المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌أبو العصرانية في العالم الإسلامي: - مفهوم تجديد الدين - جـ ١

[بسطامي محمد سعيد]

فهرس الكتاب

- ‌المقدمة

- ‌الباب الأول المفهوم السُّنِّي للتجديد

- ‌الفصل الأول تعريف التجديد وضوابطه

- ‌أصل كلمة التجديد:

- ‌تفصيل معنى التجديد:

- ‌ضوابط التجديد:

- ‌إحصاء المجددين:

- ‌الفصل الثاني نماذج من جهود المجددين

- ‌تمهيد:

- ‌الإصلاح السياسي والسعي لإعادة الخلافة الراشدة:

- ‌جهود عمر بن عبد العزيز:

- ‌الشافعي في مجال الاجتهاد والتشريع:

- ‌تصحيح الانحرافات:

- ‌جهود الأشعري:

- ‌الغزالي وتصحيح الانحرافات:

- ‌الباب الثاني مفاهيم التجديد الخاطئة

- ‌الفصل الأول مفهوم التجديد عند العصرانية في الغرب

- ‌ما العصرانية

- ‌الفرقة المتحررة في اليهودية:

- ‌التجديد العصراني للنصرانية:

- ‌الفصل الثاني مفهوم التجديد عند العصرانية في العالم الإسلامي

- ‌1 - الطبقة الأولى من المفكرين

- ‌تمهيد:

- ‌أبو العصرانية في العالم الإسلامي:

- ‌تجديد إقبال:

- ‌محمد عبده وتلامذته:

- ‌الفصل الثالث مفهوم التجديد عند العصرانية في العالم الإسلامي

- ‌2 - الطبقة الثانية من المفكرين

- ‌تمهيد:

- ‌محمد أسد: نسخة أوروبية لسيد خان

- ‌العصرانية وتطوير الدين:

- ‌سقطة كتاب "أين الخطأ

- ‌مفكرون آخرون:

- ‌الفصل الرابع إعجاب الغرب بالعصرانية في العالم الإسلامي

- ‌تمهيد:

- ‌شهادة التبشير:

- ‌الاستشراق يتفاءل بتطور الإسلام:

- ‌نظرة الإعلام الغربي:

- ‌أمريكا وتجديد الإسلام:

- ‌الباب الثالث العصرانية في ميزان النقد

- ‌الفصل الأول نقد المبادئ العامة

- ‌تمهيد:

- ‌فروض العصرانية الأساسية:

- ‌محاسن ومساوئ العصرانية في الغرب:

- ‌الفصل الثاني نقد المسائل التفصيلية

- ‌تمهيد:

- ‌من عقائد العصرانية:

- ‌منهج العصرانية في التفسير:

- ‌هل هناك منهج نقد حديث للسُّنَّة

- ‌الاجتهاد في أصول الفقه:

- ‌السُّنَّة التشريعية وغير التشريعية:

- ‌الثابت والمتغير في الإسلام:

- ‌نقد فقه العصرانية:

- ‌الخاتمة

- ‌قائمة المراجع

الفصل: ‌أبو العصرانية في العالم الإسلامي:

الكُتَّاب قد فضَّل استعمال لفظ التَجدُّد أو التطوير أو التحديث (جعل الإسلام حديثًا) وأحيانًا لفظ التجديد (1) وإذا عُرِفت سمات وخصائص هذه المدرسة فلا مشَّاحة في الاصطلاح.

‌أبو العصرانية في العالم الإسلامي:

رائد العصرانية (Modernism) في العالم الإسلامي هو سيد أحمد خان (2)(1232 - 1315 هـ / 1817 - 1898 م)"فقد كان سيد خان أول رجل في الهند الحديثة يتحقق من ضرورة وجود تفسير جديد للإسلام، تفسير تحرري وحديث وتقدمي"(3).

ولم يكن سيد خان أول ممثل للنزعة العصرانية (4) فحسب بل كان نموذجًا كاملًا لها، وكل الذين جاءوا من بعده لم يضيفوا شيئًا جديدًا، بل كانوا يعيدون صياغة أفكاره بصورة أو أخرى. وإذا أمعنا النظر في تعريف العصرانية التي هي في جملتها محاولة للتوفيق بين الدين والعصر الحديث بإعادة تأويل الدين وتفسير تعاليمه في ضوء المعارف العصرية السائدة، فإن هذا التعريف برمته ينطبق على المدرسة الفكرية التي أنشأها سيد خان، تلك المدرسة التي قامت -كما يقول الأستاذ أبو الحسن الندوي-: "على أساس تقليد الحضارة الغربية وأسسها

= A.Ahmed: "Islamic Modernism in India and Pakistan". F.Rahman: "Muslim Modernism In the Indo-pakistan Sub continent".

وانظر: "نبذة عن الكتابين الأخيرين في جوانب من التراث الهندي الإسلامي"، د. خليل ص 169 و 170، وفي الاتجاهات الحديثة في الإسلام للمستشرق جب فصلان بعنوان: The Principles of Modernism Modernist Religion

(1)

من هؤلاء: أبو الأعلى المودودي في "موجز تاريخ تجديد الدين" ص 51، وأبو الحسن الندوي في "الصراع بين الفكرة الإسلامية والفكرة الغربية" ص 163، ومحمد البهي في "الفكر الإسلامي الحديث وصلته بالاستعمار الغربي". انظر مثلًا: ص 22، ومحمد محمد حسين في "الاتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر" ص 305 ما بعدها، وفي "الإسلام والحضارة الغربية". انظر مثلًا: ص 110 و 144.

(2)

انظر:. Maryam Jameelah: "Islamic and Modernism" ،P.49.

(3)

B.A. Dar، "Religious Thought of sayyid" Ahmed Khan،P.268.

(4)

" جوانب من التراث الهندي الإسلامي الحديث" د. خليل عبد الحميد ص 169.

ص: 121

المادية، واقتباس العلوم العصرية بحذافيرها وعلى علاتها، وتفسير الإسلام والقرآن تفسيرًا يطابقان ما وصلت إليه المدنية والمعلومات الحديثة في آخر القرن التاسع عشر المسيحي، ويطابقان هوى الغربيين وآراءهم وأذواقهم، والاستهانة بها لا يثبته الحس والتجربة ولا تقرره علوم الطبيعة في بادئ النظر من الحقائق الغيبية" (1).

ولد سيد خان في دلهي في أسرة من علية القوم عريقة وذات صلة وطيدة بالحكام المغول، وإن كانت فقيرة، ونشأ في جو مشبع بالتصوف، وقرأ في صغره القرآن وعلوم اللغة العربية واللغة الفارسية، ولكن لم يكد يمضي في هذه الدراسة قليلًا إلا ورغب عنها ونفض يده منها. وعلى يد أحد أفراد عائلته أخذ يتعلم الرياضيات وعلم الهيئة، ولم يكن حظه فيها إلا كحظه في دراسته الأولى وانقطع أخيرًا عن التعلم في سن الثامنة عشرة، وعاش في شبابه حياة مرح يحضر حفلات الرقص والغناء الشائعة في طبقته (2).

وفي سن الثانية والعشرين اضطر بسبب وفاة والده للالتحاق بخدمة الحكومة الإنجليزية في سلك القضاء، وعمل في عدد من المدن الهندية. وبعد فترة ثاب إلى نفسه وبدأ في تغيير حياته وإصلاحها، وأقبل على التعلم من جديد ثم ألف عددًا من الكتب في السيرة النبوية والتاريخ (3).

وكان إخفاق الثورة الهندية عام (1857 م) نقطة تحول في حياته إذ رأى بأم عينيه المأساة التي عاشها المسلمون وسقوط دولتهم والخراب والدمار الذي لحقهم، وكاد أن يهاجر ويترك وطنه إلا أنه فضَّل البقاء. ومنذ أول وهلة كان يدرك أن تلك الثورة نتيجتها الفشل، فلهذا وقف في أثنائها يناصر الإنجليز ويساعد في حمايتهم ونجاة بعض عائلاتهم من القتل (4). لقد أيقن بعد تلك الثورة الفاشلة أن ولاء المسلمين للحكم الإنجليزي هو السبيل الوحيد لإنقاذهم، ولم يكن ذلك موقفًا سياسيًا فحسب بل كان نابعًا من إعجابه المفرط بالإنجليز

(1) "الصراع بين الفكرة الإسلامية والفكرية الغربية - أبو الحسن الندوي ص 71.

(2)

Hali، Hayat-i-Javed، P 1 - 28.

(3)

المصدر نفسه. P. 29 - 45.

(4)

المصدر نفسه. P 48 - 56.

ص: 122

وبحضارتهم وعلومهم. ولهذا جعل نصب عينيه منذ تلك اللحظة هدفًا سعى لتحقيقه طول حياته، وهو أن يقلد المسلمون الإنجليز والحضارة الغربية في كل شيء، مما جعل جون ماكدونالد الذي كان محررًا آنذاك في إحدى صحف مدينة "الله آباد" يصفه والزمرة التي بدأت تلتف حوله من المسلمين بأنهم "إنجليز في كل شيء باستثناء العناصر الأساسية لعقيدتهم الدينية"(1).

وفي كتاب له ظهر في تلك الفترة بعنوان: "ولاء المسلمين في الهند" كتب سيد خان يقول بأن هذا الولاء محبذ من تعاليم الدين في مثل هذه الظروف، واستدل بخدمة نبي الله يوسف عليه السلام لعزيز مصر بكل إخلاص وولاء، مع أن عزيز مصر لم يكن على دين يوسف (2).

وابتدأ سيد خان إصلاحاته بإزالة الحواجز بين المسلمين وبين الإنجليز، وقد كان من تلك الحواجز امتناع المسلمين من مخالطة الإنجليز ومؤاكلتهم فألف سيد خان كتاب "أحكام طعام أهل الكتاب" دعا فيه إلى معايشة الإنجليز ومشاركتهم موائدهم والتشبه بهم في آدابهم وتقاليدهم (3)، وتوج هذه الدعوة إلى تدعيم الصلات وتقويتها بالإقبال على دراسة الإنجيل وشرح بعض أجزائه، وكان أحد أهداف تلك الدراسة -التي ظهرت بعنوان:"تبيين الكلام" والتي لم يكتب لها أن تكتمل- أن يظهر أوجه الشبه بين الإسلام والمسيحية (4).

وفي عام (1869 م) سنحت الفرصة لسيد خان لزيارة إنجلترا وكانت رغبته كما كتب في خطاب قبل سفره أن يطلع بنفسه "على العظمة الباهرة للحضارة الغربية" في مهدها "لا ليستفيد هو وحده من هذه التجربة بل ليستفيد قومه أيضًا" لأنه حين يعود سوف يعلمهم ما تعلمه ويضع نفسه نموذجًا لهم "في الاقتباس من الغرب (5)، ومكث سيد خان في لندن سبعة عشر شهرًا كان فيها" ضيفًا مبجلًا وزائرًا كريمًا وصديقًا عزيزًا، في الأوساط الإنجليزية المحترمة، وحضر المآدب

(1) جاء هذا الوصف في كتابه "أعمدة الإمبراطورية". انظر: ص 148 "جوانب من التراث الهندي"، د. خليل.

(2)

Balijon، "The Reforms and Religious Ideas of sir" Sayyid Ahmed Khan P.22.

(3)

المصدر نفسه.28 - 27 P.

(4)

Hali.Hayat - 1 - Javed p.75.

(5)

المصدر نفسه P.110.

ص: 123

الملكية الفخمة، والولائم "الأرستقراطية"- التي تمثل الحضارة الأوروبية في أروع مظاهرها وأخلاق الطبقة الحاكمة وطبقة الأشراف، ونال الوسام الملكي ولقب الشرف، وقابل الملكة وولي العهد والوزراء الكبار، واختير عضوًا فخريًا في الجمعيات العلمية ذات الشرف الكبير، وحضر حفلة نادي المهندسين الكبار، واطلع على المشاريع والخطط التقدمية التي مرت بها البلاد في الزمن القريب، والتي أخذت ثورة وانقلابًا في الأوضاع وفي مستوى البلاد ومكنتها من بسط نفوذها وسيطرتها الفكرية" (1).

وعاد سيد خان إلى بلاده ونفسه ممتلئة إعجابًا بما شاهد ورأى، وأخذ على عاتقه بعد عودته إلى مماته، أن يفتح أعين المسلمين إلى عظمة الحضارة الغربية، ويشق لهم طريقًا للاقتباس منها واحتذائها، وكانت وسيلته إلى ذلك عدة مبادئ:"التعاون في المجال السياسي، واستيعاب علوم الغرب في المجال الثقافي، وتكييف وإعادة تأويل الإسلام في المجال الفكري"(2)، ولقد أنشأ بعد عودته مجلة "تهذيب الأخلاق" وهدفها الرئيس إصلاح التفكير الديني للمسلمين -كما يراه- وإزالة ما في هذا الفكر من قيود تمنعهم من التقدم (3)، وأنشأ كليته عليكره المعروفة الآن باسم جامعة عليكره، وكان الهدف منها تعليم آداب الغرب ولغاته بالدرجة الأولى (4) ومن أهم المؤلفات التي اضطلع بها في تلك الفترة "تفسير القرآن" الذي لم يكمله، وقد أراد من ورائه أن يثبت أن حقائق الإسلام وتعاليمه لا تتعارض مطلقًا مع قوانين الطبيعة (Nature)؛ لأن القرآن هو "كلمة الله" وقوانين الطبيعة هي "فعل الله" ولا يتعارض كلامه مع فعله. "هذا كلام في ظاهره صحيح ولكنه يعتمد على تصورنا نحن لما نظن أنه تعارض" ومن أجل ذلك الهدف وضع تفسيرًا خالف فيه كلام العرب وآراء السلف وإجماعهم لمحاولته تأويل ما ظنه تعارضًا بين كلام الله وبين قوانين الطبيعة.

(1)"الصراع بين الفكرة الإسلامية والفكرة الغربية" الندوي ص 73، وانظر تفاصيل زيارة سيد خان لإنجلترا في:" Hali، Hayat- 1 - Javed"، P.107 - 121.

(2)

B. A. Dar، "The Religious of sayyid Khan"، P.270.

(3)

"Hali، Hayat- 1 - Javed" P.123 - 125.

(4)

المصدر نفسه P.271.

ص: 124

آراء سيد خان:

كيف سعى سيد خان لتكييف الإسلام وملاءمته للحضارة الغربية؟

اعتبر سيد خان القرآن وحده الأساس لفهم الإسلام مستشهدًا لذلك بقول لعمر بن الخطاب: "حسبنا كتاب الله"، وفي ضوء الظروف الجديدة وتوسع المعرفة الإنسانية لا يمكن الاعتماد في فهم القرآن على التفاسير القديمة وحدها، التي اشتملت على كثير من الخرافات، ولكن ينبغي الاعتماد على نص القرآن وحده، الذي هو بحق كلمة الله، ومن خلال معرفتنا وتجاربنا الذاتية يمكن لنا أن نفسر القرآن تفسيرًا عصريًا (1).

وليس في القرآن ما يخالف قوانين الطبيعة، ويعني سيد خان بالطبيعة (nature) نفس المعنى الذي استعمله علماء أوروبا في القرن التاسع عشر للميلاد، نظام كوني مغلق يخضع لقوانين عمياء ليس فيها أي مجال للخرق أو الاستثناء (2).

ويستخدم سيد خان مفهومين لتقديم تفسير عصري للقرآن لا يناقض كما يعتقد قوانين الطبيعة، أولهما مفهوم المحكم والمتشابه، الذي جاء في قوله تعالى {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} [آل عمران: 7]، فهو يرى أن هذا التقسيم إلى محكم ومتشابه هو بعينه دليل على أن الإسلام هو دين الطبيعة، فالآيات المحكمة هي الأساسية والآيات المتشابهة هي الرمزية. الأولى تشتمل على أساسيات العقيدة، والثانية لأنها قابلة لأكثر من تفسير واحد فهي تساير تطور معارف البشر، فكلما تغير العصر وتغيرت الظروف وزادت معارف البشر وتجاربهم فلابدَّ في مقابلة ذلك أن يحدث تغير في فهم الناس للآيات المتشابهة، فقد يكون هناك تفسير لها مناسب لطور معين من المعرفة البشرية، ولكن في عصر آخر قد يوجد تفسير آخر يكون مناسبًا لطور المعرفة الجديد والمتقدم. وفي هذه الحالة يكون الاستمساك بالفهم القديم والنظر إلى الوراء هو عين الجهل بهدف القرآن من جعل بعض آياته متشابهة وقابلة لأكثر من تفسير (3).

(1)" Hali، Hayat- 1 - Javed" P.123 - 125.

(2)

المصدر نفسه P.150، و"جوانب من التراث الهندي"، د. خليل ص 41.

(3)

Dar، Pages 160.172، و"جوانب من التراث الهندي"، د. خليل ص 41.

ص: 125

والقاعدة الثانية: التي يعتمد عليها سيد خان في فهم القرآن يوضحها بمثال: فإذا قال قائل إنني لن أفعل كذا حتى تطلع الشمس من المغرب، فهو يقصد أن يبين أنه من المستحيل أن يفعل ما يشير إليه، فهذا هو المعنى الأساسي من حديثه، أما ذكر طلوع الشمس من المغرب فهو معنى ثانوي، ولا يفهم من حديثه أنه يرمي إلى بيان أن طلوع الشمس من المغرب حقيقة أم لا. فهكذا القرآن فهو مشتمل على حقائق أساسية هي المقصودة من الحديث، ولكن هذه المعاني الأساسية تصاحبها معان ثانوية وفرعية مأخوذة من بيئة العرب وظروفهم، ولا يعني ذكر القرآن لها أنها حقائق (1).

والقرآن وحده عند سيد خان هو الأساس لفهم الدين أما الأحاديث فلا يعتمد عليها. ويثير في هذا الموطن بعض الشبهات، فالأحاديث غير صالحة للاحتجاج كما يزعم لأنها لم تدون في العهد النبوي بل دونت في القرن الثاني من الهجرة في عصر مضطرب بالصراعات السياسية والاختلافات الدينية، وهذا كان له أثره في كثرة الأحاديث الموضوعة كما أن كثيرًا من هذه الأحاديث قد روي بالمعنى، ولهذا فهي تحمل فهم الراوي للحديث وليست هي كلمات الرسول صلى الله عليه وسلم بعينها. ويقول: إن المحدثين اهتموا بنقد السند والرجال ولم يهتموا بنقد متن الحديث ومحتواه، ويرى أن مهمة المسلمين اليوم هي استخدام ما يسميه مقاييس النقد العصري على الأحاديث "دون أن يفصل ما هي هذه المقاييس"، ولهذا فهو يقبل من الأحاديث فقط ما يتفق مع نص وروح القرآن وما يتفق مع العقل والتجربة البشرية وما لا يناقض حقائق التاريخ الثابتة. ويشير إلى تقسيم الأحاديث إلى متواترة ومشهورة وأحاديث آحاد، فيرى أن المتواترة مقبولة أما المشهورة لا تقبل إلا بعد أن تخضع للنقد أما أحاديث الآحاد فهو لا يميل إلى قبولها مطلقًا.

وحتى الأحاديث التي يقبلها وتصح فيها شروطه فهو يقسمها إلى قسمين: أحاديث خاصة بالأمور الدينية وأحاديث خاصة بالأمور الدنيوية، فالأمور الدينية مثل العقيدة عن الله سبحانه وصفاته، وشعائر العبادات، أما الأمور الدنيوية فهي تشمل المسائل السياسية والإدارية والاجتماعية والاقتصادية. فالأحاديث في دائرة

(1) Dar، Pages 201 - 245.

ص: 126

أمور الدين هي الملزمة وعلى المسلمين أن يستمسكوا بها، أما الأحاديث في أمور الدنيا فهي غير داخلة في مهمة الرسول صلى الله عليه وسلم مطلقًا، بل كان ما جاء في هذا المجال فهو خاص بظروف العرب وحالتهم في زمان النبوة، وهي ليست ملزمة للمسلمين، ذلك لأن أمور الدين ثابتة، أما أمور الدنيا فمتغيرة، ويستدل على هذا التقسيم بحديث تأبير النخل الذي قال فيه الرسول صلى الله عليه وسلم:"أنتم أعلم بأمور دنياكم"(1).

ويسخر سيد خان من أولئك الذين يظنون أن كل شيء قد اكتمل على أيدي الفقهاء الأقدمين، ويقول: مما لا شك فيه أنهم قد أحسنوا الصنيع، ولكن من المنافي للعقل كما يرى أن نتخيل أن أحكامهم التي توصلوا إليها في الظروف الخاصة بأيامهم صالحة أيضًا لعصرنا الحديث، وذلك لأن حاجات عصرنا -في رأيه- تختلف كلية عن حاجات عصرهم، فلهذا يدعو إلى أن نكف عن الولاء الأعمى لهم. إن أحكام هؤلاء الفقهاء لا تعدو أن تكون من صنع بشر معرضين للخطأ وهي صالحة لزمانهم، ولابد أن تعدل لتتكيف مع ظروفنا وحاجتنا الحاضرة. وفي حماس بالغ يقول:

"إننا أتباع الإسلام ولسنا أتباع زيد وعمرو! إن أحكام هؤلاء الفقهاء غير ملزمة لنا والأحكام الملزمة الوحيدة هي ما جاءت به النصوص (2). ونعيد إلى الأذهان هنا موقفه السابق من النصوص! " وقد كان سيد خان حقًا جادًا في مخالفة الفقهاء السابقين، وفي فصل خاص في السيرة الضخمة التي كتبها عنه صديقه ألطاف حسين حالي، يحصي حالي إحدى وأربعين نقطة في آراء سيد خان لم يتمكن هو على الأقل من أن يجد لها تعضيدًا عند العلماء السابقين، كما يذكر حالي عشر نقاط لم يُروَ مثلها قط في تراث السلف (3).

ولا يرفض سيد خان قبول آراء الفقهاء السابقين في صورتها الفردية فقط بل حتى ولو كانت هذه الآراء جماعية، فهو لا يعترف بتاتًا بالإجماع مصدرًا من مصادر التشريع الإسلامي. إن باب الاجتهاد في نظره مفتوح في كل المسائل ولا

(1) انظر: Dar، Pages 113 - 118 K 246، Baljom، P 95.

(2)

انظر: Dar، P.119،247 and Baljon، p.103.

(3)

" جوانب من التراث الهندي"، د. خليل- ص 162.

ص: 127

يجب تقييده بآراء مجموعة من الفقهاء اتفقت على شيء في عصر معين من الممكن -كما يحتج- أن يكون سبب اتفاقهم ذلك ناجمًا عن ظروف خاصة، وبتغير هذه الظروف يفقد مثل هذا الاتفاق أهميته. وبنفس القدر يرفض سيد خان تلك الهيمنة لإجماع الصحابة لأن المشاكل التي تواجهنا اليوم يمكن حلها بصورة أفضل إذا أخذنا في الاعتبار النظرة الشاملة لحالتنا الراهنة فقط دون الاعتماد على أحكام سابقة يعتقد أنها كلية ونهائية (1). ويدعو سيد خان إلى الاجتهاد -بالطبع الاجتهاد المبني على أسسه وقواعده هو- ولا يتحرج أن يؤدي مثل هذا الاجتهاد إلى فوضى فكرية بسبب كثرة الأخطاء؛ لأنه يرى أن تباين وجهات النظر والحرية الواسعة هي الوسيلة الوحيدة لتقدم الأمة (2).

النتائج العملية لهذا المنهج:

ويستخدم سيد خان هذا المنهج الذي اختطه لفهم الدين لإعادة تأويل القرآن وإعادة النظر في الإسلام وتطويع مفاهيمه لموافقة قيم الغرب وآرائه، وذلك بجرأة وصراحة لا يواريها شيء، ولا يترك مجالًا من مجالات الدين إلا وأسهم فيه برأي.

فالألوهية عند سيد خان كما هي عند الفلاسفة هي "العلة الأولى" والله خلق الكون والطبيعة ووضع لها قوانين ولكنه لا يتدخل في هذه القوانين بعد ذلك (3)، والنبوة ملكة إنسانية وموهبة من الطبيعة واستعداد ينميه الفرد كما ينمي الشاعر مواهبه "وإن كان يقر مع هذا المفهوم للنبوة بختمها"(4)، والوحي ليس أمرًا خارقًا من خارج النفس البشرية، ولكنه مرحلة عليا من مراحل الإدراك والإحساس والغريزة التي توجد عند كل إنسان حتى عند الحيوانات والحشرات (5).

ولا يرى سيد خان في المعجزات أمرًا خارقًا لقوانين الطبيعة، بل المعجزة

(1) Dar، P.272.

(2)

المصدر نفسه.

(3)

Dar، P.177.

(4)

المصدر نفسه P.166.

(5)

المصدر نفسه P.165.

ص: 128

عنده هي حدث موافق لهذه القوانين، ولكنه يثير الدهشة والإعجاب عند الناس لأنه يظهر وكأنه يخالف المجرى العادي للأمور. وفي ضوء هذه النظرة للمعجزة يقدم تأويلات لمعجزات الأنبياء لتتماشى مع قوانين الطبيعة. فقصة صاحب الحمار الذي مر على القرية الخاوية على عروشها وتعجب كيف يحييها الله، ليست أحداثًا واقعية بل هي رؤيا في المنام. وقصة إبراهيم عليه السلام مع الطيور الأربعة هي أيضًا رؤيا منامية، وعن قصة انفلاق البحر لموسى عليه السلام يقول سيد خان: إن الضرب في قوله تعالى: {فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ (63)} [الشعراء: 63]، معناه المشي والذهاب كما تقول ضرب في الأرض، فالله يأمر موسى بالسير في البحر الذي كان في ذلك الوقت مخاضة ضحلة. والحوت الذي التقم يونس عليه السلام لم يبتلعه، ثم لفظه من جوفه، إنما التقمه بمعنى أمسكه بفمه (1).

وميلاد عيسي عند سيد خان لم يكن معجزة، بل كان ميلادًا طبيعيًا من زواج "قارن هنا موقف العصرانية المسيحية من هذه القضية" (2) والملك الذي بشر مريم بمولده فقالت {أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ} [مريم: 20]، أتاها في رؤيا في النوم قبل الزواج. ووصف مريم بأنها {وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا} لا يعني أنها عذراء بل هو وصف لها بالطهارة من دنس الرذيلة، ووصف عيسى بأنه كلمة من الله أو روح منه لا يشير إلى أن ميلاده كان شيئًا خارقًا غير عادي، بل قد وصفت أشياء أخرى بهذه الكلمات في أكثر من موضع. وعيسى توفي وفاة عادية ومات كما يموت سائر البشر ويستدل على ذلك بقوله تعالى:{إِذْ قَالَ اللَّهُ يَاعِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ} [آل عمران: 55]، وقول عيسى كما حكاه القرآن {فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ} [المائدة: 117]، أما رفعه إليه فلا يعني رفعه إلى السماء بل هو رفع منزلته (3).

وقصة خلق آدم يفسرها سيد خان في ضوء نظرية دارون، فالماء والطين تفاعلا كيميائيًا، فكانت النتيجة خلية حية من الممكن أن تكون هي الأصل لكل

(1) Baljon، P 86،87 &Dar، P. 180 - 186.

(2)

انظر: ص 129.

(3)

Dar، P.186 - 190.

ص: 129

الكائنات الحية من حيوانات وإنسان، وآدم الذي يجيء ذكره في القرآن لا يعني فردًا بعينه، ولكنه رمز للإنسانية جمعاء، ولم تحدث محاورة حقيقية بين الله سبحانه والملائكة عن خلق البشرية، ولكن جاء التعبير عن المواهب التي منحها الإنسان - {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا} [البقرة: 31]- في شكل قصصي أدبي ليقرب فهمه للناس (1).

والملائكة ليست كائنات ذات أجنحة وتتشكل، بل الملائكة هي قوى الطبيعة، وفي الإنسان المقصود بها قوى الخير، والشياطين قوى الشر (2)، والجن قبائل بدائية كانت تعيش في جزيرة العرب وكانت خاضعة للملك سليمان (3)، ووصف الجنة والنار ليس هو وصفًا لأمور حسية، بل هي إشارات رمزية لحالات نفسية من الألم والعذاب (4).

فقه سيد خان:

وفي مسائل الفقه لسيد خان نظرات كثيرة تسير وفق منهجه لتقريب أمور الدين من مفاهيم الحضارة الغربية، ونقدم هنا بعض النماذج.

في فقه العبادات كان منهجه أن يفسر ممارسات العبادة بمنطق عقلي بحت، فغسل الأعضاء في الوضوء نظافة ورمز للطهارة المعنوية، والقبلة كانت في مبدأ الأمر للتفريق بين أهل الكتاب والمسلمين ثم أصبح تقليدًا دائمًا. والصلاة القصد منها توجيه انتباه المرء لخالقه، وحركات اليدين أمر مساعد لهذا الهدف، والإحرام والطواف وتقبيل الحجر الأسود ورمي الجمرات عادات باقية من الأديان الأولى في طفولة البشرية، واحتفظ بها الإسلام مع أنها عادات بدائية -مثل لبس ثوب غير مخيط- لتكون ذكرى لأولئك الأطهار الأوائل من الصالحين (5).

ويتحدث سيد خان عن الجهاد فيدفع أن الإسلام يسعى لإكراه الناس على

(1) Dar P.208.

(2)

المصدر نفسه P.241.

(3)

المصدر نفسه P.243.

(4)

المصدر نفسه P.232.

(5)

Dar، P.250 - 256.

ص: 130

الدخول في الدين، ولكن الجهاد مشروع فقط للدفاع عن النفس وفي حالة واحدة فقط هي اعتداء الكافرين على المسلمين من أجل حملهم على تغيير دينهم، أما إذا كان الاعتداء من أجل أمر آخر مثل احتلال الأراضي وليس هدفه الدين فالجهاد غير مشروع. "يضع سيد خان في ذهنه هنا احتلال الإنجليز للهند ويريد أن يجد مبررًا لمسالمتهم"(1).

والربا المحرم في نظر سيد خان هو الربح المركب الذي يدفعه الفقير مقابل دينه كما هي العادة الشائعة عند العرب، أما الفائدة البسيطة في المعاملات التجارية المعاصرة والبنوك فليس ربًا وليست حرامًا (2).

ويضع الميراث في مرتبة ثانية بعد الوصية جمعًا بين آيات الميراث والوصية "إذ في نظره أنه لا نسخ في القرآن"، وبناء على هذه النظرة يرى أن يقسم مال المتوفى بالطريقة التي يوصي بها، وتنفذ وصيته كما هي دون أي قيود، فهو لا يعترف بالأحاديث التي تقيد نفاذ وصية الميت في ثلث ماله فقط أو التي تمنع أن تكون وصيته لأحد من ورثته. إن للموصي مطلق الحرية في أن يوصي كما يشاء، وينبغي احترام رغبته هذه بعد موته. أما تقسيم المال عن طريق نظام الإرث فهو للحالات التي لا توجد فيها وصية (3).

ويناقش سيد خان قضية تعدد الزوجات ويؤكد أن الأصل هو زواج الواحدة أما التعدد فهو الاستثناء، والقرآن قد جعل شرط هذا النوع من الزواج العدل، وبما أن العدل غير مستطاع كما يذكر القرآن نفسه فلهذا لا يباح تعدد الزوجات إلا في الحالات النادرة ويجب أن يقصر على الظروف الاستثنائية (4).

وفي دائرة الحدود يرفض سيد خان الأخذ بعقوبة الرجم للزاني، ويعتمد في رفضه لهذه العقوبة على دليلين: الأول أن الرجم لم يذكر في القرآن وهذا عنده كاف لأن الحديث في نظره لا تقوم به حجة، والثاني على فرض قبولنا للأحاديث التي أثبتت الرجم فهذه الأحاديث -في رأيه- تحكي فقط العادة التي شاعت في

(1) Dar، P. 257.

(2)

المصدر نفسه P.264.

(3)

المصدر نفسه. P.263.

(4)

Dar، P.122.

ص: 131

تلك الأيام تقليدًا لليهود (1)، واستنادًا على الحجة نفسها يرى أن الدية ما هي إلا عادة عربية قديمة ولا تناسب العصر (2).

والنفي الوارد في عقوبات الحرابة لا يمكن الآن تنفيذه وإلا فما الفائدة أن نخرج المجرم من بلده إلى بلد آخر يعيث فيه فسادًا (3)، وقطع الأيدي والأرجل كانت عقوبة مقبولة في العهود الأولى إذ لم تكن هناك سجون أما الآن فينبغي الكف عن تطبيق هذه العقوبات الوحشية التي تنافي التمدن والحضارة (4).

خلفاء سيد خان:

كانت تلك هي بعض النماذج من فكر سيد خان وآرائه ومنها تتضح لنا صورة عن نهجه وطريقته للملاءمة بين الإسلام والعصر الحديث. وقد أصبح منهجه ذاك مدرسة فكرية تأثر بها تلاميذه وخلفاؤه إلى اليوم، ومن أشهر هؤلاء التلاميذ شراغ علي، وأمير علي وخدابخش الشاعر، وغلام أحمد برويز، وخليفة عبد الحكيم، ومولانا محمد علي أحد قادة حركة الأحمدية (5).

ومن أظهر مؤلفات شراغ علي (الإصلاحات السياسية والقانونية والاجتماعية المقترحة للامبراطورية العثمانية والدول الإسلامية الأخرى) وفي هذا الكتاب تظهر الدعوة إلى التوفيق بين الإسلام والعصر بالطريقة المفضلة لهذه المدرسة، إذ نقرأ في مقدمة الكتاب "لقد حاولت أن أوضح في هذا الكتاب أن الإسلام الذي علمه محمد -نبي العرب- فيه من المرونة (Elasticity) ما يمكنه من تكييف نفسه مع التغييرات السياسية والاجتماعية التي تحدث حوله". ويمضي للقول:"إن القرآن -أي: تعاليم محمد- ليس حاجزًا عن التقدم الروحي، ولا مانعًا من حرية الفكر بين المسلمين ولا سدًا أمام التجدد (Innovation) في أي ميدان من ميادين الحياة سياسية أو اجتماعية أو فكرية أو خلقية". ثم ماذا بعد تأكيد هذه النغمة المكررة؟ إن الوسيلة التي يقترحها لهذا التزاوج بين الإسلام

(1) Dar، P.247.

(2)

المصدر نفسه P.275.

(3)

المصدر نفسه P.262.

(4)

المصدر نفسه P.263.

(5)

Maryam Jameelah: "Islam and Modernism".

ص: 132

والتقدم، هي ألا نلصق صفة القدسية بما ليس بمقدس. إننا نضخم هالة القدسية حول النبي وحول أقواله وأفعاله مع أنه "مجرد بشر" وصحيح أن تعاليمه في الأمور الدينية واجبة الاتباع "ولكنه حين يتجرأ بالرأي في الأمور الأخرى فهو لا يعدو أن يكون بشرًا"، وبهذا المفهوم يرى أن النبي "لم يوحد بين الدين والدولة مطلقًا"، وهكذا يفتح شراغ علي بهذه المفاهيم الطريق لمن يريد إسلامًا حديثًا (1).

ومن تلاميذ سيد خان سيد أمير علي (1849 - 1928 م) وقد كان من طائفة الشيعة، تلقى تعليمه في كلية عليكره ثم في إنجلترا، وعرف بتعمقه في الثقافة والآداب الإنجليزية، ومن أشهر كتبه (روح الإسلام) الذي ألفه بالإنجليزية وظهر عام (1922 م) ولاقى هذا الكتاب وبخاصة في الغرب رواجًا لا مثيل له (2). والكتاب في حقيقته كتاب تاريخ عرض في القسم الأول منه للسيرة النبوية، وفي القسم الثاني عرض التاريخ الفكري والعلمي والسياسي للإسلام، وتاريخ الفرق والمذاهب، ونقرأ في ثنايا ذلك مثل هذه الفقرات التي تدلنا على النزعة العصرانية فيه. يقول:

"فوا حسرتاه على فقهاء المسلمين في الوقت الحاضر لقد حطمت آفة الجمود عندهم زهرة الدين الصحيح، كما قتلت روح الإخلاص المقدسة فيه. . . لقد تجاهل مسلمو الوقت الحاضر "الروح" فقلبوها حبًا في النصوص الجامدة واستعاضوا عنها بتقديس "الحرف" نفسه. . . إن أصحاب الرسول الأولين في تقديرهم وإعجابهم بمعلمهم الأكبر كانوا يطبعون على قلوبهم أوامره وشريعته وتعليماته التي شرعها لصالح المرحلة التي جاء فيها أي: لظروف مجتمع طفولي. . . وإذا فرضنا أن أعظم مصلح جاء به التاريخ. . . رافع لواء العقل. . . الرجل الذي أعلن أن العالم خاضع لقانون الطبيعة المتطور المتقدم. . . إذا افترضنا أن هذا الرجل كان يتوقع أن تلك الجرعات التي جاء بها والتي استدعتها الظروف السائدة لمجتمع نصف متحضر لن تكون أبدًا غير قابلة للتحول حتى

(1) Zaki، "Rise of Muslims in Indian Politics"، P.242.

(2)

جوانب من التراث الهندي. د. خليل ص 47 و " Maryam Jameelah، Islam and Modernism" P.56.

ص: 133

نهاية العالم. . . إذا فرضنا هذا فإننا نكون بذلك قد ظلمنا نبي الإسلام كل الظلم. . .

. . . فليس هناك من يحمل مفهومًا نافذًا عميقًا، بأن ضرورات هذا العالم الذي يسير قدمًا بظواهره الاجتماعية والخلقية الدائبة التغير، وباحتمال أن يكون الوحي الذي أنزل إليه لن يكون صالحًا لكل الظروف الممكنة أكثر مما يحمل محمد. . .

فالمعلم العظيم الذي كان يدرك ملابسات عصره كل الإدراك، وكذلك حاجات القوم الذي كان عليه أن يعمل بينهم، قد رأى ببصيرته النافذة وبعد نظره الثاقب -وربما أمكن القول أنه تنبأ- أن وقتًا سيأتي لابد أن يفرق فيه بين التنظيمات العارضة والمؤقتة، وبين التعليمات الدائمة والعامة (1).

وفي موضع آخر يقول: "إن ما يبدو على قواعد الإسلام من عنف وصرامة أم عدم قابلية للتكيف مع الأوضاع الحاضرة في الفكر هي التي تقصيه عن كونه دينًا عالميًا. . . ولكن شيئًا من التمحيص في قيمة الشرائع والمفاهيم التي جاء بها محمد وبعض الإنصاف في تحري الحقائق لابد أن يجلو الطبيعة المؤقتة لتلك القواعد ويجعلها تبدو منسجمة مع متطلبات الأزمنة الحاضرة. . ."(2).

ولكن أين نضع الفاصل بين التشريعات المؤقتة والخاصة بظروف العرب والتشريعات الدائمة الثابتة؟ لعل الإجابة تبدو في هذه العبارة من كتابه: "إن الإسلام يتطلب من معتنقيه اعترافًا بسيطًا بحقيقة أزلية، ومزاولة بعض واجبات خلقية، أما في النواحي الأخرى فهو يمنحهم أوسع مجال لتحكيم العقل"(3).

ولعلنا نجد مثالًا من التشريعات التي يرغب في تغييرها لأنها لم تعد تناسب العصر في رأيه في تعدد الزوجات وفي الرق إذ يأمل "أن يأتي الوقت القريب الذي يعلن فيه علماء الإسلام في مجمع علمي، أن تعدد الزوجات والرق منافيان تمامًا لأحكام الإسلام" وذلك لأن الظروف التي أباحت ذلك في العهود البدائية (Primitive) قد زالت (4).

(1)"روح الإسلام" أمير علي (الترجمة العربية) ص 210، والطبعة الإنجليزية P.182.

(2)

المصدر نفسه بالعربية ص 202، وبالإنجليزية P.175.

(3)

المصدر نفسه بالعربية ص 327، وبالإنجليزية P.237.

(4)

المصدر نفسه P.232.

ص: 134

ومن تلاميذ سيد خان مولانا محمد علي من طائفة القاديانية، وفي أحد كتبه نجد له بعض الآراء الفقهية التي تبين طريقته في محاولة تعديل الإسلام وفق الروح الغربية، ونقدم نماذج من آرائه في مجالات المرأة والحدود والجهاد. فالجهاد في رأيه من أجل الدفاع فقط والمحافظة على الوجود القومي للمسلمين (1)، ويرى أنه لا رجم في الإسلام والحوادث القضائية المروية في ذلك عن الرسول كانت اتباعًا لشريعة اليهود قبل أن ينزل عليه في المسألة قرآن، ونسخ ذلك بالآيات الواردة بقصر عقاب الزنا على الجلد فقط (2)، ويرى أن عقاب السرقة متروك لظروف الجاني وتقدير القاضي لها، وأن قطع اليد فقط للحالات المتكررة والسرقات الكبيرة (3)، وعقاب الخمر في العهد النبوي كان عقابًا بسيطًا وخفيفًا وأن جلد الأربعين لم يبدأ إلا في عهد عمر بن الخطاب الذي زاده أحيانًا إلى ثمانين، وقد يكون ذلك في نظره بسبب أنه انضاف إلى شرب الخمر إزعاج الرأي العام (4).

ويحل مولانا محمد علي زواج المسلم من الهندوسية باعتبار أن لهم ديانة وكتبًا مقدسة اعتمادًا على أن بعض الفقهاء اعتبر أن الصابئة من أهل الكتاب (5)، ويرى أن الاختلاط بين الجنسين مباح بدليل أنه مباح في الحج وفي الصلاة وأنه أمر يعتمد على التقاليد الاجتماعية وحدها والأعراف السارية، ولا يمكن وضع ضوابط ثابتة وجامدة له (6).

ومن تلاميذ سيد خان غلام أحمد برويز وهو من منكري السُّنَّة (7)، وطائفته طائفة مشهورة في باكستان وتهاجم بشدة من المسلمين وبخاصة من الجماعة الإسلامية، وللأستاذ أبي الأعلى المودودي صولات وجولات معه.

هذه مجموعة من خلفاء سيد خان حملوا فكره واتبعوا طريقته، وهم نماء لمدرسة العصرانية في الهند.

(1) Mulana Mohamed Ali، "the Religion of Islam"، P.460.

(2)

المصدر نفسه P.616 - 620.

(3)

المصدر نفسه P.614.

(4)

المصدر نفسه P.622.

(5)

المصدر نفسه P.527.

(6)

المصدر نفسه P.242.

(7)

انظر: كتابه. " The challenge of Islam"

ص: 135