المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الشافعي في مجال الاجتهاد والتشريع: - مفهوم تجديد الدين - جـ ١

[بسطامي محمد سعيد]

فهرس الكتاب

- ‌المقدمة

- ‌الباب الأول المفهوم السُّنِّي للتجديد

- ‌الفصل الأول تعريف التجديد وضوابطه

- ‌أصل كلمة التجديد:

- ‌تفصيل معنى التجديد:

- ‌ضوابط التجديد:

- ‌إحصاء المجددين:

- ‌الفصل الثاني نماذج من جهود المجددين

- ‌تمهيد:

- ‌الإصلاح السياسي والسعي لإعادة الخلافة الراشدة:

- ‌جهود عمر بن عبد العزيز:

- ‌الشافعي في مجال الاجتهاد والتشريع:

- ‌تصحيح الانحرافات:

- ‌جهود الأشعري:

- ‌الغزالي وتصحيح الانحرافات:

- ‌الباب الثاني مفاهيم التجديد الخاطئة

- ‌الفصل الأول مفهوم التجديد عند العصرانية في الغرب

- ‌ما العصرانية

- ‌الفرقة المتحررة في اليهودية:

- ‌التجديد العصراني للنصرانية:

- ‌الفصل الثاني مفهوم التجديد عند العصرانية في العالم الإسلامي

- ‌1 - الطبقة الأولى من المفكرين

- ‌تمهيد:

- ‌أبو العصرانية في العالم الإسلامي:

- ‌تجديد إقبال:

- ‌محمد عبده وتلامذته:

- ‌الفصل الثالث مفهوم التجديد عند العصرانية في العالم الإسلامي

- ‌2 - الطبقة الثانية من المفكرين

- ‌تمهيد:

- ‌محمد أسد: نسخة أوروبية لسيد خان

- ‌العصرانية وتطوير الدين:

- ‌سقطة كتاب "أين الخطأ

- ‌مفكرون آخرون:

- ‌الفصل الرابع إعجاب الغرب بالعصرانية في العالم الإسلامي

- ‌تمهيد:

- ‌شهادة التبشير:

- ‌الاستشراق يتفاءل بتطور الإسلام:

- ‌نظرة الإعلام الغربي:

- ‌أمريكا وتجديد الإسلام:

- ‌الباب الثالث العصرانية في ميزان النقد

- ‌الفصل الأول نقد المبادئ العامة

- ‌تمهيد:

- ‌فروض العصرانية الأساسية:

- ‌محاسن ومساوئ العصرانية في الغرب:

- ‌الفصل الثاني نقد المسائل التفصيلية

- ‌تمهيد:

- ‌من عقائد العصرانية:

- ‌منهج العصرانية في التفسير:

- ‌هل هناك منهج نقد حديث للسُّنَّة

- ‌الاجتهاد في أصول الفقه:

- ‌السُّنَّة التشريعية وغير التشريعية:

- ‌الثابت والمتغير في الإسلام:

- ‌نقد فقه العصرانية:

- ‌الخاتمة

- ‌قائمة المراجع

الفصل: ‌الشافعي في مجال الاجتهاد والتشريع:

خيلك تكاد تنقض بالأطواق الذهبية" (1).

ويكتب الغزالي لأحد الوزراء عن مدينته (طوس)، وكان هذا الوزير قد زارها، ولكن لم يكن لزيارته أثر في إصلاح الأحوال، وكانت تشكو من نقص المواد الغذائية وارتفاع الأسعار:

"اعلم أن هذه المدينة مدينة طوس أصبحت خرابًا بسبب المجاعات والظلم، ولما بلغ الناس توجهك من إسفرائين ودامغان خافوا وبدأ الفلاحون يبيعون الحبوب، واعتذر الظالمون إلى المظلومين واستسمحوهم لما كانوا يتوقعون من إنصاف منك واستطلاع للأحوال ونشاط في الإصلاح، أما وقد وصلت إلى طوس ولم ير الناس شيئًا فقد زال الخوف وعاد الفلاحون والخبازون إلى ما كانوا عليه من الغلاء الفاحش والاحتكار وتشجيع الظالمين. وكل من يخبرك من أخبار هذا البلد بخلاف ذلك فاعلم أنه عدو دينك"(2).

هذه جوانب من إصلاحات الغزالي السياسية، وهي تمثل أسلوبًا من أساليب العمل السياسي الذي قام به المجددون، وليس من هدف هذا البحث استقصاؤها والحكم عليها وبيان الأثر الذي خلفته، بل الغرض من إيرادها هو بيان أن السعي لإعادة الخلافة الراشدة كان يشكل أحد أركان التجديد عند السلف، وحسبنا من هذه الصفحات التي تناولت جهود اثنين من أشهر المجددين أن نكون قد خرجنا بتأكيد هذه الحقيقة.

‌الشافعي في مجال الاجتهاد والتشريع:

إن العمل التشريعي الذي يجعل الفقه الإسلامي مواكبًا لتطورات الزمان وملبيًا لحاجات البشر لا يمكن أن يتم إلا بتحقيق علمي خاص وجهد فكري كبير. وهذا العمل هو المعروف بالاجتهاد في المصطلح الإسلامي. وكلمة الاجتهاد معناها لغة: بذل الجهد واستنفاذه، والمراد اصطلاحًا: بذل الجهد واستنفاذه في استجلاء حكم الإسلام في قضية من قضايا الفقه الجزئية (3).

(1) رسائل الإمام الغزالي بالفارسية، نقلًا عن كتاب "رجال الفكر والدعوة" لأبي الحسن الندوي ص 237.

(2)

المصدر نفسه ص 238.

(3)

"مفاهيم حول الدين والدولة" المودودي، (دار القلم الكويت 1974 م) ص 147 =

ص: 64

والصلة بين الاجتهاد والتجديد صلة ظاهرة، ذلك أن تجديد الدين هو بعثه وإحياؤه، والاجتهاد هو بيان حكم الدين في أمور الحياة التي لم تكن معروفة من قبل. ففي كل عصر لابد أن تحدث أقضية وتطرأ مسائل لم يتبين حكم الدين فيها، فلابد للمجدد وهو يعيد الناس إلى دائرة الدين ويصبغ شؤونهم بصبغته، أن يتناول هذه المسائل بالنظر والتمحيص ويبين موقف الدين منها، ويقدم حلولًا للمشاكل، ويضع الضوابط والحدود التي تسمح للحياة من جهة بالتطور والتغير، والتي تجعل من جهة أخرى ذلك التغير داخلًا تحت موازين الدين وقيمه ومحكومًا بإطاره وتصوراته.

ولقد قدمنا فيما سبق أن السلف جعلوا من مميزات المجدد وصفاته البارزة أن يكون مجتهدًا، ومن الأئمة في هذا الشأن الإمام الشافعي مجدد المائة الثانية، ولهذا تصلح أن تكون جهوده في مجال الاجتهاد نموذجًا من جهود المجددين في هذه الناحية الهامة من نواحي التجديد.

وليست ميزة الشافعي التي رفعته لأن يعد مجدد المائة الثانية هي أنه حاز درجة الاجتهاد، وكان مؤسسًا لمذهب فقهي انتشر في آفاق الأرض، ولكن ميزة الشافعي الكبرى والخدمة الهامة التي خدم بها الدين هي ما قام به من جهود في ميدانين: تدوين أصول الفقه والدفاع عن السُّنَّة.

تدوين أصول الفقه:

إذا كان الفقه هو أحكام الدين التفصيلية لشؤون الحياة العملية، فإن أصول الفقه هي الأسس والقواعد التي ينبني عليها هذا الفقه، فلا يتصور وجود الفقه بدون هذه الأصول. ويمكن القول إن أصول الفقه هي عبارة عن مجموع أدلة الفقه الكلية، ومعرفة طرق اقتباس الأحكام منها، ومن يحق له هذا الاقتباس (1). وأدلة الفقه الكلية هي مصادر التشريع وحججه العامة، وهي إحدى أقسام مباحث علم أصول الفقه الذي يبين هذه المصادر والأدلة التي تثبت أنها حجة. والقسم الثاني من مباحث هذا العلم ينظر في كيفية الاستدلال لاستخراج الأحكام

= (بتصرف وزيادة)، وقد جمعت تعريفات الأصوليين للاجتهاد في "الاجتهاد" رسالة دكتوراه، سيد محمود موسى، طبعة دار الكتاب الحديثة ص 97 - 120.

(1)

"المحصول" الرازي ص 94.

ص: 65

التشريعية من هذه المصادر، وفي القسم الثالث يبحث عن أنواع هذه الأحكام وأقسامها ودرجة الإلزام فيها، ويبحث في الصيغ اللغوية للنصوص وكيفية فهم المراد منها، ويبحث في مراتب الأدلة وطرق الترجيح بين المتعارض منها، ويبحث عن مقاصد الشريعة العامة التي تسعى لتحقيقها، وتشكل البحوث ذات الصلة بالاجتهاد والمجتهد القسم الثالث من أقسام أصول الفقه (1).

وتتضح أهمية أصول الفقه من إلقاء السؤال التالي: ما حدود حرية البشر في التشريع؟ (2) إن من المسلم به باتفاق المسلمين كافة أن الحكم لله عز وجل ولا يجترئ أحد ممن يدعي الإسلام على غير ذلك (3)، فإذا كان الله عز وجل هو الحاكم وهو مصدر التشريع وأن لا حكم إلا منه تعالى، فمن المسلم به أيضًا أن البشر ليس لهم حق التشريع استقلالًا. وقد أظهر الله عز وجل أحكامه في نصوص الكتاب والسُّنَّة، ومهمة البشر الأولى أن يبذلوا أقصى ما عندهم من جهد في فهم هذه النصوص والأخذ منها مباشرة. أما ما لم يأت فيه نص فمهمة البشر الثانية أن يبذلوا أقصى ما عندهم من جهد لمعرفة حكم الله عز وجل، بواسطة الأمارات والدلائل التي جاءت بها النصوص. وتلك المهمة التي أوكلت للبشر مهمة خطيرة ودقيقة، فلابد والأمر كذلك من قواعد تضبط تشريع البشر وتبين طرق تفسير النصوص وتبحث في الأمارات والدلائل التي جاءت بها النصوص للاهتداء إلى كيفية التشريع بواسطتها، وهذه هي موضوعات بحث أصول الفقه.

وإذا أدركنا أهمية أصول الفقه أدركنا ضخامة المهمة التي نهض بها الإمام الشافعي، فقد كان رحمه الله أول من انبرى لهذا الأمر، فكان أول من جمع مباحث أصول الفقه، وضم شتاتها، ودونها في كتاب واحد، وجعلها علمًا مستقلًا. "وقد اتفق الناس أنه أول من صنَّف في أصول الفقه وهو الذي رتب أبوابها، وميَّز بعض أقسامها عن بعض، وشرح مراتبها في القوة والضعف"(4)، وذلك في كتابه المشهور "الرسالة". وسبب تأليف الشافعي لكتاب "الرسالة" هو أن

(1) انظر: "المستصفى" الغزالي 1/ 8.

(2)

راجع: "مفاهيم حول الدين والدولة" أبو الأعلى المودودي ص 145.

(3)

انظر: "فواتح الرحموت بشرح مسلم الثبوت بذيل المستصفى" للغزالي ص 25، و"أصول الفقه" عبد الوهاب خلاف ص 96، ط. دار القلم الكويت.

(4)

"مناقب الشافعي" الرازي ص 98.

ص: 66

عبد الرحمن بن مهدي (ت 198 هـ) -أحد أركان العلم بالحديث بالعراق- التمس وهو شاب من الشافعي أن يضع له كتابًا، يجمع فيه قبول الأخبار، وحجة الإجماع، وبيان الناسخ والمنسوخ من القرآن والسُّنَّة، فوضع له الشافعي كتاب "الرسالة" وبعثها إليه، فلما قرأها عبد الرحمن بن مهدي سر بها سرورًا شديدًا (1). ثم إن الشافعي حين خرج إلى مصر وقام بتنقيح كثير من كتبه أعاد تصنيف كتاب "الرسالة"(2)، وهذا التصنيف الهام هو الذي بين أيدينا اليوم (3).

ولعله يبرز سؤال هام هنا وهو: ما المصادر التي استقى منها الشافعي موضوعات هذا الكتاب؟

قد يخطر في بال بعض الناس أن الشافعي اخترع مسائل أصول الفقه من عند نفسه، وأنه هو الذي ابتدأ وضعها نتيجة تفكيره الخاص، ولكن هذا وهم وخطأ. يقول الرازي:"الناس كانوا قبل الشافعي رضي الله عنه يتكلمون في مسائل أصول الفقه ويستدلون ويعترضون"(4)، فموضوعات هذا العلم كان يتكلم فيها الناس قبل الشافعي، بل إن من علم حقيقة مباحث أصول الفقه، أدرك أنه لا مناص لكل من تعرض للاجتهاد أن تكون في ذهنه تلك المباحث؛ لأنها هي الطرق التي يسلكها المجتهد عند اجتهاده. يقول الزركشي:"إن الصحابة تكلموا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم في العلل"(5)، فمنذ عهد الصحابة كانت للاجتهاد طرق وقواعد وضوابط يسير عليها، سواء أفصح عنها المجتهد أم لم يفصح، وكثيرًا ما كان الفقهاء وبخاصة عند اعتراض بعضهم على بعض، ما يتكلمون في كيفية استدلالهم على آرائهم.

وإذا كان الأمر كذلك فقد كان إسهام الشافعي في أصول الفقه هو الجمع والتدوين، والتقسيم والترتيب والاستدلال لبعض مسائله، وصياغة بعض مصطلحاته، وهو عمل أنجز ببراعة تامة حازت على استحسان أهل عصره حتى

(1)"مناقب الشافعي" الرازي ص 98، و"مناقب الشافعي" للبيهقي 1/ 230.

(2)

"المناقب" البيهقي 1/ 234، و"الرازي" ص 102.

(3)

"الرسالة"، تحقيق: أحمد محمد شاكر ص 11 (مقدمة المحقق).

(4)

"مناقب الشافعي" الرازي ص 101.

(5)

"البحر المحيط" 5/ 206، نقلًا عن "مناهج الاجتهاد في الإسلام"، مذكور، ص 56، وانظر:"أصول الفقه" أبو زهرة ص 14.

ص: 67

قال أحمد بن حنبل عن كتاب "الرسالة": "إنه من أحسن كتبه"(1)، و"كل الذين كتبوا بعد ذلك في علم الأصول كانوا عيالًا على الشافعي؛ لأنه هو الذي فتح هذا الباب، والسبق لمن سبق"(2).

والمميزات والمؤهلات التي اجتمعت عند الشافعي حتى تمكن من القيام بعبء تدوين أصول الفقه، يتحدث عنها ابن حجر فيقول:"انتهت رياسة الفقه بالمدينة إلى مالك بن أنس فرحل إليه ولازمه وأخذ عنه، وانتهت رياسة الفقه بالعراق إلى أبي حنيفة فأخذ عن صاحبه محمد بن الحسن، فاجتمع له علم أهل الرأي وعلم أهل الحديث، فتصرف في ذلك حتى أصّل الأصول وقعّد القواعد"(3). وإذا ضممنا إلى ما قال ابن حجر أن الشافعى نشأ بمكة فكان عنده علم أهل مكة، وأنه كان بصيرًا باللغة العربية ومعرفته بها واسعة، حتى قال عنه علماء اللغة:"أنه ممن تؤخذ منه اللغة"(4) ويحتج به فيها، تبين لنا من ذلك كله المؤهلات التي هيأت الشافعي لتدوين أصول الفقه، فقد كان رحمه الله إمامًا في الحديث، إمامًا في الفقه، إمامًا في اللغة، ومن هذه العلوم كان استمداده لأصول الفقه (5).

وهذه بعض الموضوعات التي بحثها الشافعي في كتاب "الرسالة": القرآن ودرجات البيان فيه، السُّنَّة وحجيتها، خبر الواحد وحجيته، الإجماع، القياس، الاستحسان، الصحابة فضلهم وحجية أقوالهم، العام والخاص والمجمل والمفسر، الواجب والفرض والنهي، الناسخ والمنسوخ والاجتهاد والتقليد. ومن ذلك يتبين فضل الشافعي في ابتداء إنشاء علم أصول الفقه، ولم يكن للناس من بعده إلا التوسع في هذه المباحث وزيادة التبحر في دراستها وإضافة ما يتصل بها.

ولتتبين أكثر أهمية الكتاب هذه بعض الفقرات المقتبسة من كتاب "الرسالة"(6):

(1)"مناقب الشافعي" البيهقي 1/ 235.

(2)

"المناقب" الرازي ص 102.

(3)

"توالي التأسيس" ابن حجر ص 54.

(4)

"مناقب الشافعي" ابن أبي حاتم ص 136.

(5)

وانظر: "أصول الفقه" أبو زهرة ص 13.

(6)

من الصفحات 21، 22، 39، 475، 510.

ص: 68

يقول الشافعي عن الطرق لمعرفة أحكام الله عز وجل:

1 -

فمنها ما أبانه لخلقه نصًا، مثل جمل فرائضه من أن عليهم صلاة، وزكاة وحجًا وصومًا، وأنه حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن، ونص على الزنا والخمر وأكل الميتة، والدم ولحم الخنزير، وبيَّن لهم كيف فرض الوضوء مع غير ذلك مما بيَّن نصًا. . .".

2 -

"ومنه ما أحكم فرضه بكتابه، وبيَّن كيف هو على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم، مثل عدد الصلاة، والزكاة ووقتها، وغير ذلك من فرائضه التي أنزل في كتابه".

3 -

"ومنه ما سن رسول الله صلى الله عليه وسلم مما ليس لله فيه نص حكم، وقد فرض الله في كتابه طاعة رسوله صلى الله عليه وسلم والانتهاء إلى حكمه، قال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} [النساء: 59] وقال و {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء: 80]. . . وذكر آيات في معنى ذلك. . . ثم قال: "فمن قبل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فبفرض الله قبل"".

4 -

"ومنه ما فرض على خلقه الاجتهاد في طلبه وابتلى طاعتهم في الاجتهاد كما ابتلى طاعتهم في غيره مما فرض الله عليهم".

ويلخص ذلك في كلمة جامعة فيقول:

"فليس لأحد أبدًا أن يقول في شيء حل أو حرم إلا من جهة العلم، وجهة العلم الخبر في الكتاب والسُّنَّة، أو الإجماع أو القياس".

ويقول عن الإجماع محتجًا بأمر النبي صلى الله عليه وسلم بلزوم جماعة المسلمين ويكتب في ذلك في شكل مناظرة بينه وبين خصم.

"قال الخصم: فما معنى أمر النبي صلى الله عليه وسلم بلزوم جماعتهم؟

قلت: لا معنى له إلا واحد.

قال: فكيف لا يحتمل إلا واحدًا

قلت: إذا كانت جماعتهم متفرقة في البلدان فلا يقدر أحد أن يلزم جماعة أبدان قوم متفرقين، وقد وجدت الأبدان تكون مجتمعة من المسلمين والكافرين والأتقياء والفجار، فلم يكن للزوم جماعتهم معنى، إلا ما عليه جماعتهم من التحليل والتحريم والطاعة فيهما، ومن قال بما تقول به جماعة المسلمين فقد لزم جماعتهم، ومن خالف ما تقول به جماعة المسلمين فقد خالف جماعتهم التي

ص: 69

أمر بلزومها، وإنما تكون الغفلة في الفرقة، فأما الجماعة فلا يمكن فيها كافة غفلة عن معنى كتاب الله تعالى ولا سُنَّة ولا قياس إن شاء الله".

ويقول عن القياس:

"ولا يكون لأحد أن يقيس حتى يكون عالمًا بما مضى قبله من السنن، وأقاويل السلف، وإجماع الناس واختلافهم، ولسان العرب، ولا يكون له أن يقيس حتى يكون صحيح العقل، وحتى يفرق بين المشتبه، ولا يعجل بالقول به دون التثبيت، ولا يمتنع من الاستماع ممن خالفه؛ لأنه قد يتنبه بالاستماع لترك الغفلة ويزداد به تثبيتًا فيما اعتقد من الصواب، وعليه في ذلك بلوغ غاية جهده والإنصاف من نفسه، حتى يعرف من أين قال ما يقول وترك ما يترك".

وعلى هذا المنوال تسير بحوث "الرسالة" القيمة، فجزى الله الإمام الشافعي خير الجزاء عما أسدى لهذه الأمة، من بيان طرق الاجتهاد ومناهج الاستنباط التي هي من عوامل بقاء هذا الدين حيًا متجددًا صالحًا لكل زمان.

الشافعي ناصر السُّنَّة:

قال الشافعي عن نفسه: "سميت ببغداد ناصر السُّنَّة"(1).

وقال أحمد بن حنبل: "رحم الله الشافعي لقد كان يذب عن الآثار"(2).

وقال أبو زرعة: "ما أعلم أحدًا أعظم منة على الإسلام في زمن الشافعي من الشافعي، ولا أحد ذب عن سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل ما ذب الشافعي، ولا أحد كشف عن سوءات القوم مثل ما كشفه"(3).

هذه بعض الشهادات التي تشير إلى ما اشتهر به الشافعي من نصرة السُّنَّة والدفاع عنها، حتى عرف بلقب "ناصر السُّنَّة". وهذا هو الميدان الثاني الذي برزت فيه جهود الشافعي التجديدية، وقد كانت جهوده في هذا المجال تتمثل في تصديه للانحرافات التي تعرضت لها السُّنَّة في عصره، فذب عنها وكشف أخطاء المنحرفين، كما كانت أيضًا تتمثل في نصرته للاتجاه الفقهي الذي يعتمد على الآثار والسنن ولا يشتط في الاعتماد على الرأي.

(1)"مناقب الشافعي" البيهقي 1/ 472.

(2)

المصدر نفسه 1/ 471.

(3)

المصدر نفسه 2/ 279.

ص: 70

وقد ظهرت في عصر الشافعي ثلاثة انحرافات في مجال السُّنَّة، انحراف يرى أن الحجة في القرآن وحده وينكر أن تكون السُّنَّة مصدرًا من مصادر التشريع، والانحراف الثاني ينكر أن تستقل السُّنَّة بتشريع الأحكام ولا يقبل من السُّنَّة إلا إذا كان في معناها نص صريح من القرآن، والانحراف الثالث يقبل من السُّنَة فقط ما كان متواترًا، أما ما كان خبر آحاد فلا يرى فيه حجة (1).

وقد تصدى الشافعي لهذه الانحرافات بلسانه وقلمه "وكان والله لسانه أكثر من كتبه"(2). أما الانحراف الأول فقد جاء في كتابه جماع العلم تحت عنوان: "باب حكاية الطائفة التي ردت الأخبار كلها"(3) إثبات مناظرة جرت بينه وبين أحد المنتسبين إلى العلم المنتمين لهذه الطائفة، اشتملت على الشبهات التي أثارتها هذه الطائفة واحتجاج الشافعي على إبطالها وبيان حجية السُّنَّة. وفي الكتاب نفس أيضًا (4) تعرّض تحت عنوان:"باب حكاية قول من رد خبر الخاصة" -يعني: بخبر الخاصة خبر الواحد- إلى هذا الانحراف وساق الدليل بعد الدليل على أن خبر الواحد حجة.

وفي مباحث كتاب الرسالة تعرض لهذه الانحرافات وأطال في نقدها وبيان شذوذها، ودافع بالبراهين عقلًا ونقلًا على أن السُّنَّة كلها حجة متواترها وآحادها، وأن ما سن رسول الله صلى الله عليه وسلم مما ليس لله عز وجل فيه حكم فبحكم الله سنّه، وأنه قد "سنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم مع كتاب الله عز وجل، وسنَّ فيما ليس فيه بعينه نص كتاب، وكل ما سنَّ فقد ألزمنا الله اتباعه، وجعل في اتباعه طاعته، وفي العُنُود (*) عن اتباعه معصيته، التي لم يعذر بها خلقًا، ولم يجعل له من اتباع سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم مخرجًا"(5).

وببيان قوي وأسلوب رصين استطاع الشافعي أن يصد الهجوم على السُّنَّة،

(1) كتاب "جماع العلم في كتاب الأم" للشافعي 7/ 250، و 254، وكتاب "الرسالة" ص 369، و"السُّنَّة" للسباعي ص 128، و"تاريخ المذاهب الإسلامية" أبو زهرة 2/ 258، ط. دار الفكر العربي.

(2)

"مناقب الشافعي" البيهقي 2/ 274.

(3)

"الأم" الشافعي 7/ 250.

(4)

المصدر نفسه 7/ 254.

(5)

انظر: "الرسالة" الشافعي ص 88 وما بعدها.

(*) قال مُعِدُّ الكتاب للشاملة: في لسان العرب: «عَنَدَ الرجلُ يَعْنُد عَنْداً وعُنُوداً وعَنَداً: عَتَا وطَغَا وجاوزَ قَدْرَه. . . . وعنَدَ عَنِ الْحَقِّ وَعَنِ الطَّرِيقِ يَعْنُدُ ويَعْنِدُ: مالَ»

ص: 71