ عَدْلٌ سَمِيعٌ بَصِيرٌ

ــ

[مغني المحتاج]

الْمُتَأَخِّرِينَ، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُ الْغَزَالِيِّ فِي الْوَسِيطِ: الْمُقَلِّدُ إذَا بَلَغَ رُتْبَةَ الِاجْتِهَادِ فِي الْمَذْهَبِ وَجَبَ تَقْدِيمُهُ عَلَى مَنْ لَمْ يَبْلُغْهَا، فَقَدْ اُعْتُبِرَ أَعْلَى الْمُقَلِّدِينَ، وَإِنْ كَانَ قُيِّدَ بِالِاجْتِهَادِ.

ثُمَّ شَرَعَ فِيمَا يُشْتَرَطُ لِتَوْلِيَةِ الْقَاضِي، فَقَالَ (وَشَرْطُ الْقَاضِي) أَيْ مَنْ يُوَلَّى قَاضِيًا (مُسْلِمٌ) أَيْ إسْلَامٌ وَكَذَا الْبَاقِي، وَهَذَا الشَّرْطُ دَاخِلٌ فِي اشْتِرَاطِ الْعَدَالَةِ، وَلِهَذَا لَمْ يَذْكُرْهُ فِي الرَّوْضَةِ، فَلَا يُوَلَّى كَافِرٌ عَلَى مُسْلِمِينَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى:{وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلا} [النساء: 141] وَلَا سَبِيلَ أَعْظَمُ مِنْ الْقَضَاءِ، وَلَا عَلَى كُفَّارٍ؛ لِأَنَّ الْقَصْدَ بِهِ فَصْلُ الْأَحْكَامِ، وَالْكَافِرُ جَاهِلٌ بِهَا، وَأَمَّا جَرَيَانُ الْعَادَةِ بِنَصْبِ حَاكِمٍ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ عَلَيْهِمْ، فَقَالَ الْمَاوَرْدِيُّ وَالرُّويَانِيُّ: إنَّمَا هِيَ رِيَاسَةٌ وَزَعَامَةٌ لَا تَقْلِيدُ حُكْمٍ وَقَضَاءٍ، وَلَا يَلْزَمُهُمْ حُكْمُهُ بِإِلْزَامِهِ بَلْ بِالْتِزَامِهِمْ، وَلَا يُلْزَمُونَ بِالتَّحَاكُمِ عِنْدَهُ (مُكَلَّفٌ) أَيْ بَالِغٌ عَاقِلٌ، فَلَا يُوَلَّى صَبِيٌّ وَلَا مَجْنُونٌ، وَإِنْ تَقَطَّعَ جُنُونُهُ لِنَقْصِهِمَا.

تَنْبِيهٌ: قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَلَا يَكْفِي الْعَقْلُ الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِهِ التَّكْلِيفُ حَتَّى يَكُونَ صَحِيحَ الْفِكْرِ، جَيِّدَ الْفَطِنَةِ، بَعِيدًا عَنْ السَّهْوِ وَالْغَفْلَةِ، يَتَوَصَّلُ بِذَكَائِهِ إلَى وُضُوحِ الْمُشْكِلِ وَحَلِّ الْمُعْضِلِ (حُرٌّ) فَلَا يُوَلَّى رَقِيقٌ كُلُّهُ أَوْ بَعْضُهُ لِنَقْصِهِ كَالشَّهَادَةِ بَلْ أَوْلَى (ذَكَرٌ) فَلَا تُوَلَّى امْرَأَةٌ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم:«لَنْ يُفْلِحَ قَوْمٌ وَلَّوْا أَمْرَهُمْ امْرَأَةً» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، وَلِأَنَّ النِّسَاءَ نَاقِصَاتُ عَقْلٍ وَدِينٍ.

تَنْبِيهٌ: شَمِلَ إطْلَاقُ الْمُصَنِّفِ مَنْعَهَا وَلَوْ فِيمَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهَا فِيهِ وَهُوَ كَذَلِكَ، وَفِيهِ إشَارَةٌ إلَى الرَّدِّ عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ حَيْثُ جَوَّزَهُ حِينَئِذٍ وَعَلَى ابْنِ جَرِيرٍ الطَّبَرِيِّ حَيْثُ جَوَّزَهُ مُطْلَقًا، وَالْخُنْثَى الْمُشْكِلُ فِي ذَلِكَ كَالْمَرْأَةِ كَمَا قَالَهُ الْمَاوَرْدِيُّ وَغَيْرُهُ، فَلَوْ وُلِّيَ ثُمَّ بَانَ رَجُلًا لَمْ يَصِحَّ تَوْلِيَتُهُ كَمَا قَالَهُ الْمَاوَرْدِيُّ، وَصَرَّحَ بِهِ فِي الْبَحْرِ، وَقَالَ: إنَّهُ الْمَذْهَبُ لَا يَحْتَاجُ إلَى تَوْلِيَةٍ جَدِيدَةٍ. أَمَّا إذَا بَانَتْ ذُكُورَتُهُ قَبْلَ التَّوْلِيَةِ فَإِنَّهَا تَصِحُّ (عَدْلٌ) وَسَيَأْتِي فِي الشَّهَادَاتِ بَيَانُهُ، فَلَا يُوَلَّى فَاسِقٌ لِعَدَمِ الْوُثُوقِ بِقَوْلِهِ وَلِأَنَّهُ مَمْنُوعٌ مِنْ النَّظَرِ فِي مَالِ وَلَدِهِ مَعَ وُفُورِ شَفَقَتِهِ فَنَظَرُهُ فِي أَمْرِ الْعَامَّةِ أَوْلَى بِالْمَنْعِ.

تَنْبِيهٌ: يُؤْخَذُ مِمَّا سَيَأْتِي فِي الشَّهَادَاتِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ الصَّيْمَرِيِّ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي الشَّاهِدِ أَنْ لَا يَكُونَ مَحْجُورًا عَلَيْهِ بِسَفَهٍ، وَأَنْ يَكُونَ الْقَاضِي كَذَلِكَ، وَبِهِ صَرَّحَ الْبُلْقِينِيُّ؛ لِأَنَّ مُقْتَضَى الْقَضَاءِ التَّصَرُّفُ عَلَى الْمَحْجُورِ عَلَيْهِمْ. قَالَ: وَأَمَّا الْإِكْرَاهُ فَإِنَّهُ مَانِعٌ مِنْ صِحَّةِ الْقَبُولِ إلَّا فِيمَنْ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ، وَلَا يُوَلَّى مُبْتَدَعٌ أَيْضًا رُدَّتْ شَهَادَتُهُ، وَلَا مَنْ يُنْكِرُ الْإِجْمَاعَ أَوْ أَخْبَارَ الْآحَادِ أَوْ الِاجْتِهَادَ الْمُتَضَمِّنَ إنْكَارُهُ إنْكَارَ الْقِيَاسِ (سَمِيعٌ) وَلَوْ بِصِيَاحٍ فِي أُذُنِهِ، فَلَا يُوَلَّى أَصَمُّ لَا يَسْمَعُ أَصْلًا، فَإِنَّهُ لَا يُفَرِّقُ بَيْنَ إقْرَارٍ وَإِنْكَارٍ (بَصِيرٌ) فَلَا يُوَلَّى أَعْمَى وَلَا مَنْ يَرَى الْأَشْبَاحَ، وَلَا يَعْرِفُ الصُّوَرَ؛ لِأَنَّهُ لَا يَعْرِفُ الطَّالِبَ مِنْ الْمَطْلُوبِ، فَإِنْ كَانَ يَعْرِفُ الصُّوَرَ إذَا قَرُبَتْ مِنْهُ صَحَّ، وَخَرَجَ بِالْأَعْمَى الْأَعْوَرُ، فَإِنَّهُ يَصِحُّ تَوْلِيَتُهُ، وَكَذَا مَنْ يُبْصِرُ نَهَارًا دُونَ مَنْ يُبْصِرُ لَيْلًا فَقَطْ كَمَا قَالَ الْأَذْرَعِيُّ. فَإِنْ قِيلَ: قَدْ اسْتَخْلَفَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ابْنَ أُمِّ مَكْتُومٍ عَلَى الْمَدِينَةِ وَهُوَ أَعْمَى، وَلِذَلِكَ قَالَ

ص: 262

نَاطِقٌ كَافٍ مُجْتَهِدٌ وَهُوَ أَنْ يَعْرِفَ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مَا يَتَعَلَّقُ بِالْأَحْكَامِ، وَخَاصَّهُ وَعَامَّهُ، وَمُجْمَلَهُ وَمُبَيَّنَهُ، وَنَاسِخَهُ

ــ

[مغني المحتاج]

مَالِكٌ بِصِحَّةِ وِلَايَةِ الْأَعْمَى.

أُجِيبَ بِأَنَّهُ إنَّمَا اسْتَخْلَفَهُ فِي إمَامَةِ الصَّلَاةِ دُونَ الْحُكْمِ.

تَنْبِيهٌ: لَوْ سَمِعَ الْقَاضِي الْبَيِّنَةَ ثُمَّ عَمِيَ قَضَى فِي تِلْكَ الْوَاقِعَةِ عَلَى الْأَصَحِّ - وَاسْتَثْنَى أَيْضًا لَوْ نَزَلَ أَهْلُ قَلْعَةٍ عَلَى حُكْمِ أَعْمَى، فَإِنَّهُ يَجُوزُ كَمَا هُوَ مَذْكُورٌ فِي مَحَلِّهِ (نَاطِقٌ) فَلَا يُوَلَّى أَخْرَسُ، وَإِنْ فُهِمَتْ إشَارَتُهُ لِعَجْزِهِ عَنْ تَنْفِيذِ الْأَحْكَامِ (كَافٍ) لِلْقِيَامِ بِأُمُورِ الْقَضَاءِ، فَلَا يُوَلَّى مُغَفَّلٌ، وَمُخْتَلُّ نَظَرٍ بِكِبَرٍ أَوْ مَرَضٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَفَسَّرَ بَعْضُهُمْ الْكِفَايَةَ اللَّائِقَةَ بِالْقَضَاءِ بِأَنْ يَكُونَ فِيهِ قُوَّةٌ عَلَى تَنْفِيذِ الْحَقِّ بِنَفْسِهِ، فَلَا يَكُونُ ضَعِيفَ النَّفْسِ جَبَانًا، فَإِنَّ كَثِيرًا مِنْ النَّاسِ يَكُونُ عَالِمًا دَيِّنًا وَنَفْسُهُ ضَعِيفَةٌ عَنْ التَّنْفِيذِ وَالْإِلْزَامِ وَالسَّطْوَةِ فَيُطْمَعُ فِي جَانِبِهِ بِسَبَبِ ذَلِكَ، وَلِذَلِكَ قَالَ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ: وَلِلْوِلَايَةِ شَرْطَانِ، الْعِلْمُ بِأَحْكَامِهَا، وَالْقُدْرَةُ عَلَى تَحْصِيلِ مَصَالِحِهَا وَتَرْكِ مَفَاسِدِهَا، فَإِذَا فُقِدَ الشَّرْطَانِ حَرُمَتْ الْوِلَايَةُ قَالَ صلى الله عليه وسلم:«يَا أَبَا ذَرٍّ إنِّي أَرَاك ضَعِيفًا لَا تَتَأَمَّرَنَّ عَلَى اثْنَيْنِ، وَلَا تَلِينَ مَالَ يَتِيمٍ» وَجَعَلَ بَعْضُهُمْ هَذَا الشَّرْطَ خَارِجًا بِقَوْلِهِ (مُجْتَهِدٌ) فَلَا يُوَلَّى الْجَاهِلُ بِالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ وَلَا الْمُقَلِّدِ، وَهُوَ مَنْ حَفِظَ مَذْهَبَ صَاحِبِهِ، لَكِنَّهُ غَيْرُ عَارِفٍ بِغَوَامِضِهِ، وَقَاصِرٌ عَنْ تَقْرِيرِ أَدِلَّتِهِ لِأَنَّهُ لَا يَصْلُحُ لِلْفَتْوَى فَلِلْقَضَاءِ أَوْلَى.

تَنْبِيهٌ: كَانَ يَنْبَغِي لَلْمُصَنِّفِ أَنْ يَقُولَ إسْلَامٌ وَتَكْلِيفٌ. وَكَذَا مَا بَعْدَهُمَا فَيَأْتِي بِالْمَصْدَرِ كَمَا قَدَّرْته فِي كَلَامِهِ؛ لِأَنَّ الشَّرْطَ هُوَ الْإِسْلَامُ وَغَيْرُهُ مِنْ الْمَذْكُورَاتِ، وَكَذَا مَا بَعْدَهُمَا لَا الشَّخْصُ نَفْسُهُ، أَوْ أَنْ يَقُولَ مُسْلِمًا مُكَلَّفًا إلَخْ بِنَصْبِ الْجَمِيعِ عَلَى خَبَرِ كَانَ الْمَحْذُوفَةِ كَقَوْلِهِ فِيمَا سَبَقَ: يُشْتَرَطُ فِي الْإِمَامِ كَوْنُهُ مُسْلِمًا (وَهُوَ) أَيْ الْمُجْتَهِدُ (أَنْ يَعْرِفَ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مَا يَتَعَلَّقُ بِالْأَحْكَامِ) أَيْ عَلَى طَرِيقِ الِاجْتِهَادِ، وَلَا يُشْتَرَطُ حِفْظُ آيَاتِهَا وَلَا أَحَادِيثِهَا الْمُتَعَلِّقَاتِ بِهَا عَنْ ظَهْرِ قَلْبٍ. وَآيُ الْأَحْكَامِ كَمَا ذَكَرَهُ الْبَنْدَنِيجِيُّ وَالْمَاوَرْدِيُّ وَغَيْرُهُمَا خَمْسُمِائَةِ آيَةٍ، وَعَنْ الْمَاوَرْدِيُّ أَنَّ عَدَدَ أَحَادِيثِ الْأَحْكَامِ خَمْسُمِائَةٍ كَعَدَدِ الْآيِ، وَاعْتُرِضَ الْأَوَّلُ بِأَنَّ الْأَحْكَامَ كَمَا تُسْتَنْبَطُ مِنْ الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي، تُسْتَنْبَطُ مِنْ الْقَصَصِ وَالْمَوَاعِظِ وَنَحْوِهِمَا، وَالثَّانِي بِأَنَّ غَالِبَ الْأَحَادِيثِ، لَا تَكَادُ تَخْلُو عَنْ حُكْمٍ شَرْعِيٍّ وَأَدَبٍ شَرْعِيٍّ وَسِيَاسَةٍ دِينِيَّةٍ، وَكُلُّ ذَلِكَ أَحْكَامٌ شَرْعِيَّةٌ.

وَأُجِيبَ عَنْ ذَلِكَ بِأَنَّ الْمُرَادَ الَّتِي هِيَ مَحَالُّ النَّظَرِ وَالِاجْتِهَادِ وَالْخَفَاءِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَاحْتَرَزَ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ: مَا يَتَعَلَّقُ بِالْأَحْكَامِ عَنْ الْمَوَاعِظِ وَالْقَصَصِ (وَ) يَعْرِفُ (خَاصَّهُ وَعَامَّهُ) بِتَذْكِيرِ الضَّمِيرِ نَظَرًا لِمَا، وَالْخَاصُّ خِلَافُ الْعَامِّ الَّذِي هُوَ لَفْظٌ يَسْتَغْرِقُ الصَّالِحَ لَهُ مِنْ غَيْرِ حَصْرٍ، وَيَعْرِفُ الْعَامَّ الَّذِي أُرِيدَ بِهِ الْخُصُوصُ، وَالْخَاصَّ الَّذِي أُرِيدَ بِهِ الْعُمُومُ وَمُطْلَقَهُ وَمُقَيَّدَهُ (وَمُجْمَلَهُ) وَهُوَ مَا لَمْ تَتَّضِحْ دَلَالَتُهُ (وَمُبَيَّنَهُ) وَهُوَ الْمُتَّضِحُ دَلَالَتَهُ وَيَعْرِفُ نَصَّهُ وَظَاهِرَهُ (وَنَاسِخَهُ

ص: 263

وَمَنْسُوخَهُ، وَمُتَوَاتِرَ السُّنَّةِ وَغَيْرَهُ، وَالْمُتَّصِلَ وَالْمُرْسَلَ، وَحَالَ الرُّوَاةِ قُوَّةً وَضَعْفًا، وَلِسَانَ الْعَرَبِ لُغَةً وَنَحْوًا، وَأَقْوَالَ الْعُلَمَاءِ مِنْ الصَّحَابَةِ فَمَنْ بَعْدَهُمْ إجْمَاعًا وَاخْتِلَافًا وَالْقِيَاسَ، بِأَنْوَاعِهِ

ــ

[مغني المحتاج]

وَمَنْسُوخَهُ) فَيَعْرِفُ مَا نُسِخَ لَفْظُهُ، وَبَقِيَتْ تِلَاوَتُهُ وَعَكْسُهُ، وَيَعْرِفُ الْمُتَشَابِهَ وَالْمُحْكَمَ (وَمُتَوَاتِرَ السُّنَّةِ وَغَيْرَهُ) أَيْ الْآحَادِ؛ لِأَنَّ لَهُ أَنْ يَتَمَكَّنَ مِنْ التَّرْجِيحِ عِنْد تَعَارُضِ الْأَدِلَّةِ، فَيُقَدِّمَ الْخَاصُّ عَلَى الْعَامِّ، وَالْمُقَيَّدَ عَلَى الْمُطْلَقِ وَالْمُبَيَّنَ عَلَى الْمُجْمَلِ، وَالنَّاسِخَ عَلَى الْمَنْسُوخِ، وَالْمُتَوَاتِرَ عَلَى الْآحَادِ.

تَنْبِيهٌ: أَفْرَدَ الْمُصَنِّفُ الضَّمِيرَ حَمْلًا عَلَى لَفْظِ مَا. قَالَ ابْنُ بَرْهَانٍ: وَيُشْتَرَطُ أَنْ يَعْرِفَ أَسْبَابَ النُّزُولِ (وَ) يَعْرِفَ (الْمُتَّصِلَ) مِنْ السُّنَّةِ (وَالْمُرْسَلَ) مِنْهَا، وَأُرِيدَ بِهِ هُنَا غَيْرُ الْمُتَّصِلِ (وَحَالَ الرُّوَاةِ قُوَّةً وَضَعْفًا) بِنَصْبِهِمَا عَلَى التَّمْيِيزِ؛ لِأَنَّهُ بِذَلِكَ يَتَوَصَّلُ إلَى تَقْرِيرِ الْأَحْكَامِ.

تَنْبِيهٌ: إنَّمَا يُشْتَرَطُ مَعْرِفَةُ الرُّوَاةِ فِي حَدِيثٍ لَمْ يُجْمَعْ عَلَى قَبُولِهِ. أَمَّا مَا أَجْمَعَ السَّلَفُ عَلَى قَبُولِهِ أَوْ تَوَاتَرَتْ عَدَالَةُ رُوَاتِهِ فَلَا حَاجَةَ لِلْبَحْثِ عَنْ عَدَالَتِهِمْ، وَمَا عَدَا ذَلِكَ يُكْتَفَى فِي عَدَالَةِ رُوَاتِهِ بِتَعْدِيلِ إمَامٍ مَشْهُورٍ عُرِفَ صِحَّةُ مَذْهَبِهِ. قَالَ فِي زِيَادَةِ الرَّوْضَةِ: هَذَا مَا أَطْبَقَ عَلَيْهِ جُمْهُورُ الْأَصْحَابِ وَشَذَّ مَنْ شَرَطَ فِي التَّعْدِيلِ اثْنَيْنِ اهـ.

وَلَا بُدَّ مَعَ الْعَدَالَةِ مِنْ الضَّبْطِ (وَ) يَعْرِفُ (لِسَانَ الْعَرَبِ لُغَةً وَنَحْوًا) بِنَصْبِهِمَا أَيْضًا عَلَى التَّمْيِيزِ، وَأَرَادَ بِالنَّحْوِ مَا يَشْمَلُ الْبِنَاءَ وَالْإِعْرَابَ وَالتَّصْرِيفَ لِوُرُودِ الشَّرِيعَةِ بِهِ، وَلِأَنَّ بِهِ يَعْرِفُ عُمُومَ اللَّفْظِ وَخُصُوصَهُ وَإِطْلَاقَهُ وَتَقْيِيدَهُ وَإِجْمَالَهُ وَبَيَانَهُ وَصِيَغَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالْخَبَرِ وَالِاسْتِفْهَامِ وَالْوَعْدَ وَالْوَعِيدَ وَالْأَسْمَاءَ وَالْأَفْعَالَ وَالْحُرُوفَ، وَمَا لَا بُدَّ مِنْهُ فِي فَهْمِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ (وَ) يَعْرِفُ (أَقْوَالَ الْعُلَمَاءِ مِنْ الصَّحَابَةِ) - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - (فَمَنْ بَعْدَهُمْ إجْمَاعًا وَاخْتِلَافًا) لِئَلَّا يَقَعَ فِي حُكْمٍ أَجْمَعُوا عَلَى خِلَافِهِ.

تَنْبِيهٌ: قَضِيَّةُ كَلَامِهِ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ مَعْرِفَةُ جَمِيعِ ذَلِكَ وَلَيْسَ مُرَادًا، بَلْ يَكْفِي أَنْ يَعْرِفَ فِي الْمَسْأَلَةِ الَّتِي يُفْتِي أَوْ يَحْكُمُ فِيهَا أَنَّ قَوْلَهُ لَا يُخَالِفُ الْإِجْمَاعَ فِيهَا إمَّا بِعِلْمِهِ بِمُوَافَقَةِ بَعْضِ الْمُتَقَدِّمِينَ، أَوْ يَغْلِبُ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّ تِلْكَ الْمَسْأَلَةَ لَمْ يَتَكَلَّمْ فِيهَا الْأَوَّلُونَ بَلْ تَوَلَّدَتْ فِي عَصْرِهِ، وَعَلَى هَذَا قِيَاسُ مَعْرِفَةِ النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ كَمَا نَقَلَاهُ عَنْ الْغَزَالِيِّ وَأَقَرَّاهُ (وَ) يَعْرِفُ (الْقِيَاسَ) صَحِيحَهُ وَفَاسِدَهُ (بِأَنْوَاعِهِ) الْأَوْلَى وَالْمُسَاوِي وَالْأَدْوَنَ لِيَعْمَلَ، بِهَا، فَالْأَوَّلُ كَقِيَاسِ ضَرْبِ الْوَالِدَيْنِ عَلَى التَّأْفِيفِ، وَالثَّانِي كَقِيَاسِ إحْرَاقِ مَالِ الْيَتِيمِ عَلَى أَكْلِهِ فِي التَّحْرِيمِ فِيهِمَا. وَالثَّالِثُ: كَقِيَاسِ التُّفَّاحِ عَلَى الْبِرِّ فِي بَابِ الرِّبَا بِجَامِعِ الطَّعْمِ، وَلَا يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ مُتَبَحِّرًا فِي كُلِّ نَوْعٍ مِنْ هَذِهِ الْعُلُومِ حَتَّى يَكُونَ فِي النَّحْوِ كَسِيبَوَيْهِ، وَفِي اللُّغَةِ كَالْخَلِيلِ، بَلْ يَكْفِي مَعْرِفَةُ جُمَلٍ مِنْهَا. قَالَ ابْنُ الصَّبَّاغِ: إنَّ هَذَا سَهْلٌ فِي هَذَا الزَّمَانِ، فَإِنَّ الْعُلُومَ قَدْ دُوِّنَتْ وَجُمِعَتْ اهـ. .

وَيُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ لَهُ مِنْ كُتُبِ الْحَدِيثِ أَصْلٌ مُصَحَّحٌ يَجْمَعُ أَحَادِيثَ غَالِبِ الْأَحْكَامِ

ص: 264

فَإِنْ تَعَذَّرَ جَمْعُ هَذِهِ الشُّرُوطِ فَوَلَّى سُلْطَانٌ لَهُ شَوْكَةٌ فَاسِقًا أَوْ

ــ

[مغني المحتاج]

كَصَحِيحِ الْبُخَارِيِّ وَسُنَنِ أَبِي دَاوُد وَلَا يُشْتَرَطُ حِفْظُهُ جَمِيعَ الْقُرْآنِ وَلَا بَعْضَهُ عَنْ ظَهْرِ قَلْبٍ، بَلْ يَكْفِي أَنْ يَعْرِفَ مَظَانَّ أَحْكَامِهِ فِي أَبْوَابِهَا فَيُرَاجِعَهَا وَقْتَ الْحَاجَةِ.

تَنْبِيهٌ: أَشْعَرَ اقْتِصَارُ الْمُصَنِّفِ عَلَى الْأَدِلَّةِ الْأَرْبَعَةِ أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ مَعْرِفَةُ الْأَدِلَّةِ الْمُخْتَلَفِ فِيهَا كَالْأَخْذِ بِأَقَلِّ مَا قِيلَ وَكَالِاسْتِصْحَابِ وَلَيْسَ مُرَادًا، بَلْ لَا بُدَّ أَيْضًا مِنْ مَعْرِفَتِهَا، وَبِأَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ مَعْرِفَةُ أُصُولِ الِاعْتِقَادِ وَلَيْسَ مُرَادًا أَيْضًا، فَقَدْ حَكَى فِي الرَّوْضَةِ كَأَصْلِهَا عَنْ الْأَصْحَابِ اشْتِرَاطَهُ، وَبِأَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ فِيهِ الْكِتَابَةُ وَهُوَ الْأَصَحُّ؛ لِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ أُمِّيًّا لَا يَقْرَأُ وَلَا يَكْتُبُ، وَقِيلَ: يُشْتَرَطُ، وَصَحَّحَهُ الْجُرْجَانِيِّ. وَقَالَ الزَّرْكَشِيُّ: إنَّهُ الْمُخْتَارُ فِي هَذَا الزَّمَانِ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ أَنْ يَكْتُبَ لِغَيْرِهِ وَيُكْتَبَ إلَيْهِ، وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِ شَيْءٌ رُبَّمَا حَرَّفَ الْقَارِئُ بِخِلَافِ الَّذِينَ كَانُوا عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَلِأَنَّ عَدَمَ الْكِتَابَةِ فِي حَقِّهِ مُعْجِزَةٌ، وَفِي حَقِّ غَيْرِهِ مَنْقَصَةٌ، وَبِأَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ فِيهِ مَعْرِفَةُ الْحِسَابِ لِتَصْحِيحِ الْمَسَائِلِ الْحِسَابِيَّةِ الْفِقْهِيَّةِ، وَهُوَ كَذَلِكَ كَمَا صَوَّبَهُ فِي الْمَطْلَبِ؛ لِأَنَّ الْجَهْلَ بِهِ لَا يُوجِبُ الْخَلَلَ فِي غَيْرِ تِلْكَ الْمَسَائِلِ، وَالْإِحَاطَةُ بِجَمِيعِ الْأَحْكَامِ لَا تُشْتَرَطُ، ثُمَّ اجْتِمَاعُ هَذِهِ الْعُلُومِ إنَّمَا يُشْتَرَطُ فِي الْمُجْتَهِدِ الْمُطْلَقِ، وَهُوَ الَّذِي يُفْتِي فِي جَمِيعِ أَبْوَابِ الشَّرْعِ. وَأَمَّا الْمُقَيَّدُ بِمَذْهَبِ إمَامٍ خَاصٍّ فَلَيْسَ عَلَيْهِ غَيْرُ مَعْرِفَةِ قَوَاعِدِ إمَامِهِ، وَلْيُرَاعِ فِيهَا مَا يُرَاعِيه الْمُطْلَقُ فِي قَوَانِينِ الشَّرْعِ فَإِنَّهُ مَعَ الْمُجْتَهِدِ كَالْمُجْتَهِدِ مَعَ نُصُوصِ الشَّرْعِ، وَلِهَذَا لَيْسَ لَهُ أَنْ يَعْدِلَ عَنْ نَصِّ إمَامِهِ، كَمَا لَا يَسُوغُ الِاجْتِهَادُ مَعَ النَّصِّ. قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: وَلَا يَخْلُو الْعَصْرُ عَنْ مُجْتَهِدٍ إلَّا إذَا تَدَاعَى الزَّمَانُ وَقَرُبَتْ السَّاعَةُ. وَأَمَّا قَوْلُ الْغَزَالِيِّ وَالْقَفَّالِ: إنَّ الْعَصْرَ خَلَا عَنْ الْمُجْتَهِدِ الْمُسْتَقِلِّ، فَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ مُجْتَهِدٌ قَائِمٌ بِالْقَضَاءِ فَإِنَّ الْعُلَمَاءَ يَرْغَبُونَ عَنْهُ، وَهَذَا ظَاهِرٌ لَا شَكَّ فِيهِ، أَوْ كَيْفَ يُمْكِنُ الْقَضَاءُ عَلَى الْأَعْصَارِ بِخُلُوِّهَا عَنْ الْمُجْتَهِدِ وَالْقَفَّالُ نَفْسُهُ كَانَ يَقُولُ لِلسَّائِلِ فِي مَسْأَلَةِ الصُّبْرَةِ: أَتَسْأَلُنِي عَنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ أَمْ مَا عِنْدِي؟ . وَقَالَ هُوَ وَالشَّيْخُ أَبُو عَلِيٍّ وَالْقَاضِي الْحُسَيْنُ وَالْأُسْتَاذ أَبُو إِسْحَاقَ وَغَيْرُهُمْ إسْنَادُ مُقَلِّدِينَ لِلشَّافِعِيِّ، بَلْ وَافَقَ رَأْيُنَا رَأْيَهُ، فَمَا هَذَا كَلَامُ مَنْ يَدَّعِي زَوَالَ رُتْبَةِ الِاجْتِهَادِ، وَقَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ وَإِمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَالْغَزَالِيُّ وَالشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيُّ مِنْ الْأَئِمَّةِ الْمُجْتَهِدِينَ فِي الْمَذْهَبِ.

فُرُوعٌ: يَجُوزُ أَنْ يَتَبَعَّضَ الِاجْتِهَادُ بِأَنْ يَكُونَ الْعَالِمُ مُجْتَهِدًا فِي بَابٍ دُونَ بَابٍ، فَيَكْفِيهِ عِلْمُ مَا يَتَعَلَّقُ بِالْبَابِ الَّذِي يَجْتَهِدُ فِيهِ، وَيُنْدَبُ أَنْ يَكُونَ مَنْ يَتَوَلَّى الْقَضَاءَ مِنْ قُرَيْشٍ، وَمُرَاعَاةُ الْعِلْمِ وَالتُّقَى أَوْلَى مِنْ مُرَاعَاةِ النَّسَبِ، وَأَنْ يَكُونَ ذَا حِلْمٍ وَتَثَبُّتٍ وَلِينٍ وَفَطِنَةٍ وَيَقَظَةٍ وَكِتَابَةٍ وَصِحَّةِ حَوَاسٍّ وَأَعْضَاءٍ، وَأَنْ يَكُونَ عَارِفًا بِلُغَةِ الْبَلَدِ الَّذِي يَقْضِي لِأَهْلِهِ، قَنُوعًا سَلِيمًا مِنْ الشَّحْنَاءِ، صَدُوقًا، وَافِرَ الْعَقْلِ، ذَا وَقَارٍ وَسَكِينَةٍ، وَإِذَا عَرَفَ الْإِمَامُ أَهْلِيَّةَ أَحَدٍ وَلَّاهُ، وَإِلَّا بَحَثَ عَنْ حَالِهِ كَمَا اخْتَبَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مُعَاذًا.

وَلَوْ وَلَّى مَنْ لَا يَصْلُحُ لِلْقَضَاءِ مَعَ وُجُودِ الصَّالِحِ لَهُ وَالْعِلْمِ بِالْحَالِ أَثِمَ الْمُوَلِّي بِكَسْرِ اللَّامِ وَالْمَوْلَى بِفَتْحِهَا، وَلَا يَنْفُذُ قَضَاؤُهُ وَإِنْ أَصَابَ فِيهِ. هَذَا هُوَ الْأَصْلُ فِي الْبَابِ (فَإِنْ)(تَعَذَّرَ) فِي رَجُلٍ (جَمْعُ هَذِهِ الشُّرُوطِ) السَّابِقَةِ (فَوَلَّى سُلْطَانٌ لَهُ شَوْكَةٌ فَاسِقًا) مُسْلِمًا (أَوْ

ص: 265

مُقَلِّدًا نَفَذَ قَضَاؤُهُ لِلضَّرُورَةِ.

وَيُنْدَبُ لِلْإِمَامِ إذَا وَلَّى قَاضِيًا أَنْ يَأْذَنَ لَهُ فِي الِاسْتِخْلَافِ، فَإِنْ نَهَاهُ لَمْ يَسْتَخْلِفْ، فَإِنْ أَطْلَقَ اسْتَخْلَفَ فِيمَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ لَا غَيْرِهِ فِي الْأَصَحِّ، وَشَرْطُ الْمُسْتَخْلَفِ كَالْقَاضِي،

ــ

[مغني المحتاج]

مُقَلِّدًا نَفَذَ) بِالْمُعْجَمَةِ (قَضَاؤُهُ لِلضَّرُورَةِ) لِئَلَّا تَتَعَطَّلَ مَصَالِحُ النَّاسِ.

تَنْبِيهٌ: أَفْهَمَ تَقْيِيدُهُ بِالْفَاسِقِ - أَيْ الْمُسْلِمِ كَمَا قَدَّرْته فِي كَلَامِهِ - أَنَّهُ لَا يَنْفُذُ مِنْ الْمَرْأَةِ وَالْكَافِرِ إذَا وَلِيَا بِالشَّوْكَةِ، وَاسْتَظْهَرَهُ الْأَذْرَعِيُّ، لَكِنْ صَرَّحَ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ بِنُفُوذِهِ مِنْ الصَّبِيِّ وَالْمَرْأَةِ دُونَ الْكَافِرِ، وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي غَيْرِ الْأَهْلِ طَرَفٌ مِنْ الْأَحْكَامِ، وَلِلْعَادِلِ أَنْ يَتَوَلَّى الْقَضَاءَ مِنْ الْأَمِيرِ الْبَاغِي، فَقَدْ سُئِلَتْ عَائِشَةُ رضي الله عنها عَنْ ذَلِكَ لِمَنْ اسْتَقْضَاهُ زِيَادٌ. فَقَالَتْ: إنْ لَمْ يَقْضِ لَهُمْ خِيَارُهُمْ قَضَى لَهُمْ شِرَارُهُمْ.

(وَيُنْدَبُ لِلْإِمَامِ إذَا وَلَّى قَاضِيًا أَنْ يَأْذَنَ لَهُ فِي الِاسْتِخْلَافِ) لِيَكُونَ أَسْهَلَ لَهُ وَأَسْرَعَ إلَى فَصْلِ الْخُصُومَاتِ، وَيَتَأَكَّدُ عِنْدَ اتِّسَاعِ الْعَمَلِ وَكَثْرَةِ الرَّعِيَّةِ (فَإِنْ نَهَاهُ) عَنْ الِاسْتِخْلَافِ (لَمْ يَسْتَخْلِفْ) وَيُقْتَصَرُ عَلَى مَا يُمْكِنُهُ إنْ كَانَتْ تَوْلِيَتُهُ أَكْثَرَ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَرْضَ بِنَظَرِ غَيْرِهِ، فَإِنْ اسْتَخْلَفَ لَمْ يَنْفُذْ حُكْمُ خَلِيفَتِهِ، فَإِنْ تَرَاضَى الْخَصْمَانِ بِحُكْمِهِ الْتَحَقَ بِالْمُحَكِّمِ كَمَا فِي الرَّوْضَةِ وَأَصْلِهِ، وَإِنْ عَيَّنَ لَهُ مَنْ يَسْتَخْلِفُهُ وَلَيْسَ بِأَهْلٍ لَمْ يَكُنْ لَهُ اسْتِخْلَافُهُ لِفَسَادِهِ وَلَا غَيْرِهِ لِعَدَمِ الْإِذْنِ.

تَنْبِيهٌ: لَوْ قَالَ: وَلَّيْتُك الْقَضَاءَ عَلَى أَنْ تَسْتَخْلِفَ فِيهِ وَلَا تَنْظُرَ فِيهِ بِنَفْسِك. قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: هَذَا تَقْلِيدُ اخْتِيَارٍ وَمُرَاعَاةٍ وَلَيْسَ بِتَقْلِيدِ حُكْمٍ وَلَا نَظَرٍ. قَالَ الزَّرْكَشِيُّ: وَيُحْتَمَلُ فِي هَذَا إبْطَالُ التَّوْلِيَةِ، كَمَا لَوْ قَالَتْ لِلْوَلِيِّ: أَذِنْت لَك فِي تَزْوِيجِي وَلَا تُزَوِّجْ بِنَفْسِك انْتَهَى، وَالظَّاهِرُ الْأَوَّلُ وَيُفَرَّقُ بِأَنَّ وَلِيَّ النِّكَاحِ ثَابِتٌ لَهُ الْوِلَايَةُ، وَهِيَ تُرِيدُ أَنْ تَنْفِيَهَا عَنْهُ بِخِلَافِ مَنْ أَذِنَ لَهُ فِي أَنْ يُوَلِّيَ الْقَضَاءَ (فَإِنْ أَطْلَقَ) أَيْ الْإِمَامُ الْوِلَايَةَ لِشَخْصٍ وَلَمْ يَنْهَهُ عَنْ الِاسْتِخْلَافِ وَلَمْ يَأْذَنْ لَهُ فِيهِ، وَهُوَ لَا يَقْدِرُ إلَّا عَلَى بَعْضِهِ (اسْتَخْلَفَ فِيمَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ) لِحَاجَتِهِ إلَيْهِ (لَا) فِي (غَيْرِهِ) وَهُوَ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ (فِي الْأَصَحِّ) لِأَنَّ قَرِينَةَ الْحَالِ تَقْتَضِي ذَلِكَ، وَلَيْسَ مِنْ الْعَجْزِ مَا لَا يَرَاهُ الْمُسْتَخْلِفُ فِي مَذْهَبِهِ، فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَسْتَخْلِفَ مُخَالِفًا لِيَعْقِدَ مَا لَا يَرَاهُ مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَى مَا وَلَّى فِيهِ كَمَا قَالَهُ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ، وَالْقَادِرُ عَلَى مَا وَلِيَهُ لَا يَسْتَخْلِفُ فِيهِ أَيْضًا عَلَى الْأَصَحِّ، وَالثَّانِي: يَسْتَخْلِفُ فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ كَالْإِمَامِ بِجَامِعِ النَّظَرِ فِي الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ.

تَنْبِيهٌ: مَحَلُّ الْخِلَافِ فِي الْعَجْزِ الْمُقَارَنَ. أَمَّا الطَّارِئُ كَمَا لَوْ مَرِضَ الْقَاضِي، أَوْ أَرَادَ أَنْ يُسَافِرَ لِشُغْلٍ فَيَجُوزُ لَهُ الِاسْتِخْلَافُ قَطْعًا، قَالَهُ فِي التَّهْذِيبِ، وَلَوْ أَذِنَ لَهُ الْإِمَامُ فِي الِاسْتِخْلَافِ وَعَمَّمَ أَوْ أَطْلَقَ بِأَنْ لَمْ يُعَمَّمْ لَهُ فِي الْإِذْنِ جَازَ لَهُ الِاسْتِخْلَافُ فِي الْعَامِّ وَالْخَاصِّ وَالْمَقْدُورِ عَلَيْهِ، وَإِنْ خَصَّصَهُ بِشَيْءٍ لَمْ يَتَعَدَّهُ (وَشَرْطُ) الشَّخْصِ (الْمُسْتَخْلَفِ) بِفَتْحِ اللَّامِ بِخَطِّهِ (كَالْقَاضِي) فِي شُرُوطِهِ السَّابِقَةِ؛ لِأَنَّهُ قَاضٍ.

ص: 266

إلَّا أَنْ يُسْتَخْلَفَ فِي أَمْرٍ خَاصٍّ: كَسَمَاعِ بَيِّنَةٍ فَيَكْفِي عِلْمُهُ بِمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ، وَيَحْكُمَ بِاجْتِهَادِهِ أَوْ بِاجْتِهَادِ مُقَلَّدِهِ إنْ كَانَ مُقَلِّدًا، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَشْرِطَ عَلَيْهِ خِلَافَهُ.

وَلَوْ حَكَّمَ خَصْمَانِ رَجُلًا فِي غَيْرِ حَدِّ اللَّهِ تَعَالَى جَازَ مُطْلَقًا بِشَرْطِ أَهْلِيَّةِ الْقَضَاءِ،

ــ

[مغني المحتاج]

تَنْبِيهٌ: ظَاهِرُ إطْلَاقِ كَلَامِهِ جَوَازُ اسْتِخْلَافِ أَبِيهِ وَابْنِهِ، وَبِهِ صَرَّحَ الْمَاوَرْدِيُّ وَالْبَغَوِيُّ وَغَيْرُهُمَا، لَكِنَّ مَحَلَّهُ إنْ ثَبَتَتْ عَدَالَتُهُمَا عِنْدَ غَيْرِهِ. أَمَّا إذَا فَوَّضَ الْإِمَامُ لِشَخْصٍ اخْتِيَارَ قَاضٍ فَلَا يَخْتَارُ وَلَدَهُ وَلَا وَالِدَهُ، كَمَا لَا يَخْتَارُ نَفْسَهُ. ثُمَّ اسْتَثْنَى مِنْ التَّشْبِيهِ الْمَذْكُورِ قَوْلَهُ (إلَّا أَنْ يُسْتَخْلَفَ) شَخْصٌ (فِي أَمْرٍ خَاصٍّ: كَسَمَاعِ بَيِّنَةٍ فَيَكْفِي عِلْمُهُ بِمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ) أَيْ الْأَمْرِ الْخَاصِّ مِنْ شَرَائِطِ الْبَيِّنَةِ، وَلَا يُشْتَرَطُ فِيهِ رُتْبَةُ الِاجْتِهَادِ كَمَا نَقَلَاهُ عَنْ أَبِي مُحَمَّدٍ وَأَقَرَّاهُ وَإِنْ أَشْعَرَ كَلَامُ الْمَتْنِ بِاشْتِرَاطِهِ، أَيْضًا بِأَنَّ خِلَافَ الِاسْتِخْلَافِ يَجْرِي أَيْضًا فِي الْأَمْرِ الْخَاصِّ وَهُوَ مُقْتَضَى إطْلَاقِ الْأَكْثَرِينَ، لَكِنْ قَطَعَ الْقَفَّالُ بِالْجَوَازِ، وَفِي كَلَامِ الرَّوْضَةِ مَا يُوَافِقُهُ وَحَيْثُ جَازَ الِاسْتِخْلَافُ فَاسْتَخْلَفَ شَافِعِيٌّ مُخَالِفًا أَوْ بِالْعَكْسِ جَازَ عَلَى الْمَشْهُورِ كَمَا يُشِيرُ إلَيْهِ قَوْلُهُ (وَيَحْكُمَ) الْخَلِيفَةُ (بِاجْتِهَادِهِ) إنْ كَانَ مُجْتَهِدًا (أَوْ بِاجْتِهَادِ مُقَلَّدِهِ) بِفَتْحِ اللَّام بِخَطِّهِ (إنْ كَانَ مُقَلِّدًا) بِكَسْرِهَا حَيْثُ يَنْفُذُ قَضَاءُ الْمُقَلِّدِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى:{فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ} [ص: 26] وَالْحَقُّ مَا دَلَّ عَلَيْهِ الدَّلِيلُ عِنْدَ الْمُجْتَهِدِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَحْكُمَ بِغَيْرِهِ وَالْمُقَلِّدُ مُلْحَقٌ بِمَنْ يُقَلِّدُهُ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَحْكُمُ بِمُعْتَقِدِهِ فَلِذَلِكَ أَجْرَى عَلَيْهِ حُكْمَهُ (وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَشْرِطَ عَلَيْهِ) أَيْ عَلَى مَنْ اسْتَخْلَفَهُ (خِلَافَهُ) أَيْ الْحُكْمِ بِاجْتِهَادِهِ أَوْ بِاجْتِهَادِ مُقَلَّدِهِ لِأَنَّهُ لَا يَعْتَقِدُهُ، وَقَضِيَّةُ ذَلِكَ أَنَّهُ لَوْ شَرَطَهُ لَمْ يَصِحَّ الِاسْتِخْلَافُ وَهُوَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْحَاكِمَ إنَّمَا يَعْمَلُ بِاجْتِهَادِهِ أَوْ اجْتِهَادِ مُقَلَّدِهِ، وَكَذَا لَوْ شَرَطَهُ الْإِمَامُ فِي تَوْلِيَةِ الْقَاضِي لَمْ تَصِحَّ تَوْلِيَتُهُ لِمَا مَرَّ، وَإِنْ قَالَ: لَا تَحْكُمْ فِي كَذَا فِيمَا يُخَالِفُهُ فِيهِ جَازَ وَحَكَمَ فِي غَيْرِهِ مِنْ بَقِيَّةِ الْحَوَادِثِ، كَقَوْلِهِ: لَا تَحْكُمْ فِي قَتْلِ الْمُسْلِمِ بِالْكَافِرِ وَالْحُرِّ بِالْعَبْدِ.

(وَلَوْ)(حَكَّمَ) بِكَافٍ مُشَدَّدَةٍ (خَصْمَانِ رَجُلًا) غَيْرَ قَاضٍ (فِي غَيْرِ حَدِّ اللَّهِ تَعَالَى) مِنْ مَالٍ أَوْ غَيْرِهِ (جَازَ مُطْلَقًا) عَلَى التَّفَاصِيلِ الْآتِيَةِ (بِشَرْطِ أَهْلِيَّةِ الْقَضَاءِ) وَلَا يُشْتَرَطُ عَدَمُ الْقَاضِي؛ لِأَنَّهُ وَقَعَ لِجَمْعٍ مِنْ كِبَارِ الصَّحَابَةِ، وَلَمْ يُنْكِرْهُ أَحَدٌ. قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: فَكَانَ إجْمَاعًا.

تَنْبِيهٌ: قَوْلُهُ خَصْمَانِ يُوهِمُ اعْتِبَارَ الْخُصُومَةِ، وَلَيْسَ مُرَادًا. فَإِنَّ التَّحْكِيمَ يَجْرِي فِي النِّكَاحِ. فَلَوْ قَالَ: اثْنَانِ كَانَ أَوْلَى، وَقَوْلُهُ: فِي غَيْرِ حُدُودِ اللَّهِ مَزِيدٌ عَلَى الْمُحَرَّرِ، وَلَا بُدَّ مِنْهُ لِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ التَّحْكِيمُ فِيهَا، وَلَوْ قَالَ: فِي غَيْرِ عُقُوبَةٍ لِلَّهِ لِيَتَنَاوَلَ التَّعْزِيرَ كَانَ أَوْلَى لِأَنَّهُ كَالْحَدِّ فِي ذَلِكَ، وَاحْتُرِزَ بِقَوْلِهِ: بِشَرْطِ أَهْلِيَّةِ الْقَضَاءِ عَمَّا إذَا كَانَ غَيْرَ أَهْلٍ، فَلَا يَنْفُذُ حُكْمُهُ قَطْعًا، وَالْمُرَادُ بِالْأَهْلِيَّةِ الْأَهْلِيَّةُ الْمُطْلَقَةُ لَا بِالنِّسْبَةِ إلَى تِلْكَ الْوَاقِعَةِ، وَلِهَذَا قَالَ فِي الْمُحَرَّرِ: وَيُشْتَرَطُ فِي صِفَةِ الْقَاضِي. نَعَمْ يُسْتَثْنَى التَّحْكِيمُ فِي عَقْدِ النِّكَاحِ فَإِنَّهُ يَجُوزُ فِيهِ تَحْكِيمُ مَنْ لَمْ يَكُنْ مُجْتَهِدًا كَمَا مَرَّ ذَلِكَ فِي بَابِهِ، وَاسْتَثْنَى الْبُلْقِينِيُّ مِنْ جَوَازِ التَّحْكِيمِ الْوَكِيلَيْنِ، فَلَا يَكْفِي تَحْكِيمُهُمَا، بَلْ الْمُعْتَبَرُ تَحْكِيمُ الْمُوَكِّلَيْنِ وَالْوَلِيَّيْنِ، فَلَا يَكْفِي تَحْكِيمُهُمَا إذَا كَانَ مَذْهَبُ الْمُحَكِّمِ يَضُرُّ

ص: 267

وَفِي قَوْلٍ لَا يَجُوزُ. وَقِيلَ: بِشَرْطِ عَدَمِ قَاضٍ بِالْبَلَدِ. وَقِيلَ يَخْتَصُّ بِمَالٍ دُونَ قِصَاصٍ وَنِكَاحٍ وَنَحْوِهِمَا، وَلَا يَنْفُذُ حُكْمُهُ إلَّا عَلَى رَاضٍ بِهِ فَلَا يَكْفِي رِضَا قَاتِلٍ فِي ضَرْبِ دِيَةٍ عَلَى عَاقِلَتِهِ، وَإِنْ رَجَعَ أَحَدُهُمَا قَبْلَ الْحُكْمِ امْتَنَعَ الْحُكْمُ، وَلَا يُشْتَرَطُ الرِّضَا بَعْدَ الْحُكْمِ فِي الْأَظْهَرِ.

ــ

[مغني المحتاج]

بِأَحَدِهِمَا، وَالْمَحْجُورُ عَلَيْهِ بِالْفَلَسِ لَا يَكْفِي رِضَاهُ إذَا كَانَ مَذْهَبُ الْمُحَكِّمِ يَضُرُّ بِغُرَمَائِهِ، وَالْمَأْذُونِ لَهُ فِي التِّجَارَةِ، وَعَامِلُ الْقِرَاضِ لَا يَكْفِي تَحْكِيمُهُمَا، بَلْ لَا بُدَّ مِنْ رِضَا الْمَالِكِ، وَالْمَحْجُورِ عَلَيْهِ بِالسَّفَهِ لَا أَثَرَ لِتَحْكِيمِهِ، قَالَ: وَلَمْ أَرَ مَنْ تَعَرَّضَ لِذَلِكَ (وَفِي قَوْلٍ) مِنْ طَرِيقٍ (لَا يَجُوزُ) التَّحْكِيمُ مُطْلَقًا لِمَا فِيهِ مِنْ الِافْتِيَاتِ عَلَى الْإِمَامِ (وَقِيلَ) أَيْ وَفِي وَجْهٍ مِنْ طَرِيقٍ يَجُوزُ التَّحْكِيمُ (بِشَرْطِ عَدَمِ قَاضٍ بِالْبَلَدِ) لِوُجُودِ الضَّرُورَةِ حِينَئِذٍ (وَقِيلَ) أَيْ وَفِي وَجْهٍ مِنْ طَرِيقٍ (يَخْتَصُّ) جَوَازُ التَّحْكِيمِ (بِمَالٍ) لِأَنَّهُ أَخَفُّ (دُونَ قِصَاصٍ وَنِكَاحٍ وَنَحْوِهِمَا) كَلِعَانٍ وَحَدِّ قَذْفٍ لِخَطَرِ أَمْرِهَا فَتُنَاطُ بِنَظَرِ الْقَاضِي وَمَنْصِبِهِ، وَالصَّحِيحُ عَدَمُ الِاخْتِصَاصِ؛ لِأَنَّ مَنْ صَحَّ حُكْمُهُ فِي مَالٍ صَحَّ فِي غَيْرِهِ كَالْمُوَلَّى مِنْ جِهَةِ الْإِمَامِ.

تَنْبِيهٌ: لَا يَأْتِي التَّحْكِيمُ فِي حُدُودِ اللَّهِ تَعَالَى، إذْ لَيْسَ لَهَا طَالِبٌ مُعَيَّنٌ، وَيُؤْخَذُ مِنْ هَذَا التَّعْلِيلِ أَنَّ حَقَّ اللَّهِ تَعَالَى الْمَالِيَّ الَّذِي لَا طَالِبَ لَهُ مُعَيَّنٌ لَا يَجُوزُ فِيهِ التَّحْكِيمُ (وَ) الْمُحَكَّمُ (لَا يَنْفُذُ حُكْمُهُ إلَّا عَلَى رَاضٍ بِهِ) قَبْلَ حُكْمِهِ؛ لِأَنَّ رِضَا الْخَصْمَيْنِ هُوَ الْمُثْبِتُ لِلْوِلَايَةِ، فَلَا بُدَّ مِنْ تَقَدُّمِهِ.

تَنْبِيهٌ: مَحَلُّ اشْتِرَاطِ الرِّضَا حَيْثُ لَمْ يَكُنْ أَحَدُ الْخَصْمَيْنِ الْقَاضِي، فَلَوْ تَحَاكَمَ الْقَاضِي مَعَ شَخْصٍ عِنْدَ مُحَكَّمٍ لَمْ يُشْتَرَطْ رِضَا الْآخَرِ عَلَى الْمَذْهَبِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ ذَلِكَ تَوْلِيَةٌ، وَرَدَّهُ ابْنُ الرِّفْعَةِ بِأَنَّ ابْنَ الصَّبَّاغِ وَغَيْرَهُ قَالُوا: لَيْسَ التَّحْكِيمُ تَوْلِيَةٌ، فَلَا يَحْسُنُ الْبِنَاءُ،.

وَأُجِيبَ بِأَنَّ مَحَلَّ هَذَا إذَا صَدَرَ التَّحْكِيمُ مِنْ غَيْرِ قَاضٍ فَيَحْسُنُ الْبِنَاءُ (فَلَا يَكْفِي رِضَا قَاتِلٍ) بِحُكْمِهِ (فِي ضَرْبِ دِيَةٍ عَلَى عَاقِلَتِهِ) بَلْ لَا بُدَّ مِنْ رِضَا الْعَاقِلَةِ؛ لِأَنَّهُمْ لَا يُؤَاخَذُونَ بِإِقْرَارِ الْجَانِي فَكَيْفَ يُؤَاخَذُونَ بِرِضَاهُ. وَيُشْتَرَطُ اسْتِدَامَةُ الرِّضَا إلَى تَمَامِ الْحُكْمِ (وَ) حِينَئِذٍ (إنْ رَجَعَ أَحَدُهُمَا قَبْلَ) تَمَامِ (الْحُكْمِ) وَلَوْ بَعْدَ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ وَالشُّرُوعِ فِيهِ (امْتَنَعَ الْحُكْمُ) لِعَدَمِ اسْتِمْرَارِ الرِّضَا (وَلَا يُشْتَرَطُ الرِّضَا بَعْدَ الْحُكْمِ فِي الْأَظْهَرِ) كَحُكْمِ الْمُوَلَّى مِنْ جِهَةِ الْإِمَامِ وَالثَّانِي: يُشْتَرَطُ؛ لِأَنَّ رِضَاهُمَا مُعْتَبَرٌ فِي أَصْلِ الْحُكْمِ فَكَذَا فِي لُزُومِهِ.

تَنْبِيهٌ: لَيْسَ لَلْمُحَكَّمِ أَنْ يَحْبِسَ، بَلْ غَايَتُهُ الْإِثْبَاتُ وَالْحُكْمُ، وَقَضِيَّتُهُ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ التَّرْسِيمُ. قَالَ الرَّافِعِيُّ نَقْلًا عَنْ الْغَزَالِيِّ: وَإِذَا حَكَمَ بِشَيْءٍ مِنْ الْعُقُوبَاتِ كَالْقِصَاصِ وَحَدِّ الْقَذْفِ لَمْ يَسْتَوْفِهِ، لِأَنَّ ذَلِكَ يُحَرِّمُ أُبَّهَةَ الْوِلَايَةِ، وَإِذَا ثَبَتَ الْحَقُّ عِنْدَهُ وَحَكَمَ بِهِ أَوْ لَمْ يَحْكُمْ فَلَهُ أَنْ يُشْهِدَ عَلَى نَفْسِهِ فِي الْمَجْلِسِ خَاصَّةً، إذْ لَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ: بَعْدَ الِافْتِرَاقِ كَالْقَاضِي بَعْدَ الْعَزْلِ،

ص: 268

وَلَوْ نَصَبَ قَاضِيَيْنِ فِي بَلَدٍ وَخَصَّ كُلًّا بِمَكَانٍ أَوْ زَمَانٍ أَوْ نَوْعٍ جَازَ، وَكَذَا إنْ لَمْ يَخُصَّ فِي الْأَصَحِّ، إلَّا أَنْ يَشْتَرِطَ اجْتِمَاعَهُمَا عَلَى الْحُكْمِ.

ــ

[مغني المحتاج]

قَالَهُ الْمَاوَرْدِيُّ، وَلَا يَحْكُمُ لِنَحْوِ وَلَدِهِ مِمَّنْ يُتَّهَمُ فِي حَقِّهِ وَلَا عَلَى عَدُوِّهِ كَمَا فِي الْقَاضِي؛ لِأَنَّهُ لَا يَزِيدُ عَلَيْهِ وَيَمْضِي حُكْمُ الْمُحَكَّمِ كَالْقَاضِي، وَلَا يُنْقَضُ حُكْمُهُ إلَّا بِمَا يُنْقَضُ بِهِ قَضَاءُ غَيْرِهِ.

فَرْعٌ: يَجُوزُ أَنْ يَتَحَاكَمَا إلَى اثْنَيْنِ، فَلَا يَنْفُذُ حُكْمُ أَحَدِهِمَا حَتَّى يَجْتَمِعَا، وَيُفَارِقُ تَوْلِيَةُ قَاضِيَيْنِ عَلَى اجْتِمَاعِهِمَا عَلَى الْحُكْمِ لِظُهُورِ الْفَرْقِ، قَالَهُ فِي الْمَطْلَبِ.

(وَلَوْ)(نَصَبَ) الْإِمَامُ بِبَلَدٍ (قَاضِيَيْنِ فِي بَلَدٍ وَخَصَّ كُلًّا بِمَكَانٍ) مِنْهُ يَحْكُمُ فِيهِ (أَوْ زَمَانٍ) كَيَوْمِ كَذَا (أَوْ نَوْعٍ) مِنْ الْحُكْمِ كَأَنْ جَعَلَ أَحَدَهُمَا يَحْكُمُ فِي الْأَمْوَالِ وَالْآخَرَ فِي الدِّمَاءِ وَالْفُرُوجِ (جَازَ) لِعَدَمِ الْمُنَازَعَةِ بَيْنَهُمَا.

تَنْبِيهٌ: شَمِلَ كَلَامُهُ مَا لَوْ وَلَّى الْإِمَامُ قَاضِيًا يَحْكُمُ بَيْنَ الرِّجَالِ وَآخَرَ يَحْكُمُ بَيْنَ النِّسَاءِ، وَهُوَ مَا جَزَمَ بِهِ الْإِمَامُ، وَعَلَى هَذَا لَوْ اخْتَصَمَ رَجُلٌ وَامْرَأَةٌ لَمْ يَفْصِلْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا الْخُصُومَةَ، فَلَا بُدَّ مِنْ ثَالِثٍ يَتَوَلَّى الْقَضَاءَ بَيْنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ. قَالَ الْأَذْرَعِيُّ: وَقِسْ بِهَذَا مَا يُشْبِهُهُ (وَكَذَا إنْ لَمْ يَخُصَّ) كُلًّا مِنْ الْقَاضِيَيْنِ بِمَا ذَكَرَ بَلْ عَمَّمَ وِلَايَتَهُمَا فَيَجُوزُ (فِي الْأَصَحِّ) كَنَصْبِ الْوَصِيَّيْنِ وَالْوَكِيلَيْنِ، وَحَكَاهُ فِي الْبَحْرِ عَنْ النَّصِّ، وَنَسَبَهُ الْمَاوَرْدِيُّ إلَى الْأَكْثَرِينَ، وَالثَّانِي لَا يَجُوزُ، وَصَحَّحَهُ الْإِمَامُ وَالْغَزَالِيُّ وَابْنُ أَبِي عَصْرُونٍ (إلَّا أَنْ يَشْتَرِطَ اجْتِمَاعَهُمَا عَلَى الْحُكْمِ) فَلَا يَجُوزُ لِمَا يَقَعُ بَيْنَهُمَا مِنْ الْخِلَافِ فِي مَحَلِّ الِاجْتِهَادِ فَلَا تَنْفَصِلُ الْخُصُومَاتُ، وَقَضِيَّةُ هَذَا التَّعْلِيلِ أَنَّهُ لَوْ وَلَّى الْإِمَامُ مُقَلِّدَيْنِ لِإِمَامٍ وَاحِدٍ، وَقُلْنَا: تَجُوزُ وِلَايَةُ الْمُقَلِّدِ أَنَّهُ يَجُوزُ وَإِنْ شَرَطَ اجْتِمَاعَهُمَا عَلَى الْحُكْمِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُؤَدِّي إلَى اخْتِلَافٍ؛ لِأَنَّ إمَامَهُمَا وَاحِدٌ. فَإِنْ قِيلَ: قَدْ يَكُونُ لِلْإِمَامِ الْوَاحِدِ قَوْلَانِ فَيَرَى أَحَدُهُمَا الْعِلْمَ بِقَوْلٍ وَالْآخَرُ بِخِلَافِهِ فَيُؤَدِّي إلَى النِّزَاعِ وَالِاخْتِلَافِ.

أَجَابَ الشَّيْخُ بُرْهَانُ الدِّينِ الْفَزَارِيّ بِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا إنَّمَا يَحْكُمُ بِمَا هُوَ الْأَصَحُّ مِنْ الْقَوْلَيْنِ، وَهُوَ كَمَا قَالَ ابْنُ شُهْبَةَ ظَاهِرٌ فِي الْمُقَلِّدِ الصِّرْفِ، وَعِنْدَ تَصْرِيحِ ذَلِكَ الْإِمَامِ بِتَصْحِيحِ أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ. أَمَّا إذَا كَانَا مِنْ أَهْلِ النَّظَرِ وَالتَّرْجِيحِ وَإِلْحَاقِ مَا لَمْ يَقِفَا فِيهِ عَلَى نَصٍّ مِنْ أَئِمَّةِ الْمَذْهَبِ بِمَا هُوَ مَنْصُوصٌ وَتَرْجِيحُ أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ، فَهَهُنَا يَقَعُ النِّزَاعُ فِي ذَلِكَ وَالِاخْتِلَافُ وَيَخْتَلِفُ النَّظَرُ فَيَتَّجِهُ الْمَنْعُ أَيْضًا. أَمَّا إذَا أَطْلَقَ بِأَنْ لَمْ يَشْرِطْ اسْتِقْلَالَهُمَا وَلَا اجْتِمَاعَهُمَا فَإِنَّهُ يُحْمَلُ عَلَى إثْبَاتِ الِاسْتِقْلَالِ تَنْزِيلًا لِلْمُطْلَقِ عَلَى مَا يَجُوزُ، وَيُفَارِقُ نَظِيرُهُ فِي الْوَصِيَّيْنِ بِأَنَّ تَعْيِينَهُمَا بِشَرْطِ اجْتِمَاعِهِمَا عَلَى التَّصَرُّفِ جَائِزٌ. فَحُمِلَ الْمُطْلَقُ عَلَيْهِ بِخِلَافِ الْقَاضِيَيْنِ، وَإِنْ طَلَبَ الْقَاضِيَانِ خَصْمًا بِطَلَبِ خَصْمَيْهِ لَهُ مِنْهُمَا أَجَابَ السَّابِقُ مِنْهُمَا بِالطَّلَبِ، فَإِنْ طَلَبَاهُ مَعًا أَقْرَعَ بَيْنَهُمَا، وَإِنْ تَنَازَعَ الْخَصْمَانِ فِي اخْتِيَارِ الْقَاضِيَيْنِ.

أُجِيبَ الطَّالِبُ لِلْحَقِّ دُونَ الْمَطْلُوبِ كَمَا جَزَمَ بِهِ الرُّويَانِيُّ، فَإِنْ تُسَاوَيَا بِأَنْ كَانَ كُلٌّ مِنْهُمَا طَالِبًا وَمَطْلُوبًا كَتَحَاكُمِهِمَا فِي قِسْمَةِ مِلْكٍ أَوْ اخْتَلَفَا فِي قَدْرِ ثَمَنِ مَبِيعٍ أَوْ صَدَاقٍ اخْتِلَافًا يُوجِبُ تَخَالُفَهُمَا تَحَاكَمَا عِنْدَ أَقْرَبِ الْقَاضِيَيْنِ إلَيْهِمَا، فَإِنْ اسْتَوَيَا فِي الْقُرْبِ إلَيْهِمَا عَمِلَ بِالْقُرْعَةِ، وَلَا يُعْرِضُ عَنْهُمَا حَتَّى يَصْطَلِحَا لِئَلَّا يُؤَدِّيَ إلَى طُولِ النِّزَاعِ.

ص: 269