المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المطلب الثالث: الأناة - مفهوم الحكمة في الدعوة إلى الله تعالى في ضوء الكتاب والسنة

[سعيد بن وهف القحطاني]

فهرس الكتاب

- ‌المقدمة

- ‌التمهيد: أهمية الحكمة في الدعوة إلى اللَّه تعالى:

- ‌المبحث الأول: مفهوم الحكمة: لغةً وشرعاً

- ‌المطلب الأول: مفهوم الحكمة في اللغة:

- ‌المطلب الثاني: مفهوم الحكمة في الاصطلاح الشرعي

- ‌المطلب الثالث: العلاقة بين التعريف اللغوي والشرعي

- ‌المبحث الثاني: أنواع الحكمة ودرجاتها

- ‌المطلب الأول: أنواع الحكمة

- ‌النوع الأول:

- ‌النوع الثاني:

- ‌المطلب الثاني: درجات الحكمة العملية

- ‌الدرجة الأولى:

- ‌الدرجة الثانية:

- ‌الدرجة الثالثة:

- ‌الأمر الأول:

- ‌الأمر الثاني:

- ‌الأمر الثالث:

- ‌المبحث الثالث: أركان الحكمة

- ‌توطئة:

- ‌المطلب الأول: العلم

- ‌القسم الأول:

- ‌القسم الثاني:

- ‌القسم الثالث:

- ‌أسباب وطرق تحصيل العلم:

- ‌1 - أن يسأل العبد ربه العلم النافع

- ‌6 - العمل بالعلم

- ‌المطلب الثاني: الحلم

- ‌علاج الغضب

- ‌الطريق الأول: الوقاية:

- ‌الطريق الثاني: العلاج إذا وقع الغضب:

- ‌النوع الأول:

- ‌النوع الثاني:

- ‌النوع الثالث:

- ‌النوع الرابع:

- ‌المطلب الثالث: الأناة

- ‌المبحث الرابع: طرق اكتساب الحكمة

- ‌تمهيد:

- ‌المطلب الأول:‌‌ السلوكالحكيم

- ‌ السلوك

- ‌ الخلق

- ‌ المسالك الحكيمة

- ‌المسلك الأول: قدوة الداعية في سلوكه

- ‌المسلك الثاني: أصول السلوك الحكيم

- ‌المسلك الثالث: وصايا الحكماء باكتساب الحكمة

- ‌المطلب الثاني: العمل بالعلم المقرون بالصدق والإخلاص

- ‌المطلب الثالث: الاستقامة

- ‌المطلب الرابع: الخبرات والتجارب

- ‌المطلب الخامس: السياسة الحكيمة

- ‌طرق السياسة الحكيمة في الدعوة إلى اللَّه عز وجل

- ‌1 - تحري أوقات الفراغ، والنشاط

- ‌2 - ترك الأمر الذي لا ضرر في تركه ولا إثم

- ‌3 - تأليف القلوب بالمال والجاه

- ‌4 - التأليف بالعفو في موضع الانتقام

- ‌5 - عدم مواجهة الداعية أحداً بعينه

- ‌6 - إعطاء الوسائل صورة ما تصل إليه

- ‌7 - أن يجيب الداعية على السؤال الخاص

- ‌8 - ضرب الأمثال

- ‌المطلب السادس: فقه أركان الدعوة إلى اللَّه تعالى

- ‌المسلك الأول: موضوع الدعوة

- ‌المسلك الثاني: الداعي:

- ‌1 - وظيفة الداعية:

- ‌2 - عدة الداعية وسلاحه:

- ‌3 - أخلاق الداعية وصفاته:

- ‌المسلك الثالث: المدعو:

- ‌المسلك الرابع: أساليب الدعوة ووسائل تبليغها:

- ‌أولاً: أساليب الدعوة:

- ‌ثانياً: وسائل تبليغ الدعوة إلى اللَّه تعالى:

- ‌أ- التبليغ بالقول:

- ‌ب- التبليغ بالعمل:

- ‌ج- التبليغ بالسيرة الحسنة:

الفصل: ‌المطلب الثالث: الأناة

قوة الإيمان، ولكن بشرط أن لا يخرج هذا الغضب عن حدود الحلم والحكمة، وقد كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يغضب للَّه إذا انتهكت محارمه، وكان لا ينتقم لنفسه، ولكن إذا انتهكت حرمات اللَّه لم يقم لغضبه شيء، ولم يضرب بيده خادماً، ولا امرأة، إلا أن يجاهد في سبيل اللَّه، وقد خدمه أنس بن مالك رضي الله عنه عشر سنوات، فما قال له: أُفٍّ، قَطُّ، ولا قال له لشيء فعله: لم فعلت كذا، ولا لشيء لم يفعله ألا فعلت كذا؟ (1).

وهذا لا ينافي الحلم والحكمة، بل الغضب للَّه في حدود الحكمة من صميم الحلم والحكمة.

‌المطلب الثالث: الأناة

الأناة في اللغة: التثبت وعدم العجلة، يقال: تَأنَّى في الأمر: مكث ولم يعجل، والاسم منه: أناة (2).

ويقال: تأنى في الأمر: ترفَّق، وتنظّر، وتَمهّلَ، واستأنى به: انتظر به وأمهله (3).

(1) انظر: عدة حالات غضب فيها النبي صلى الله عليه وسلم لله تعالى، في البخاري مع الفتح، في كتاب الأدب، باب ما يجوز من الغضب والشدة لأمر الله - تعالى - 10/ 517، (رقم 6109 - 6113)، وانظر: جامع العلوم والحكم لابن رجب، ص127، وفتح الباري، 10/ 518.

(2)

المصباح المنير، مادة: أنى 28.

(3)

انظر: مختار الصحاح، مادة: أنى، ص13، والمعجم الوسيط، 1/ 31.

ص: 53

وتأتي الأناة بمعنى التبيّن والتثبُّت في الأمور، يقال: تَبيّنَ في الأمر والرأي: تثبت، وتأنى فيه ولم يعجل (1).

ويأتي التبيُّن بمعنى: التبصر: التعرف والتأمل، يقال: تبصر الشيء، وتأمل في رأيه: تبين ما يأتيه من خيرٍ أو شرٍ (2).

وعلى ضوء ما تقدم تكون الأناة هي: التصرُّف الحكيم بين العجلة والتباطؤ (3).

والأناة مظهر من مظاهر خُلق الصبر، وهي من صفات أصحاب العقل والرزانة، بخلاف العجلة فإنها من صفات أصحاب الرعونة

والطيش، وهي تدل على أن صاحبها لا يملك الإرادة القوية القادرة على ضبط نفسه تجاه انفعالاته العجولة، وبخلاف التباطؤ والتواني فهما من صفات أصحاب الكسل والتهاون بالأمور، ويدلان على أن صاحبهما لا يملك القدرة على دفع همته للقيام بالأعمال التي تحقق له ما يرجوه، أو ليس لديه همة عالية تنشد الكمال، فهو يرضى بالدنيات، إيثاراً للراحة، وكسلاً عن القيام بالواجب.

والأناة عند الداعية إلى اللَّه - تعالى - تسمح له بأن يُحكم أموره، ويضع الأشياء في مواضعها، فهي ركن من أركان الحكمة،

(1) انظر: المعجم الوسيط، مادة: أبان 1/ 80، ومادة: ثبت 1/ 93.

(2)

انظر: القاموس المحيط، باب الراء، فصل الباء ص448، ومختار الصحاح، مادة:(بصر)

ص22، والمعجم الوسيط، 1/ 59.

(3)

انظر: الأخلاق الإسلامية وأسسها لعبد الرحمن الميداني، 2/ 352.

ص: 54

بخلاف العجلة؛ فإنها تعرضه لكثير من الأخطاء والإخفاق، والتعثر، والارتباك، ثم تعرضه للتخلف من حيث يريد السبق، ومن استعجل الشيء قبل أوانه عوقب بحرمانه، وبخلاف التباطؤ والكسل فهو أيضاً يعرضه للتخلف والحرمان من تحقق النتائج التي يرجوها (1).

والداعية مطلوب منه أن يتخلق بخلق الأناة، ولكن ما يتطلب من الأمور عملاً سريعاً فالحكمة السرعة إذن، وهي لا تخرج عن الأناة، فالقضية نسبية، وما يتطلب من الأمور عملاً بطيئاً فالحكمة البطء إذن، وهو لا يخرج عن الأناة؛ لأن الأمر نسبي، وليس للأناة مقادير زمنية ثابتة؛ ولكنها تختلف باختلاف حاجة الأشياء إلى مقدار السرعة الزمنية التي تحتاجها وتستدعيها النتائج المطلوبة، فالأشياء

مربوطة بأوقاتها، والعجلة فيها مع معرفة أوقاتها المطلوبة خلقٌ مذموم يدل على ضعف خلق الصبر، ونقص الحكمة، والتباطؤ فيها خلق مذموم يدل على ضعف الهمّة والإخلاد إلى الراحة والكسل، أما الأناة فليست تعجلاً ومسابقة لأوقات الأشياء، ولا تباطؤاً وكسلاً، وكل من العجلة والتباطؤ يضيعان على أصحابهما الجهد والزمن، وما بذلوه، والأناة هي الكفيلة - بإذن اللَّه تعالى - بتحقيق المطلوب، وتفادي الخسارة.

وقد ذم الإسلام الاستعجال ونهى عنه، وذم التباطؤ والكسل

(1) انظر: الأخلاق الإسلامية وأسسها لعبد الرحمن الميداني، 2/ 353، وأخلاق القرآن الكريم للشرباصي، 3/ 15.

ص: 55

ونهى عنه، ومدح الأناة وأمر بها، وعمل على تربية المسلمين على الأناة والتثبت الحكيم في القيام بالأعمال وتصريف الأمور (1).

قال اللَّه - تعالى - للنبي صلى الله عليه وسلم تربية له وتعليماً: {لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} (2).

فأمر اللَّه سبحانه نبيه بعدم العجلة ومسابقة الملَك في قراءته، وتكفل اللَّه له أن يجمعه في صدره، وأن ييسره لأدائه على الوجه الذي ألقاه إليه، وأن يبينه له ويفسره (3).

وقال تعالى: {وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآَنِ مِن قَبْلِ أَن يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا} (4).

وأمر سبحانه عباده المؤمنين والدعاة إلى اللَّه - تعالى - بالتأني في الأمور والتثبت فيها: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} (5)، قرأ الجمهور:(فتبينوا) من التبين، وهو التأمل، وقرأ حمزة

(1) انظر: الأخلاق الإسلامية وأسسها للميداني، 2/ 353، 354 بتصرف.

(2)

سورة القيامة، الآيات: 16 - 19.

(3)

انظر: تفسير ابن كثير، 4/ 450.

(4)

سورة طه، الآية:114.

(5)

سورة الحجرات، الآية:6.

ص: 56

والكسائي: (فتَثبَّتُوا)، والمراد من التبين التعرف والتفحص، ومن التثبت: الأناة وعدم العجلة، والتبصر في الأمر الواقع والخبر الوارد، حتى يتضح ويظهر (1).

والدعاة إلى اللَّه أولى بامتثال أمر اللَّه - تعالى - وبالتأني والتثبت من الأقوال والأفعال، والاستيثاق من مصدرها قبل الحكم عليها أو لها، وعليهم أن يتدبروا الأمور على مهلٍ، غير متعجلين؛ لتظهر لهم جلية واضحة، لا غموض فيها ولا التباس (2).

والداعية إلى اللَّه - تعالى - إذا أبصر العاقبة أمِنَ الندامة، ولا يكون ذلك إلا إذا تدبر جميع الأمور التي تعرض له، ويواجهها،

فإذا كانت رشداً، وحقّاً، وصواباً فليمض، وإذا كانت غيَّا، وضلالاً، وظنًّا خاطئاً، فليقف ولينتهِ حتى يتضح له الحق.

والمشاهَد والواقع أن عدم التثبت وعدم التأني يؤديان إلى كثير من الأضرار والمفاسد، فقد يسمع الإنسان خبراً، أو يقرأ نبأ في صحيفة، أو مجلة، فيسارع بتصديقه، ويعادي ويصادق، ويبني على ذلك التصرفات والأعمال التي يصدرها للمقاومة أو الموافقة، على أساس أنه حق واقع، ثم يظهر أنه كان مكذوباً، أو محرفاً، أو مزوراً، أو مبالغاً فيه، أو مراداً به غير ما فهمه الإنسان، ومن هنا يكتوي

(1) انظر: فتح القدير، للإمام الشوكاني، 4/ 60.

(2)

انظر: في ظلال القرآن، 6/ 3334، وموسوعة أخلاق القرآن للشرباصي، 3/ 15.

ص: 57

المتسرع بلهب الندم والحسرة بسبب استعجاله وعدم تثبته.

وقد يصاب الداعية أو غيره من المسلمين بأذى دون أن يعرف مصدره، فيستعجل ويسارع فيتهم هذا، أو يسب ذاك، فيندم ويحصد ثمرة عجلته وعدم تثبته، ولو أنه تأنى، وتبين، وتثبت؛ لأدرك مصدر الأذى على حقيقته، وحينئذ يصدر التصرف على أساس البينة والبرهان، فلا يفقد أصدقاء له، ولا يضيف إلى أعدائه عدوّاً جديداً منهم.

ويدخل في العجلة وعدم التثبت تعجل الإنسان في المدح أو الذم، دون دراية أو دون موجب لذلك، أو يتعجل بالكلام قبل أن يديره على عقله، أو بالفتوى قبل أن يعرف دليله وبرهانه الذي

اعتمد عليه، وبنى عليه فتواه، وبعد ذلك يحصد الغم والأسف (1)، {وَيَدْعُ الإِنسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الإِنسَانُ عَجُولاً} (2).

ولعظم أمر الأناة والتبين أمر اللَّه بها حتى في جهاد الكفار في سبيل اللَّه، الذي هو من أعظم وسائل الدعوة إلى اللَّه تعالى، فقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُواْ وَلَا تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِندَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنتُم مِّن قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ

(1) انظر: موسوعة أخلاق القرآن الكريم، 3/ 26، وفي ظلال القرآن، 6/ 3342.

(2)

سورة الإسراء، الآية:11.

ص: 58

فَتَبَيَّنُواْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} (1).

ومن المعلوم أن الأمور قسمان: أمور واضحة، وأمور غير واضحة.

فالواضحة البينة لا تحتاج إلى تَثَبُّتٍ وتبيُّنٍ، لأن ذلك تحصيل حاصل.

وأما الأمور المشكلة غير الواضحة فإن الداعية خاصة والمسلمين عامةً بحاجة إلى التثبت فيها والتبين، فإن ذلك يحصل فيه من الفوائد الكثيرة، والكف عن شرور عظيمة ما يجعل المسلم

في سلامة عن الزلل، وبذلك يُعْرَفُ دين العبد وعقله ورزانته (2).

ومما يزيد الآية السابقة وضوحاً ما رواه البخاري في صحيحه عن ابن عباس رضي الله عنه {وَلَا تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا} قال: كان رجل في غُنَيمة له فلحقه المسلمون، فقال: السلام عليكم فقتلوه وأخذوا غُنَيمته، فأنزل اللَّه في ذلك إلى قوله:{عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} تلك الغُنَيمة، وقرأ ابن عباس: السلام (3).

وعن أسامة بن زيد رضي الله عنه قال: بعثنا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إلى الحرقة

(1) سورة النساء، الآية:94.

(2)

انظر: تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان للسعدي، 2/ 132.

(3)

البخاري مع الفتح، كتاب التفسير، سورة النساء، باب:{وَلَا تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا} ، 8/ 258، (رقم 4591)، ومسلم، كتاب التفسير (رقم 3025).

ص: 59

من جهينة، قال: فصبَّحنا القوم فهزمناهم، قال: ولحقت أنا ورجل من الأنصار رجلاً منهم، قال: فلما غشيناه قال: لا إله إلا اللَّه، قال: فكف عنه الأنصاري، فطعنته برمحي حتى قتلته، قال: فلما قدمنا بلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم قال: فقال لي: ((يا أسامة، أقتلته بعدما قال لا إله إلا اللَّه؟)) قال: قلت: يا رسول اللَّه، إنما كان متعوذاً، قال: فقال: ((أقتلته بعدما قال لا إله إلا اللَّه؟))، قال: فمازال يُكرّرها حتى تمنيت أني لم أكن أسلمت قبل ذلك اليوم (1).

وفي رواية قال: قلت يا رسول اللَّه: إنما قالها خوفاً من السلاح، قال:((أفلا شققت عن قلبه حتى تعلم أقالها أم لا))، فمازال يكررها حتى تمنيت أني أسلمت يومئذ (2).

وفي رواية: ((كيف تصنع بلا إله إلا اللَّه إذا جاءت يوم القيامة؟)) قال: يا رسول اللَّه: استغفر لي، قال:((وكيف تصنع بلا إله إلا اللَّه إذا جاءت يوم القيامة؟)). قال: فجعل لا يزيده على أن يقول: ((كيف تصنع بلا إله إلا اللَّه إذا جاءت يوم القيامة)) (3).

ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم أعظم الناس أناةً وتثبتاً، فكان لا يقاتل أحداً

(1) البخاري مع الفتح، كتاب المغازي، باب بعث النبي صلى الله عليه وسلم أسامة إلى الحرقات

7/ 517، 12/ 191 (رقم 4269)، ومسلم في كتاب الإيمان، باب تحريم قتل الكافر بعد أن قال لا إله إلا اللَّه، 1/ 97، (رقم 96/ 159).

(2)

مسلم، في كتاب الإيمان، باب تحريم قتل الكافر بعد أن قال لا إله إلا اللَّه 1/ 96 (رقم 97).

(3)

أخرجه مسلم، في كتاب الإيمان، باب تحريم قتل الكافر بعد أن قال لا إله إلا اللَّه، 1/ 97.

ص: 60

من الكفار إلا بعد التأكد بأنهم لا يقيمون شعائر الإسلام، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه: ((أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا غزا بنا قوماً لم يكن يغزو بنا حتى يصبح وينظر، فإن سمع أذاناً كف عنهم، وإن لم يسمع أذاناً أغار عليهم

)) (1).

كان النبي صلى الله عليه وسلم يعلم ويربي أصحابه على الأناة والتثبت في دعوتهم إلى اللَّه - تعالى - ومن ذلك أنه كان يأمر أمير سريته أن يدعو عدوه قبل القتال إلى إحدى ثلاث خصال:

(أ) الإسلام والهجرة، أو إلى الإسلام دون الهجرة، ويكونون كأعراب المسلمين.

(ب) فإن أبوا الإسلام دعاهم إلى بذل الجزية.

(ج) فإن امتنعوا عن ذلك كله استعان باللَّه وقاتلهم (2).

ومن تربيته لأصحابه صلى الله عليه وسلم على الأناة وعدم العجلة قوله: ((إذا أقيمت الصلاة فلا تأتوها تَسْعون، وأتوها تمشون، وعليكم السكينة

(1) البخاري مع الفتح بلفظه مطولاً، في كتاب الأذان، باب ما يحقن بالأذان من الدماء، 2/ 89، (رقم 610)، ومسلم، في الصلاة، باب الإمساك عن الإغارة على قوم في دار الكفر إذا سُمِعَ فيهم الأذان، 1/ 288، (رقم 382).

(2)

أخرج الحديث مسلم في كتاب الجهاد والسير، باب تأمير الإمام الأمراء على البعوث ووصيته إياهم بآداب الغزو وغيرها، 3/ 1357، (رقم 1365)، وانظر: زاد المعاد لابن القيم، 3/ 100.

ص: 61

فما أدركْتُمْ فصلّوا، وما فاتكم فأتموا)) (1).

وقوله: ((إذا أقيمت الصلاة فلا تقوموا حتى تروني قد خرجت)) (2).

ولسُمُوِّ الأناة أحبها اللَّه عز وجل، قال صلى الله عليه وسلم للأشج:((إن فيك خصلتين يحبهما اللَّه: الحلم والأناة)) (3).

والرسل - عليهم الصلاة والسلام - هم صفوة الخلق وقدوتهم،

وهم أكمل الناس أناةً وحلماً، وأعظمهم في ذلك وأوفرهم حظَّاً محمد صلى الله عليه وسلم.

ومن أمثلة ذلك قصة سليمان مع الهدهد وتثبته وعدم عجلته، قال سبحانه عن ذلك:{وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ *لأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ} (4).

فهذا الهدهد من جنود سليمان صلى الله عليه وسلم كان غائباً بغير إذن سليمان،

(1) البخاري مع الفتح، كتاب الجمعة، باب المشي إلى الجمعة، وقوله:{فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} ،2/ 390 (رقم 908)، ومسلم في المساجد، باب استحباب إتيان الصلاة بسكينة ووقار والنهي عن إتيانها سعياً، 1/ 420، (رقم 602).

(2)

مسلم، في كتاب المساجد، باب متى يقوم الناس للصلاة، 1/ 422، (رقم 604).

(3)

مسلم، في كتاب الإيمان، باب الأمر بالإيمان باللَّه - تعالى - ورسوله وشرائع الدين والدعاء إليه، 1/ 48، (رقم 18).

(4)

سورة النمل، الآيتان: 20، 21.

ص: 62

وحينئذ يتعين أن يؤخذ الأمر بالحزم والجد في تنظيم الجنود حتى لا تكون فوضى، فإن سليمان إذا لم يأخذ بذلك في تنظيم الجنود ومراقبتهم كان المتأخر منهم قدوة سيئة لبقية الجنود، ولهذا نجد سليمان النبي الملك الحازم يتهدد الجندي الغائب المخالف، ولكن سليمان ليس ملكاً جباراً في الأرض، ولا متسرعاً عجولاً، وهو لم يسمع بعد حجة الهدهد الغائب، فلا ينبغي أن يترك الأناة والتثبت ويقضي في شأنه قضاءً نهائيّاً قبل أن يسمع منه ويتبين عذره، ومن ثم تبرز سمة النبي العادل المتثبت {أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ} أي: حجة قوية واضحة توضح عذره وتنفي المؤاخذة عنه (1).

فالأناة صفة جميلة، وتكون أجمل إذا جاءت من القادر على العقاب، ولهذا قال الشاعر ابن هانئ المغربي:

وكل أناة في المواطن سؤدد

ولا كأناة من قديرٍ محكم

ومن يتبين أن للصفح موضعاً

من السيف يصفح عن كثير ويحلم

وما الرأي إلا بعد طول تثبُّت

ولا الحزم إلا بعد طول تلوم

وقال الشاعر يمدح عاقلاً حكيماً:

بصير بأعقاب الأمور كأنما

يخاطبه في كل أمر عواقبه (2)

(1) انظر: في ظلال القرآن لسيد قطب، 5/ 2638، وفقه الدعوة في إنكار المنكر،

لعبد الحميد البلالي، ص17.

(2)

انظر: موسوعة أخلاق القرآن، للدكتور الشرباصي، 3/ 27.

ص: 63

والداعية إلى اللَّه عز وجل إذا تثبت، وتأمل في جميع أموره اكتسب ركناً من أركان الحكمة، وينبغي ألا يقتصر في منهجه المتكامل على التأني والتثبت في الأفعال والأقوال فحسب، بل عليه أن يجري ذلك على القلب في خواطره، وتصوراته، وفي مشاعره وأحكامه {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} (1).

فلا يقول اللسان كلمة، ولا يروي حادثة، ولا يحكم العقل حكماً، ولا يبرم الداعية أمراً إلا وقد تثبت من كل جزئية، ومن كل ملابسة، ومن كل نتيجة، حتى لا يبقى هنالك شك ولا شبهة في صحتها، وحينئذ يصل الداعية المسلم المتمسك بهذه الضوابط إلى

أعلى درجات الأناة والحكمة والسداد - بإذن اللَّه تعالى - (2).

أما العجلة فهي مذمومة، قال سبحانه عن فرعون:{فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ} (3)، استخفهم وحملهم على الضلالة والجهل، واستخف عقولهم، يقال: استخف عن رأيه: إذا حمله على الجهل وأزاله عما كان عليه من الصواب (4).

(1) سورة الإسراء، الآية:36.

(2)

انظر: في ظلال القرآن، 4/ 2227.

(3)

سورة الزخرف، الآية:54.

(4)

تفسير ابن كثير 4/ 130، وشرح السنة للبغوي، 13/ 175.

ص: 64

وقال سبحانه: {وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ} (1)، ولاشك أن الإنسان قد خلق من عجل {خُلِقَ الإِنسَانُ مِنْ عَجَلٍ} (2)؛ ولكنه - بحمد اللَّه - إذا امتثل أمر اللَّه وترك نهيه حسنت أخلاقه وطبائعه.

والعجلة لها أسباب ينبغي اجتنابها، منها: عدم النظر في العواقب، وسنن اللَّه في الكون، ومنها الشيطان عدو الإنسان؛ فإن أساس العجلة من الشيطان؛ لأنه الحامل عليها بوسوسته، فيمنع من التثبت والنظر في العواقب، فيقع المستعجل في المعاطب والفشل (3)، ولذلك قيل:

يا صاحبي تلوما لا تعجلا

إن النجاح رهين أن لا تعجلا

وقال عمرو بن العاص رضي الله عنه: لا يزال الرجل يجني من ثمرة العجلة الندامة (4).

وينبغي أن يُعْلَم أن العجلة المذمومة ما كان في غير طاعة، ومع عدم التثبت وعدم خوف الفوت، ولهذا قيل لبعض السلف: لا تعجل، فإن العجلة من الشيطان، فقال: لو كان كذلك لما قال موسى: {وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى} (5).

(1) سورة الروم، الآية:60.

(2)

سورة الأنبياء، الآية:37.

(3)

انظر: شرح السنة للبغوي، 13/ 176، وفيض القدير شرح الجامع الصغير، 3/ 184.

(4)

انظر: تحفة الأحوذي شرح سنن الترمذي، 6/ 153.

(5)

سورة طه، الآية:84.

ص: 65

وقد قال بعض السلف: لا تعجل عجلة الأخرق، وتحجم إحجام الواني.

والخلاصة: أنه يستثنى من العجلة ما لا شبهة في خيريته، قال تعالى:{إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ} (1).

وعن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال الأعمش: ولا أعلمه إلا عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((التُّؤَدَةُ (2) في كل شيء خير إلا في عمل الآخرة)) (3).

وعن عبد اللَّه بن سرجس المزني، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:((السَّمْتُ الحسن (4)، والتُّؤَدَةُ والاقتصاد (5)، جزء من أربعةٍ وعشرين جزءاً من النبوة)) (6).

(1) سورة الأنبياء، الآية:90.

(2)

التؤدة: التأني. انظر: فيض القدير شرح الجامع الصغير للمناوي، 3/ 277، وعون المعبود، 3/ 165.

(3)

أبو داود، كتاب الأدب، باب الرفق، 4/ 255، (رقم 4810)، والحاكم بلفظه، وقال: صحيح على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي، 1/ 64، وانظر: صحيح سنن أبي داود، 3/ 913.

وذلك لأن الحزم بذل الجهد في عمل الآخرة؛ لتكثير القربات ورفع الدرجات لأن في تأخير الخيرات آفات. انظر: فيض القدير، 3/ 277، وعون المعبود، 3/ 165.

(4)

السمت الحسن: هو حسن الهيئة والمنظر. انظر: فيض القدير للمناوي، 3/ 277.

(5)

الاقتصاد: هو التوسط في الأمور والتحرز عن طرفي الإفراط والتفريط. انظر: المرجع السابق، 3/ 277.

(6)

الترمذي، كتاب البر والصلة، باب ما جاء في التأني والعجلة، 4/ 366، (رقم 2010)، وانظر: صحيح سنن الترمذي، 2/ 195.

ص: 66

وبهذا يعلم أن الأناة في كل شيء محمودة وخير إلا ما كان من أمر الآخرة، بشرط مراعاة الضوابط التي شرعها اللَّه حتى تكون المسارعة مما يحبه اللَّه تعالى (1).

وعن أنس بن مالك رضي الله عنه يرفعه: ((التأني من اللَّه، والعجلة من الشيطان)) (2).

(1) انظر: شرح السنة للبغوي، 13/ 177، وتحفة الأحوذي شرح سنن الترمذي، 6/ 153.

(2)

أخرجه أبو يعلى في مسنده، 3/ 1054، والبيهقي في السنن الكبرى، 10/ 1040، وقال الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة، 4/ 404: هذا إسناد حسن رجاله ثقات

ص: 67