الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وأول من مزج علم الكلام بالفلسفة هو أبو الهذيل العلاف (135 - 231 هـ) وهو من قادة المعتزلة، وكان يرأس مجالس المناظرات في الأديان والمقالات في عهد المأمون (1)، وهكذا نشأ علم كلام جديد متأثرًا بالفلسفة وممتزجًا بها، واحتاج ذلك الانحراف الجديد لمن يتصدى له، وكان ذلك أحد الآثار السلبية الأولى لانتقال الفكر اليوناني إلى المسلمين.
أما الأثر السلبي الثاني فقد كان في نشوء طبقة من المفكرين جردت نفسها للدراسات الفلسفية الخالصة، وعرف هؤلاء باسم الفلاسفة المسلمين. وإذا كان أبو الحسن الأشعري قد تصدى لانحرافات المعتزلة، فإن الغزالي مجدد المائة الخامسة قد تصدى لانحرافات الفلاسفة، كما سنرى ذلك حين يأتي عرض جهوده التصحيحية. وهكذا يمكن أن يعتبر الأشعري نموذجًا للتجديد الذي يواجه انحرافات المجتمع الداخلية، أما الغزالي فهو نموذج التجديد الذي يدفع الانحرافات التي تغزو المجتمع المسلم من خارجه.
جهود الأشعري:
قد كان للأشعري باع طويل في معرفة الانحرافات الرائجة في عصره، واطلاع واسع على آراء وأفكار الفرق المختلفة. وكتابه "مقالات الإسلاميين" يدل على دراسته العميقة للاتجاهات والتيارات الفكرية المختلفة في عصره، وبذلك أصبح مؤهلًا لتصحيحها والرد على الزائف منها. وقد كانت جهوده التصحيحية وأعماله الإصلاحية تتمثل في ثلاث نواح:
الناحية الأولى: عقد المناظرات وإدارة المناقشات، ومن المشهور عنه أنه كان قويًا في المناظرة "وكان يفتح عليه من المباحث والبراهين بما لم يسمعه من شيخ قط ولا اعترضه به خصم ولا رآه في كتاب" (2). ويصف أحد شهود العيان مجلسًا من تلك المجالس بقوله:
"حضرنا مع الشيخ أبي الحسن مجلسًا بالبصرة فناظر المعتزلة وكانوا كثيرًا، فأتى على الكل وهزمهم، كلما انقطع واحد تناول الآخر حتى انقطعوا عن
(1)"الملل والنحل" الشهرستاني ص 191.
(2)
"طبقات الشافعية الكبرى" السبكي 3/ 349.
آخرهم. فعدنا في المجلس الثاني فما عاد منهم أحد" (1).
ولم يكن يقتصر على المجالس العلمية المنظمة والاجتماعات المعدة، بل كان نشيطًا يغشى مجالس المعتزلة الخاصة، ويقصدهم بنفسه ويناظرهم، فكان يكلم في ذلك ويقال له: كيف تخالط أهل البدع وتقصدهم بنفسك وقد أمرت بهجرهم؟ فقال: هم أولو رياسة منهم الوالي والقاضي، ولرياستهم لا ينزلون إلي، فإذا كانوا هم لا ينزلون إلي ولا أسير أنا إليهم فكيف يظهر الحق (2).
وبفضل تلك المناظرات كان الناس يتحولون من مذاهبهم الباطلة إلى المذهب الحق. ويحكى عن أحد تلاميذ الأشعري المشاهير وهو أبو الحسن الباهلي، أنه كان من الشيعة الإمامية ورئيسًا مقدمًا فيهم، فانتقل عن مذهبهم بمناظرة جرت له مع الشيخ الأشعري ألزمه فيها الحجة حتى بان له الخطأ (3).
والأسلوب الثاني الذي اتبعه الأشعري في تصحيح الانحرافات هو أسلوب الكتابة والتأليف، وبالرجوع إلى قائمة مصنفاته (4) نجد أن أكثر مؤلفاته في الرد على المعتزلة، وبعضها في الرد على مذاهب وفرق أخرى. ومنها كتاب كبير في الرد على أصحاب الملل والديانات غير الإسلامية. وله كتاب في التفسير "لم يترك فيه آية يتعلق بها بدعي إلا أبطل تعلقه بها وجعلها حجة لأهل الحق" (5). ويذكر الأشعري في مقدمة هذا التفسير الدافع له على تأليفه فيقول:
"ورأيت الجبائي -من شيوخ المعتزلة- ألف في تفسير القرآن كتابًا أولّه على خلاف ما أنزل الله عز وجل، وما روى في كتابه حرفًا واحدًا عن أحد من المفسرين، وإنما اعتمد على ما وسوس به صدره وشيطانه، ولولا أنه استغوى بكتابه كثيرًا من العوام واستنزل به على الحق كثيرًا من الطغام لم يكن لتشاغلي به وجه"(6).
أما عن منهجه في تناول العقائد فقد أوضحه في مقدمة كتابه "الإبانة في
(1)"تبيين كذب المفتري" ابن عساكر ص 94.
(2)
"ابن عساكر" ص 116.
(3)
المصدر نفسه ص 127.
(4)
"ابن عساكر" ص 128 - 136، و"السبكي" 3/ 349، و"رجال الفكر" الندوي ص 157.
(5)
"ابن عساكر" ص 117.
(6)
المصدر نفسه ص 139.