الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أصول الديانة" وهو من آخر كتبه تأليفًا ونكتفي منه بهذا الاقتباس:
"فإن قال قائل: قد أنكرتم قول المعتزلة والقدرية والجهمية والحرورية والرافضة والمرجئة، فعرفونا قولكم الذي تقولون وديانتكم التي بها تدينون، قيل له: قولنا الذي نقول وديانتنا التي ندين بها، التمسك بكتاب الله وسُنَّة نبيه صلى الله عليه وسلم، وما روي عن الصحابة والتابعين وأئمة الحديث، ونحن بذلك معتصمون وبما كان عليه أحمد بن حنبل نضر الله وجهه ورفع درجته وأجزل مثوبته قائلون، وعمن خالف قوله مجانبون؛ لأنه الإمام الفاضل والرئيس الكامل الذي أبان الله به الحق عند ظهور الضلال، وأوضح به المنهج وقمع به بدع المبتدعين وزيغ الزائغين وشك الشاكين، فرحمة الله تعالى عليه من إمام مقدم وجليل معظم وكبير مفهم، ورحمته على جميع أئمة المسلمين"(1)،. . . ثم أورد تفاصيل العقائد التي يدين بها.
والناحية الثالثة: من نواحي أعمال الأشعري التصحيحية هي ما خلّفه وراءه من مدرسة نسبت إليه وتسمت باسم الأشعرية، أنجبت تلاميذ أذكياء وشخصيات قوية، حملت الراية من بعده وصارعت المعتزلة صراعًا لم تقم لهم بعده قائمة، واستمرت تؤثر في الفكر الإسلامي قرونًا عديدة، ومن هؤلاء التلاميذ (2): القاضي أبو بكر محمد بن الطيب الباقلاني (ت 403 هـ)، وأبو إسحق إبراهيم بن محمد الإسفراييني (ت 418 هـ)، وكلاهما قد رشح لمنصب التجديد في المائة الرابعة.
الغزالي وتصحيح الانحرافات:
النموذج الثاني من المجددين الذين لهم جهود مرموقة في تصحيح الانحرافات هو الإمام أبو حامد الغزالي (450 - 505 هـ) الذي يلقب (بحجة الإسلام) شهادة له بالسبق الذي أحرزه في هذا الميدان. والغزالي من نوابغ أعلام الإسلام، وشخصية فذة اجتمعت فيها مواهب عديدة، فقد كان رضي الله عنه شديد الذكاء، سديد النظر، قوي الإدراك، ذا فطنة ثاقبة، وغوص في المعاني (3). وبجانب ذلك كانت له نفس قلقة مولعة بالاستقلال، تكره الجمود والتقليد، فلم
(1)"الإبانة" الأشعري ص 15.
(2)
انظر: القائمة الكاملة بأسماء التلاميذ في "طبقات السبكي" 3/ 368 - 371.
(3)
السبكي، "طبقات الشافعية" 6/ 196، و"سيرة الغزالي" ص 76.
يقنع بأن يكون تابعًا يسير في ركاب غيره، يحفظ ويردد ما تلقنه من العلوم، بل طلب الحق بنفسه وحقق حتى استطاع أن يكشف مواطن الصواب ومواطن الخطأ في التيارات الفكرية المائجة في عصره. ويترجم الغزالي لهذا الجانب من شخصيته فيقول:
"ولم أزل في عنفوان شبابي وريعان عمري، منذ راهقت البلوغ قبل بلوغ العشرين، إلى الآن وقد أناف السن على الخمسين، اقتحم لجة هذا البحر العميق وأخوض غمرته، خوض الجسور لا خوض الجبان الحذور، وأتوغل في كل مظلمة، وأتهجم على كل مشكلة وأتقحم كل ورطة، وأتفحص عن عقيدة كل فرقة، وأستكشف أسرار مذهب كل طائفة، لأميز بين محق ومبطل، ومتسنن ومبتدع"(1).
والتيارات الفكرية التي كانت رائجة في عصر الغزالي والتي تناولها بالدراسة والفحص والنقد والتصحيح أربعة تيارات: الفلسفة والكلام والتصوف والباطنية (2). وفيما يلي توضيح مختصر لموقف الغزالي منها وكشفه لانحرافاتها.
نقد الفلسفة:
لقد شاعت الفلسفة اليونانية في عصر الغزالي شيوعًا كاد أن يهز الإيمان في النفوس، وأصبح أذكياء الأمة يقبلون على الفلسفة ومباحثها من غير تمييز للنافع منها عن الضار. وكانوا من فرط إعجابهم بفلاسفة اليونان الملحدين أن قلدوهم في كل شيء حتى في إلحادهم وكفرهم. ورغم أن الفلسفة اجتذبت عقولًا نابهة ونوابغ من الأمة الإسلامية، إلا أن دور أولئك الفلاسفة كان في أكثره النقل المحض والتقليد الأعمى. ولم تكتف هذه الطبقة من المفكرين بذلك بل حاولت تدوين عقائد الإيمان والدين على ضوء الفكر اليوناني الوثني الإلحادي، وتقديم تفسيرات جديدة لموضوعات العقائد الإسلامية (3). وهذا الموقف الانهزامي الذي تردى فيه هؤلاء جعلهم يحاولون إخضاع الدين وحقائقه لنظريات الفلسفة
(1)"المنفذ من الضلال" الغزالي ص 10.
(2)
المصدر نفسه ص 15.
(3)
انظر على سبيل المثال: رأي ابن سينا في "معاد النفوس"، و"الأجساد" في "تاريخ الفكر العربي"، عمر فروخ ص 422 وما بعدها.
وفروضها، تحت شعار التوفيق بين الدين والفلسفة، وكان الأحرى بهم أن يخضعوا الفلسفة للدين. ويشابه هذا الموقف الذي واجهه المجتمع المسلم في القرن الخامس الهجري أمام معارف اليونان، الموقف الذي يواجهه المسلمون في هذا العصر أمام الحضارة الغربية وعلومها (1).
ويصور الغزالي هذه الحالة بهذه الكلمات:
". . . أما بعد فإني قد رأيت طائفة يعتقدون في أنفسهم التميز عن الأتراب والنظراء بمزيد الفطنة والذكاء، قد رفضوا وظائف الإسلام من العبادات واستحقروا شعائر الدين من وظائف الصلوات والتوقي عن المحظورات، واستهانوا بتعبدات الشرع وحدوده، بل خلعوا بالكلية ربقة الدين. وإنما مصدر كفرهم سماعم أسماء هائلة كسقراط وبقراط وأفلاطون وأرسطوطاليس (2) وأمثالهم، وإطناب طوائف من متبعيهم في وصف عقولهم وحسن أصولهم ودقة علومهم، وحكايتهم عنهم أنهم مع رزانة عقولهم وغزارة علومهم منكرون للشرائع والنحل، وجاحدون لتفاصيل الأديان والملل. فلما قرع ذلك سمعهم ووافق ما حكى من عقائدهم طبعهم، تجملوا باعتقاد الكفر تحيزًا إلى غمار الفضلاء بزعمهم، وانخراطًا في سلكهم وترفعًا عن مسايرة الجماهير والدهماء"(3).
فلما رأى الغزالي هذه الحالة أقبل على دراسة الفلسفة وتمحيصها وحذقها، لينتقدها نقد الخبير المتخصص. وقد كانت ثمرة مطالعات الغزالي وقراءاته في الفلسفة، أن جمع أولًا خلاصة أفكار الفلاسفة وآرائهم، وعرضها عرضًا سهلًا ميسرًا كما هي دون نقد في كتاب عنوانه:"مقاصد الفلاسفة"، وكان ذلك العمل تمهيدًا لمناقشتها ونقدها (4). ثم بعد ذلك تعرض لمباحثها في موضوع الإلهيات التي تتعارض مع عقائد الدين، فناقشها مسألة مسألة وبيَّن أوجه الخطأ فيها، وضم تلك المباحث في كتاب جعل عنوانه:"تهافت الفلاسفة".
والنتائج التي توصل إليها الغزالي من الفلسفة بعد الدراسة والتحقيق يمكن
(1) انظر: "رجال الفكر والدعوة" الندوي ص 190.
(2)
من فلاسفة اليونان في القرنين الخامس والرابع قبل الميلاد.
(3)
"تهافت الفلاسفة" ص 74.
(4)
"مقدمة مقاصد الفلاسفة" للغزالي ص 31، و"المنقذ من الضلال" الغزالي ص 18.
عرضها في الآتي (1):
1 -
أثبت أن بعض مباحث الفلسفة لا يتعلق شيء منها بأمور الدين نفيًا وإثباتًا، مثل المباحث الرياضية وعلوم الحساب والهندسة، ومثل المنطقيات، وكانت الفلسفة بمفهومها القديم تشمل كل هذه العلوم وغيرها. أما آراء الفلاسفة في الأخلاق والسياسة فبيَّن أن هذه الآراء لا تتصادم مع الدين إلا في النادر، بل هو يرى أن أصولها مستمدة من حكمة الأديان.
2 -
أوضح أن أكثر أغاليط الفلاسفة وأخطائهم في مباحث الفلسفة المسماة بالإلهيات، وذلك أن براهينهم فيها غير مستقيمة، وهذا سبب كثرة اختلافهم هم أنفسهم فيها. وقد خصص الغزالي كتابه "تهافت الفلاسفة" لنقد هذا الجانب من الفلسفة، واختار من ذلك عشرين مسألة أوردها بأدلة الفلاسفة عليها ثم أبان خطأها وأدلته على هذا الخطأ.
3 -
هاجم الغزالي موقف المقلدين للفلسفة المعجبين بها الذين نظروا في المباحث الرياضية والمنطقية، فتعجبوا من دقائقها وظهور براهينها فانبهروا بها، وظنوا أن جميع علومهم في الوضوح وقوة البرهان مثل المباحث الرياضية، وحين سمعوا عن إلحاد الفلاسفة وكفرهم، وقع في أنفسهم أن لو كان الدين حقًا لما خفي على هؤلاء مع تدقيقهم في العلم فتبعوهم في إلحادهم تقليدًا وجهلًا، وقد غاب عنهم أنه إذا كانت مباحث الرياضيات لها براهين واضحة، فإن مباحث الإلهيات عند الفلاسفة أوهام وظنون ليس عليها برهان.
4 -
هاجم الغزالي موقف الجامدين من علماء الدين، الذين وقفوا موقف الصديق الجاهل، الذي ظن أن الدين ينبغي أن ينصر بإنكار كل العلوم المنسوبة إلى الفلاسفة، فأنكر جميع علومهم وادعى جهلهم فيها، حتى أنكر قولهم في الخسوف والكسوف وزعم أن ما قالوه خلاف الشرع، وقد كانت تلك مصيبة عظيمة في الدين لأن من رأى قوة براهين الفلاسفة في هذه الأمور، اعتقد أن الإسلام مبني على الجهل وإنكار البرهان القاطع، فازداد للفلسفة حبًا وللإسلام بغضًا.
وهكذا استطاع الغزالي أن يفتح أعين المسلمين على حقيقة الفلسفة،
(1) انظر: "المنقذ من الضلال" ص 21 - 24.
وأصبحوا ينظرون إليها بعيون مبصرة، بعد أن كانوا يقبلون عليها بعيون مغلقة، وزال عن الفلسفة ذلك البريق الذي كان يدفع الناس للانفلات من الدين إعجابًا بها؛ بل تراجعت الفلسفة إلى موقف الدفاع، ويمثل هذا الموقف كتاب ابن رشد (520 - 595 هـ)"تهافت التهافت"، وأصبح الاتجاه النقدي للفلسفة اتجاهًا مؤثرًا، انجذبت له عقول كبيرة من مثل الإمام ابن تيمية (661 - 728 هـ)، وخلّف هذا الاتجاه إنتاجًا علميًا قويًا صحح مسيرة التفكير عند المسلمين.
نقد علم الكلام:
يرى الغزالي أن علم الكلام قد انحرف عن الغاية التي من أجلها نشأ، ويتحدث عن نشأة علم الكلام فيرى أن القرآن والحديث قد اشتملا على العقيدة الحقة، ولكن من الناس من انحرف عن هذه الطريقة، واخترع أمورًا في العقائد مخالفة للسُّنَّة، وكاد هؤلاء أن يشوشوا العقيدة الصحيحة على أهلها، فأنشأ الله طائفة المتكلمين لنصرة السُّنَّة بكلام مرتب وكشف تلبيسات أهل الانحراف. هذه هي غاية علم الكلام في نظر الغزالي. وقد اعتمد علم الكلام في إثبات تناقضات الآراء المنحرفة، على نفس البراهين التي استعملها أصحابها في إثباتها. ثم إن الغزالي يرى أن علم الكلام قد حاد عن هذا الهدف وصار هو بنفسه محاولة لإثبات عقائد الدين بالبراهين التي استمدها من مجادلة المنحرفين، وهذه البراهين تصلح لنقض باطل المنحرفين ولكنها لا تصلح لإثبات عقائد الدين. يقول الغزالي مبيِّنًا هذا الرأي:
"لما نشأت صنعة الكلام وكثر الخوض فيه وطالت المدة، تشوف المتكلمون إلى محاولة الذب عن السُّنَّة بالبحث عن حقائق الأمور، وخاضوا في البحث عن الجواهر والأعراض وأحكامها، ولكن لما لم يكن ذلك مقصود علمهم، لم يبلغ كلامهم فيه الغاية القصوى، فلم يحصل منه ما يمحق بالكلية ظلمات الحيرة"(1).
ولهذا يرى الغزالي أن علم الكلام ينبغي أن يوضع في موضعه ويشتغل بالغاية التي من أجلها نشأ، وهي مجادلة أصحاب الانحرافات والشبهات والرد
(1)"المنقذ من الضلال" الغزالي ص 16.
عليهم، فينبغي أن يستعمل مع هؤلاء خاصة لأنهم مرضى وعلم الكلام لهم دواء. يقول:
". . . فإن الأدوية تستعمل في حق المرضى وهم الأقلون، وما يعالج به المريض بحكم الضرورة يجب أن يوقى عنه الصحيح، والفطرة الأصيلة الصحيحة معدة لقبول الإيمان دون المجادلة وتحرير حقائق الأدلة، وليس الضرر في استعمال الدواء مع الأصحاء، بأقل من الضرر في إهمال المداواة مع المرضى، فليوضع كل شيء موضعه"(1).
ويضع الغزالي في نقده لعلم الكلام إصبعه على أمر في غاية الأهمية، وذلك هو الطريقة الصحيحة لعرض مسائل العقيدة الإسلامية والاستدلال لها. وهذه الطريقة هي طريقة القرآن، ذلك أن القرآن يشتمل على أدلة وحجج عقلية فيها البرهان الكافي للعقائد، فينبغي عرضها وبسطها وتوضيحها والاكتفاء بها في تقرير أمر العقيدة. ويتحدث الغزالي موضحًا هذه الحقيقة مؤكدًا أن حجج القرآن العقلية كافية للعقول السليمة والفطر الصحيحة فيقول:
"فأدلة القرآن مثل الغذاء ينتفع به كل إنسان، وأدلة المتكلمين مثل الدواء ينتفع به آحاد الناس ويتضرر به الأكثرون، بل أدلة القرآن كالماء الذي ينتفع به الصبي الرضيع والرجل القوي، وسائر الأدلة كالأطعمة التي ينتفع بها الأقوياء مرة، ويمرضون بها مرة أخرى"(2).
ويضرب بعض الأمثلة من طريقة القرآن في الاستدلال فيقول: "فمن الجلي أن من قدر على الابتداء فهو على الإعادة أقدر كما قال: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} [الروم: 27]، وأن التدبير لا ينتظم في دار واحدة بمدبرين فكيف ينتظم في كل العالم إشارة لقوله تعالى:{لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22]، وأن من خلق عَلِمَ كما قال تعالى:{أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ} [الملك: 14]، فهذه الأدلة تجري من العوام، مجرى الماء الذي جعل الله منه كل شيء حي.
(1)"إلجام العوام عن علم الكلام" الغزالي ص 43.
(2)
المصدر نفسه ص 20.
نقد الباطنية:
الطائفة الثالثة التي حاربها الغزالي هي طائفة الباطنية، والباطنية من الحركات السرية في الإسلام، وقد كان لها آثار خطيرة في التاريخ الإسلامي. وظهر هذا المذهب بأسماء مختلفة على اختلاف العصور والأزمنة. وسبب هذه التسمية أن هذه الطائفة تدعي أن لظواهر القرآن والأخبار بواطن، وأن الجهال والأغبياء هم الذين يقفون عند ظاهرها، أما العقلاء والأذكياء فالنصوص عندهم رموز وإشارات إلى حقائق خفية. وهذا ينطبق على كل شيء في الدين من تفاصيل العقائد إلى تفاصيل التكاليف الشرعية (1)، ولهم تأويلات لهذه الظواهر لا ضابط لها ولا معيار، والمرجع الوحيد لهذه التأويلات هو الإمام المعصوم. وهم يرون أنه لابد في كل عصر من إمام معصوم، يرجع إليه في تأويل الظواهر وحل الإشكالات في القرآن والأخبار والمعقولات، وهو وحده المتصدي لهذا الأمر. وهذا الإمام جار في نسبهم لا ينقطع أبد الدهر (2).
وقد كانت للباطنية طوائف كثيرة لها أسماء حسب العصر والمكان، ومن أشهر طوائفهم: الإسماعيلية، والقرامطة، والبابكية، والدروز، والنصيرية (3). وأهم هذه الطوائف من الناحية السياسية طائفة الإسماعيلية، إذ أقاموا الدولة الفاطمية في عام (296 هـ) التي بسطت نفوذها على شمال إفريقيا ومصر والشام واليمن وظلت دولتهم قائمة حتى عام (564 هـ)(4).
أما ما قام به الغزالي في محاربة هذه الطائفة التي كان أمرها مستفحلًا في عصره، فيتمثل في أنه بعد أن تعمق في دراستها ألف في الرد عليها كتابًا أسماه "فضائح الباطنية". وقد كان تأليف هذا الكتاب بأمر الخليفة العباسي آنذاك المستظهر بالله (487 - 512 هـ)، ولهذا فالكتاب يعرف أيضًا باسم "المستظهري"(5). وقد ذكر الغزالي أنه ألَّف كتبًا أخرى في الرد على الباطنية (6).
(1)"فضائح الباطنية" الغزالي ص 11، و"الملل والنحل" الشهرستاني 1/ 333.
(2)
"فضائح الباطنية" ص 42.
(3)
"مذهب الإسلاميين" عبد الرحمن بدوي 2/ 9.
(4)
المصدر نفسه ص 9، وعمر فروخ، "تاريخ الفكر العربي" ص 239.
(5)
"المنقذ من الضلال" ص 28.
(6)
المصدر نفسه ص 33.
ويأتي اسم الغزالي ضمن قائمة طويلة من الأسماء التي حاربت الباطنية فكريًا، ولكن مع ذلك لا يزال لهذا المذهب أتباع إلى عصرنا هذا (1).
نقد التصوف:
التصوف باب من الأبواب التي دخلت منها الانحرافات إلى الدين، حتى أن الناس تنازعوا هل التصوف نفسه من الدين أم لا؟ وهذا ينبني على ماهية التصوف.
تعددت الآراء في الاشتقاق اللغوي لكلمة صوفي، والذي تميل إليه هذه الآراء أنها مشتقة من لباس الصوف، وهو قد كان اللباس الغالب على الزهاد والعباد (2)، ويخطئ من ينسب كلمة صوفي إلى أهل الصفة؛ لأن ذلك الاشتقاق لغة لا يصح، كما أن أهل الصفة لم يكونوا قومًا منقطعين للعبادة كما شاع ذلك خطأ عنهم، بل كانوا قومًا فقراء يهاجرون إلى المدينة وما لهم أهل ولا مال، وكان الأنصار في أول الأمر يؤوون المهاجرين ثم صار المهاجرون يكثرون بعد ذلك شيئًا بعد شيء، فبنيت لهم صفة (مكان مظلل) في مؤخرة مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة ليأووا إليها. ولم يكن جميع أهل الصفة قد اجتمعوا كلهم في وقت واحد في هذا المأوى، بل كان منهم من يتأهل أو ينتقل إلى مكان آخر يتيسر له، وهكذا يجيء ناس ويذهب ناس، فكانوا تارة يقلون وتارة يكثرون (3). وعلى هذا فأهل الصفة ليسوا هم متصوفة العهد النبوي كما يظن البعض.
وقد ظهر لفظ التصوف في أواخر المائة الثانية (4)، واشتهر استعمال هذا الاصطلاح عند كثير من أئمة الدين في ذلك العصر، ويروى ذلك عن الإمام أحمد بن حنبل وأبي سليمان الداراني وسفيان الثوري والحسن البصري (5).
(1) توجد بقايا الإسماعيلية في طاجكستان وسوريا وباكستان واليمن، ويوجد النصيرية (بنسبة ضئيلة جدًا) في بلاد الشام وتركيا. انظر:"سكان العالم الإسلامي" محمود شاكر ص 34 - 36.
(2)
"فتاوى ابن تيمية" 11/ 6، و"اللمع" ابن سراج الطوسي ص 21، و"تاريخ الفكر العربي" عمر فروخ ص 470.
(3)
"فتاوى ابن تيمية" 1/ 40، و"تلبيس إبليس" ابن الجوزي 157.
(4)
"تلبيس إبليس" ابن الجوزي ص 157.
(5)
"فتاوى ابن تيمية" 11/ 5.
ومنشأ التصوف كان بالبصرة بالعراق، وكان فيها من يسلك طريق العبادة والزهد وله زيادة اجتهاد في ذلك (1). ثم أصبح التصوف مصطلحًا "لمجاهدة النفس ورياضتها للخروج بها عن الأخلاق الرذيلة والدخولط بها في الأخلاق الحميدة والخصال الحسنة"(2).
وكان أوائل الصوفية يقرون بأن اعتمادهم وتعويلهم على الكتاب والسُّنَّة. ومن أقوال أوائل المتصوفة في ذلك:
يقول الجنيد: "مذهبنا هذا مقيَّد بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم". ويقول آخر: "أصل التصوف ملازمة الكتاب والسُّنَّة وترك الأهواء والبدع".
ويقول ثالث: "أصولنا ستة أشياء: التمسك بكتاب الله، والاقتداء بسُنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأكل الحلال، وكف الأذى، واجتناب الآثام، وأداء الحقوق"(3).
وكثير مما تكلم فيه أوائل المتصوفة في تعريف التصوف وحقائقه، ومقاماته وأحواله وسيرته وأخلاقه، مما له أصول في الكتاب والسُّنَّة فأصل التصوف نوع من الاجتهاد في إحسان العبادة، فمن الخطأ ذم التصوف مطلقًا.
ثم إن التصوف بعد ذلك يتشعب ويتنوع، ورويدًا رويدًا دخلته أخطاء وانحرافات، وانتسبت إليه جماعات ضلت باسمه وأضلت.
الغزالي والتصوف:
يعتبر الغزالي نفسه من كبار المتصوفة في الإسلام، بل إن ابن تيمية يرى أن علم التصوف عند الغزالي "هو أجل علومه وبه نبل"(4). وإقبال الغزالي على التصوف كان أحد المنعطفات البارزة في حياته. وقد ترجم الغزالي لهذه الفترة من حياته بقلمه (5)، وبين الظروف والبواعث التي دفعت به إلى التخلي عن مركزه الاجتماعي المرموق والتفرغ لدراسة التصوف وممارسته عمليًا. ودامت هذه العزلة إحدى عشرة سنة، عاد بعدها إلى التدريس والتأليف، وكان من آثارها أن ألَّف الغزالي إنتاجه العلمي الكبير "إحياء علوم الدين".
(1)"فتاوى ابن تيمية" 6/ 11 و 16.
(2)
المصدر نفسه 11/ 157.
(3)
"مفتاح الجنة" للسيوطي ص 50 - 52.
(4)
"السبعينية" ص 107، نقلًا عن "مقارنة بين الغزالي وابن تيمية" محمد رشاد سالم ص 9.
(5)
"المنقذ من الضلال" ص 35 وما بعدها ..
وكتاب "إحياء علوم الدين" من أكبر مؤلفات الغزالي، وأهمها وأكثرها ذيوعًا وتأثيرًا. ونقتطف هنا بعض ما ذكره الغزالي في المقدمة مما يلقي الضوء على محتويات الكتاب والموضوعات التي بحثها (1):
قسم الغزالي كتابه إلى أربعة أقسام، سمى كل قسم منها ربعًا، وهذه الأقسام هي: ربع العبادات، وربع العادات، وربع المهلكات، وربع المنجيات. وتحدث في القسم الأول عن خفايا آداب العبادات ودقائق سننها وأسرار معانيها، وشمل هذا القسم طرفًا من فضائل العلم ومن قواعد العقائد. وتحدث في القسم الثاني عن أسرار المعاملات الجارية بين الخلق وأغوارها، ودقائق سننها وخفايا الورع في مجاريها. وتحدث في القسم الثالث عن الأخلاق المذمومة، التي جاء ذمها في القرآن مبيِّنًا حقيقتها وتعريفها وأسبابها وبواعثها وعلاماتها وطرق علاجها. وتحدث في القسم الرابع عن الأخلاق المحمودة وخصال المؤمنين والصديقين، ذاكرًا في كل خصلة تعريفها وحقيقتها وأسبابها التي بها تنال وثمراتها وفوائدها. ويصف الندوي الكتاب قائلًا:"وقد أصبح كتاب الإحياء بذلك كله كتاب إصلاح وتربية، وكأن المصنف حاول أن يكون هذا الكتاب كمرشد ومرب، مغنيًا عن غيره قائمًا مقام المكتبة الإسلامية، لذلك جعله يحتوي على العقائد والفقه وتزكية النفس وتهذيب الأخلاق"(2).
وقد استمد الغزالي كتاب الإحياء من مصادر التصوف السابقة له (3)، مع ما زاده من قبل نفسه وفكره، وكتبه بعاطفة صادقة وعبارات قوية، جعلت للكتاب تأثيرًا بيِّنًا على النفوس يحدث فيها تحولًا عجيبًا. وقد أثار هذا الكتاب منذ ظهوره ضجة كبيرة، وتطرف بعض الناس في قبوله والإعجاب بكل ما فيه، وتطرف آخرون في رفضه، حتى وقعت في بلاد المغرب خاصة بسبب هذا الكتاب فتن كثيرة وتعصب، أدى إلى أنهم كادوا يحرقونه، وربما وقع إحراق يسير (4).
(1)"إحياء علوم الدين" 1/ 10.
(2)
"رجال الفكرة والدعوة" الندوي ص 245.
(3)
راجع: "المنقذ من الضلال" ص 35، و"السبكي" 7/ 247، وهذه المصادر تشمل "قوت القلوب" لأبي طالب المكي، وكتب الحارث المحاسبي وأقوال الجنيد والشلبي وأبي يزيد البسطامي وغيرهم والرسالة القشيرية.
(4)
"السبكي" 6/ 258.
وقد انتقد الكتاب عدد غير قليل من العلماء، ووضعت كتب في نقده وبيان أخطائه (1). ومع الاعتراف بأن في الكتاب خيرًا كثيرًا إلا أن نواحي النقص والضعف في الكتاب التي أشار إليها هؤلاء تنحصر في هذه الجملة من كلام الذهبي (ت 748 هـ) قال:
"أما الإحياء ففيه من الأحاديث الباطلة جملة، وفيه خير كثير لولا ما فيه من أدب ورسوم وزهد من طرائق الحكماء، (يعني: الفلاسفة) وتبحر في الصوفية"(2).
فهذه ثلاثة مآخذ على كتاب الإحياء: اشتماله على أحاديث ضعيفة بل موضوعة، واشتماله على أقاويل من الفلاسفة، وما فيه من غلو في بعض الموضوعات مما استمده من التصوف المنحرف (3). وبسبب ثقة الناس في الغزالي راجت هذه الأحاديث الواهية، ودخلت آراء فلسفية وسلوكيات باطلة، في الدين مستترة بثوب التصوف.
ويستمر الذهبي ناصحًا بالإقبال على الأصول الكتاب والسُّنَّة قائلًا: "فعليك يا أخي بتدبر كتاب الله وبإدمان النظر في الصحيحين وسنن النسائي ورياض النووي وأذكاره تفلح وتنجح فكل الخير في متابعة الحنيفية السمحة"(4).
ومع أن الغزالي أقبل على التصوف بكليته ومع ما أخذ عليه من مزالق في ذلك، إلا أنه بنفسه قد انتقد بعض المظاهر في التصوف نقدًا مرًا. ومن أمثلة ذلك ما جاء في كتابه "المقصد الأسنى" من بيان أن بعض المتصوفة فهموا أن
(1) من تلك الكتب "الكشف والإنباء عن كتاب الإحياء" لأبي عبد الله المازري الفقيه (ت 536 هـ)، وكتاب "إعلام الأحياء بأغلاط الإحياء" لابن الجوزي (ت 597 هـ) ومن الذين نقدوا الكتاب أبو بكر الطرطوشي (ت 520 هـ)، وشمس الدين أبو عبد الله الذهبي (748 هـ)، وتقي الدين ابن الصلاح (ت 643 هـ)، وابن تيمية (ت 728 هـ). انظر:"سيرة الغزالي" الصفحات 60، 73، 75، 79، 111.
(2)
"سيرة الغزالي" ص 79.
(3)
اعتنى جماعة بتخريج أحاديث الإحياء وبيان صحيحها من موضوعها، ومن أولئك: زين الدين العراقي، وكتابه مطبوع "بذيل كتاب الإحياء". وقد اختصر ابن الجوزي كتاب "الإحياء" في كتاب عنوانه "منهاج القاصدين" حاول فيه تهذيب الكتاب مما فيه من نواحي النقص.
(4)
المصدر نفسه ص 97.
القرب من الله تعالى، يعني: الحلول أو الاتحاد أو الوصول (1). وذكر في كتاب الإحياء نفسه طوائف من المتصوفة وعدد انحرافاتهم (2)، فمن تلك الانحرافات الإغراق في الطقوس والمظاهر الكاذبة والأزياء المتكلفة، ومن تلك الانحرافات التي أشار إليها وقوع بعض الطوائف في الإباحية (زعمًا أنهم مع الشهوات بالظاهر أما قلوبهم فوالهة بحب الله)، ومن تلك الانحرافات ادعاء ارتقاء النفس إلى مرتبة لا تحتاج معها إلى العبادات البدنية، ومن تلك الانحرافات تلك الحلقات المفرغة والكلمات الجوفاء، في شرح بعض أنواع مجاهدات النفس بما لا طائل من ورائه، من مثل القول:"إن هذا في النفس عيب، والغفلة عن كونه عيبًا عيب، والالتفات إلى كونه عيبًا عيب! ".
وخلاصة الأمر أن الغزالي خالط المتصوفة فرأي حالتهم الغاية المنشودة واجتذبه ذلك بالمرة (3)، ولكنه لم يعرف طريقة الزاهدين من أهل السُّنَّة والحديث (4)، ويعترف الغزالي بنفسه بذلك فيقول:"بضاعتي في الحديث مزجاة"(5)، ويحكي أنه أقبل في آخر عمره على دراسة الحديث والمطالعة في الصحيحين البخاري ومسلم (6). ولو قدّر له أن يعيش عمرًا أطول لكان لهذه الدراسة أثر في حياته، وبخاصة أنه قد اتصف بالقدرة على الغوص والتبحر فيما يتفرغ لدراسته.
الخاتمة:
وهكذا يتضح أن للتجديد مجالات عديدة كلها تسعى لإحياء الدين وبعثه، ولعل من أهمها ما ذكر من إصلاح سياسي، واجتهاد تشريعي، وتصحيح للانحرافات. وقد قام المجددون في الماضي بجهود كبيرة في هذا المجال، قدمت له في هذا الفصل نماذج من إصلاحات عمر بن عبد العزيز والشافعي وأبو
(1)"المنقذ من الضلال" الغزالي ص 40.
(2)
"إحياء علوم الدين" 3/ 392 وما بعدها.
(3)
"سيرة الغزالي" ص 60 من كلام ابن الجوزي.
(4)
"فتاوى ابن تيمية" 1/ 57.
(5)
"رسالة قانون التأويل" للغزالي ص 16، نقلًا عن مقارنة بين الغزالي وابن تيمية، محمد رشاد سالم ص 8.
(6)
"سيرة الغزالي" ص 46.
الحسن الأشعري والغزالي. أما مجال إفشاء العلم فقد كان أيضًا من أهم مجالات التجديد ولعله لم يخل مجدد ممن ذكر اسمه في قوائم إحصاء المجددين من جهود في هذا المجال، ولم يفرد هذا المجال بالذكر والتفصيل؛ لأنه أشهر من أن يبين ويوضح، ولعل سيرة حياة كل مجدد ممن نسب إلى التجديد تشهد له بجهود ضخمة في هذا المجال، وكلها مدونة ومفصلة في كتب التاريخ والطبقات والتراجم.
ولا شك أن مجالات التجديد في كل عصر تناسب ما أصاب أهله من خلل وبعد. ولكن لعل ما ذكر من أمثلة يشير إلى ما لم يذكر، إذ أن الدين منهج للحياة متكامل والله يأمر في كل عصر ومصر بالدخول فيه كافة إذ يقول تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً} [البقرة: 208]. فالآية حسب ما رجح الطبري معناها الدعوة لكل امرئ إلى الدخول في الإسلام كله "والأمر له بالعمل بجميع شرائعه وإقامة جميع أحكامه وحدوده دون تضييع بعضه والعمل ببعضه"(1). فمادام الأمر كذلك فإن التجديد يكون بحسب ما انهدم من الدين وبحسب قدرات المجدد وما يتهيأ له من قدرات.
(1)"تفسير الطبري" 2/ 324.