الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وسُئلت عائشة رضي الله عنه عن خلقه، فقالت:((فإن خلق نبي اللَّه صلى الله عليه وسلم كان القرآن)) (1).
ولنا فيه خير أسوة {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} (2)، فحريٌّ بالداعية أن يلتزم سلوكه، وبذلك يكون حكيماً في دعوته، موافقاً للصواب بإذن اللَّه تعالى.
المسلك الثاني: أصول السلوك الحكيم
لقد جعل اللَّه عز وجل للسلوك الحكيم قواعد عظيمة، إذا التزمها الداعية إلى اللَّه عز وجل كان ذلك من أسباب توفيق اللَّه له، واكتسابه الحكمة، ومن أجمع الآيات في هذا الشأن، قوله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} (3).
وهذه الآية من أعظم قواعد السلوك الحكيم وأصوله العظيمة، فهي جامعة لجميع المأمورات والمنهيات، لم يبق شيء إلا دخل فيها، وهذه قاعدة ترجع إليها سائر الجزئيات، فكل مسألة مشتملة
(1) مسلم، في صلاة المسافرين، باب جامع صلاة الليل ومن نام عنه أو مرض، 1/ 513، (رقم 746).
(2)
سورة الأحزاب، الآية:21.
(3)
سورة النحل، الآية:90.
على عدل، أو إحسان، أو إيتاء ذي قربى، فهي مما أمر اللَّه به. وكل مسألة مشتملة على فحشاء، أو منكر، أو بغي، فهي مما نهى اللَّه عنه.
وبهذا يُعْلَم حسن ما أمر اللَّه به، وقبح ما نهى عنه، وبها يعتبر ما عند الناس من الأقوال، وترد إليها سائر الأحوال (1).
فهذه الأوامر والنواهي جمعت فضائل الأخلاق والآداب، وأنواع التكاليف التي رسمها اللَّه وحث عليها، لما فيها من إصلاح النفوس، وصلاح حال الأمم والشعوب (2)؛ ولهذا قال عبد اللَّه بن مسعود رضي الله عنه:((أجمع آية في كتاب اللَّه للخير والشر الآية التي في النحل)): {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ
…
} الآية (3).
والداعية المسلم من أولى الناس بتطبيق هذا السلوك الحكيم، فيكون عدلاً محسناً، واصلاً لأقربائه، مبتعداً عن الفحشاء والمنكر، والبغي.
والعدل: ضد الجور (4)، وهو إعطاء المرء ما له وأخذ ما عليه (5) وأنواعه ثلاث:
(1) انظر: تفسير السعدي، 4/ 233، وفي ظلال القرآن لسيد قطب، 4/ 2189 - 2191، وتفسير المراغي، 14/ 130.
(2)
انظر: تفسير المراغي، 14/ 130.
(3)
أخرجه الإمام الطبري بسنده في تفسيره، 4/ 109.
(4)
انظر: القاموس المحيط، 1331.
(5)
انظر: المعجم الوسيط، 2/ 588.
(أ) العدل بين العبد وربه، وهو: إيثار حق اللَّه على حظ نفسه، وتقديم رضاه على هواه، والامتثال للأوامر، والاجتناب للزواجر.
(ب) العدل بين العبد وبين نفسه: منعها عما فيه هلاكها ودمارها، وإلزامها بتقوى اللَّه في السر والعلن.
(ج) العدل بين العبد وبين الخلق: ببذل النصيحة، وترك الخيانة فيما قل وكثر، والإنصاف من النفس بكل وجه، ولا يكون من الداعية إلى أحد مساءة بقول أو فعل، والصبر على ما يحصل منهم من البلوى، ويعامل الخلق بالعدل التام، فيؤدي كل ما عليه (1).
والإحسان: مصدر أحسن يحسن إحساناً، وهو على معنيين (2):
(أ) أحدهما متعد بنفسه، كقولك: أحسنت كذا، أي: حسَّنته وكمَّلته، وهو منقول بالهمزة، من: حسن الشيء، وهذا المعنى يدل عليه حديث جبريل:((الإحسان أن تعبد اللَّه كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك)) (3).
وهذا المعنى راجع إلى إحسان العبادة وتكميلها وتحسينها،
(1) انظر: أحكام القرآن لابن العربي، 3/ 1172، وأحكام القرآن للقرطبي، 10/ 166، وفي ظلال القرآن، 4/ 2190.
(2)
انظر: الجامع لأحكام القرآن للقرطبي، 10/ 167، وتفسير السعدي، 4/ 232.
(3)
البخاري، في كتاب الإيمان، باب سؤال جبريل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإيمان والإسلام والإحسان وعلم الساعة (رقم 50)، ومسلم، في كتاب الإيمان، باب بيان الإيمان والإسلام والإحسان، 1/ 37، (رقم 8).
والقيام بها كما يحب اللَّه - تعالى - على الوجه الأكمل، ومراقبة اللَّه فيها واستحضار عظمته وجلاله: حالة الشروع فيها، وحالة الاستمرار.
(ب) والمعنى الثاني: متعد بحرف جر، كقولك: أحسنت إلى فلان، أي: أوصلت إليه ما ينتفع به، وهذا إيصال المنافع بأنواعها إلى الخلق، ويدخل في ذلك حتى الإحسان إلى الحيوانات (1).
ومن قواعد السلوك الحكيم التي تشتمل على عدة من أمهات الحكم العالية (2) قوله تعالى: {لَاّ تَجْعَل مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَّخْذُولاً، وَقَضَى رَبُّكَ أَلَاّ تَعْبُدُواْ إِلَاّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا}
…
الآيات، إلى قوله تعالى:{ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ} (3).
فبين اللَّه عز وجل في هذه الوصايا الحكيمة قواعد السلوك الحكيم، وبدأه بقاعدة التوحيد؛ ليقيم على هذه القاعدة البناء الاجتماعي كله، وآداب العمل والسلوك فيه، كما تربط بهذه العروة الوثقى جميع الروابط؛ فإن جميع ما في الحياة لا يقوم بناؤه إلا بالتوحيد، وكل سلوك لا يقوم ولا يستند إلى توحيد اللَّه لا تقوم له قائمة، ولا يطلق
(1) انظر: الجامع لأحكام القرآن للقرطبي، 10/ 167.
(2)
انظر: تفسير السعدي،4/ 279، وتفسير النسفي، 4/ 130، والرياض الناضرة للسعدي، ص87.
(3)
سورة الإسراء، الآيات: 22 - 23 - 39.
عليه سلوكاً حكيماً، بل سلوكاً جاهليًّا (1).
وهذه الوصايا في سورة الإسراء من أعظم ما تكتسب به الحكمة، قال الإمام الشوكاني:((وترتقي إلى خمسة وعشرين تكليفاً)) (2).
فاشتملت هذه الوصايا على خمس وعشرين حكمة، الأخذ بها خير من الدنيا وما فيها، والتفريط بها هو سبب خسران الدنيا والآخرة (3).
ويختم اللَّه عز وجل الأوامر والنواهي في الوصايا كما بدأها بربطها باللَّه وعقيدة التوحيد والتحذير من الشرك، وبيان أن هذه المذكورات بعض الحكمة التي يهدي إليها القرآن الذي أوحاه اللَّه إلى رسوله صلى الله عليه وسلم:{ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَّدْحُورًا} ، وهو ختام يشبه الابتداء، فتجيء محبوكة الطرفين، موصولة بالقاعدة الكبرى التي يقيم عليها الإسلام الحياة، قاعدة: توحيد اللَّه وعبادته وحده دون ما سواه (4).
وبهذا يُعلم أن من عمل بهذه القواعد، والتزم هذا السلوك الحكيم قد سلك أعظم طرق اكتساب الحكمة؛ لأن الحكمة معرفة الحق
(1) انظر: في ظلال القرآن، 4/ 2209، 2220.
(2)
انظر: فتح القدير للشوكاني، 3/ 229.
(3)
انظر: أيسر التفاسير لكلام العلي الكبير، 2/ 599.
(4)
انظر: في ظلال القرآن لسيد قطب، 4/ 2228.