المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌أصل كلمة التجديد: - مفهوم تجديد الدين - جـ ١

[بسطامي محمد سعيد]

فهرس الكتاب

- ‌المقدمة

- ‌الباب الأول المفهوم السُّنِّي للتجديد

- ‌الفصل الأول تعريف التجديد وضوابطه

- ‌أصل كلمة التجديد:

- ‌تفصيل معنى التجديد:

- ‌ضوابط التجديد:

- ‌إحصاء المجددين:

- ‌الفصل الثاني نماذج من جهود المجددين

- ‌تمهيد:

- ‌الإصلاح السياسي والسعي لإعادة الخلافة الراشدة:

- ‌جهود عمر بن عبد العزيز:

- ‌الشافعي في مجال الاجتهاد والتشريع:

- ‌تصحيح الانحرافات:

- ‌جهود الأشعري:

- ‌الغزالي وتصحيح الانحرافات:

- ‌الباب الثاني مفاهيم التجديد الخاطئة

- ‌الفصل الأول مفهوم التجديد عند العصرانية في الغرب

- ‌ما العصرانية

- ‌الفرقة المتحررة في اليهودية:

- ‌التجديد العصراني للنصرانية:

- ‌الفصل الثاني مفهوم التجديد عند العصرانية في العالم الإسلامي

- ‌1 - الطبقة الأولى من المفكرين

- ‌تمهيد:

- ‌أبو العصرانية في العالم الإسلامي:

- ‌تجديد إقبال:

- ‌محمد عبده وتلامذته:

- ‌الفصل الثالث مفهوم التجديد عند العصرانية في العالم الإسلامي

- ‌2 - الطبقة الثانية من المفكرين

- ‌تمهيد:

- ‌محمد أسد: نسخة أوروبية لسيد خان

- ‌العصرانية وتطوير الدين:

- ‌سقطة كتاب "أين الخطأ

- ‌مفكرون آخرون:

- ‌الفصل الرابع إعجاب الغرب بالعصرانية في العالم الإسلامي

- ‌تمهيد:

- ‌شهادة التبشير:

- ‌الاستشراق يتفاءل بتطور الإسلام:

- ‌نظرة الإعلام الغربي:

- ‌أمريكا وتجديد الإسلام:

- ‌الباب الثالث العصرانية في ميزان النقد

- ‌الفصل الأول نقد المبادئ العامة

- ‌تمهيد:

- ‌فروض العصرانية الأساسية:

- ‌محاسن ومساوئ العصرانية في الغرب:

- ‌الفصل الثاني نقد المسائل التفصيلية

- ‌تمهيد:

- ‌من عقائد العصرانية:

- ‌منهج العصرانية في التفسير:

- ‌هل هناك منهج نقد حديث للسُّنَّة

- ‌الاجتهاد في أصول الفقه:

- ‌السُّنَّة التشريعية وغير التشريعية:

- ‌الثابت والمتغير في الإسلام:

- ‌نقد فقه العصرانية:

- ‌الخاتمة

- ‌قائمة المراجع

الفصل: ‌أصل كلمة التجديد:

الفصل الأول تعريف التجديد وضوابطه

‌أصل كلمة التجديد:

تجديد الدين هو أحد المصطلحات الإسلامية؛ والمصطلحات الإسلامية هي كلمات عربية الأصل، استعملت في القرآن، أو في السُّنَّة، أو عند العلماء إما في نفس معناها اللغوي؛ أو أعطيت معنى خاصًا قوي الصلة بمعناها اللغوي. فمثلًا الصلاة فإنها مشتقة لغويًا -في أرجح الأقوال- من الدعاء (1)، ولكنها أصبحت ذات مدلول خاص في القرآن وفي السُّنَّة.

وإذا كانت غاية هذا البحث هي تجلية مفهوم التجديد وتوضيحه، فإن البحث يتجه أول ما يتجه إلى أصل معنى كلمة "تجديد" في اللغة، وفي استعمالات القرآن والحديث لهذه الكلمة.

الحديث الأصل:

نشأ مصطلح التجديد من حديث صحيح من لفظ النبي صلى الله عليه وسلم، فقد روى أَبو داود في سننه، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:

(1) انظر: "لسان العرب" ابن منظور 14/ 464.

ص: 12

"إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها"(1).

ورواه أيضًا الطبراني في كتاب المعجم الأوسط، ورواه الحاكم في كتاب المستدرك، ورواه البيهقي في كتاب المعرفة، كلهم عن أبي هريرة رضي الله عنه.

وهو حديث صحيح، صححه من الأئمة المتقدمين الحاكم والبيهقي، ومن الأئمة المتأخرين الحافظ العراقي وابن حجر والسيوطي (2)، ومن المعاصرين ناصر الدين الألباني (3).

التجديد لغة:

جاء في معاجم اللغة (4) عن مادة جدد ما يأتي:

تجدد الشيء؛ يعني: صار جديدًا، وجدده؛ أي: صيَّره جديدًا وكذلك أجدَّه واستجدّه. والجديد هو نقيض الخلق، والجدة -بالكسر- هي مصدر الجديد وهي نقيض البلى، ويقال:"بلي بيت فلان ثم أجدّ بيتًا من شعر"، ويقال لمن لبس ثوبًا جديدًا:"أبل وأجد واحمد الكاسي".

والأصل في هذا المعنى القطع، يقال: جددت الشيء فهو مجدود وجديد؛ أي: مقطوع، ومن هذا قولهم ثوب جديد:"وهو في معنى مجدود"؛ أي: كأن ناسجه قطعه الآن. هذا هو الأصل، أما ما جاء منه في غير ما يقبل القطع فعلى المثل من ذلك؛ كقولهم جدد الوضوء وجدد العهد.

وكذلك سمي كل شيء لم تأت عليه الأيام جديدًا، فالجديدان والأجدان هما الليل والنهار لأنهما لا يبليان أبدًا.

ومن النقول السابقة يمكن القول إن التجديد في أصل معناه اللغوي يبعث في الذهن تصورًا تجتمع فيه ثلاثة معان متصلة لا يمكن فصل أحدها عن الآخر، ويستلزم كل واحد منها المعنى الآخر.

(1)"سنن أبي داود"، كتاب الملاحم 4/ 109.

(2)

"عون المعبود شرح سنن أبي داود" 11/ 396، و"فيض القدير شرح الجامع الصغير" المناوي، 2/ 282، و"كشف الخفاء" للعجلوني 1/ 243.

(3)

"صحيح الجامع الصغير" للألباني ص 143، و"سلسلة الأحاديث الصحيحة" للألباني ص 601.

(4)

"الصحاح" للجوهري 1/ 451، و"لسان العرب" 3/ 111، و"مقاييس اللغة" 1/ 409.

ص: 13

أولها: أن الشيء قد كان في أول الأمر موجودًا وقائمًا وللناس به عهد.

وثانيها: أن هذا الشيء أتت عليه الأيام فأصابه البلى وصار قديمًا خلقًا.

وثالثها: أن ذلك الشيء قد أعيد إلى مثل الحالة التي كان عليها قبل أن يبلى ويخلق. فقد جاء صريحًا في النقول السابقة أن الجديد نقيض الخلق، وأن الجِدّة نقيض البلى، فيكون معنى جدد الشيء صيَّره جديدًا غير خلق ولا بال. فهناك ثلاثة عناصر: شيء بال وخلق، قد كان غير بال ولا خلق، يجدد بأن يعاد إلى مثل حالته الأولى.

وتزيد الأقوال المذكورة هذا المعنى وضوحًا، فقولهم:"بلي بيت فلان ثم أجد بيتًا من شعر"، ففلان هذا قد كان له بيت، فصار قديمًا وقد يكون تهدم بعضه، فاستحدث بيتًا مثله. وقولهم لمن لبس ثوبًا جديدًا: أبل وأخلق، رغبة له أن يعيش فيبلي ما لبسه من ثوب، ثم بعد أن يبلى ويخلق، يجدد باتخاذ ثوب آخر مثل الثوب الأول نوعًا وجنسًا.

أما قولهم جدد الوضوء، وجدد العهد، فهو أظهر في الدلالة على أن التجديد يتضمن معنى الإعادة، فتجديد الوضوء يعني إعادته وتجديد العهد هو تكراره تأكيدًا.

كلمة (جديد) في القرآن:

لم يأت في القرآن لفظ جدد أو لفظ التجديد، ولكن قد جاءت فيه كلمة جديد، وسيفيدنا استعمال القرآن الكريم لهذه الكلمة في استجلاء معنى التجديد.

من الآيات في ذلك قوله تعالى: {وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا (49) قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا (50) أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [الإسراء: 49 - 51]. فهؤلاء يقولون إنهم لن يكونوا خلقًا جديدًا، أو بعبارة أخرى لن يجدد خلقهم بعد أن يبلوا ويصيروا عظامًا مفتتة مكسرة -والرفات في اللغة هو ما تكسر وبلي من كل شيء- فيقول الله عز وجل ردًا عليهم:{قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا (50)} ؛ أي: لو كنتم حجارة أو حديدًا لأعادكم كما بدأكم ولأماتكم ثم أحياكم. قال مجاهد: المعنى كونوا ما شئتم فستعادون (1).

(1)"تفسير القرطبي" 10/ 274.

ص: 14

فمن هذه الآية يتضح بجلاء لا لبس فيه أن تجديد الخلق هو بعثه وإحياؤه وإعادته.

ويتكرر هذا المعنى في قوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ (7)} [سبأ: 7]. يقول القرطبي في شرح هذه الآية: أي هل نرشدكم إلى رجل ينبئكم ويقول لكم أنكم مبعوثون بعد البلى في القبور. ومعنى مزقتم كل ممزق: أي: فرقتم كل تفريق، والمزق خرق الأشياء (1).

وفي قوله تعالى: {وَقَالُوا أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} [السجدة: 10] يقول القرطبي: ضللنا أصله من قول العرب ضل الماء في اللبن إذا ذهب، والعرب تقول للشيء غلب عليه غيره حتى خف فيه أثره: قد ضل (2)، فتجديد الخلق هنا أيضًا هو إحياؤه وبعثه بعد أن ذهب وعفا أثره واندرس.

وفي معنى هذه الآية أيضًا قوله تعالى: {أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ (15)} [ق: 15]، وهذا توبيخ لمنكري البعث يقال: عييت بالأمر إذا لم تعرف وجهه (3)؛ فالله عز وجل لم يعجز عن خلق الناس أول مرة، فكيف يعجز عن إحيائهم ثانية. {بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ}؛ أي: في حيرة من البعث. ففي هذه الآية إشارة إلى المراحل الثلاث: خلق أول وحياة أولى، ثم موت وبلى، ثم بعث وإحياء، وإعادة وتجديد، فإذا الخلق خلق جديد.

كلمة تجديد في الحديث:

بين أيدينا بعض الأحاديث التي جاء فيها استعمال كلمة تجديد (4).

الأول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الايمان ليخلق في جوف أحدكم كما يخلق الثوب؛ فاسألوا الله تعالى أن يجدد الإيمان في قلوبكم"(5).

(1)"تفسير القرطبي" 14/ 263.

(2)

المصدر نفسه 14/ 91.

(3)

المصدر نفسه 17/ 8.

(4)

انظر: "المعجم المفهرس لألفاظ الحديث" مادة: (جدد).

(5)

رواه الطبراني عن ابن عمر بن الخطاب بإسناد حسن ورواه الحاكم عن ابن عمرو بن العاص ورواته ثقات، وقال العراقي: حديث حسن من طريقيه. انظر: "الجامع الصغير" للسيوطي ص 133، و"فيض القدير" للمناوي 2/ 324.

ص: 15

في هذا الحديث نلمح المعاني الثلاثة المترابطة التي ترد إلى الذهن عند ذكر التجديد، فهناك إيمان قد دخل قلب صاحبه واستقر فيه، ثم هو لا يستمر على حالة واحدة، بل هو ينقص ويخلق مثل الثوب الذي يبلى ويخلق، ثم هو يرجى بالدعاء أن يتجدد في القلب بأن يعود إلى مثل حالته الأولى أو أفضل.

الحديث الثاني: روى أحمد بن حنبل عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "جددوا إيمانكم"، قيل: يا رسول الله، وكيف نجدد إيماننا؟ قال:"أكثروا من قول لا إله إلا الله"(1).

وفي هذا الحديث يتكرر لفظ تجديد الإيمان ويشار إلى أن تجديده يكون بالإكثار من قول لا إله إلا الله، إذ أن شهادة لا إله إلا الله، هي علامة الإيمان، وكلما أعاد المرء هذه الشهادة أعاد تأكيد ما دخل في قلبه أول مرة.

الحديث الثالث: روى أحمد بن حنبل عن النبي صلى الله عليه وسلم: "ما من مسلم ولا مسلمة يصاب بمصيبة فيذكرها وإن طال عهدها -وفي رواية: قدم عهدها- فيحدث لذلك استرجاعًا، إلا جدد الله له عند ذلك؛ فأعطاه مثل أجرها يوم أصيب بها"(2).

هذا الحديث عن مسلم، أو مسلمة، أصيب بمصيبة، ولكنه صبر عليها واسترجع حين وقوعها قائلًا:{إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} ، وبعد أن مضى عليها وقت ذكرها، فإذا أحدث عند ذكرها استرجاعًا وجدده، شكر الله له صنيعه ذلك وجدد له الثواب، وعاد إلى إعطائه مثل ما أعطاه من أجر يوم أصيب بها. ومن ثنايا المعاني التي يشير إليها هذا الحديث نلمح معنى التكرار والإعادة الذي يتضمنه تجديد الثواب كلما أعيد الاسترجاع.

الحديث الرابع: روى أحمد بن حنبل عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"لا تسبوا الدهر، فإن الله عز وجل قال: أنا الدهر، الأيام والليالي لي أجددها وأبليها وآتي بملوك بعد ملوك"(3).

وفي هذا الحديث يرد لفظ تجديد الأيام والليالي، فالأيام والليالي تذهب وتعود، فكلما ذهب يوم فقد بلي، وكلما عاد يوم مثله فقد تجدد.

(1)"المسند" ابن حنبل 2/ 359.

(2)

المصدر نفسه 1/ 201.

(3)

المصدر نفسه 2/ 496.

ص: 16

التجديد يعني الإحياء والإعادة:

من مجموع ما جاء سابقًا من استعمال كلمة تجديد في اللغة وفي القرآن وفي الحديث، يتضح أن كلمة التجديد تدل على الإحياء والبعث والإعادة، وأن هذا المعنى يكون في الذهن تصورًا من ثلاثة عناصر: وجود وكينونة، ثم بلى ودروس، ثم إحياء وإعادة.

آراء السلف عن التجديد:

المفهوم السليم للتجديد هو ذلك المعنى الذي كان يقصده الرسول صلى الله عليه وسلم، حين أخبر أصحابه بنبوءة بعث الله على رأس كل مائة سنة من يجدد للأمة دينها، وأحق الناس بتوضيح المفهوم النبوي الكريم لهذا المصطلح هم السلف.

وكلمة سلف معناها في الأصل تقدم، فالسلف هم الجماعة المتقدمون، وسلف الإنسان من تقدمه بالموت من آبائه وذوي قرابته، ولهذا سمي الصدر الأول من الصحابة والتابعين السلف الصالح (1)، وأصبح لفظ السلف مصطلحًا يقصد به الصحابة -رضوان الله عليهم-، والتابعون لهم بإحسان، وأتباعهم، ومن تلاهم من أئمة الدين ممن شهد له بالإمامة وعرف عظم شأنه في الدين، وتلقى الناس كلامه بالقبول، ولم يرم بانحراف أو بدعة (2).

وقد تناثرت آراء السلف عن التجديد في كتب الحديث وشروحها، وكتب الطبقات والتراجم، وقد أراد الإمام ابن حجر (773 - 852 هـ) أن يفرد هذا الموضوع بالتأليف، وأبدى هذه الرغبة قائلًا:"لعل الله إن فسح في المهلة أن يسهل لي جميع ذلك في جزء مفرد"(3)؛ ولكن لم أعثر على شيء من ذلك، ولعل الكتاب مفقود منذ زمن بعيد (4)، أو لعله لم ير النور. وللسيوطي (ت 911 هـ) وريقات عن المجددين بعنوان:"التنبئة فيمن بعثه الله على رأس كل مائة"(5).

(1)"لسان العرب" ابن منظور 9/ 159.

(2)

انظر: "لوامع الأنوار البهية" للسفاريني 1/ 18.

(3)

"توالي التأسيس" ابن حجر ص 48.

(4)

ذكر السيوطي أنه بحث عنه ولم يجده انظر: كتاب "المجددون" أمين الخولي ص 12.

(5)

انظر: "مكتبة الجلال السيوطي"، أحمد الشرقاوي ص 146، وقد نشر جزء منه أمين الخولي في كتابه "المجددون".

ص: 17

ولأن مصطلح التجديد نشأ عن الحديث النبوي المروي في ذلك، فإن كتب الحديث التي خرّجت هذا الحديث وشروحها قد تضمنت طائفة من الآراء حول التجديد، ومن تلك الكتب كتاب سنن أبي داود (ت 275 هـ) وشروحه، وكتاب جامع الأصول لابن الأثير (544 - 606 هـ)، وكتاب الجامع الصغير للسيوطي وشروحه.

أما كتب التراجم والطبقات فقد كانت المجال الثاني الذي أبرز فيه السلف فكرتهم عن التجديد، وذلك عند تناولهم لسيرة أحد المجددين، ومن الأمثلة على ذلك كتاب ترجمة أبي الحسن الأشعري لابن عساكر (499 - 571 هـ) وعنوانه:"تبيِّين كذب المفتري فيما نسب إلى الإمام أَبو الحسن الأشعري"، وكتاب "طبقات الشافعية الكبرى" للسبكي (727 - 771 هـ)، وكتاب ترجمة الإمام الشافعي للإمام ابن حجر وعنوانه:"توالي التأسيس بمعالي ابن إدريس"، وكذلك قد ذكر أن زين الدين العراقي (725 - 806 هـ) قد تناول هذا الموضوع في ترجمته للغزالي في أول تخريجه لأحاديث كتاب "إحياء علوم الدين"(1).

وغني عن الذكر أن هذه الكتب والاقتباسات التي تضمها ليست هي المواضع الوحيدة التي أتيح فيها للسلف أن يتحدثوا عن التجديد، فقد مس بعضهم الموضوع مسًا عابرًا هنا وهناك في ثنايا كتاباتهم، ومن أمثلة ذلك ابن كثير (774 هـ) كتب سطورًا عن ذلك في كتابه "شمائل الرسول ودلائل النبوة". وقد كان هذا الاقتضاب في تناول هذه القضية هو الطابع العام لكتابات السلف عن التجديد، وأكثر كتاباتهم لا تتجاوز ورقات قليلة.

وكذلك كانت عنايتهم موجهة في المقام الأول إلى بيان آرائهم حول من يصلح أن يحوز لقب مجدد. وتذكر المصادر أن الاهتمام بهذه الناحية قد وجد منذ زمن مبكر عند السلف؛ فالإمام محمد بن مسلم بن شهاب الزهري (ت 124 هـ) مثلًا قد أبدى رأيه فيمن هو مجدد القرن الأول، وشاع عنه هذا الرأي حتى أنه ليعد من أوائل الذين أثاروا الاهتمام بهذا الأمر. والإمام أحمد بن حنبل (ت 241 هـ) يسوق مروياته لحديث التجديد بطرقها المختلفة، ثم يذكر من يرى أنه مجدد القرن الأول ومجدد القرن الثاني. وكل هذا يشعر أن الحديث كان

(1) انظر: "خلاصة الأثر" للمحبي 3/ 346.

ص: 18

مشهورًا في ذلك العصر (1).

وقد صح أيضًا أن حديث التجديد قد ذكر في مجلس أبي العباس ابن سريج من فقهاء الشافعية في القرن الثالث الهجري، فقام شيخ من أهل العلم من الحاضرين وأنشد بعض الأبيات، تضمنت أسماء مجددي القرن الأول والثاني والثالث. وتنشد هذه الأبيات نفسها في مجلس أبي عبد الله الحاكم (ت 405 هـ) وتضاف إليها أبيات أخرى تتضمن اسم مجدد القرن الرابع، ويجعل السبكي ذلك كله مطلعًا لقصيدة له من عشرين بيتًا نظم فيها أسماء المجددين (2).

ولعل ذلك ما حدا بالسيوطي لأن يؤلف أرجوزة صغيرة من ثمانية وعشرين بيتًا أسماها "تحفة المهتدين بأخبار المجددين"(3).

وهكذا وبالرغم من أن السلف قد تحدثوا قليلًا عن التجديد، إلا أننا نجد آراء لهم تمثل أغلب العصور الإسلامية، حتى أنه ليمكن القول إن هذه المسألة كانت في كل قرن من المسائل العلمية التي يدور عنها الحديث في مجالس العلماء، وأنها كانت أحد موضوعات بحثهم وكانوا يتداولون فيما بينهم الآراء عنها. وبمراجعة الأسماء التي ورد ذكرها فيما سبق ممن لهم آثار في هذا الموضوع، وأكثرهم من الأقلام المشهورة، يظهر كيف أنه لم يخل عصر ممن تناول هذه المسألة.

تعريف التجديد:

لا يمكن أن أسمي ما تجمَّع عندي من أقوال السلف عن معنى التجديد تعريفًا محددًا بالمعنى الاصطلاحي لكلمة تعريف. وإن كان هذا لا ينبغي أن يقلل من شأن النقول التي سيأتي ذكرها، والتي تلقي أضواء على تصورهم لماهية التجديد، كما هي عادتهم في كثير من المسائل، وإذا كان لهذه الظاهرة من تفسير

(1) هذا كلام ابن حجر ويزيد على ذلك قوله: "وفي ذلك تقوية للسند المذكور مع أنه قوي لثقة رجاله". وانظر: "ابن حجر" توالي التأسيس ص 48، والسبكي، "طبقات الشافعية الكبرى" 1/ 199.

(2)

انظر: السبكي "طبقات الشافعية " 1/ 201، 203.

(3)

انظر: المناوي "فيض القدير" 2/ 282؛ والمحبي "خلاصة الأثر" 3/ 344؛ وشمس الحق آبادي "عون المعبود" 11/ 394.

ص: 19

فلعل مرد ذلك أن معنى التجديد كان واضحًا في أذهانهم، ولم يختلط كما اختلط على بعضنا اليوم. فقضية تعريف التجديد وشرح معناها لم تنل عندهم الاهتمام الذي ناله تعداد المجددين وتسميتهم كما سبقت الإشارة إلى ذلك. فالسؤال الذي كان قائمًا في أذهانهم والذي تركزت كتاباتهم حول الإجابة عليه لم يكن ماهية التجديد، بقدر ما كان من المجدد لكل قرن. وإن كان من الممكن اعتبار تعداد المجددين نوعًا من التعريف للتجديد؛ لأن تعريف الشيء قد يكون بذكر خصائصه، وقد يكون بذكر أفراده؛ إلا أنه من الواضح أن بيان خصائص التجديد لا غنى عنه إذا أردنا أن يكون بين أيدينا تصور لا لبس فيه ولا غموض عن ماهية التجديد.

ولكن هذا لا يعني أن السلف أهملوا هذه الناحية تمامًا، فإن أقوالهم لم تغفل الإشارة إلى معنى التجديد، وإن كان ذلك يأتي أحيانًا عرضًا وفي ثنايا الكلام، ولم يطلق عليه أحد منهم أنه تعريف للتجديد. ولكن هذه الأقوال مع ذلك ذات قيمة كبيرة ويمكن بعد عرضها أن نخرج منها بفكرة يمكن اعتبارها نظرة السلف إلى حقيقة التجديد.

التجديد هو الإحياء والإعادة:

انتهت بنا المباحث الخاصة بأصل كلمة تجديد في اللغة، واستعمالات تلك الكلمة في القرآن والحديث إلى أن التجديد يعني في الأصل الإعادة، وعلى هذا يمكن المبادرة بالقول إن تجديد الدين هو إعادته إلى مثل الحالة التي كان عليها في أول عهده. هذا هو الإطار العام لمعنى التجديد. ومن عبارات السلف التي تبرز هذا المعنى المجمل للتجديد هذه العبارة: يقول أَبو سهل الصعلوكي (ت 387 هـ): "أعاد الله هذا الدين بعد ما ذهب -يعني: أكثره- بأحمد بن حنبل وأبي الحسن الأشعري وأبي نعيم الاستراباذي"(1). ونلمح من هذه العبارة أن الدين قد كان تامًّا ومكتملًا، ثم أخذ يعتريه النقص وذهب أكثره، فأعاده هؤلاء إلى قريب من حالته في عهد السلف الأول. وليس الحديث هنا عن مدى صدق هذه العبارة فيما تنسبه من إعادة الدين إلى هؤلاء الذين سمتهم، فإن الحديث عن

(1)"تبيين كذب المفتري" ابن عساكر ص 53.

ص: 20