المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌جهود عمر بن عبد العزيز: - مفهوم تجديد الدين - جـ ١

[بسطامي محمد سعيد]

فهرس الكتاب

- ‌المقدمة

- ‌الباب الأول المفهوم السُّنِّي للتجديد

- ‌الفصل الأول تعريف التجديد وضوابطه

- ‌أصل كلمة التجديد:

- ‌تفصيل معنى التجديد:

- ‌ضوابط التجديد:

- ‌إحصاء المجددين:

- ‌الفصل الثاني نماذج من جهود المجددين

- ‌تمهيد:

- ‌الإصلاح السياسي والسعي لإعادة الخلافة الراشدة:

- ‌جهود عمر بن عبد العزيز:

- ‌الشافعي في مجال الاجتهاد والتشريع:

- ‌تصحيح الانحرافات:

- ‌جهود الأشعري:

- ‌الغزالي وتصحيح الانحرافات:

- ‌الباب الثاني مفاهيم التجديد الخاطئة

- ‌الفصل الأول مفهوم التجديد عند العصرانية في الغرب

- ‌ما العصرانية

- ‌الفرقة المتحررة في اليهودية:

- ‌التجديد العصراني للنصرانية:

- ‌الفصل الثاني مفهوم التجديد عند العصرانية في العالم الإسلامي

- ‌1 - الطبقة الأولى من المفكرين

- ‌تمهيد:

- ‌أبو العصرانية في العالم الإسلامي:

- ‌تجديد إقبال:

- ‌محمد عبده وتلامذته:

- ‌الفصل الثالث مفهوم التجديد عند العصرانية في العالم الإسلامي

- ‌2 - الطبقة الثانية من المفكرين

- ‌تمهيد:

- ‌محمد أسد: نسخة أوروبية لسيد خان

- ‌العصرانية وتطوير الدين:

- ‌سقطة كتاب "أين الخطأ

- ‌مفكرون آخرون:

- ‌الفصل الرابع إعجاب الغرب بالعصرانية في العالم الإسلامي

- ‌تمهيد:

- ‌شهادة التبشير:

- ‌الاستشراق يتفاءل بتطور الإسلام:

- ‌نظرة الإعلام الغربي:

- ‌أمريكا وتجديد الإسلام:

- ‌الباب الثالث العصرانية في ميزان النقد

- ‌الفصل الأول نقد المبادئ العامة

- ‌تمهيد:

- ‌فروض العصرانية الأساسية:

- ‌محاسن ومساوئ العصرانية في الغرب:

- ‌الفصل الثاني نقد المسائل التفصيلية

- ‌تمهيد:

- ‌من عقائد العصرانية:

- ‌منهج العصرانية في التفسير:

- ‌هل هناك منهج نقد حديث للسُّنَّة

- ‌الاجتهاد في أصول الفقه:

- ‌السُّنَّة التشريعية وغير التشريعية:

- ‌الثابت والمتغير في الإسلام:

- ‌نقد فقه العصرانية:

- ‌الخاتمة

- ‌قائمة المراجع

الفصل: ‌جهود عمر بن عبد العزيز:

تفاصيله السعي لإصلاح دين الرعايا، ونشر العلم، وإقامة الجهاد لتمكين الإسلام وإعلائه في الأرض.

وقد اكتمل تنفيذ هذه المبادئ في الصدر الأول من تاريخ الإسلام، وظلت الخلافة الراشدة في الأرض ثلاثين سنة كما جاء في الحديث "الخلافة بعدي ثلاثين سنة ثم تكون ملكًا" وهذه المدة انتهت في ربيع الأول عام (41 هـ) حين تنازل الحسن عن الخلافة لمعاوية (1) رضي الله عنهما. فأيام معاوية هي أول أيام الملك وهو أول ملوك الإسلام وخيارهم (2).

ثم بدأت هذه المبادئ تنهار الواحدة تلو الأخرى، وتضعف شيئًا فشيئًا إلى أن أزيل من الأرض في هذا العصر اسم الخلافة بالكلية، وأصبحت الزعامة والقيادة في أيدي العتاة والجبارين. وقد اتجهت جهود المصلحين والمجددين من الأمة الإسلامية في كل العصور لهذه الناحية التي هي من أهم واجبات الدين سعيًا وراء إعادة الخلافة الراشدة.

‌جهود عمر بن عبد العزيز:

وقد بذل أول المجددين في الإسلام عمر بن عبد العزيز جهودًا كبيرة لتحقيق هذه الغاية، مع قرب عهده من عهد النبوة ومع قلة الانحرافات. وهذه بعض الأمثلة في سبيل إعادة العمل بالمبادئ الأربعة السابقة.

فمن أجل إقامة مبدأ الشورى في اختيار الخليفة كانت أول خطوة له هي محاولة إصلاح الطريقة التي تقلد بها هو نفسه منصب الخلافة. فمن المعلوم أن اختياره خليفة لم يكن عن شورى من المسلمين، إنما جاءته الخلافة بوصفه أحد أفراد العائلة الحاكمة، ولما كان الخليفة قبله ليس له ولد من نسله أهل لأن يورثه الملك، فقد عهد باستشارة من أحد وزرائه الصالحين بالحكم إلى عمر بن عبد العزيز، ولم يكن لعمر علم بالأمر. وحين تليت الوصية بتنصيبه خليفة في اجتماع عام في المسجد، أخذه الناس مكرهًا وأجلسوه على المنبر ومدوا أيديهم له مبايعين (3)، إلا أن عمر لم يكن راضيًا عن ذلك كله، فقام من فوره وأعلن

(1)"الخلافة والملك" للمودودي ص 94، نقلًا عن "البداية والنهاية" لابن كثير 8/ 16.

(2)

"البداية والنهاية" ابن كثير 8/ 19.

(3)

المصدر نفسه 8/ 182، وص 198.

ص: 54

استقالته تاركًا الأمر شورى للمسلمين. وجاء في خطبة الاستقالة: "أيها الناس إني قد ابتليت بهذا الأمر، عن غير رأي كان مني ولا طلبة له ولا مشورة من المسلمين، وإني قد خلعت ما في أعناقكم من بيعتي فاختاروا لأنفسكم ولأمركم من تريدون". فصاح المسلمون صيحة واحدة "قد اخترناك لأنفسنا وأمرنا ورضينا كلنا بك". . . . فقبل الخلافة بعد ذلك (1).

وقد كان صادقًا في نيته إلغاء نظام الوراثة في الحكم، وبدأ يعد العدة لإعلان ذلك ويمهد له، إلا أن بني أمية خشية أن يخرج الأمر من أيديهم دسوا له سمًّا فقتلوه قبل أن يتم إعادة العمل بمبدأ الشورى في كل نواحيه (2).

أما عن تسيير دفة الحكم بالشورى فقد كان عمر معروفًا بذلك قبل أن يكون خليفة، حين كان واليًا على المدينة المنورة، فقد اشتهر عنه أنه كان إذا رفع له أمر مشكل جمع فقهاء المدينة، وكان قد اختار عشرة منهم، فكان لا يقطع أمرًا دونهم (3)، فكانوا هم مجلس شوراه. وحين تولى الخلافة قرّب أهل الخير وانقشع عنه الشعراء والخطباء، وثبت معه الفقهاء والزهاد (4)، فكان أولئك هم أهل مشورته.

وقد أتاح عمر بن عبد العزيز حرية التعبير وإبداء الرأي والنقد البناء، وبلغت سعة صدره في ذلك أن استدعى بعض الخارجين والمتمردين عليه وناقشهم في انتقاداتهم له، وكان من ضمن ما انتقدوه عليه عدم إلغائه نظام الوراثة في الحكم، فقبل منهم ذلك النقد (5)، وعقد العزم على إصلاح ذلك الخطأ.

وفي سبيل تحقيق مبدأ الأمانة في الحكم عمد إلى الأمناء وأصحاب الأهلية، فقلَّدهم مناصب الدولة، وعزل من لا تتوفر فيه مؤهلات المنصب، وقد

(1)"الخلافة والملك" للمودودي ص 124، و"البداية والنهاية" 9/ 212، 213، وانظر:"موجز تاريخ تجديد الدين" للمودودي ص 57 (ط 3، مؤسسة الرسالة).

(2)

"البداية والنهاية" ابن كثير 9/ 187، "موجز تاريخ تجديد الدين" للمودودي ص 69.

(3)

"البداية والنهاية" ابن كثير 9/ 194.

(4)

المصدر نفسه 9/ 198.

(5)

المصدر نفسه 9/ 187.

ص: 55

كانت تلك هي سياسته التي لم يترك مناسبة إلا وأعلن عنها، ومن بعض تعليماته في هذا الشأن ما كتبه لأحد ولاته:

"لا تولّين شيئًا من أمور المسلمين إلا المعروف بالنصيحة لهم والتوفير عليهم، وأدى الأمانة فيما استرعي"(1).

وكتب أيضًا:

"ألا يستعمل على الأعمال إلا أهل القرآن، فإن لم يكن عندهم خير فغيرهم أولى أن لا يكون عنده خير"(2).

وقد صرَّح كثير من الأئمة بأن كل من استعمله عمر بن عبد العزيز فهو (ثقة)(3)؛ وهي مرتبة من مراتب العدالة عند أصحاب الحديث، وتلك شهادة عظيمة بالمدى الذي بلغه عمر بن عبد العزيز في تنفيذ مبدأ الأمانة في إسناد الوظائف لمستحقيها.

أما الأمانة في الأموال والتزام الشرعية في جمعها من مصادرها وإنفاقها في مصارفها فقد ضرب فيها عمر بن عبد العزيز أمثلة رائعة. ففي خاصة نفسه التزم الزهد وعاش عيشة البسطاء لا عيشة الملوك، وظهر عليه هذا الخلق منذ أول حركة بدت منه بعد توليه الخلافة، فقد امتنع عن ركوب المراكب الملكية (وهي الخيول الحسان الجياد المعدة لذلك) واكتفى بما كان يركب من قبل (4)، ثم أمر بعد ذلك ببيع هذه المراكب وجعل أثمانها في بيت المال (5). ورفض السكنى في قصر الخلافة وسكن منزله العادي (6). ورد جميع الأموال التي كانت تحت ملكه بغير حق إلى بيت المال (7)، حتى أنه رد فص خاتم كان في يده قال: أعطانيه الوليد من غير حقه (8). وكان لا يقبل الهدية، ويقول: كانت الهدية لرسول الله صلى الله عليه وسلم

(1)"البداية والنهاية" ابن كثير 9/ 118.

(2)

المصدر نفسه 9/ 207.

(3)

المصدر نفسه 9/ 208.

(4)

المصدر نفسه 9/ 198.

(5)

المصدر نفسه 9/ 198.

(6)

المصدر نفسه 9/ 189.

(7)

المصدر نفسه 9/ 200.

(8)

المصدر نفسه 9/ 208.

ص: 56

هدية فأما نحن فهي لنا رشوة (1).

ثم بعد أن بدأ بنفسه اتجه إلى أموال الأسرة الحاكمة التي أخذت بغير حق، فأمر بأموال جماعة من بني أمية فردها إلى بيت المال وسماها أموال المظالم (2).

وكان شديدًا في تنفيذ هذه السياسة حتى إنه سجن أحدهم حتى يؤدي أموال المسلمين (3).

وكانت سياسة الدولة المالية تسير وفق مبدأ الأمانة، فقد منع الضرائب والمكوس والعشور التي فرضتها الحكومة (4)، مخالفة فيها الشريعة الإسلامية. ومن أعماله المشهورة في هذا الشأن عزله لأحد الأمراء عن ولاية أحد أقاليم الدولة؛ لأنه كان يأخذ الجزية ممن يسلم من أهل الكتاب مدعيًا أنهم يسلمون فرارًا من الجزية، فكانت نتيجة ذلك أن امتنعوا عن الإسلام وثبتوا على دينهم، فعزله عمر وكتب إليه كلمته الخالدة:"إن الله إنما بعث محمدًا صلى الله عليه وسلم داعيًا ولم يبعثه جابيًا"(5).

وكان عمر بن عبد العزيز يصرف المال العام في مرافق المسلمين ومصالحهم وفي سبيل توفير الخدمات لهم، فقد كان يوسع على عماله وموظفي الدولة، يعطي الرجل منهم في الشهر مائة دينار ومائتي دينار، وهو مبلغ كبير في ذلك العصر، وكانت سياسته في ذلك أنهم إذا كانوا في كفاية تفرغوا لأشغال المسلمين (6). وأجرى عمر الرواتب لمن يتفرغ لنشر العلم والفقه وتعليم القرآن (7).

والمبدأ الثالث الذي كان أحد مميزات خلافة عمر بن عبد العزيز هو مبدأ

(1)"البداية والنهاية" ابن كثير 9/ 203.

(2)

المصدر نفسه 9/ 200.

(3)

المصدر نفسه 9/ 188.

(4)

"رجال الفكر والدعوة" أبو الحسن الندوي ص 47، نقلًا عن "سيرة عمر بن عبد العزيز" لابن عبد الحكم ص 99.

(5)

كتاب "الخراج" لأبي يوسف، نقلًا عن المصدر نفسه ص 46.

(6)

"البداية والنهاية" 9/ 203.

(7)

المصدر نفسه 9/ 207.

ص: 57

العدل في الحكم، فلم تكن حكومته حكومة تسلط وجبروت تفرض سلطانها على الناس بقوة السلاح والإرهاب، ولم تكن حكومة بطش وظلم تتجسس على الناس وتأخذهم بالتهم والظنون. ونسوق هنا حادثتين تكفيان في الدلالة على سيادة هذا المبدأ على تصرفات الحكومة في عهد عمر.

قال يحيى الغساني:

"لما ولّاني عمر بن عبد العزيز الموصل، قدمتها فوجدتها من أكثر البلاد سرقة ونقبًا، فكتبت إليه أعلمه حال البلد، وأسأله آخذ الناس بالظنّة وأضربهم على التهمة، أو آخذهم بالبينة وما جرت عليه السُّنَّة. فكتب إلي أن آخذ الناس بالبينة وما جرت عليه السُّنَّة فإن لم يصلحهم الحق فلا أصلحهم الله. قال يحيى: ففعلت ذلك فما خرجت من الموصل حتى كانت من أصلح البلاد وأقلها سرقة ونقبًا"(1).

الحادثة الثانية تبين هذا الاتجاه في ولاية أخرى من ولايات الدولة:

كتب الجراح بن عبد الله الوالي على خراسان إلى عمر بن عبد العزيز: "إن أهل خراسان قوم ساءت رعيتهم وإنه لا يصلحهم إلا السيف والسوط فإن رأى أمير المؤمنين أن يأذن لي في ذلك". فكتب إليه عمر: "أما بعد فقد بلغني كتابك، تذكر أن أهل خراسان قد ساءت رعيتهم وإنه لا يصلحهم إلا السيف والسوط فقد كذبت، بل يصلحهم العدل والحق فأبسط ذلك فيهم"(2).

والمبدأ الرابع من مبادئ الخلافة الراشدة هو السعي لإصلاح دين الرعايا وأخلاقهم، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وكانت هذه المهمة قد تحولت إلى أيدي العلماء والفقهاء الذين أصبحوا يشكلون القيادة الدينية في الأمة، أما القيادة السياسية فقد كانت بأيدي الخلفاء والولاة وقواد الجيوش. وانفصال القيادة السياسية عن القيادة الدينية كان أثرًا من الآثار السيئة لتحول الحكم إلى ملك وراثي (3) منذ بداية العهد الأموي.

(1)"تاريخ الخلفاء" السيوطي 238.

(2)

المصدر نفسه ص 242.

(3)

راجع: بتوسع ص 135، وما بعدها في "الخلافة والملك" للمودودي، و"رجال الفكر والدعوة" لأبي الحسن الندوي ص 49.

ص: 58

وقد عمل عمر بن عبد العزيز جاهدًا لإعادة هذه الخصيصة الهامة من خصائص الخلافة الراشدة. فعمر نفسه يُعد من كبار علماء التابعين حتى قيل: كانت العلماء عند عمر بن عبد العزيز تلامذة (1)، وقد ظهر عليه منذ الصغر الحرص على تعلم العلم والرغبة في الأدب، وأرسله أبوه وهو حديث السن إلى المدينة المنورة، فجالس علماءها وتأدب بآدابهم (2)، وجالس بعض الصحابة منهم أنس بن مالك وروى عنهم الحديث (3)، وأثنى أنس على حسن اقتداء عمر بن عبد العزيز بالرسول صلى الله عليه وسلم حين كان عمر واليًا على المدينة المنورة فقال: ما صليت وراء إمام أشبه صلاة بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم من هذا الفتى (4). وكان عمر قبل الخلافة على قدم الصلاح أيضًا إلا أنه كان يبالغ في التنعم (5). ويُعد عمر من فقهاء الأمة المجتهدين حتى قال عنه أحمد بن حنبل: لا أدري قول أحد من التابعين حجة إلا قول عمر بن عبد العزيز (6).

وحين ولي الخلافة كان أحد أعماله البارزة الاهتمام بإصلاح الأخلاق، فكان كثير الخطب والمواعظ، يكتب إلى عماله يأمرهم بالخير وينهاهم عن الشر، ويبين لهم الحق ويوضحه لهم ويعظهم (7)، وخطبه ومواعظه ورسائله في ذلك كثيرة ومشهورة، وكان من آثار هذا الإصلاح ما يقول عنه الطبري في تاريخه مقارنًا عهد عمر بعهود الحكام السابقين له:

"كان الوليد صاحب بناء واتخاذ المصانع والضياع، وكان الناس يلتقون في زمانه فإنما يسأل بعضهم بعضًا عن البناء والمصانع. فولي سليمان فكان صاحب نكاح وطعام، فكان الناس يسأل بعضهم بعضًا عن التزويج والجواري، فلما ولي عمر بن عبد العزيز كانوا يلتقون فيقول الرجل للرجل: ما وراءك الليلة؟ وكم

(1)"البداية والنهاية" ابن كثير 9/ 194.

(2)

المصدر نفسه 9/ 193.

(3)

المصدر نفسه 9/ 192.

(4)

المصدر نفسه 9/ 194.

(5)

"تاريخ الخلفاء السيوطي" ص 231.

(6)

المصدر نفسه ص 192.

(7)

المصدر نفسه ص 188.

ص: 59

تحفظ من القرآن؟ ومتى تختم؟ ومتى ختمت؟ وما تصوم من الشهر؟ " (1).

ومن أجل هذه الأعمال كلها وهذا السعي لإعادة العمل بوظائف الخلافة الراشدة، أجمع العلماء قاطبة على أن عمر بن عبد العزيز من أئمة العدل وخامس الخلفاء الراشدين المهديين. ومن الأقوال في ذلك ما رواه أبو داود في سننه عن الثوري قال: الخلفاء خمسة أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وعمر (2).

المجددون والإصلاح السياسي:

وبعد وفاة الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز أصابت النكسة مرة أخرى نظام الخلافة وعاود سيره إلى الوراء. وكانت الجهود لإحداث التغيير السياسي المنشود تسير في خطين: الخط الأول: طريق الخروج المسلح، والخط الثاني الطريق السلمي، الذي اعتمد أسلوب توجيه النقد وإسداء النصح، سواء كان ذلك بالكلمة الملفوظة أو الكلمة المكتوبة.

ولم يسلك أحد من المجددين الطريق الأول وإن كان بعضهم قد اتّهم بالتحريض الخفي في بعض أعمال العنف والتمرد، ولكن تلك التهم لم تثبت. فالشافعي مثلًا قد اتهم مع جماعة بمحاولة الشروع في الثورة وحمل مكبلًا في قيده من اليمن إلى بغداد، ولكنه استطاع أن يثبت براءته أمام السلطات (3).

ولو أحصى أحد محاولات الثورات المسلحة التي قامت في وجه الحكم في التاريخ الإسلامي لبلغ بها عددًا كبيرًا. وفي إحصائية عن مرات الخروج المسلح الذي قام به أئمة الشيعة خلال مائتي سنة، من (60 هـ) إلى عام (256 هـ)، وصل العدد إلى أكثر من عشرين محاولة (4)؛ أي: بمعدل تمرد كل عشر سنوات. ويقول نفس الكاتب عن ثورات الخوارج: ولو ذكرنا من خرج من الخوارج لطال الكتاب (5). وقد كان هذا الموقف نابعًا من أن هؤلاء كانوا يرون

(1)"تاريخ الأمم والملوك" الطبري 6/ 497 (حوادث سنة 96 هـ)، و"رجال الفكر والدعوة" أبو الحسن الندوي ص 62.

(2)

"البداية والنهاية" ابن كثير 9/ 200.

(3)

المصدر نفسه 10/ 252.

(4)

"مقالات الإسلاميين" الأشعري 1/ 141 وما بعدها.

(5)

المصدر نفسه 1/ 196.

ص: 60

أن الخروج بالسيف واجب إذا أمكن أن يزال بالسيف أهل البغي ويقام الحق (1).

غير أن التاريخ قد أثبت أن هذا الطريق غير مأمون العواقب، وقد كانت نتيجة هذه الثورات جميعها الفشل الذريع، وكان ضررها أكبر من نفعها.

ولهذه الآثار السيئة التي تترتب على الثورة المسلحة، وبخاصة التي لا يكون احتمال نجاحها قويًا، من إثارة الفتن وإراقة الدماء وكثرة التدمير والتخريب، استقر الرأي على تحريم الخروج على الإمام الفاسق في نفسه والذي لا يغير الشرع. يقول النووي مبينًا هذا الرأي:"قال جماهير أهل السُّنَّة من الفقهاء والمحدثين والمتكلمين لا يعزل الإمام بالفسق والظلم وتعطيل الحقوق ولا يخلع ولا يجوز الخروج عليه بذلك، بل يجب وعظه وتخويفه للأحاديث الواردة في ذلك". ويبدو أنه قد كان في هذا خلاف أول الأمر، ويدل على ذلك ثورة الحسين وابن الزبير وأهل المدينة المنورة على بني أمية، وثورة جماعة عظيمة من التابعين والصدر الأول على الحجاج، ثم مالت الآراء إلى ما بيَّنه النووي (2).

والمقصود أنه لم يقم أحد من المجددين بخروج مسلح على الحكومات الظالمة في عهودهم، بل إن العمل السياسي نفسه قد كان عملًا ثانويًا بالنسبة لمعظمهم، وانحصرت جهود الذين أثر عنهم شيء من الجهد في هذا المضمار في توجيه النقد، وإسداء النصح للحكام، عن طريق الكلام أو عن طريق الكتابة، وإن كان عملهم ذاك قد اتسم بالجرأة في الحق والشجاعة النادرة والتجرد من الأغراض والأطماع الدنيوية، مما جعل لكلماتهم مفعولًا قويًا وأثرًا نافذًا وقبولًا عند الحكام والجماهير وكانت الكلمة بذلك أصلح من السيف.

إصلاحات الغزالي السياسية:

وكنموذج لهذا الاتجاه نسوق أمثلة من جهود الغزالي، المجدد للمائة الخامسة، ونقدم بين يدي ذلك رأيه في طريقة الإصلاح السياسي كما يراها. يقول في كتابه "الإحياء":

(1)"مقالات الإسلاميين" الأشعري 2/ 125.

(2)

انظر: "صحيح مسلم بشرح النووي" 12/ 229.

ص: 61

"قد ذكرنا درجات الأمر بالمعروف، وأن أوله التعريف، وثانيه الوعظ، وثالثه التخشين في القول، ورابعه المنع بالقهر، فالحمل على الحق بالضرب والعقوبة. والجائز من جملة ذلك مع السلاطين الرتبتان الأوليان وهما التعريف والوعظ، وأما المنع بالقهر فليس ذلك لآحاد الرعية مع السلطان، فإن ذلك يحرك الفتنة ويهيج الشر ويكون ما يتولد منه من المحذور أكثر. وأما التخشين في القول كقوله: يا ظالم يا من لا يخاف الله وما يجري مجراه، فذلك إن كان يحرك فتنة يتعدى شرها إلى غيره لم يجز، وإن كان لا يخاف إلا على نفسه فهو جائز بل مندوب إليه، فلقد كان من عادة السلف التعرض للأخطار والتصريح بالإنكار من غير مبالاة بهلاك المهجة، والتعرض لأنواع العذاب لعلمهم بأن ذلك شهادة. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خير الشهداء حمزة بن عبد المطلب ثم رجل قام إلى إمام فأمره ونهاه في ذات الله فقتله على ذلك" (1).

ثم حكى حوادث كثيرة عن السلف وأمثلة من مواجهتهم للحكام، وختم هذا المبحث بكلمات لاذعة سخر فيها من صمت العلماء في عصره، وأكد أن ذلك الصمت هو سبب الظلم الواقع من السلطة الحاكمة، مع تقديم تحليل لأسباب ودوافع هذه السلبية، فيقول تعقيبًا على مواقف السلف من الحكام:

"فهذه كانت سيرة العلماء وعادتهم في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وقلة مبالاتهم بسطوة السلاطين، لكونهم اتكلوا على فضل الله أن يحرسهم ورضوا بحكم الله تعالى أن يرزقهم الشهادة، فلما أخلصوا لله النية أثّر كلامهم في القلوب القاسية فلينها وأزال قساوتها، وأما الآن فقد قيدت الأطماع ألسن العلماء فسكتوا، وإن تكلموا لم تساعد أقوالهم أحوالهم فلم ينجحوا، ولو صدقوا وقصدوا الحق لأفلحوا".

ثم يقول:

"ففساد الرعايا بفساد الملوك، وفساد الملوك بفساد العلماء، وفساد العلماء باستيلاء حب المال والجاه، ومن استولى عليه حب الدنيا لم يقدر على الحسبة على الأراذل فكيف على الملوك والأكابر، والله المستعان على كل حال"(2).

(1)"إحياء علوم الدين" الغزالي 2/ 337.

(2)

المصدر نفسه 2/ 351.

ص: 62

وهذه كلمات من نار في وجه حكم استبدادي لا يسمح بالمعارضة والنقد، وكيف إذا كانت هذه المعارضة في كتاب تداولته الأيدي ودخل كل بيت، وذاع وانتشر حتى يومنا هذا. وفي هذا الكتاب نجد أيضًا نقدًا مرًا يندد بسياسة الحكومة المالية في فصل عنوانه:"إدارات السلاطين وصلاتهم وما يحل منها وما يحرم"(1) تكلم فيه عن مصادر دخل السلاطين وطرق إنفاقهم والحلال والحرام من ذلك. وقد قرر في ذلك الفصل صراحة "أن أغلب أموال السلاطين حرام في هذه الأعصار والحلال في أيديهم معدوم أو عزيز"(2)، وعقد فصلًا آخر عن نوع العلاقات مع الأمراء وموظفي الحكومة الظالمة بيّن فيه أن الأحسن والأفضل "أن يعتقد بغضهم على ظلمهم ولا يحب بقاءهم ولا يثني عليهم"، مع تقليل الصلات بهم ما أمكن "وإن اعتزلهم حتى لا يراهم ولا يرونه كان ذلك هو الواجب"(3). وفي الجملة دعا إلى مقاطعة الحكومة الظالمة اقتصاديًا واجتماعيًا.

ولا شك أن هذه الدعوة قد أثرت في بعض أفراد المجتمع وبخاصة في أولئك الذين فيهم صلاح وتقوى، ولكن هؤلاء مهما كان عددهم كبيرًا إلا أنهم كانوا آحادًا وأفرادًا متفرقين وقد ينجح أحدهم في النجاة بنفسه من شرور الحكومة الظالمة، إلا أن ذلك لم يكن ليبلغ أن يكون حركة شعبية قوية، تهز عروش الحكام، بل كان أثر ذلك ضعيفًا ولم ينتج عنه أي نوع من التغيير السياسي. ولا يبدو أن الغزالي نفسه قد أراد من دعوته لهذه المقاطعة بلوغ هذا الهدف.

بالإضافة إلى هذين الأسلوبين في عمل الغزالي السياسي أسلوب توجيه النقد للحاكم في كتبه -والتحريض عليه وأسلوب المقاطعة فقد سلك الغزالي أسلوبًا ثالثًا، وهو كتابة الرسائل للملوك والوزراء كلما سنحت له فرصة وقد جاء في إحدى هذه الرسائل لأحد السلاطين:

"يا أسفا! إن رقاب المسلمين كادت تنقضّ بالمصائب والضرائب، ورقاب

(1)"الإحياء" 2/ 133.

(2)

المصدر نفسه 2/ 134.

(3)

المصدر نفسه 2/ 140 و 151.

ص: 63