الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
صنعت ما أقول لك كنت كذلك، قال: وما هو؟ قال لقمان: ((غَضِّي بصري، وكفِّي لساني، وعفَّة طعمتي، وحفظي فرجي، وقيامي بعدتي، ووفائي بعهدي، وتكرمتي ضيفي، وحفظي جاري، وتركي ما لا يعنيني، فذاك الذي صيَّرني كما ترى)) (1).
وسأله آخر عن السبب الذي بلغ به الحكمة، فقال:((قدر اللَّه، وأداء الأمانة، وصدق الحديث، وترك ما لا يعنيني)) (2).
وسأله آخر، فقال:((صدق الحديث، والصمت عما لا يعنيني)) (3).
وهذه الأخلاق الكريمة، والسلوك الحكيم يزخر بها كتاب اللَّه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وليست من قول لقمان وحده، فاتضح بذلك أن الداعية إلى اللَّه وغيره من المسلمين إذا سلك هذه المسالك اكتسب الحكمة بعون اللَّه تعالى.
المطلب الثاني: العمل بالعلم المقرون بالصدق والإخلاص
العمل بالعلم بإخلاص، وصدق، ورغبة في رضى اللَّه عز وجل من أعظم المطالب التي تكتسب بها الحكمة بتوفيق اللَّه وتسديده وفضله وإحسانه.
والعلم هو ما قام عليه الدليل، وهو النقل المصدق والبحث
(1) البداية والنهاية لابن كثير، 2/ 224، وعزاه بسنده إلى ابن وهب.
(2)
البداية والنهاية، 2/ 224، وعزاه لابن أبي حاتم بسنده.
(3)
أخرجه ابن جرير بإسناده في تفسيره، 21/ 44، وانظر: البداية والنهاية، 2/ 124.
المحقق، والنافع منه ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم: علم الكتاب والسنة، والمطلوب من الإنسان هو فهم معانيهما، والعمل بما فيهما، فإن لم تكن هذه همة حافظ القرآن وطالب السنة لم يكن من أهل العلم والدين (1).
ولهذا كانت الحكمة عند العرب هي العلم النافع والعمل الصالح (2).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: ((قال غير واحد من السلف: الحكمة معرفة الدين والعمل به)) (3).
والعلم بلا عمل حجة على صاحبه يوم القيامة، ولهذا حذر اللَّه المؤمنين أن يقولوا ما لا يفعلون، فقال عز وجل:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ، كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ} (4).
ومثل من يتعلم العلم ويزداد منه ولا يعمل به مثل رجل احتطب حطباً فحزم حزمة، ثم ذهب يحملها فعجز عنها، فضم إليها أخرى (5).
والداعية لا يكون حكيماً في دعوته ما لم يعمل بعلمه، ولهذا
(1) انظر: مجموعة فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية، 13/ 136، 6/ 338، 23/ 54.
(2)
المرجع السابق، 19/ 170، وتفسير العلامة السعدي، 6/ 154.
(3)
درء تعارض العقل والنقل، 9/ 22، 23، وانظر: تفسير الطبري، 1/ 87.
(4)
سورة الصف، الآيتان: 2 - 3.
(5)
انظر: الزهد للإمام أحمد، ص85.
ينفر الناس عنه، وتزل موعظته من القلوب، كما يزل القطر من الصفا؛ لأن الكلام - في الغالب - إذا خرج من القلب وقع في القلب، وإذا خرج من اللسان لم يتجاوز الآذان (1)، قال الشاعر:
يا أيها الرجل المعلم غيره
…
هلا لنفسك كان ذا التعليم
ابدأ بنفسك فانهها عن غيِّها
…
فإذا انتهت عنه فأنت حكيم
فهناك يُقبل ما تقول ويُقتدى
…
بالعلم منك وينفع التعليم
تصف الدواء لذي السقام من الضنا
…
كيما يصح به وأنت سقيم
أراك تلقح بالرشاد عقولنا
…
نصحاً وأنت من الرشاد عديم
لا تنهَ عن خلق وتأتي مثله
…
عار عليك إذا فعلت عظيم (2)
والعمل بالعلم لابد فيه من الإخلاص، والإخلاص لابد أن يقصد به وجه اللَّه، ومحبته، ورضاه، ولهذا قال شيخ الإسلام ابن تيمية رضي الله عنه:((حُكيَ أن أبا حامد بلغه أن من أخلص للَّه أربعين يوماً تفجرت ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه، قال: فأخلصت أربعين يوماً، فلم يتفجر شيء، فذكرت ذلك لبعض العارفين فقال لي: إنك أخلصت للحكمة، لم تُخْلِصْ للَّه)) (3).
وذلك أن الإنسان قد يكون مقصوده نيل العلم والحكمة، أو نيل المكاشفات والتأثيرات، أو نيل تعظيم الناس له ومدحهم إياه، أو
(1) انظر: جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر، 2/ 8.
(2)
انظر: المرجع السابق، 1/ 196، ودرء تعارض العقل والنقل، 9/ 22، 23.
(3)
درء تعارض العقل والنقل، 6/ 66.
غير ذلك من المطالب.
وقد عرف أن ذلك لم يحصل بالإخلاص للَّه، وإرادة وجهه، فإذا قصد أن يطلب ذلك بالإخلاص للَّه وإرادة وجهه كان متناقضاً؛ لأن من أراد شيئاً لغيره فالثاني هو المراد المقصود بذاته، والأول يراد لكونه وسيلة إليه، فإذا قصد أن يخلص؛ ليصير عالماً، أو عارفاً، أو ذا حكمة، أو متشرفاً بالنسبة إليه، أو صاحب مكاشفات وتصرفات، ونحو ذلك، فهو هنا لم يرد اللَّه، بل جعل اللَّه وسيلة له إلى ذلك المطلوب الأدنى، وإنما يريد اللَّه ابتداء من ذاق حلاوة محبته وذكره (1).
وقال ابن تيمية رضي الله عنه: ((وقد روي: إذا زهد العبد في الدنيا وكل اللَّه - سبحانه - بقلبه ملكاً يغرس فيه آثار الحكمة، كما يغرس أكار (2) أحدكم الفسيل في بستانه)) (3).
أما من لم يعمل بالعلم، أو عمل به ولكنه لم يخلص في ذلك فهذا بعيد عن إيتاء الحكمة التي من أوتيها فقد أُوتي خيراً كثيراً؛ ولهذا قال الشاعر:
وكيف يصح أن تُدعى حكيماً
…
وأنت لكل ما تهوى ركوب (4)
(1) درء تعارض العقل والنقل، 6/ 66، 67 بتصرف.
(2)
الأكار: الزراع. انظر: لسان العرب، حرف الراء، فصل الهمزة، مادة: أكر.
(3)
انظر: درء تعارض العقل والنقل، 8/ 518.
(4)
انظر: المرجع السابق، 9/ 22، 23.