الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحكيم (1) نجح في دعوته بإذن اللَّه تعالى.
وإذا سلك الداعية
المسالك الحكيمة
في سلوكه فقد سلك أعظم الطرق في اكتساب الحكمة، ومن هذه المسالك على سبيل المثال ما يأتي:
المسلك الأول: قدوة الداعية في سلوكه
.
المسلك الثاني: أصول السلوك الحكيم.
المسلك الثالث: وصايا الحكماء باكتساب الحكمة.
المسلك الأول: قدوة الداعية في سلوكه:
ينبغي للداعية أن يتخذ في سلوكه وأعماله كلها قدوة حكيماً، وإماماً نبيلاً، وهو محمد بن عبد اللَّه صلى الله عليه وسلم فقد كان حسن السيرة والسلوك، بل كان أعظم خلق اللَّه في حسن خلقه، الذي دل عليه سلوكه الحكيم، ولا غرابة فقد مدحه ربه وأثنى عليه بقوله:{وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} (2)، وعرف قومه ذلك منه، ولكن صد بعضهم عن تصديقه الكبر والجحود {فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} (3)؛ ولهذا عندما قال صلى الله عليه وسلم لقومه: ((أرأيتكم لو
(1) انظر: السيرة النبوية دروس وعبر، للدكتور مصطفى السباعي، ص39.
(2)
سورة القلم، الآية:4.
(3)
سورة الأنعام، الآية:33.
أخبرتكم أن خيلاً تخرج بسفح هذا الجبل أكنتم مصدقي؟))، قالوا: ما جربنا عليك كذباً. قال: ((فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد)) (1).
وفي حديث أبي سفيان مع هرقل حينما سأله عن أحوال النبي صلى الله عليه وسلم وسلوكه، قال هرقل: فهل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ قال أبو سفيان: قلت: لا
…
ثم قال: ماذا يأمركم به؟ قال أبو سفيان: قلت: يقول: ((اعبدوا اللَّه وحده، ولا تشركوا به شيئاً، واتركوا ما يقول آباؤكم، ويأمرنا بالصلاة، والصدق، والعفاف، والصلة
…
)) ثم قال هرقل لأبي سفيان في نهاية الحديث: فإن كان ما تقول حقاً، فسيملك موضع قدمي هاتين، وقد كنت أعلم أنه خارج، لم أكن أظن أنه منكم، فلو أني أعلم أني أخلص إليه لتجشمت لقاءه، ولو كنت عنده لغسلت عن قدمه)) (2).
فهذا الرسول الكريم هو قدوة الداعية، وإمامه الذي يسير على هديه، ويلتزم أخلاقه، وسلوكه، فقد كان صلى الله عليه وسلم حسن السيرة والسلوك الحكيم في حياته كلها، ولم يتهم بشيء مما كان يعمله قومه، فقد نشأ صلى الله عليه وسلم في مجتمع كثرت فيه المفاسد، وعمت فيه الرذائل: فالبغاء،
(1) البخاري مع الفتح، كتاب التفسير، سورة تبت، باب حدثنا يوسف، 8/ 737، (رقم 4971)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب قوله تعالى:{وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} ، 1/ 194، (رقم 208).
(2)
البخاري مع الفتح، كتاب بدء الوحي، باب حدثنا أبو اليمان، 1/ 32، (رقم 7).
والاستبضاع، والزنى الجماعي، والإفرادي، ونكاح أسبق الرجال ممن مات زوجها، والاعتداء على الأعراض والأموال والدماء، كل ذلك كان شائعاً في قومه قبل الإسلام، لا ينكره أحد، ولا تحاربه جماعة، هذا بالإضافة إلى وَأْدِ البنات، وقتل الأولاد خشية الفقر أو العار، ولعب الميسر، وشرب الخمر، أمور تعد في الجاهلية من المفاخر والتباهي، وليس من شرط أن يكون المجتمع كله يرتكب هذه الجرائم، وإنما عدم إنكارها هو دليل على الرضى بها، وهذا ما يدعو إلى انتشارها إلى جانب الأفكار الأخرى.
والنبي صلى الله عليه وسلم لم يعمل أي عمل أو يباشر أي خلق من هذه الأخلاق الرذيلة، بل قد اتصف بجميع مكارم الأخلاق بين قومه، فكان صادقاً لا يعرف الكذب، أميناً لا يعرف الخيانة، وفيًّا لا يعرف الغدر، حتى كان معروفاً في مجتمعه بهذه الصفات مميزاً بها عن غيره، ولا يجهل ذلك أحد ممن عرفه، ولا يساويه في ذلك أحد من خلق اللَّه، ولا ينكر ذلك أحد، سواء كان عدوًّا أو غيره، ولا يمكن أن يتهمه خصم، فقد بُعِثَ صلى الله عليه وسلم وناصَبَهُ قومه العداء، ولكن لم يستطع واحد منهم أن يتهمه بصفة غير لائقة أو خلق يعيبه به، ولو عرفوا شيئاً من ذلك - وقد عاش بينهم أربعين عاماً - لأراحهم من التنقيب عن خصلة غير حميدة يتهمونه بها عندما يحل الموسم، ويلتقي بالناس في الحج حتى يبعدوه عنهم فعجزوا عن ذلك، ووجدوا أن كلمة ((ساحر)) هي أنسب الصفات التي يطلقونها عليه
حيث يفرق بدعوته إلى اللَّه بين الأب وابنه، والأخ وأخيه، والرجل وزوجته، واتهموه بالجنون؛ لأنه خالف شركهم ودعا إلى عبادة اللَّه وحده، ولم يستطيعوا أن يأتوا بأي خلق رذيل فينسبوه إليه صلى الله عليه وسلم، وعندما سألهم صلى الله عليه وسلم عن صدقه قالوا:((ما جربنا عليك كذباً)) (1)، ولهذا لُقِّبَ بين قومه بـ ((محمد الأمين)) (2).
فالصدق والأمانة من أولى الأخلاق وأحكم السلوك، التي يجب على الدعاة إلى اللَّه الاتصاف والتخلِّق بها، والصدق يكون في: القول، والنية، والعزم، والعمل.
فالصدق في القول هو أشهر أنواع الصدق، ويكون بالإخبار، فإن نقل الداعية أو غيره من المسلمين خلاف الواقع وما هو عليه فهو كاذب ومفتر، {إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأُوْلئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ} (3).
وقال صلى الله عليه وسلم: ((آية المنافق ثلاث: إذا حدَّث كذب، وإذا وعد
(1) البخاري مع الفتح، كتاب التفسير، باب حدثنا يوسف بن موسى، 8/ 737 (رقم 4971)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب:{وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} ، 1/ 194، (رقم 208)، وتقدم تخريجه.
(2)
أحمد في المسند من حديث السائب بن عبد اللَّه رضي الله عنه، بإسناد حسن، 3/ 425، قال الألباني في تخريج فقه السيرة للغزالي: وله شاهد من حديث علي رضي الله عنه رواه الطيالسي بترتيب الشيخ عبد الرحمن البنا، 2/ 86.
(3)
سورة النحل، الآية:105.
أخلف، وإذا اؤتمن خان)) (1).
والصدق في النية: الإخلاص في العمل لوجه اللَّه تعالى.
والصدق في العزم على العمل؛ كأن يقول المسلم: لئن عافاني اللَّه لأتصدقنّ في سبيله بكذا، فإذا عوفي دخل الصدق بالوفاء فيما نذر به.
وقد ذم اللَّه عز وجل عدم الصدق بالوفاء بالعهد: {وَمِنْهُم مَّنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ، فَلَمَّا آتَاهُم مِّن فَضْلِهِ بَخِلُواْ بِهِ وَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ، فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُواْ اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ} (2).
والصدق في العمل: يكون بأن لا يختلف ظاهر الداعية المسلم عن باطنه (3)، فما أجمل وما أحسن، وما أحكم، وما أكرم من سار على هديه صلى الله عليه وسلم واتبع سلوكه الحكيم، وكل سلوكه حكيم صلى الله عليه وسلم وكيف لا يكون كذلك وهو الذي بعثه اللَّه رحمة للعالمين، متمماً لمكارم الأخلاق، قال صلى الله عليه وسلم:((إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق)) (4).
(1) البخاري مع الفتح، كتاب الإيمان، باب علامات المنافق، 1/ 89، (رقم 33)، ومسلم، في كتاب الإيمان، باب بيان خصال المنافق، 1/ 87، (رقم 59).
(2)
سورة التوبة، الآيات: 75 - 77.
(3)
انظر: التاريخ الإسلامي، لمحمود شاكر، 1/ 33.
(4)
أخرجه البيهقي في السنن الكبرى بلفظه، 10/ 192، وأحمد، 2/ 381، والحاكم وصححه، ووافقه الذهبي، 2/ 613، وانظر: صحيح الجامع الصغير، 3/ 8، برقم 2830، والأحاديث الصحيحة، 1/ 75، برقم 45.