المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المطلب الثاني: الحلم - مفهوم الحكمة في الدعوة إلى الله تعالى في ضوء الكتاب والسنة

[سعيد بن وهف القحطاني]

فهرس الكتاب

- ‌المقدمة

- ‌التمهيد: أهمية الحكمة في الدعوة إلى اللَّه تعالى:

- ‌المبحث الأول: مفهوم الحكمة: لغةً وشرعاً

- ‌المطلب الأول: مفهوم الحكمة في اللغة:

- ‌المطلب الثاني: مفهوم الحكمة في الاصطلاح الشرعي

- ‌المطلب الثالث: العلاقة بين التعريف اللغوي والشرعي

- ‌المبحث الثاني: أنواع الحكمة ودرجاتها

- ‌المطلب الأول: أنواع الحكمة

- ‌النوع الأول:

- ‌النوع الثاني:

- ‌المطلب الثاني: درجات الحكمة العملية

- ‌الدرجة الأولى:

- ‌الدرجة الثانية:

- ‌الدرجة الثالثة:

- ‌الأمر الأول:

- ‌الأمر الثاني:

- ‌الأمر الثالث:

- ‌المبحث الثالث: أركان الحكمة

- ‌توطئة:

- ‌المطلب الأول: العلم

- ‌القسم الأول:

- ‌القسم الثاني:

- ‌القسم الثالث:

- ‌أسباب وطرق تحصيل العلم:

- ‌1 - أن يسأل العبد ربه العلم النافع

- ‌6 - العمل بالعلم

- ‌المطلب الثاني: الحلم

- ‌علاج الغضب

- ‌الطريق الأول: الوقاية:

- ‌الطريق الثاني: العلاج إذا وقع الغضب:

- ‌النوع الأول:

- ‌النوع الثاني:

- ‌النوع الثالث:

- ‌النوع الرابع:

- ‌المطلب الثالث: الأناة

- ‌المبحث الرابع: طرق اكتساب الحكمة

- ‌تمهيد:

- ‌المطلب الأول:‌‌ السلوكالحكيم

- ‌ السلوك

- ‌ الخلق

- ‌ المسالك الحكيمة

- ‌المسلك الأول: قدوة الداعية في سلوكه

- ‌المسلك الثاني: أصول السلوك الحكيم

- ‌المسلك الثالث: وصايا الحكماء باكتساب الحكمة

- ‌المطلب الثاني: العمل بالعلم المقرون بالصدق والإخلاص

- ‌المطلب الثالث: الاستقامة

- ‌المطلب الرابع: الخبرات والتجارب

- ‌المطلب الخامس: السياسة الحكيمة

- ‌طرق السياسة الحكيمة في الدعوة إلى اللَّه عز وجل

- ‌1 - تحري أوقات الفراغ، والنشاط

- ‌2 - ترك الأمر الذي لا ضرر في تركه ولا إثم

- ‌3 - تأليف القلوب بالمال والجاه

- ‌4 - التأليف بالعفو في موضع الانتقام

- ‌5 - عدم مواجهة الداعية أحداً بعينه

- ‌6 - إعطاء الوسائل صورة ما تصل إليه

- ‌7 - أن يجيب الداعية على السؤال الخاص

- ‌8 - ضرب الأمثال

- ‌المطلب السادس: فقه أركان الدعوة إلى اللَّه تعالى

- ‌المسلك الأول: موضوع الدعوة

- ‌المسلك الثاني: الداعي:

- ‌1 - وظيفة الداعية:

- ‌2 - عدة الداعية وسلاحه:

- ‌3 - أخلاق الداعية وصفاته:

- ‌المسلك الثالث: المدعو:

- ‌المسلك الرابع: أساليب الدعوة ووسائل تبليغها:

- ‌أولاً: أساليب الدعوة:

- ‌ثانياً: وسائل تبليغ الدعوة إلى اللَّه تعالى:

- ‌أ- التبليغ بالقول:

- ‌ب- التبليغ بالعمل:

- ‌ج- التبليغ بالسيرة الحسنة:

الفصل: ‌المطلب الثاني: الحلم

وقال مجاهد: ((لا يتعلم العلم مستحي ولا مستكبر)) (1).

5 -

ومنها، بل أعظمها ولُبُّها: الإخلاص في طلب العلم، قال صلى الله عليه وسلم:((من تعلم علماً مما يُبتغى به وجه اللَّه عز وجل، لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضاً من الدنيا لم يجد عَرْف الجنة يوم القيامة)) (2) يعني ريحها.

‌6 - العمل بالعلم

(3):

ومما تقدم يتضح أن العلم لا يكون ركناً من أركان الحكمة ودعائمها إلا بالعمل، والإخلاص، والمتابعة.

‌المطلب الثاني: الحلم

الحِلْمُ: بالكسر: العقل (4)، وحلم حلماً: تأنَّى وسكن عند غضب أو مكروه مع قدرة، وقوة، وصفح، وعقل (5)، ومن أسماء اللَّه - تعالى -:(الحليم)، وهو الذي لا يستخفه شيء من عصيان العباد، ولا يستفزه الغضب عليهم، ولكنه جعل لكل شيء مقداراً فهو منتهٍ

إليه (6).

(1) البخاري مع الفتح، كتاب العلم، باب الحياء في العلم، 1/ 228.

(2)

أبو داود بلفظه في العلم، باب في طلب العلم لغير اللَّه، 3/ 323، (رقم 3664)، وابن ماجه في المقدمة، باب الانتفاع بالعلم، 1/ 93، (رقم 252)، وانظر: صحيح ابن ماجه، 1/ 48.

(3)

انظر: ص26، من هذا الكتاب.

(4)

القاموس المحيط، باب الميم، فصل الحاء، ص1416.

(5)

المعجم الوسيط، مادة: حلم، 1/ 194.

(6)

النهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير، حرف الحاء مع اللام، 1/ 434.

ص: 35

والحلم: ضبط النفس والطبع عن هيجان الغضب (1).

والحلم: هو حالة متوسطة بين رذيلتين: الغضب، والبلادة، فإذا استجاب المرء لغضبه بلا تعقل ولا تبصر كان على رذيلة، وإن تبلد، وضيع حقه ورضي بالهضم والظلم كان على رذيلة، وإن تحلى بالحلم مع القدرة، وكان حلمه مع من يستحقه كان على فضيلة.

وهناك ارتباط بين الحلم وكظم الغيظ، وهو أن ابتداء التخلق بفضيلة الحلم يكون بالتحلم: وهو كظم الغيظ، وهذا يحتاج إلى مجاهدة شديدة، لما في كظم الغيظ من كتمان ومقاومة واحتمال، فإذا أصبح ذلك هيئة راسخة في النفس، وأصبح طبعاً من طبائعها كان ذلك هو الحلم، واللَّه أعلم (2).

وقد وصف اللَّه نفسه بصفة الحلم في عدة مواضع من القرآن الكريم، كقوله تعالى:{وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ} (3).

ونلاحظ أن الآيات التي وصفت اللَّه بصفة الحلم قد قرنت صفة

الحلم - في أغلب هذه الآيات - بصفة المغفرة أو العفو، ويأتي هذا الاقتران في الغالب بعد إشارة سابقة إلى خطأ وقع، أو تفريط

(1) المفردات في غريب القرآن، للراغب الأصفهاني، مادة حلم، ص129.

(2)

انظر: مفردات غريب القرآن، ص129، وأخلاق القرآن للشرباصي، 1/ 182، والأخلاق الإسلامية لعبد الرحمن الميداني، 2/ 326.

(3)

سورة آل عمران، الآية:155.

ص: 36

في أمر محمود، وهذا أمر يتفق مع الحلم؛ لأنه تأخير عقوبة، قال سبحانه:{وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِن دَابَّةٍ وَلَكِن يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى} (1).

ونجد أيضاً أن عدداً من الآيات التي وصفت اللَّه بالحلم قد قرن فيها ذكر الحلم بالعلم، كقوله تعالى:{وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ} (2)، وهذا يفيد - واللَّه أعلم بمراده - أن كمال الحلم يكون مع كمال العلم، وهذا من أعظم أركان الحكمة (3).

ومما يؤكد أن الحلم من أعظم أركان الحكمة - التي ينبغي للداعية أن يدعو بها إلى اللَّه - تعالى - مدح النبي صلى الله عليه وسلم للحلم، وتعظيمه لأمره، وأنه من الخصال التي يحبها اللَّه عز وجل، قال صلى الله عليه وسلم للأشج (4):((إن فيك خصلتين يحبهما اللَّه: الحلم والأناة)) (5).

وفي رواية قال الأشج: يا رسول اللَّه، أنا تخلقت بهما أم اللَّه

(1) سورة فاطر، الآية:45.

(2)

سورة الحج، الآية:59.

(3)

انظر: أخلاق القرآن للشرباصي، 1/ 185.

(4)

المنذر بن عائذ بن المنذر العصري، أشج عبد القيس، كان سيد قومه، رجع بعد إسلامه إلى البحرين مع قومه، ثم نزل البصرة بعد ذلك ومات بها رضي الله عنه. انظر: تهذيب التهذيب 10/ 267.

(5)

مسلم، في كتاب الإيمان، باب الأمر بالإيمان بالله - تعالى - ورسوله، 1/ 48، (رقم 17/ 25).

ص: 37

جبلني عليهما؟ قال: ((بل اللَّه جبلك عليهما))، قال: الحمد للَّه الذي جبلني على خلقين يحبهما اللَّه ورسوله (1).

وسبب قول النبي صلى الله عليه وسلم ذلك للأشج ما جاء في حديث الوفد أنهم لما وصلوا المدينة بادروا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وأقام الأشج عند رحالهم، فجمعها، وعقل ناقته، ولبس أحسن ثيابه، ثم أقبل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقربه النبي صلى الله عليه وسلم وأجلسه إلى جانبه، ثم قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم:((تبايعونِ على أنفسكم وقومكم؟)) فقال القوم: نعم، فقال الأشج: يا رسول اللَّه، إنك لم تزاول الرجل على شيء أشد عليه من دينه، نبايعك على أنفسنا، ونرسل من يدعوهم، فمن اتبعنا كان منا، ومن أبى قاتلناه، قال: ((صدقت، إن فيك خصلتين

)) الحديث.

فالأناة: تربصه حتى نظر في مصالحه، ولم يعجل، والحلم: هذا القول الذي قاله، الدال على صحة عقله، وجودة نظره للعواقب

(2).

ومما يؤكد أن الحلم من أعظم أركان الحكمة ودعائمها العظام: أنه خلق عظيم من أخلاق النبوة والرسالة، فالأنبياء - عليهم الصلاة

والسلام - هم عظماء البشر، وقدوة أتباعهم من الدعاة إلى اللَّه والصالحين في الأخلاق المحمودة كافة.

(1) أبو داود، في الأدب، باب في قبلة الرِّجْل، 4/ 357، (رقم 5225)، وأحمد، 4/ 206، 3/ 23.

(2)

شرح النووي على مسلم، 1/ 189، وتحفة الأحوذي شرح سنن الترمذي، 6/ 152.

ص: 38

وقد واجه كل واحد منهم من قومه ما يثير الغضب، ويغضب منه عظماء الرجال، ولكن حلموا عليهم، ورفقوا بهم، ولانوا لهم حتى جاءهم نصر اللَّه المؤزر، وعلى رأسهم إمامهم، وسيدهم، وخاتمهم محمد صلى الله عليه وسلم ولم يكن غريباً أن يوجِّهه اللَّه تعالى إلى قمة هذه السيادة حين يقول له:{خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ* وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (1)، {وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} (2)، {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ} (3).

وقد بلغ النبي صلى الله عليه وسلم في حلمه، وعفوه في دعوته إلى اللَّه - تعالى - الغاية المثالية، والدلائل على ذلك كثيرة جداً، منها على سبيل المثال لا الحصر ما يلي:

1 -

عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: لما كان يوم حنينٍ آثر النبي صلى الله عليه وسلم أُناساً في القسمة، فأعطى الأقرع بن حابس مائة من الإبل، وأعطى

عيينة مثل ذلك، وأعطى أُناساً من أشراف العرب فآثرهم يومئذ في القسمة، قال رجل: واللَّه إن هذه القسمة ما عُدِلَ فيها، وما أُريدَ بها

(1) سورة الأعراف، الآيتان: 199 - 200.

(2)

سورة فصلت، الآية:34.

(3)

سورة آل عمران، الآية:159.

ص: 39

وجه اللَّه، فقلت: واللَّه لأخبرن النبي صلى الله عليه وسلم، فأتيته فأخبرته، فقال:((فمن يعدل إذا لم يعدل اللَّه ورسوله؟! رحم اللَّه موسى فقد أوذي بأكثر من هذا فصبر)) (1).

وهذا من أعظم مظاهر الحلم في الدعوة إلى اللَّه - تعالى - وقد اقتضت حكمة النبي صلى الله عليه وسلم أن يقسم الغنائم بين هؤلاء المؤلفة قلوبهم، ويوكل من قلبه ممتلئ بالإيمان إلى إيمانه (2).

2 -

وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: بعث علي بن أبي طالب رضي الله عنه إلى رسول اللَّه من اليمن بذهيبة (3) في أديم مقروظ (4) لم تُحَصَّلْ من ترابها، قال: فقسمها بين أربعة نفر: بين عيينة بن بدر (5)، وأقرع بن حابس، وزيد الخيل (6)، والرابع إما علقمة (7) وإما عامر بن

الطفيل، فقال لرجل من أصحابه: كنا نحن أحق بهذا من هؤلاء،

(1) البخاري مع الفتح بلفظه، كتاب فرض الخمس، باب ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يعطي المؤلفة قلوبهم وغيرهم من الخمس، 6/ 251، (رقم 3150)، ومسلم، كتاب الزكاة، باب إعطاء المؤلفة قلوبهم على الإسلام وتصبر من قوي إيمانه، 2/ 739، (رقم 1062).

(2)

انظر: فتح الباري، شرح صحيح البخاري، 8/ 49.

(3)

أي ذهب. انظر: فتح الباري، 8/ 68.

(4)

مدبوغ بالقرظ. انظر: فتح الباري، 8/ 68.

(5)

وهو عيينة بن حصن بن حذيفة، نسب لجده الأعلى. الفتح، 8/ 68.

(6)

زيد الخيل بن مهلهل الطائي، وسماه النبي صلى الله عليه وسلم زيد الخير، بالراء بدل اللام. انظر: فتح الباري، 8/ 68.

(7)

ابن علاثة العامري، أسلم وحسن إسلامه، واستعمله عمر على حوران، فمات بها في خلافته. انظر: فتح الباري، 8/ 68.

ص: 40

قال: فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ((ألا تأمنوني وأنا أمين من السماء، يأتيني خبر السماء صباحاً ومساء؟)) قال: فقام رجل غائر العينين، مشرف الوجنتين، ناشز الجبهة، كث اللحية، محلوق الرأس، مشمِّر الإزار، فقال: يا رسول اللَّه! اتق اللَّه، قال:((ويلك، أولست أحقُّ أهل الأرض أن يتقي اللَّه؟))، قال: ثم ولى الرجل، قال خالد بن الوليد: يا رسول اللَّه! ألا أضرب عنقه؟ قال: ((لا، لعله أن يكون يصلي))، فقال خالد: وكم من مصلٍّ يقول بلسانه ما ليس في قلبه! قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: ((إني لم أومر أن أنقب قلوب الناس، ولا أشق بطونهم)). قال: ثم نظر إليه وهو مُقفٍ، فقال:((إنه يخرج من ضئضئ هذا قوم يتلون كتاب اللَّه رطباً لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد)) (1).

وهذا من مظاهر حلم النبي صلى الله عليه وسلم، فقد أخذ بالظاهر ولم يؤمر أن ينقب قلوب الناس، ولا أن يشق بطونهم، والرجل قد استحق القتل واستوجبه؛ ولكن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقتله، لئلا يتحدث الناس أنه يقتل

أصحابه، ولاسيما من صلى (2).

3 -

عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كنت أمشي مع النبي صلى الله عليه وسلم وعليه

(1) البخاري مع الفتح، كتاب المغازي، باب بعث علي بن أبي طالب، وخالد بن الوليد رضي الله عنه إلى اليمن، 8/ 67، (رقم 4351)، ومسلم، في كتاب الزكاة، باب ذكر الخوارج وصفاتهم، 2/ 741، (رقم 1064).

(2)

انظر: فتح الباري بشرح صحيح البخاري، 8/ 69.

ص: 41

برد نجراني غليظ الحاشية، فأدركه أعرابي فجبذه بردائه جبذةً شديدة حتى نظرت إلى صفحة عاتق النبي صلى الله عليه وسلم، قد أثّرت به حاشية الرداء من شدة جبذته، ثم قال: يا محمد، مر لي من مال اللَّه الذي عندك، فالتفت إليه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فضحك، ثم أمر له بعطاء (1).

وهذا من روائع حلمه صلى الله عليه وسلم وكماله، وحسن خلقه، وصفحه الجميل، وصبره على الأذى في النفس، والمال، والتجاوز على جفاء من يريد تألفه على الإسلام؛ وليتأسى به الدعاة إلى اللَّه، والولاة بعده في حلمه، وخلقه الجميل من الصفح، والإغضاء، والعفو، والدفع بالتي هي أحسن (2).

4 -

وعن جابر بن عبد اللَّه رضي الله عنه أنه غزا مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قبل نجد، فلما قفل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قفل معه، فأدركتهم القائلة في وادٍ كثير العضاه، فنزل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم تحت شجرة، عُلق بها سيفه، ونمنا نومةً، فإذا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يدعونا، وإذا عنده أعرابي، فقال: ((إن

هذا اخترط عليَّ سيفي وأنا نائم، فاستيقظت وهو في يده صلتاً (3)، فقال: من يمنعنك مني؟ فقلت: اللَّه (ثلاثاً)، ولم يعاقبه وجلس)) (4).

(1) البخاري مع الفتح، كتاب فرض الخمس، باب ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يعطي المؤلفة قلوبهم وغيرهم من الخمس ونحوه، 6/ 251، (رقم 3149)، ومسلم، كتاب الزكاة، باب إعطاء من سأل بفحش وغلظة، 2/ 730، (رقم 1057).

(2)

انظر: فتح الباري، 10/ 506، وشرح النووي على مسلم، 7/ 146، 147.

(3)

والسيف صلتاً: أي مسلولاً. انظر: شرح النووي، 15/ 45.

(4)

البخاري مع الفتح، كتاب الجهاد، باب من علق سيفه بالشجر في السفر عند القائلة، 6/ 96، (رقم 2910)، ومسلم في كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب صلاة الخوف، 1/ 576، (رقم 843).

ص: 42

وفي هذا دلالة واضحة على قوة يقينه، وصبره على الأذى، وحلمه على الجهال، وشدة رغبته في استئلاف الكفار؛ ليدخلوا في الإسلام، ولهذا ذُكِرَ أن هذا الأعرابي رجع إلى قومه وأسلم، واهتدى به خلق كثير (1).

وهذا مما يؤكد أن الحلم من أعظم أركان الحكمة ودعائمها.

5 -

ومن عظيم حلمه عدم دعائه على من آذاه من قومه، وقد كان باستطاعته أن يدعو عليهم، فيهلكهم اللَّه، ويدمرهم، ولكنه صلى الله عليه وسلم حليم حكيم، يهدف إلى الغاية العظمى، وهي رجاء إسلامهم، أو إسلام ذرياتهم، ولهذا قال عبد اللَّه بن مسعود رضي الله عنه: كأني أنظر إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يحكي نبيّاً من الأنبياء، صلوات اللَّه وسلامه عليهم، ضربه قومه فأدْمَوْهُ وهو يمسح الدم عن وجهه، ويقول:((اللَّهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون)) (2).

ومما يدل على أن الحلم ركن من أركان الحكمة ملازمة صفة الحلم للأنبياء قبل النبي صلى الله عليه وسلم في دعوتهم إلى اللَّه تعالى.

فهذا إبراهيم أبو الأنبياء -عليه وعليهم الصلاة والسلام- قد بلغ

(1) انظر: فتح الباري 7/ 427، 428.

(2)

البخاري مع الفتح، كتاب أحاديث الأنبياء، باب حدثنا أبو اليمان، 6/ 514، (رقم 3477)، ومسلم، في كتاب الجهاد والسير، باب غزوة أحد، 3/ 1417، (رقم 1792).

ص: 43

من الحلم مبلغاً عظيماً حتى وصفه اللَّه بقوله: {وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ إِلَاّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ للَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأوَّاهٌ حَلِيمٌ} (1)، فقد كان إبراهيم كثير الدعاء، حليماً عمن ظلمه، وأناله مكروهاً، ولهذا استغفر لأبيه مع شدة أذاه له في قوله:{أَرَاغِبٌ أَنتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْراهِيمُ لَئِن لَّمْ تَنتَهِ لأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا * قَالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا * وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلا أَكُونَ بِدُعَاء رَبِّي شَقِيًّا} (2).

فحلم عنه مع أذاه له، ودعا له، واستغفر (3)؛ ولهذا قال تعالى:{إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأوَّاهٌ حَلِيمٌ} (4).

وهكذا جميع الأنبياء والمرسلين، كانوا من أعظم الناس حلماً

مع أقوامهم في دعوتهم إلى اللَّه تعالى (5).

ومن وراء الأنبياء، عليهم الصلاة والسلام، يأتي الدعاة إلى اللَّه والصالحون من أتباعهم، وإذا كان اللَّه عز وجل قد جعل محمداً صلى الله عليه وسلم مثلاً

(1) سورة التوبة، الآية:114.

(2)

سورة مريم، الآيات: 46 - 48.

(3)

انظر: تفسير ابن كثير، 2/ 396، وتفسير البغوي، 2/ 337، والأخلاق الإسلامية للميداني، 2/ 332.

(4)

سورة التوبة: الآية: 114.

(5)

انظر: تفسير ابن كثير، 2/ 114، وموسوعة أخلاق القرآن للشرباصي، 1/ 185.

ص: 44

عالياً في الحلم، فقد أراد لأتباعه أن يسيروا على نهجه وسنته، ولذلك يقول اللَّه - تعالى - عن الأخيار من هؤلاء:{وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا} (1).

فمن صفاتهم أنهم أصحاب حلم، فإذا سفه عليهم الجهال بالقول السّيّئ لم يقابلوهم عليه بمثله، بل يعفون ويصفحون، ولا يقولون إلا خيراً، كما كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لا يزيده شدة الجهل عليه إلا حلماً (2).

فعن النعمان بن مقرن المزني، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وسبّ رجل رجلاً عنده، فجعل المسبُوبُ يقول: عليك السلام، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: ((أما إن ملكاً بينكما يذب عنك كلما يشتمك هذا، قال له: بل أنت وأنت أحق به، وإذا قال له: عليك السلام، قال: بل

لك، أنت أحق به)) (3).

فهؤلاء الدعاة إلى اللَّه والصالحون إذا خاطبهم الجاهلون قالوا صواباً وسداداً، ويردون المعروف من القول على من جهل

(1) سورة الفرقان، الآية:63.

(2)

انظر: البداية والنهاية لابن كثير، 2/ 310، والإصابة في تمييز الصحابة، 1/ 556، ومجمع الزوائد، 8/ 240.

(3)

رواه الإمام أحمد في المسند، 5/ 445، وقال ابن كثير في تفسيره: إسناده حسن، 3/ 326.

ص: 45

عليهم (1)؛ لأن من أخلاقهم العفو والصفح عمن أساء إليهم، فقد تخلقوا بمكارم الأخلاق، ومحاسن الشيم، فصار الحلم لهم سجية، وحسن الخلق لهم طبيعةً، حتى إذا أغضبهم أحدٌ بمقاله أو فعاله كظموا ذلك الغضب فلم ينفذوه. {وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ} (2)، فترتب على هذا الحلم، والعفو، والصفح من المصالح ودفع المفاسد في أنفسهم وغيرهم شيء كثير (3)، كما قال تعالى:{ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} (4).

ومما يبين حلم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من بعده وإن كانوا خلفاء وأمراء، ما رواه البخاري عن ابن عباس رضي الله عنه قال: قدم عيينة بن حصن بن حذيفة فنزل على أخيه الحر بن قيس، وكان من النفر الذين يدنيهم عمر، وكان القراء أصحاب مجالس عمر ومشاورته

كهولاً كانوا أو شباناً، فقال عيينة لابن أخيه: يا ابن أخي، لك وجه عند هذا الأمير، فاستأذن لي عليه، قال: سأستأذن لك عليه، قال ابن عباس: فاستأذن الحر لعيينة فأذن له عمر، فلما دخل عليه قال: هي يا ابن الخطاب، فواللَّه ما تعطينا الجزل، ولا تحكم بيننا بالعدل،

(1) انظر: تفسير ابن كثير، 3/ 326.

(2)

سورة الشورى، الآية:37.

(3)

انظر: تفسير ابن كثير، 4/ 118، وتفسير العلامة السعدي، 6/ 621.

(4)

سورة فصلت، الآية:34.

ص: 46

فغضب عمر حتى همَّ به، فقال له الحر: يا أمير المؤمنين، إن اللَّه - تعالى - قال لنبيه صلى الله عليه وسلم:{خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} (1)، وإن هذا من الجاهلين، واللَّه ما جاوزها عمر حين تلاها عليه، وكان وقَّافا عند كتاب اللَّه (2).

وهذا الرجل قد جفا عمر أمير المؤمنين بعدة أمور تثير الغضب، وتجعله عرضة للانتقام والتأديب.

أول هذه الأمور: قوله: هي يا ابن الخطاب، ولم يقل: يا أمير المؤمنين.

والثاني: قوله: واللَّه ما تعطينا الجزل، يعني العطاء الكثير.

والثالث: وهو أقبح الأمور الثلاثة، قوله: ولا تحكم بيننا بالعدل.

ومع هذا كله حلم عنه عمر وعفا عنه، وصفح عندما سمع الآية، وسمع قول الحر: إن هذا من الجاهلين، ووقف عند الآية، ولم

يعمل بغير ما دلت عليه، بل عمل بمقتضاها، رضي الله عنه وأرضاه (3)، وهذا يدل على كمال حلمه وحكمته التي استفادها من هدي رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فرسخت في ذهنه حتى كانت هيئة راسخة ثابتة في نفسه

(1) سورة الأعراف، الآية:199.

(2)

البخاري مع الفتح، كتاب التفسير، سورة الأعراف، باب:{خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} ، 8/ 304، (رقم 4642).

(3)

انظر: فتح الباري بشرح صحيح البخاري، 13/ 259، 8/ 305، 13/ 250.

ص: 47