المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌نقد فقه العصرانية: - مفهوم تجديد الدين - جـ ١

[بسطامي محمد سعيد]

فهرس الكتاب

- ‌المقدمة

- ‌الباب الأول المفهوم السُّنِّي للتجديد

- ‌الفصل الأول تعريف التجديد وضوابطه

- ‌أصل كلمة التجديد:

- ‌تفصيل معنى التجديد:

- ‌ضوابط التجديد:

- ‌إحصاء المجددين:

- ‌الفصل الثاني نماذج من جهود المجددين

- ‌تمهيد:

- ‌الإصلاح السياسي والسعي لإعادة الخلافة الراشدة:

- ‌جهود عمر بن عبد العزيز:

- ‌الشافعي في مجال الاجتهاد والتشريع:

- ‌تصحيح الانحرافات:

- ‌جهود الأشعري:

- ‌الغزالي وتصحيح الانحرافات:

- ‌الباب الثاني مفاهيم التجديد الخاطئة

- ‌الفصل الأول مفهوم التجديد عند العصرانية في الغرب

- ‌ما العصرانية

- ‌الفرقة المتحررة في اليهودية:

- ‌التجديد العصراني للنصرانية:

- ‌الفصل الثاني مفهوم التجديد عند العصرانية في العالم الإسلامي

- ‌1 - الطبقة الأولى من المفكرين

- ‌تمهيد:

- ‌أبو العصرانية في العالم الإسلامي:

- ‌تجديد إقبال:

- ‌محمد عبده وتلامذته:

- ‌الفصل الثالث مفهوم التجديد عند العصرانية في العالم الإسلامي

- ‌2 - الطبقة الثانية من المفكرين

- ‌تمهيد:

- ‌محمد أسد: نسخة أوروبية لسيد خان

- ‌العصرانية وتطوير الدين:

- ‌سقطة كتاب "أين الخطأ

- ‌مفكرون آخرون:

- ‌الفصل الرابع إعجاب الغرب بالعصرانية في العالم الإسلامي

- ‌تمهيد:

- ‌شهادة التبشير:

- ‌الاستشراق يتفاءل بتطور الإسلام:

- ‌نظرة الإعلام الغربي:

- ‌أمريكا وتجديد الإسلام:

- ‌الباب الثالث العصرانية في ميزان النقد

- ‌الفصل الأول نقد المبادئ العامة

- ‌تمهيد:

- ‌فروض العصرانية الأساسية:

- ‌محاسن ومساوئ العصرانية في الغرب:

- ‌الفصل الثاني نقد المسائل التفصيلية

- ‌تمهيد:

- ‌من عقائد العصرانية:

- ‌منهج العصرانية في التفسير:

- ‌هل هناك منهج نقد حديث للسُّنَّة

- ‌الاجتهاد في أصول الفقه:

- ‌السُّنَّة التشريعية وغير التشريعية:

- ‌الثابت والمتغير في الإسلام:

- ‌نقد فقه العصرانية:

- ‌الخاتمة

- ‌قائمة المراجع

الفصل: ‌نقد فقه العصرانية:

‌نقد فقه العصرانية:

أنتجت آراء العصرانية الأصولية وموقفها من الحديث وموقفها من التفسير فقهًا متميزًا، يهدف في معظمه إلى تسويغ الواقع المعاصر، وإدخال كثير من القيم الغربية في صلب الإسلام. وقد مرت بنا أمثلة كثيرة من هذا الفقه في الفصلين الثاني والثالث. ولا يتسع المقام هنا لنقد كل تلك المسائل التفصيلية من هذا الفقه ولكننا نعرض هنا بعض الآراء المعاصرة عن بعض المسائل التي تشغل بال العصرانية في مجال المرأة والحدود والجهاد، ونعرضها من وجهة نظر مدرسة التجديد السُّنِّي المعاصرة، وبأحد أقلامها المشهورة قلم المودودي.

حدود نشاط النساء في الدولة الاسلامية:

ليس للدولة الإسلامية أن تعمل شيئًا في أمر من أمور الدنيا بالعدول عن مبادئ الإسلام وأحكامه، وليس لها أن تفكر في ذلك إذا كان القائمون بأمرها أناسًا يؤمنون بالإسلام، ويتبعون مبادئه وأحكامه عن صادق العزيمة وخالص النية. ومن أحكام الإسلام فيما يتعلق بأمر النساء: أن المرأة تساوي الرجل في الكرامة والشرف والاحترام، كما لا فرق بينهما باعتبار المستوى الخلقي، ولا باعتبار الأجر والمثوبة في الآخرة، ولكن ليس لنشاطهما دائرة واحدة. فالسياسة وإدارة الحكومة والخدمات العسكرية وما إليها من الأعمال لا علاقة لها إلا بالرجل ولن يكون من نتيجة إقحام المرأة في هذه المجالات سوى أن تنهار حياتنا العائلية بمعنى الكلمة -وهي حياة تتحمل معظم تبعاتها المرأة- أو أن نحملها أثقالًا مضاعفة حيث أنها تقوم بواجباتها الفطرية -وهي واجبات لا قبل للرجل بمشاركتها فيها أبدًا- مع تحملها شطر واجبات الرجل أيضًا. وبما أن ليست الصورة المؤخرة الذكر بميسورة فعلًا، فلابد أن تواجهنا الصورة المقدمة الذكر، وهي التي قد واجهها الغرب حين أقحم المرأة في دائرة نشاط الرجل، فليس من العقل في شيء أن نحاكي غيرنا حتى في سفاسف الأمور.

والإسلام من حيث المبدأ عدو للبيئة الخليطة بالرجال والنساء. ولا نظام في الدنيا يرحب بها ويرضى بها، إن كان في نظره أدنى أهمية لتماسك نظام الأسرة، وقد ظهر للمجتمع المختلط في بلاد الغرب أشنع وأقذر ما يكون من النتائج، أما إذا كان الناس في بلادنا يجدون من نفوسهم استعدادًا لمكابدة هذه

ص: 266

النتائج فليكابدوها بكل فخر وسرور ولا حرج، ولكن ما لهم يريدون للإسلام أن يجعل لهم رخصًا في أعمال ينهى عنها بكل تأكيد؟

وإذا كان الإسلام قد كلف النساء خدمة الجرحى في الحرب فليس معنى ذلك أن للمسلمين أن يخرجوهن إلى المكاتب والمعامل والنوادي والمجالس النيابية حتى في حالة السلم. ومن المحال أن يكون التوفيق حليف النساء، إذا ما اقتحمن دائرة نشاط الرجال وسابقنهم في أعمالهم، وذلك أن الله ما خلقهن لإنجاز هذه الأعمال وإنما الرجل هو الذي قد أعطاه الله ما يحتاج إليه من الصفات الخلقية والمواهب الفكرية للقيام بهذه الأعمال، وإذا استطاعت المرأة -على سبيل الافتراض- أن تبرز في نفسها حفنة من هذه الصفات والمواهب الرجولية المصطنعة فإن أضرارها الجسيمة المضاعفة لابد أن تعود على نفسها وعلى المجتمع أيضًا. أما مضرتها على نفسها فهي أنها لا تنسلخ من أنوثتها تمامًا ولا تدخل في الرجولة تمامًا، وتبوء بالفشل في دائرة نشاطها التي ما فطرت إلا لها، وأما مضرتها على المجتمع فهي أنه يجد لمختلف أعماله عمالًا غير أكفاء، بدلًا من أن يجد لها عمالًا أكفاء، كما تفسد خصائص المرأة ومزاياها التي نصفها أنوثية ونصفها رجولية الحياة السياسية والاقتصادية.

ولا يمانع الإسلام من تعليم المرأة، بل الذي يؤكد عليه الإسلام أن تتحلى المرأة بأعلى ما يكون من التعليم والتربية ولكن بشروط:

أولها: أن تدرس بصفة خاصة علومًا تجعلها صالحة للقيام بعملها في دائرة نشاطها، على أمثل وجه وأكمله، وألا تكون ثقافتها عين ثقافة الرجل.

وثانيها: ألا تكون ثقافتها في معاهد خليطة بالرجال والنساء وإنما تكون في معاهد خاصة بالنساء، وقد ظهرت النتائج الموبقة للتعليم المختلط في البلاد الغربية الراقية لا يكابر فيها الآن إلا من أصيب بعمى القلب والبصيرة.

وثالثها: أن تشتغل الفتيات المثقفات في مؤسسة خاصة بالنساء كالمدارس والكليات والمستشفيات النسائية مثلًا (1).

(1)"الإسلام في مواجهة التحديات المعاصرة" المودودي ص 264 - 266.

ص: 267

تقييد الطلاق وتعدد الزوجات:

للمرأة المسلمة أن تخالع زوجها؛ أي: تطلب منه الطلاق على الفدية عن طريق القضاء الإسلامي، ولها كذلك أن تتحصل من المحكمة حكمًا بفسخ زواجها أو التفريق بينها وبين زوجها، بشرط أن يكون لديها من الأسباب ما يبيح لها شرعًا أن ترجع إلى المحكمة وتحصل منها على الحكم بإحدى الصور المذكورة آنفًا. وأما الطلاق فقد جعله القرآن من حقوق الرجل، بكلمات صريحة ولا لقانون أن يتدخل في حقه هذا. أما أن تأتي هيئة من هيئات المسلمين التشريعية وتبيح لنفسها أن تضع قوانين مخالفة للقرآن باسم القرآن نفسه، فهذا أمر آخر وتاريخ الإسلام منذ عهد الرسالة إلى قرنه الحاضر ما عرف الفكرة القائلة بجواز أن ينتزع حق الطلاق من الرجل أو تتدخل فيه محكمة أو مجلس من مجالس التحكيم. والحقيقة أن هذه الفكرة استوردت إلى بلادنا من أوروبا رأسًا. ولم يحدث قط أن تفكر موردو هذه النظرية فيما كان لقانون الطلاق هذا من خلفية أو سياق تاريخي في أوروبا، وما ظهر له في حياة الغرب من نتائج موبقة. وسيعلمون قريبًا عواقب تحريفهم في أحكام الله حين تخترق فضائح حياتهم العائلية جدران بيوتهم، وتنزل إلى الشوارع والأسواق وتشحن بها صفحات الجرائد والمجلات.

كما أن ليست فكرة منع الرجل من الزواج بأكثر من واحدة إلا بضاعة أجنبجة، استوردت إلى بلادنا برخصة مزورة منسوبة إلى القرآن، وقد جاءت من مجتمع إذا اتخذ فيه الرجل -على وجود زوجته المشروعة- امرأة أخرى خليلة له، فلا تستحق هذه الخليلة أن يتحمل وجودها فحسب، بل تستحق حفظ حقوق أولادها غير الشرعيين أيضًا. (وما مثال فرنسا في هذا الباب ببعيد عنا)، ولكنه إذا تزوج بها فقد خالف القانون واقترف جريمة لا تغتفر. وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على أن القيود بأسرها تفرض على الحلال لا على الحرام (1).

الدليل على حد الرجم:

إن الحد الذي قد قرر في سورة النور للزنا، إنما هو حد للزنا المطلق

(1)"الإسلام في مواجهة التحديات المعاصرة" المودودي ص 259.

ص: 268

وليس بحد للزنا بعد الإحصان -أي: ارتكاب الزنا بعد التزوج- الذي هو أشد وأغلظ من الزنا المحض في نظر القانون الإسلامي. والله تعالى نفسه يشير في سورة النساء إلى أنه لا يقرر في سورة النور هذا الحد، إلا للزنا الذي يكون كل من مرتكبيه غير متزوج. فقد قال أولًا في سورة النساء:{وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا (15)} ثم قال بعده بيسير: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ (25)} {فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} [النساء: 25].

فالآية الأولى تتضمن التوقع لحكم من الله سينزله في المستقبل لعقوبة الزانيات اللاتي يأمر الآن بإمساكهن في البيوت. ونعلم بذلك أن هذا الحكم الأخير الذي جاء في سورة النور هو الحكم -أو السبيل- الذي كان وعد به الله سبحانه وتعالى في سورة النساء. وفي الآية الثانية جاء بيان حد الزانية من الإماء المتزوجات وكما قد جاءت لفظة المحصنات في آية واحدة وسياق الكلام بعينه مرتين فلابد أن يكون معنى المحصنات واحدًا في الموضعين.

فإذا نظرت الآن في بدء الجملة حيث قيل: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ} علمت أن ليس المراد بالمحصنة في هذه الآية امرأة متزوجة بل امرأة حرة غير متزوجة. وقيل في ختام الجملة أن الأمة إذا أتت بفاحشة -أو زنت- فعقوبتها نصف عقوبة المحصنة. والذي يدل عليه سياق الكلام أن المراد بالمحصنة في هذه الجملة نفي المعنى المراد في الجملة السابقة؛ أي: (امرأة حرة غير متزوجة ولكن محصنة بعفافها وحفظ أسرتها). فهاتان الآيتان معًا تشيران إلى حكم أن حد الزنا في سورة النور، وهو الذي كان الوعد جاء به في سورة النساء إنما يبين حد الزاني والزانية غير المتزوجين.

أما ما هو الحد للزنا بعد الإحصان بالزواج، فهذا أمر لا نعرفه من القرآن بل نعرفه من سُنَّة الرسول صلى الله عليه وسلم فقد ثبت بغير واحدة ولا اثنتين من الروايات الصحيحة أن النبي صلى الله عليه وسلم ما اقتصر على بيان حد الزنا للمتزوجين والمتزوجات بأقواله فحسب، بل قد أقام هذا الحد فعلًا في غير واحدة من الأقضية المرفوعة إليه وهو الرجم. ثم أقامه بعدُ خلفاؤه الراشدون رضي الله عنهم في عهودهم، وأعلنوا مرارًا

ص: 269

أن الرجم هو الحد -أي: العقوبة القانونية- للزنا بعد الإحصان. والرجم باعتباره حد للزنا بعد الإحصان مازال أمرًا مجمعًا عليه بين الصحابة والتابعين، حيث لا نكاد نجد لأحد منهم قولًا يدل على أنه كان في القرن الأول رجل له الشك في كون الرجم من الأحكام الشرعية الثابتة. ثم ظلت فقهاء الإسلام في كل عصر وفي كل مصر، مجمعين على كونه سُنَّة ثابتة بأدلة متضافرة قوية لا مجال لأحد من أهل العلم أن يشك في صحتها.

ولم يخالف الجمهور في هذه القضية إلا الخوارج وبعض المعتزلة، على أنه ما كان الأساس لمخالفتهم أن يكونوا قد شخصوا ضعفًا في ثبوت حكم الرجم عن النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما قالوا: إن الرجم باعتباره حدًا للزاني المحصن مخالف للقرآن. والحقيقة أن ليس ذلك إلا لخطأ فهمهم للقرآن. قالوا: إن القرآن يبين مائة جلدة حدًا عامًا لكل زان وزانية فليس تخصيص الزاني المحصن من هذا الحكم العام إلا مخالفة للقرآن. ولكنهم ما تنبهوا إلى أن الوزن القانوني الذي هو لألفاظ القرآن، هو نفسه لشرحها الذي يبينه النبي صلى الله عليه وسلم بشرط ثبوته عنه.

ألا ترى أن القرآن قد جاء بمثل هذه الألفاظ المطلقة عندما بيَّن حد السارق والسارقة فقال: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38]، ونحن إذا لم نجعل هذا الحكم مقيدًا بما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من شرحه، فمن عين ما يقتضيه عموم هذه الألفاظ أن نحكم بالسرقة على كل من سرق إبرة أو تفاحة -مثلًا- فنقطع يده بل يديه إلى منكبيه، وبالجانب الآخر كل من سرق ولو آلافًا من الجنيهات، ثم تظاهر بالتوبة وإصلاح النفس، فعلينا أن نتركه ولا نمسه بسوء؛ لأن القرآن يقول بعد بيانه حد السارق والسارقة:{فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ} [المائدة: 39].

وكذلك أن القرآن إنما يبين حرمة الأم والأخت من الرضاعة، فيجب أن تكون حرمة البنت من الرضاعة مخالفة للقرآن بموجب هذا الاستدلال. والقرآن إنما ينهى عن الجمع بين الأختين، فمن قال بحرمة الجمع بين العمة وبنت أخيها أو الخالة وبنت أختها يجب أن نحكم عليه بمخالفة القرآن. والقرآن إنما يحرم على المرء ربيبته إذا كانت قد تربت في حجره، فيجب أن تكون حرمتها المطلقة مخالفة للقرآن. والقرآن إنما يأذن في الرهان إذا كان الرجل على سفر ولم يجد كاتبًا، فيجب أن يكون جواز الرهان في الحضر ومع وجود الكاتب مخالفة

ص: 270

للقرآن. والقرآن يقول بكلمات عامة: {وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ} [البقرة: 282] فيجب أن يحكم بالحرمة على البيع والشراء الذي يتم في أسواقنا ليل نهار بغير الشهود لكونه يخالف القرآن.

فهذه بعض أمثلة إذا سرحت فيها النظر تبين لك الخطأ في استدلال الذين يقولون: إن حكم الرجم للزاني المحصن مخالف للقرآن (1). والحق أن منصب الرسول في نظام الشريعة الذي لا مجال فيه للريب والمكابرة، هو أن يبلغنا أحكام الله تعالى ثم يبين لنا مقتضياتها ومقاصدها والطرق للعمل بها، والمعاملات التي تنفذ فيها، والمعاملات التي لها أحكام أخرى. وإنكار هذا المنصب ليس بمخالفة لأصول الدين فحسب بل هو مستلزم -كذلك- لمصاعب ومفاسد لا تكاد تحصى (2).

لا مساغ لتقسيم الجهاد إلى الهجومي والدفاعي:

إن ما اصطلحوا عليه اليوم من تقسيم القتال الهجومي والدفاعي، لا يصح إطلاقه على الجهاد الإسلامي البتة، وإنما يصدق هذا المصطلح على الحروب القومية والوطنية فقط؛ لأن هاتين الكلمتين المصطلح عليهما لا ينطق بهما وما جرى استعمالهما إلا بالنسبة إلى قطر مخصوص أو أمة بعينها. وأما إذا قام حزب عالمي مستند إلى فكرة انقلابية شاملة، لا تفرق بين أمة دون أمة، ولا تخص قطرًا دون قطر، يدعو جميع الأمم والشعوب على اختلاف أجناسها ولغتها إلى فكرته ومنهاجه، مفتوحة أبوابه لكل من يريد المشاركة في بث تلك الدعوة ونشر تلك الفكرة، ولا يسعى إلا وراء القضاء على الحكومات الجائرة المناقضة لمبادئ الحق الخالدة، وإقامة حكومة صالحة مؤسس بنيانها على قواعد الحق والعدل التي يؤمن بها ويدعو إليها، أما إذا كان الأمر كذلك فلا مجال في دائرته البتة لما اصطلحوا عليه من نوعي القتال الهجومي والدفاعي.

وكذلك إذا نظرنا في المسألة بصرف النظر عن هذا المصطلح الشائع تبين

(1) وهناك ادعاءات تقول: إن الرجم ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكنه إنما رجم اتباعًا لليهود قبل نزول سورة النور وعندما نزلت سورة النور بالجلد نسخت الرجم. وهذه ادعاءات ليس لها من الدليل إلا الاحتمالات والظنون ولابد في النسخ من دليل.

(2)

"تفسير سورة النور" المودودي ص 45.

ص: 271

لنا أنه لا ينطبق هذا التفسير -الهجومي والدفاعي- على الجهاد الإسلامي بحال من الأحوال. فإن الجهاد الإسلامي إذا أردت الحقيقة هجومي ودفاعي معًا، هجومي لأن الحزب الإسلامي يضاد ويعارض الممالك القائمة على المبادئ المناقضة للإسلام، ويريد قطع دابرها ولا يتحرج في استخدام القوى الحربية لذلك. وأما كونه دفاعيًا، فلأنه مضطر إلى تشييد بنيان المملكة وتوطيد دعائمها حتى يتسنى له العمل وفق برنامجه وخطته المرسومة. وغير خاف عليك أن الإسلام حزب فليس من هذه الوجهة دار محدودة بالحدود الجغرافية يذود عنها ويدافع عنها، وإنما يملك مبادئ وأصولًا يذب عنها ويستميت في الدفاع عنها. وكذلك لا يحمل على (دار) الحزب الذي يعارضه ويناقضه، وإنما يحمل ويصول على المبادئ التي يتمسك بها. ولا يغيبن عن بالك أنه لا يريد بهذه الحملة أن يكره من يخالفه في الفكرة على ترك عقيدته، والإيمان بمبادئ الإسلام، وإنما يريد الحزب الإسلامي أن ينتزع زمام الأمر ممن يؤمنون بالمبادئ والنظم الباطلة حتى يستتب الأمر لحملة لواء الحق ولا تكون فتنة ويكون الدين لله (1).

(1)"الجهاد في سبيل الله" المودودي ص 41.

ص: 272