الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كتب المتفلسفة من المسلمين وبعثت حية في هذا العصر باسم التجديد. والذي يغيب عن ذكاء هؤلاء الأذكياء أنهم يعتمدون في فهمهم لأمور الغيب على ما تدركه حواسهم، فهل يكون الحس والتجربة والملاحظة مصدرًا من مصادر معرفة الغيب؟ إن مسائل الغيب لا تدخل في دائرة اختصاص الحس والتجربة ولا يمكن نفيها أو إثباتها بهذا الطريق. إن المصدر الوحيد المتاح للبشر لمعرفة أمور الغيب هو الخبر الصادق عن طريق الأنبياء، وللمرء كامل الحرية أن يعلن كفره وإلحاده بتلك الأخبار ويخرج نفسه من دائرة المسلمين، ولكن لا يمكن أن يدخل نفسه في زمرة المسلمين ثم يفهم ويأول أخبار الأنبياء كيف شاء، في ضوء المعارف البشرية القاصرة المحدودة، ومهما كدّ ذهنه فإن تأويلاته لا تعدو أن تكون خيالات محضة مثل الروايات العلمية Science fiction، فهل يمكن أن تحل الروايات الأدبية محل حقائق العلم؟
ولهذا فما زال المؤمنون بأخبار الأنبياء في كل أمة يؤمنون بالوحي وبالملائكة، والجن والشياطين، وصفات الجنة والنار، كما جاءت صفاتها في هذه النصوص والأخبار، ويعدونها حقائق يقينية وليست رموزًا وأمثلة. فما جاءت به النصوص عن الوحي وكيفيته، وعن الملائكة وطبيعتهم، وحقيقة خلقهم وصفاتهم، وأصنافهم وأفعالهم، وعن الجن وماهيتهم وخصائصهم ومهامهم، وعن أنواع النعيم والعذاب الحسية والنفسية، كل ذلك وصف حقيقي لأمور واقعة، ويفهم بمعانيه المباشرة الظاهرة (1)؛ لأن تلك هي الطريقة العلمية الوحيدة، لمعرفة الإنسان بعالم الغيب الرحيب، التي لا تقوم على الحدس والتخمين.
منهج العصرانية في التفسير:
يتلخص منهج العصراية في التفسير في العبارة التالية (2):
"في ضوء الظروف الجديدة وتوسع المعرفة الإنسانية، لا يمكنك الاعتماد في فهم القرآن على التفاسير القديمة، التي اشتملت على كثير من الخرافات.
(1) انظر: "فتاوى ابن تيمية" 4/ 121 - 313، 19/ 10 - 32.
(2)
هذه خلاصة رأي سيد خان ومحمد أسد، انظر: الباب الثاني من هذا البحث.
ولكن ينبغي فهم النص القرآني من خلال معرفتنا وتجاربنا الذاتية. . . لأنه من مزايا القرآن الفذة أنه كلما ازدادت معرفتنا بهذا العالم وازدادت تجاربنا؛ تكشفت لنا آياته عن معان ثرة جديدة لم تخطر من قبل، وقد يختلف فهمنا لآية من القرآن مع فهم المفسرين الأوائل، وقد يكون هذا الاختلاف حادًا وواسعًا أحيانًا، بل ومتناقضًا مع آراء من سبقونا. ولا غبار في ذلك لأن المفسرين الأوائل فهموا نصوص القرآن على ضوء اللغة والسُّنَّة، جنبًا إلى جنب مع المعارف العامة المتاحة لهم، وما تجمع لدى المجتمع الإنساني حتى عصرهم من تجارب عامة".
إن التأمل في هذه العبارة وتحليلها يبعث في الذهن تساؤلين: ما الأساس الذي يعتمد عليه في فهم القرآن في كل عصر؟ وهل لازدياد المعرفة البشرية المستفادة من تجارب البشر الذاتية أثر في تفسير القرآن؟
أما الأساس الذي يعتمد عليه في فهم القرآن في كل عصر فما زال أصحاب الفكر المستقيم في كل عصر خلال أربعة عشر قرنًا يرون "أن الطريق المستقيم لتأويل القرآن وتفسير آياته هو أن يتفكر المرء في كلماته وصيغ الآية التي يريد أن يعرف معناها، من حيث اللغة أولًا ثم يضعها في سياقها، ثم يراجع ما ورد في مختلف مواضع القرآن من الآيات المتعلقة بنفس مضمونها، ويرى أي تفسير من تفاسيرها المتعددة المحتملة ينسجم مع هذه الآيات وأيها مخالف لما ورد فيها من المضمون، وبديهي أن قولًا لأحد إذا كان يحتمل تفسيرين أو أكثر فما العبرة إلا بتفسير هو على انسجام مع ما له من التصريحات الأخرى عن مضمون قوله. فإذا بذل المرء محاولته لمعرفة معنى القرآن بالقرآن إلى هذا الحد، فلينظر أي معنى يتقرر للآية قيد الدراسة على ضوء أقوال وأفعال من جاء بالقرآن -أي: محمد صلى الله عليه وسلم-، وبأي وجه فسرها أولئك الذين كانوا من أتباعه في أقرب عصر لحياته.
إن أهمية السُّنَّة في تفسير القرآن تأتي من أن القرآن كتاب منزل من عند الله تعالى على محمد صلى الله عليه وسلم، ليبينه للناس ويعلمهم إياه، وحينئذ لابد من الاعتراف بأن مفهومه السليم الموثوق به هو ما أدركه صلى الله عليه وسلم (1).
(1)"الإسلام في مواجهة التحديات المعاصرة" المودودي ص 175 - 185 (بتصرف يسير).
"ويجب أن يعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم بيَّن لأصحابه معاني القرآن كما بيَّن لهم ألفاظه، فقوله تعالى:{لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44] يتناول هذا وهذا.
وقد قال أبو عبد الرحمن السلمي: حدثنا الذين كانوا يقرئوننا القرآن كعثمان بن عفان وعبد الله بن مسعود وغيرهما، أنهم كانوا إذا تعلموا من النبي صلى الله عليه وسلم عشر آيات لم يجاوزوها حتى يتعلموا ما فيها من العلم والعمل (1)، قالوا: فتعلمنا القرآن والعلم والعمل جميعًا". ولهذا كانوا يبقون مدة في حفظ السورة، وأقام ابن عمر على حفظ البقرة عدة سنين.
ومن الأدلة على ذلك أن الله تعالى قال: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ} [ص: 29] وقال: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ} [النساء: 82] وقال: {أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ} [المؤمنون: 68] وتدبر الكلام بدون فهم معانيه لا يمكن.
وكذلك قال تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (3)} [الزخرف: 3] وعقل الكلام متضمن لفهمه. ومن المعلوم أن كل كلام فالمقصود منه فهم معانيه دون مجرد ألفاظه فالقرآن أولى بذلك. وأيضًا فالعادة تمنع أن يقرأ قوم كتابًا في فن من العلم كالطب والحساب ولا يستشرحوه، فكيف بكتاب الله تعالى الذي هو عصمتهم وبه نجاتهم وسعادتهم وقيام دينهم ودنياهم.
ومن التابعين من تلقى جميع التفسير عن الصحابة كما قال مجاهد: عرضت المصحف على ابن عباس أوقفه عند كل آية منه وأسأله عنها "والمقصود أن التابعين تلقوا التفسير عن الصحابة كما تلقوا عنهم علم السُّنَّة"(2).
ومن مظاهر سوء الفهم أن يقول قائل أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفسر جميع القرآن، وأن الصحابة لم يشرحوا إلا القليل منه، ذلك أن الشارح أو المفسر لأي كتاب لا يشرح إلا ما غمض من ذلك الكتاب، أما ما كان واضحًا في نفسه ولا يحتاج لبيان فلا يحتاج إلى شرح، ولهذا ما استوثق الرسول صلى الله عليه وسلم من أن الصحابة يدركون معناه السليم، فلم يأت فيه بعبارات إضافية. وكذلك الصحابة حين نقلوا معانيه إلى من بعدهم. وهكذا استمرت الأجيال منذ عهد الصحابة، كل جيل ينقل إلى الجيل الذي يليه معاني القرآن، ووجد في كل عصر من يوضح للجيل الجديد ما
(1) وفي رواية: "حتى يعرف معانيهن والعمل بهن". انظر: "مقدمة تفسير ابن كثير" 1/ 3.
(2)
"مقدمة في أصول التفسير" ابن تيمية ص 35.
أشكل عليه منه. ومن المؤكد أن بين أيدينا اليوم مفهوم القرآن السليم الذي أدركه النبي صلى الله عليه وسلم (1) لم يضع منه شيء. وهذا المفهوم السليم هو الذي ضمته كتب التفاسير التي بين أيدينا، والتي ضمت التفسير المأثور عن الصحابة والتابعين وإلا فأين يوجد؟
أثر المعرفة البشرية في فهم القرآن:
تتقدم المعارف البشرية المعتمدة على تجارب البشر الذاتية، وتزداد في كل يوم، وتكشف تبعًا لذلك أخطاء في معارف العصور الماضية، فهل يؤثر ذلك في فهم القرآن؟ وهل تتغير معاني القرآن تبعًا لتغير المعرفة البشرية المتاحة في كل عصر؟
من المعلوم أن القرآن قد اشتمل على جوامع الكلم، فالعبارة الوجيزة منه بل الكلمة الواحدة تحمل معنى كليًا وجامعًا، وهذا المعنى الكلي الأساسي يتسع للفهم، كلما ازداد التفكير فيه، وكلما ازدادت معارف البشر وازدادت تجاربهم، ولكن مما ينبغي التنبه له أن جميع المعاني الجديدة تنبع من ذلك المعنى الكلي الأساسي، ولا تناقضه ولا تخالفه، وإلا فلن تكون فهمًا صحيحًا للقرآن الكريم. قال تعالى:{سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} [فصلت: 53].
فكلما ازدادت معرفة البشر بالكون والآفاق، وبأقطار السموات والأرض وبأنفسهم، وبحوادث التاريخ ووقائعه، كلما تبينت أكثر فأكثر حقائق القرآن (2).
يقول المودودي عن ذلك:
"إنه ما من ريب في أن الإنسان على قدر ما يزداد علمًا بالكون وحقائقه، يزداد بصيرة وعمقًا في مفاهيم القرآن، ولكن لا يدل ذلك على أنه بهذا الطريق يصير أكثر علمًا بالقرآن حتى من محمد صلى الله عليه وسلم وتلاميذه المرتشفين بمناهل علمه مباشرة، ولا على أن أحدًا إذا تلقى قدرًا وافرًا من علم الفلك والطبيعيات والكيمياء وما إليها، فالمحتوم أن يعد من أكثر الناس وأحسنهم علمًا بالقرآن"(3).
(1) وهو المفهوم الذي أراده الله عز وجل يقول ابن كثير عن قوله تعالى: {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ (19)} : أن نبينه لك ونوضحه ونلهمك معناه على ما أردنا وشرعنا. تفسير ابن كثير: 4/ 449.
(2)
راجع تفسير الآية في: "تفسير القرطبي" 16/ 374، وراجع:"فتاوى ابن تيمية" 3/ 330.
(3)
"الإسلام في مواجهة التحديات المعاصرة" المودودي ص 187.