المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌محمد عبده وتلامذته: - مفهوم تجديد الدين - جـ ١

[بسطامي محمد سعيد]

فهرس الكتاب

- ‌المقدمة

- ‌الباب الأول المفهوم السُّنِّي للتجديد

- ‌الفصل الأول تعريف التجديد وضوابطه

- ‌أصل كلمة التجديد:

- ‌تفصيل معنى التجديد:

- ‌ضوابط التجديد:

- ‌إحصاء المجددين:

- ‌الفصل الثاني نماذج من جهود المجددين

- ‌تمهيد:

- ‌الإصلاح السياسي والسعي لإعادة الخلافة الراشدة:

- ‌جهود عمر بن عبد العزيز:

- ‌الشافعي في مجال الاجتهاد والتشريع:

- ‌تصحيح الانحرافات:

- ‌جهود الأشعري:

- ‌الغزالي وتصحيح الانحرافات:

- ‌الباب الثاني مفاهيم التجديد الخاطئة

- ‌الفصل الأول مفهوم التجديد عند العصرانية في الغرب

- ‌ما العصرانية

- ‌الفرقة المتحررة في اليهودية:

- ‌التجديد العصراني للنصرانية:

- ‌الفصل الثاني مفهوم التجديد عند العصرانية في العالم الإسلامي

- ‌1 - الطبقة الأولى من المفكرين

- ‌تمهيد:

- ‌أبو العصرانية في العالم الإسلامي:

- ‌تجديد إقبال:

- ‌محمد عبده وتلامذته:

- ‌الفصل الثالث مفهوم التجديد عند العصرانية في العالم الإسلامي

- ‌2 - الطبقة الثانية من المفكرين

- ‌تمهيد:

- ‌محمد أسد: نسخة أوروبية لسيد خان

- ‌العصرانية وتطوير الدين:

- ‌سقطة كتاب "أين الخطأ

- ‌مفكرون آخرون:

- ‌الفصل الرابع إعجاب الغرب بالعصرانية في العالم الإسلامي

- ‌تمهيد:

- ‌شهادة التبشير:

- ‌الاستشراق يتفاءل بتطور الإسلام:

- ‌نظرة الإعلام الغربي:

- ‌أمريكا وتجديد الإسلام:

- ‌الباب الثالث العصرانية في ميزان النقد

- ‌الفصل الأول نقد المبادئ العامة

- ‌تمهيد:

- ‌فروض العصرانية الأساسية:

- ‌محاسن ومساوئ العصرانية في الغرب:

- ‌الفصل الثاني نقد المسائل التفصيلية

- ‌تمهيد:

- ‌من عقائد العصرانية:

- ‌منهج العصرانية في التفسير:

- ‌هل هناك منهج نقد حديث للسُّنَّة

- ‌الاجتهاد في أصول الفقه:

- ‌السُّنَّة التشريعية وغير التشريعية:

- ‌الثابت والمتغير في الإسلام:

- ‌نقد فقه العصرانية:

- ‌الخاتمة

- ‌قائمة المراجع

الفصل: ‌محمد عبده وتلامذته:

ينبغي لنا أن نقرر أيضًا أن لحظة ظهور الأفكار الحرة في الإسلام هي من أدق اللحظات في تاريخه. . . فحرية الفكر من شأنها أن تنزع إلى أن تكون من عوامل الانحلال. أضف إلى هذا أن زعماء الإصلاح في الدين والسياسة قد يجاوزون في تحمسهم لتحرير الفكر الحدود الصحيحة للإصلاح إذا انعدم ما يكبح جماح حميتهم الفتية. . . إنه ينبغي ألا ننسى أن الوجود ليس تغيرًا صرفًا فحسب، ولكنه ينطوي أيضًا على عناصر تنزع إلى الإبقاء على القديم. . . فليس في استطاعة أمة أن تتنكر لماضيها تنكرًا تامًا لأن الماضي هو الذي كيف شخصيتها الحاضرة". .

‌محمد عبده وتلامذته:

كثيرة هي الأقلام التي تناولت الشيخ محمد عبده (1226 - 1323 هـ / 1849 - 1905 م) بالدراسة، وبالنقد والتمحيص لآرائه وأفكاره، وقد بلغت إصلاحاته وآراؤه من الشهرة والذيوع ما يغني عن الدخول في تفصيلاتها. إنما نهتم هنا بالاتجاهات العصرانية عند محمد عبده، والتي تظهر في كتاباته، وبالأخص في تفسيره لبعض الآيات، وفي فتاواه، مما يجعل مدرسته الفكرية تضاهي وتشابه في بعض نواحيها مدرسة سيد أحمد خان في الهند، حتى إن تلميذه رشيد رضا لا يخفي إعجابه بمقالة نشرتها في ذلك الوقت جريدة الرياض الهندية عنوانها "هل ولد السيد أحمد خان ثانية بمصر وظهرت جريدته تهذيب الأخلاق بشكل المنار"(1).

ففي منهجه لتفسير القرآن تتجلى واضحة النزعة إلى تفسير القرآن تفسيرًا يتناسب مع المعارف الغربية السائدة في العصر (2)، ومن الأمثلة المشهورة لذلك تفسيره لقوله تعالى في سورة الفيل:{وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ (3) تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ (4)} [الفيل: 3، 4]، بأنها جراثيم الجدري أو الحصبة يحملها نوع من الذباب أو البعوض (3). وتفسيره لقوله تعالى:{وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ (4)} [الفلق: 4] بأن المراد هنا "النمامون المُقَطِّعون لروابط الألفة"، "لأن

(1)"تاريخ الإمام محمد عبده" رشيد رضا 1/ 716.

(2)

انظر لتفصيل ذلك: "التفسير والمفسرون" الذهبي 3/ 233 - 242، و"منهج الإمام محمد عبده في تفسير القرآن" عبد الله شحاتة ص 83 - 135.

(3)

"الأعمال الكاملة لمحمد عبده" جمع وتحقيق: محمد عمارة 5/ 529.

ص: 142

السحرة المشعوذين يزعمون أنهم يقطعون الأواصر حتى بين المرء وزوجه بسحرهم". وقد اضطره لهذا التفسير إنكاره أن يكون السحر حقيقة ملموسة، بل هو عنده نوع من الأساليب الماكرة، وضروب من الحيل الخفية، ويأول ما جاء في القرآن عن السحر بأنه من قبيل "التمثيل"، ويرد الأحاديث الصحيحة فيه (1). وفي بعض فتاوى محمد عبده نجد محاولة لتأويل أحكام الفقه تأويلًا يتلاءم مع أهواء الحضارة الغربية، وتسويغ واقعها، ومن أهم فتاواه في ذلك حل إيداع الأموال في صندوق التوفير وأخذ الفائدة عليها (2). وفي مقالة له عن تعدد الزوجات تحدث عن تاريخ التعدد عند الشعوب الأخرى، وعند العرب قبل الإسلام، وأن الإسلام قد خفف من العادة العربية في الإكثار من الزوجات، ووقف عند الأربعة رحمة بالنساء من ظلم الجاهلية، ولكنه يرى الآن للظروف والملابسات السائدة في المجتمع، ولاستحالة العدل بين النساء فلابد من منع تعدد الزوجات، إلا في حالات استثنائية يقررها القاضي (3).

وهكذا نلمح عند محمد عبده بعض ملامح المنهج العصراني، من صرف القرآن عن غير معانيه الظاهرة أحيانًا بحجة أنها تمثيل وتصوير، ورده للسُّنَّة الصحيحة أحيانًا لمعارضتها ما يظن أنه علوم العصر، واستخدام المنهج التاريخي لمعالجة قضايا وأحكام الشريعة وربطها بظروف وملابسات مؤقتة. وإذا كانت هذه النزعات عند محمد عبده نزعات ضعيفة ومصغرة، ربما بحكم ثقافته الأزهرية، إلا أنها قد تركت آثارها في تلامذته من بعده فتضخمت في مجموعة منهم وصارت مضاعفة مكبرة، ومن هؤلاء قاسم أمين وعلي عبد الرازق.

قاسم أمين (4): سفور المرأة باسم الدين:

القضية الأساسية التي نذر لها قاسم أمين (1863 - 1908 م) حياته، هي

(1)"الأعمال الكاملة لمحمد عبده" جمع وتحقيق: محمد عمارة 5/ 566.

(2)

"تاريخ الإمام محمد عبده" 3/ 84.

(3)

المصدر نفسه 2/ 90 - 95.

(4)

ولد قاسم أمين من أب تركي وأم مصرية وتلقى تعليمه الابتدائي في مدرسة خاصة بأبناء الأثرياء ثم التحق بالقسم الفرنسي في المرحلة التالية وبعدها درس الحقوق وعمل بالمحاماة ثم سافر في بعثة دراسية لفرنسا وبعد عودته التحق بالقضاء المدني.

ص: 143

قضية المرأة، فقد أراد لها أن تتحرر من تقاليدها الماضية وتقتدي بالمرأة الغربية، وقد كان ذلك هو محور آرائه في كتابيه "تحرير المرأة" و"المرأة الجديدة"، فقد أعلن بلا مواراة أن التمسك بالماضي هو من الأهواء التي يجب أن ينهض الجميع لمحاربتها؛ لأنه ميل يجر إلى التدني والتقهقر وأنه هو الداء الذي تلزم المبادرة إلى علاجه، وليس له من دواء إلا معرفة شؤون المدنية الغربية والوقوف على أصولها وفروعها وآثارها، وهو مؤمن أن الغربيين قد وصلوا إلى درجة رفيعة من الأدب والتربية مثل ما أنهم متقدمون في العلوم والصنائع، ومسألة حقوق المرأة وحريتها عند الغرب ليست في نظره مجرد عادة اجتماعية بل هي مسألة علمية، والحقيقة أنهم درسوها -كما يقول- درسًا تامًا كغيرها من المسائل الاجتماعية، إذ يصعب على العقل أن يظن أن علماءهم الذين يجهدون أنفسهم في اكتشاف أسرار الطبيعة يغفلون عن هذه المسألة أو يهملونها، وهذا هو السبب الذي جعله يضرب الأمثال بالأوروبيين ويشيد بتقليدهم، وحمله على أن يستلفت الأنظار إلى المرأة الأوروبية لأن المدنية الإسلامية "ولا يقول الدين الإسلامي"، أخطأت في فهم طبيعة المرأة وتقدير شأنها (1).

وهذا الإيمان العميق عند قاسم أمين بحضارة الغرب وقيمها وآدابها ليس أمرًا مستغربًا ولا مثيرًا للدهشة، بل هو الثمرة الطبيعية لثقافته الغربية البحتة ودراساته في فرنسا، ولكن الأمر الذي يستلفت النظر هو أنه دعا المرأة المسلمة لأن تقلد المرأة الغربية في كل شؤون حياتها، وحبذ لها أن إسلامها ودينها لا يعارض هذا التقليد. ومع أنه يعترف بقلة بضاعته في الثقافة الإسلامية؛ وأنه قليل الاطلاع على ما كتبه المسلمون قصير الباع في علومهم (2)، ومع أنه يقول عن نفسه "لست أحب الخوض في حديث عن الدين لأسباب تتعلق بطبيعتي الخاصة وبحرصي على مراعاة اللياقة العامة"(3)، وكلنا يفهم مغزى هذا الاعتراف، إلا أنه مع ذلك ناقش أمهات المسائل الدينية الخاصة بالمرأة من الحجاب والطلاق وتعدد الزوجات وتعليم المرأة وعملها، وكانت المهمة الصعبة أمامه هي أن يوفق

(1)"المرأة الجديدة" قاسم أمين، "الأعمال الكاملة"، تحقيق: محمد عمارة 2/ 203 - 221.

(2)

المصدر نفسه ص 210.

(3)

المصريون، "الأعمال الكاملة" لقاسم أمين 1/ 296.

ص: 144

بين الآراء الغربية وبين الشرع، وقد فعل ذلك ببساطة تثير العجب باستخدام مبدأين مفضلين لدى العصرانيين: المبدأ الأول أنه يرى أن أحكام الشرع في هذه المسائل ليست أحكامًا ثابتة؛ بل هي أحكام متغيرة مع الزمان والمكان، ويشرح ذلك في هذه العبارة:

"الشريعة الإسلامية إنما هي كليات وحدود عامة، ولو كانت تعرضت إلى تقرير جزئيات الأحكام لما حق لها أن تكون شرعًا يمكن أن يجد فيه كل زمان وكل أمة ما يوافق مصالحهما"؛ ثم يقول: "فالأحكام المبنية على ما يجري من العوائد والمعاملات فهي قابلة للتغيير على حسب الأحوال والأزمان، فتبين لنا من ذلك أن لنا في مأكلنا ومشربنا وجميع شؤون حياتنا العمومية والخصوصية في أن نتخير ما يليق بنا ويتفق مع مصالحنا بشرط ألا نخرج عن تلك الحدود العامة"(1).

واستنادًا على هذا المبدأ الموسع الفضفاض يرى أن الإسلام يمكن أن يتلاءم ببساطة مع كل التطورات (2)، ويقول مع أنه من المهم أن نلتفت إلى التمدن الإسلامي القديم ونرجع إليه، ونقف على ظواهره وخفاياه لأنه يحتوي على كثير من أصول حالتنا الحاضرة، ولكن من الخطأ أن ننسخ منه صورة ونحتذي مثال ما كان فيه سواء بسواء؛ لأن كثيرًا من ظواهر هذا التمدين لا يمكن أن يدخل في نظام معيشتنا الحالية (3).

والمبدأ الثاني الذي يستخدمه قاسم أمين هو "أن أقوال النبي (4) لا تشكل كلها جزءًا من الدين، فمن الطبيعي أن ننحي من هذه الأقوال تلك المحادثات الأليفة والنصائح الخلقية والحكم الفلسفية، التي لا تشكل التزامات وواجبات دينية، كما يجب أن ننحي أيضًا كل ما لا علاقة له بالفقه والتشريع، وتبقى بعد ذلك الأحاديث القليلة التي تفسر أو تكمل التوجيهات التي يتضمنها القرآن الكريم، بعد تحقق جاد من روايتها، أو بملاحظة مطابقتها مع نص القرآن أو روحه"(5).

(1) تحرير المرأة، المصدر نفسه 2/ 111.

(2)

المصريون، المصدر نفسه 1/ 328.

(3)

"الأعمال الكاملة" 2/ 203 - 206 (تحرير المرأة).

(4)

صلوات الله وسلامه عليه.

(5)

"الأعمال الكاملة" 1/ 326 (المصريون).

ص: 145

وتحت مظلة هذين المبدأين دعا المرأة إلى ترك الحجاب "لأن الكل متفقون على أن حجاب النساء هو سبب انحطاط الشرق، وإن عدم الحجاب هو السر في تقدم الغرب"(1). ودعاها إلى الاختلاط "لأن نساء العرب ونساء القرى المصرية مع اختلاطهن بالرجال على ما يشبه الاختلاط في أوروبا تقريبًا، أقل ميلًا للفساد من ساكنات المدن اللائي لا يمنعهن الحجاب عن مطاوعة الشهوات والانغماس في المفاسد، وهذا مما يحمل على الاعتقاد بأن المرأة التي تخالط الرجال تكون أبعد عن الأفكار السيئة عن المرأة المحجوبة"(2). ودعا إلى تعليم وعمل المرأة المسلمة تمامًا مثل الغربية، وشجعها على تعلم الموسيقى والرسم والتصوير وعاب على "من يعدها من الملاهي التي تنافي الحشمة والوقار"، وتحسر أنه "ترتب على هذا الوهم الفاسد انحطاط درجة هذه الفنون في بلادنا إلى حد يأسف عليه كل من عرف ما لها من الفائدة في ترقية أحوال الأمم"(3).

وفي مسألة الطلاق دعا إلى تقييد الطلاق بسلسلة من الإجراءات، واقترح أن يعتبر الطلاق غير صحيح إلا إذا وقع أمام القاضي (4). وتعدد الزوجات في نظره ". . احتقار شديد للمرأة، وأنه ليجمل برجال هذا العصر أن يقلعوا عن هذه العادة من أنفسهم، ولا أظن أن أحدًا من أهل المستقبل يأسف على تركها"(5).

هذه بعض "أبواب الإصلاح" التي طرقها قاسم أمين باسم الشرع والدين، ونحن الآن بعد قرابة القرن من صدور كتابيه (6) يمكننا بالنظر في أحوال المرأة المصرية وأوضاعها الراهنة، أن نتبين ونلمس كيف كانت دعوته "إصلاحًا" لعقول النساء للإلقاء بأنفسهن طائعات في طوفان الحضارة الغربية.

علي عبد الرازق: شرعية فصل الدين عن الدولة:

من الأفكار الرئيسية في الحضارة الغربية المعاصرة فكرة فصل الدين عن

(1)"الأعمال الكاملة" 2/ 220 (المرأة الجديدة).

(2)

المصدر نفسه 2/ 59 (تحرير المرأة).

(3)

المصدر نفسه 2/ 199 (المرأة الجديدة).

(4)

المصدر نفسه 2/ 104 (تحرير المرأة).

(5)

المصدر نفسه 2/ 90 - 94 (تحرير المرأة).

(6)

صدر كتاب "المرأة الجديدة" في 1900 م، وتحرير المرأة قبله بعام.

ص: 146

الدولة، وبعد إلغاء الخلافة الإسلامية في تركيا بعام واحد؛ أي: في عام (1344 هـ / 1925 م) صدر في القاهرة كتاب مشهور بعنوان: "الإسلام وأصول الحكم" لأحد علماء الأزهر الشيخ علي عبد الرازق، مستمدًا نفس الفكرة الغربية الفصل بين الدين والدولة (1)، لا ليدافع عنها من ناحية علمانية بحتة ولكن ليضفي عليها الشرعية الإسلامية، وليعتبرها أحد أفكار الإسلام الجوهرية. والطريقة التي اتبعها علي عبد الرازق لإدخال هذه الفكرة الغربية في الإسلام، وإلباسها الزي الإسلامي بتأويل أحكام الكتاب والسُّنَّة والفقه، تضع كتاب هذا العالم الأزهري في قمة إنتاج فكر العصرانية.

وعلي عبد الرازق درس بالأزهر وحصل على العالمية منه، وتلقى محاضرات في تاريخ الأدب العربي وتاريخ الفلسفة في الجامعة المصرية على يد بعض المستشرقين، ثم سافر إلى إنجلترا ليكمل دراسته في جامعة أكسفورد، ولكنه لنشوب الحرب العظمى عاد إلى وطنه واشتغل بالقضاء الشرعي (2). ولم يكن علي عبد الرازق تلميذًا مباشرًا لمحمد عبده، ولكنه كان أثرًا من آثار النزعة الحرة في مدرسته.

والفكرة الأساسية التي يدور حولها كتابه "إن الخلافة نظام تعارف عليه المسلمون تاريخيًا وليس في أصول الشريعة ما يلزم به، وقد تصدى لهذه الفكرة كتاب قبله أصدرته حكومة الكمالين وهو كتاب "الخلافة وسلطة الأمة". فكتاب علي عبد الرازق لا يكاد المرء يظفر فيه بفكرة جديدة، ولكن الكتاب يمتاز بجمال الأسلوب أكثر من امتيازه بالتزام المنهج العلمي، وخطورته ترجع إلى الظروف التي أحاطت بظهوره، كما ترجع إلى جرأته وعنفه في مصادمة عواطف الناس وفي تحدي مشاعرهم، وفي التشكيك الساخر أحيانًا فيما تطمئن إليه نفوسهم، دون أن يقدم الأدلة القوية الواضحة على ما يذهب إليه من مزاعم تخرج عن المألوف (3).

والكاتب يجيد "الروغان" حول الآيات والأحاديث، وهو أكثر مهارة في

(1) انظر: "الفكر الإسلامي وصلته بالاستعمار الغربي" محمد البهي ص 265.

(2)

"الإسلام والتجديد في مصر" تشالز آدمز، ترجمة: عباس محمود ص 252.

(3)

"الاتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر" محمد محمد حسين 2/ 86.

ص: 147

"الروغان" من آرائه التي يعلنها بنفسه حتى ولو خطتها يمينه. ومن أطرف ما يمكن أن يقرأ دفاعه عن نفسه عند محاكمته، ووصمه الناس بعدم فهم مقاصد كلامه ومعانيه، ثم ما نشره بعد ذلك في الصحف دفاعًا عن "دفاعه"، عندما اتهم بالتردد والرجوع عن آرائه أمام المحكمة (1).

والنتيجة التي انتهى إليها علي عبد الرازق يلخصها في خاتمة الكتاب بهذه الكلمات "إن الدين الإسلامي بريء من تلك الخلافة التي يتعارفها المسلمون، وأنها ليست في شيء من الخطط الدينية. . . كلا ولا القضاء ولا غيرهما من وظائف الحكم ومراكز الدولة، وإنما تلك كلها خطط سياسية صرفة لا شأن للدين بها فهو لم يعرفها ولم ينكرها ولا أمر بها ولا نهى عنها، وإنما تركها لنا لنرجع فيها إلى أحكام العقل وتجارب الأمم وقواعد السياسة"(2).

يناقش علي عبد الرازق ما يورد من أدلة على الخلافة من آيات القرآن، فيذهب إلى أن معناها أوسع وأعم من أن يقصد به الخلافة، وأما ما ورد من الأحاديث في شأن الإمامة والبيعة والجماعة وغيرها، فهي لا تصلح دليلًا لأولئك الذين يتخذون الخلافة عقيدة شرعية، وحكمًا من أحكام الدين، إذ هي لا تدل على أكثر مما دل عليه ذكر المسيح لبعض الأحكام الشرعية عن حكومة قيصر، ثم يناقش دليل الإجماع من أن المسلمين منذ عهد الصحابة إلى يومنا هذا أجمعوا على وجوب نصب خليفة، فيورد أن الخلافة الإسلامية كانت منذ عهد أبي بكر الصديق إلى هذا اليوم عرضة للخارجين عليها المنكرين لها. ولحركة المعارضة هذه تاريخ كبير جدير بالاعتبار، وأنها أحيانًا كانت تتخذ شكلًا قويًا مما جعل الخلافة لا ترتكز إلا على أساس القوة الرهيبة والبطش، فهل بعد هذا يمكن أن يدعى الإجماع عليها؟ (3).

ثم يقول: "إن يكن الفقهاء أرادوا بالإمامة والخلافة ذلك الذي يريده علماء السياسة بالحكومة كان صحيحًا ما يقولون، من أن إقامة الشعائر الدينية وصلاح

(1) راجع: النصوص الكاملة للمحاكمة ودفاعه في الدراسة التي قدم بها محمد عمارة لكتابه "الإسلام وأصول الحكم". .

(2)

"الإسلام وأصول الحكم" ص 182.

(3)

المصدر نفسه ص 121 - 134.

ص: 148

الرعية يتوقفان على الخلافة، بمعنى الحكومة في أي صورة كانت الحكومة ومن أي نوع، مطلقة أو مقيدة، فردية أو جمهورية، استبدادية أو دستورية، ديمقراطية أو اشتراكية أو بلشفية" (1).

ويؤكد علي عبد الرازق أن زعامة الرسول صلى الله عليه وسلم كانت زعامة دينية وولاية روحية، لا شأن لها بالحكم والسياسة. وأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يسع إلى تأسيس دولة. وأن كثيرًا من أعمال الحكومات ووظائفها الأساسية لم يكن موجودًا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وأن بعض ما يشبه أن يكون في السيرة النبوية من مظاهر الحكومة السياسية وآثار السلطة، كان فقط وسيلة لجأ إليها النبي صلى الله عليه وسلم تأييدًا للدعوة وتثبيتًا للدين (2).

ثم يدرس الشيخ علي الخلافة والحكومة في التاريخ الإسلامي، ليقرر أن الإسلام نظام ديني لا صلة له بأنظمة السياسة، وأن ما تعارف عليه المسلمون من نظام للحكم فهو مسألة تاريخية لا دخل للدين بها، وأن دولة العرب قامت كما قامت من قبلها دول وقامت من بعدها دول، ولهذا لا شيء في الدين يمنع المسلمين من أن يهدموا نظام الخلافة، ذلك النظام العتيق الذي ذلوا له واستكانوا وصور لهم الخطأ والوهم أنه من الدين، وأن يبنوا نظام حكومتهم على ضوء تجارب الأمم الأخرى وما أنتجته العقول البشرية في علوم الاجتماع والسياسة (3).

والذي يرمي إليه علي عبد الرازق هو أن يأخذ المسلمون نظم الغرب السياسية ويؤسسوا حكمهم عليها، ولكن أخطر ما في الأمر والذي أثار الضجة العالية عن الكتاب هو أنه لم يدع إلى ذلك بالصراحة التي ينادي بها دعاة التغريب والعلمانيون، وإنما قدم دعوته في قالب الإسلام، وغلفها بغلاف الشرع، واحتج عليها بحجج دينية، وتلك هي العصرانية في صورة من أوضح صورها، وبوجه من أكثر وجوهها سفورًا وبروزًا.

(1)"الإسلام وأصول الحكم" ص 135.

(2)

المصدر نفسه ص 139 - 167.

(3)

المصدر نفسه ص 174 - 182.

ص: 149