الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والصواب والعمل به، ولهذا قال تعالى بعد أن ذكر الوصايا العشر في سورة الأنعام:{وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (1).
المسلك الثالث: وصايا الحكماء باكتساب الحكمة
الحكماء الذين آتاهم اللَّه الحكمة يوصون باكتساب أصول الحكم التي من التزمها وعمل بها بإخلاص وصدق وفقه اللَّه لاكتساب الحكمة، ومن ذلك ما أخبر اللَّه به عن لقمان الحكيم ووصاياه الحكيمة التي آتاه اللَّه إياها، قال تعالى:{وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ للَّهِ وَمَن يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ * وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ}
…
الآيات إلى قوله تعالى: {وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ إِنَّ أَنكَرَ الأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ} (2).
هذه وصية حكيم لابنه، فهي نصيحة مبرأة من العيب، وصاحبها قد أوتي الحكمة التي من أوتيها فقد أوتي خيراً كثيراً، وهي تجمع أمهات الحكم، وتستلزم ما لم يذكر منها، وكل وصية من وصايا هذا الحكيم لابنه يقرن بها ما يدعو إلى فعلها إن كانت أمراً، وإلى تركها
(1) الوصايا العشر في سورة الأنعام، الآيات: 151 - 153.
(2)
سورة لقمان، الآيات: 12 - 13، 19.
إن كانت نهياً، وهذا يدل على أن الحكمة هي: العلم بالأحكام، وحكمها، ومناسباتها، ووضع الأشياء مواضعها.
ومن فضل اللَّه على عباده ومنّته أن قص عليهم هذه الحكم حتى يعملوا بها ويكتسبوها بفضله تعالى، وهذا الحكيم أمر ابنه بأصل الدين وهو التوحيد، ونهاه عن الشرك باللَّه، وبين له الموجب لتركه، وأمره ببر الوالدين، وبين له السبب الموجب لبرهما، وأمره بشكر اللَّه وشكرهما، ثم احترز بأن محل برهما وامتثال أوامرهما ما لم يأمرا بمعصية، ومع ذلك فلا يعقهما بل يحسن إليهما، وأن لا يطيعهما إذا جاهداه على الشرك، وأمره بمراقبة اللَّه عز وجل وخوّفه القدوم عليه، وأنه تعالى لا يغادر صغيرة ولا كبيرة من الخير والشر إلا أتى بها، فصور له عظمة علم اللَّه، ودقة شموله، وإحاطته تصويراً يرتعش له الوجدان البشري، وأوصاه بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بعد ما أمره بتكميل نفسه بفعل الخير وترك الشر، حتى يحصل الكمال لغيره بعد كمال نفسه، ولما علم هذا الحكيم أنه لابد أن يُبتلى إذا أمر ونهى، وأن في الأمر والنهي مشقة على النفوس أمره بالصبر على ما يحصل له من المشقة والأذى؛ فإنه لابد وأن يواجه المتاعب التي يواجهها صاحب العقيدة الصحيحة، وبين له أن ذلك من الأمور التي يعزم عليها، ويهتم بها، ولا يقف لها إلا أهل العزائم؛ فإن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإقامة الصبر يسهل اللَّه بذلك كل أمر عسير، كما قال تعالى: {وَاسْتَعِينُواْ
بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ} (1).
ومع ذلك كله من الأمر بجميع الحكم السابقة لم يغفل هذا الحكيم عن وصية ابنه بالآداب السامية، فنهاه عن التكبر، وأمره بالتواضع، ونهاه عن البطر والأشر والمرح، وأمره بالسكون في الحركات والأصوات، ونهاه عن ضد ذلك حتى لا يتطاول على الناس فيفسد بالقدوة ما يصلح الكلام.
فحقيق بمن أوصى بهذه الوصايا، وهذا السلوك الحكيم أن يكون مخصوصاً بالحكمة، مشهوراً بها، وحقيق بمن التزم هذه الوصايا - بصدق وإخلاص ورغبة فيما عند اللَّه - أن يؤتيه اللَّه الحكمة، ويوفقه للصواب في القول والعمل (2).
ومما يبين أن الإنسان يكتسب الحكمة بتوفيق اللَّه ثم بالتزامه للسلوك الحكيم - رغبة فيما عند اللَّه وطلباً لرضاه - ما ذُكِرَ من الأسباب التي اكتسب بها لقمان الحكمة بعد توفيق اللَّه له وتسديده، ومن ذلك: أنه وقف رجل على لقمان، فقال له: أنت لقمان، أنت عبد بني النحاس؟ قال: نعم، قال: فأنت راعي الغنم الأسود؟ قال: أما سوادي فظاهر، فما الذي يعجبك من أمري؟ قال: وطء الناس بساطك، وغشيهم بابك، ورضاهم بقولك. قال: يا ابن أخي إن أنت
(1) سورة البقرة، الآية: 45، وانظر أيضاً: سورة البقرة، الآية:153.
(2)
انظر: تفسير ابن كثير، 3/ 444، وفي ظلال القرآن، 5/ 2781، 2790، 2782، وتفسير السعدي، 6/ 159، 161.