الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تجديد إقبال:
"إن العمل العظيم الذي أداه الدكتور محمد إقبال في مجال الإصلاح له قيمة كبرى لا ينساها التاريخ الإسلامي، والعمل المهم الذي أنجزه محمد إقبال هو أنه أعلن حربًا لا هوادة فيها ضد الغرب وحضارته المادية، فقد كان الرجل الوحيد في عصره الذي لا يدانيه أحد في تعمقه في فلسفة الغرب ومعرفته بحضارته وحياته، فلما نهض يفند فلسفته وأفكاره المادية بدأ يذوب سحر الحضارة الغربية الذي كان يذيب القلوب ويستولي على النفوس"(1).
بهذه الكلمات وصف الأستاذ أبو الأعلى المودودي جهود محمد إقبال (1877 - 1938 م) في مجال الإصلاح والتربية؛ وهي شهادة لها وزنها من رجل عاصره وعرفه. ويضيق نطاق هذه الدراسة عن تعداد إصلاحات إقبال، إنما نعرض هنا لأحد كتبه الذي لا يذكر اسم إقبال في العالمين العربي والغربي إلا ويقرن به. ذلك الكتاب الذي كان في الأصل ست محاضرات ألقاها عام (1928 م) في الجامعات الهندية بطلب من الجمعية الإسلامية في مدراس وجمعت في كتاب باللغة الإنجليزية بعنوان:" Thout in islam reconstruction of Religious" وترجم إلى العربية بعنوان: "تجديد الفكر الديني في الإسلام"، فهذا الكتاب في بعض محتوياته يناقض ويهز الصورة التي رسمها العلامة المودودي لإقبال.
فهو في بعض فقرات الكتاب يحبذ صراحة تلك السرعة الكبيرة التي يتجه بها المسلمون روحيًا نحو الغرب، بعد أن ظل التفكير الديني راكدًا خلال القرون الخمسة الأخيرة، ويرى أنه لا غبار على هذا الاتجاه؛ لأن الثقافة الأوروبية في جانبها العقلي ليست إلا ازدهارًا لبعض الجوانب الهامة في ثقافة الإسلام، ورغم أنه أضاف أنه يخشى أن ينخدع المسلمون بالمظهر الخارجي البراق للثقافة الأوروبية ويعجزوا عن إدراك كنهها وحقيقتها (2)، إلا أنه لم يخف إعجابه البالغ
(1) مجلة البعث الإسلامي -العدد الرابع- المجلد السادس عشر شوال، 1391 هـ، ص 15، الرأي نفسه للعلامة أبي الحسن الندوي في الصراع بين الفكرة الإسلامية والفكرة الغربية الصفحات - 93.
(2)
"تجديد التفكير الديني" إقبال ص 14، والطبعة الإنجليزية.7. P
بالإصلاحات التركية التي لا يماري أحد أنها كانت حركة تغريب وقعت فيما خشي منه إقبال نفسه، وهو الانبهار بالمظهر الخارجي للحضارة الغربية، ولكن إقبال كان يعتبرها حركة "اجتهاد" لإعادة بناء الشريعة من جديد على ضوء الفكرة والخبرة في العصر الحديث، ويصفها بأنها أكثر اتفاقًا مع روح الإسلام (1).
ويشيد بالطريقة التي يمارس بها التركي "الاجتهاد" في قضاياه السياسية والدينية مستوحيًا على النحو الذي يفعله حقائق التجربة وحدها، لا التفكير الفلسفي المدرسي لفقهاء عاشوا وفكروا تحت ظلال أحوال من الحياة متباينة (2)، ويقول: إن نهضة الإسلام المرتقبة لابد أن تحذو المثال التركي وأن تفعل ما فعله الترك فتعيد النظر في تراث الإسلام العقلي (3).
ويستطرد للقول: إن معظم الأمم الإسلامية اليوم يكررون القول بالقيم التي قال بها السلف بطريقة آلية، أما تركيا فهي الأمة الإسلامية الوحيدة التي نفضت عن نفسها سبات العقائد الجامدة، واستيقظت من الرقاد الفكري وهي وحدها التي نادت بحقها في الحرية العقلية وهي وحدها التي انتقلت من العالم المثالي إلى العالم الواقعي، وهذه النقلة وهذه الحياة الجديدة الفسيحة الأرجاء المفعمة بالحركة، لابد أن تستحدث لتركيا مواقف توحي بآراء جديدة وتقتضي تأويلات مستحدثة للأصول، والمبادئ، تلك الأصول والمبادئ التي كانت لها قيمة نظرية فقط عند قوم لم يمارسوا الانفتاح (4).
من هذه الآراء تتكشف معالم التجديد الذي يدعو إقبال الأمم الإسلامية إليه، فالتغير والحركة والنمو الذي يصيب العالم الإسلامي من اتجاهه نحو الغرب، يقتضي إعادة النظر في التراث وإعادة بناء الشريعة من جديد على ضوء الفكر والتجربة المعاصرة، واستحداث تأويلات جديدة للمبادئ والأصول. وهذه هي معالم العصرانية (Modernism) بعينها فهل كانت تلك حقًا هي أفكار إقبال؟ وهل كان حقًا يدعو إلى هذا النوع من التجديد؟
(1)"تجديد التفكير الديني" إقبال ص 14، والطبعة الإنجليزية. 157. P
(2)
المصدر نفسه ص 182، والإنجليزية. 158. P
(3)
المصدر نفسه ص 176، والطبعة الإنجليزية. 153. P
(4)
المصدر نفسه ص 186، والطبعة الإنجليزية P،162.
تناقض إقبال:
تصف مريم جميلة هذه الآراء بأنها "من الأخطاء الفكرية التي وجدت طريقها إلى مؤلفات محمد إقبال النثرية باللغة الإنجليزية"، وتقول: إن أسوأ ما في الأمر أن العالم الذي يتكلم الإنجليزية، "ينبغي أن تضاف العربية أيضًا"، والذي يجهل أشعاره بالأوردية والفارسية (1)، يعتقد أن هذا الكتاب يمثل بدقة أفكار العلامة محمد إقبال، وتؤكد أن إقبال نفسه اعترف في آخر حياته أنها خطأ كبير، وتسوق مقتطفات من شعره تناقض الآراء التي طرحها في الكتاب، وتعضد مريم جميلة أقوالها برسالة شخصية بعثها إليها المودودي جاء فيها:
". . . ولكن محمد إقبال بكل عبقريته الشعرية، لم يكن ينجو من الأخطار، ولسوء الحظ فإن كتاباته لا تخلو كلية من التناقضات، لقد كان إقبال يمر دومًا بمراحل مختلفة للتطور العقلي أثناء حياته، ولم يستطع أن يكوِّن فكرة صافية عن الإسلام إلا في السنوات القليلة الأخيرة من حياته، ففي السنوات الأولى من حياته تداخلت أفكار ومؤثرات غربية مع أفكاره الإسلامية"(2).
ونمضي قدمًا في قراءات أخرى لفكر إقبال في كتابه تجديد التفكير الديني في الإسلام. والكتاب في الأصل كتاب فلسفي وهو محاولة كما يقول عنه مؤلفه لإعادة بناء الفلسفة الإسلامية بناء جديدًا آخذًا بعين الاعتبار المأثور من فلسفة الإسلام إلى جانب ما جرى على المعرفة الإنسانية من تطور في نواحيها المختلفة (3)، ويبحث إقبال في هذا الكتاب المعرفة المكتسبة عن طريق التجربة الحسية، والمعرفة المكتسبة عن طريق ما يسميه التجربة الدينية "الصوفية"، ويقارن بين نوعي المعرفة هذين ويناقش أيضًا حقيقة النفس وحريتها وخلودها والألوهية والنبوة وختم الرسالة ومبدأ التغير والحركة في الكون والمجتمع.
وأقدم مثالين يظهر بهما ما عند إقبال من نظرة عصرانية. ويطالعنا المثال الأول في تلك التأويلات التي يقدمها لبعض العقائد والتي تشابه تأويلات سيد خان والفلاسفة الأولين. يقول عن قصة هبوط آدم:
(1) للشاعر إقبال سبعة دواوين شعر.
(2)
انظر: "الإسلام بين النظرية والتطبيق" مريم جميلة ص 182 - 196، والطبعة الإنجليزية " Islam in Theory& Practice" P.246 - 259.
(3)
" تجديد التفكير الديني" ص 2.
"وهكذا نرى أن قصة هبوط آدم كما جاءت في القرآن لا صلة لها بظهور الإنسان الأول على هذا الكوكب، وإنما أريد بها بالأحرى بيان ارتقاء الإنسان من الشهوة الغريزية إلى الشعور بأن له نفسًا حرة قادرة على الشك والعصيان"(1).
ويقول عن الجنة والنار:
"أما الجنة والنار فهما حالتان لا مكانان، ووصفهما في القرآن تصوير حسي لأمر نفساني؛ أي: لصفة أو حال"(2).
أما المثال الثاني للنزعة العصرانية عند إقبال فتظهر واضحة في الفصل الذي كتبه عن الاجتهاد وسماه "مبدأ الحركة في الإسلام"(3)، ويقصد أن المبدأ الذي يواجه به الإسلام التغير والحركة هو الاجتهاد. ويعرف إقبال الاجتهاد ثم يقول:"وأصل الاجتهاد على ما أعتقد هو قول القرآن في آية مشهورة {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت: 69]، وهذا الاستدلال يكشف أن إقبال، لم يكن -آنذاك على الأقل- عميق المعرفة بالثقافة الإسلامية"(4).
ويطرح إقبال في ذلك الفصل هذا السؤال الذي هو شغل العصرانية الشاغل ". . . وانتقل الآن إلى النظر فيما إذا كان تاريخ الشريعة الإسلامية وبناؤها يتبين فيهما إمكان تفسير الشريعة ومبادئها تفسيرًا جديدًا، وبعبارة أخرى الموضوع الذي أود أن أثير البحث فيه هل شريعة الإسلام قابلة للتطور؟ ".
وعنده أن الإجابة على هذا السؤال تحتاج إلى جهد عقلي عظيم، ويرى أن العالم الإسلامي عليه أن يواجه هذا السؤال بالروح التي كان يواجه بها عمر مشكلات الدين، ويصفه بأنه أول عقل ممحص مستقل في الإسلام. ولا ريب عنده أن التعمق في دراسة كتب الفقه والتشريع الهائلة العدد، لابد من أن تجعل الناقد بمنجاة من الرأي السطحي الذي يقول بأن شريعة الإسلام شريعة جامدة غير قابلة للتطور. ثم يناقش تجديد أصول الفقه الإسلامي من أجل أن يتبخر الجمود المزعوم ويبدو للعيان إمكان حدوث تطور جديد.
(1)"تجديد التفكير الديني" ص 99، والطبعة الإنجليزية. P.85
(2)
المصدر نفسه ص 141، والإنجليزية P.132.
(3)
الصفحات 168 - 208، والطبعة الإنجليزية P.180 - 186.
(4)
انظر: "الفكر الإسلامي الحديث" محمد البهي ص 483.
تجديد أصول الفقه:
إنه يرى أن القرآن هو الأصل للشريعة الإسلامية، وليس من شك في أن القرآن يقرر بعض المبادئ والأحكام العامة في التشريع، ولكن القرآن ليس مدونة في القانون، فغرضه الأساسي هو أن يبعث في نفس الإنسان أسمى مراتب الشعور بما بينه وبين الله وبينه وبين الكون من صلات. على أن الأمر الجدير بالملاحظة في هذا الصدد هو أن القرآن يعتبر الكون متغيرًا، ومن الواضح الجلي أن القرآن بما له من هذه النظرة لا يمكن أن يكون خصمًا للتطور، وأن المبادئ التشريعية في القرآن رحبة واسعة وأبعد ما تكون عن سد الطريق على التفكير الإنساني والنشاط التشريعي، وأن الرعيل الأول من الفقهاء اعتمدوا على هذه المبادئ واستنبطوا عددًا من النظم التشريعية، على أن مذاهبهم مع إحاطتها وشمولها ليست إلا تفسيرات فردية، وهم لم يزعموا أبدًا أن تفسيرهم للأمور واستنباطهم للأحكام هو آخر كلمة تقال فيها، وبما أن الأحوال قد تغيرت والعالم الإسلامي يتأثر اليوم بما يواجهه من قوى جديدة، فالرأي عنده "أن ما ينادي به الجيل الحاضر من أحرار الفكر في الإسلام من تفسير أصول المبادئ التشريعية تفسيرًا جديدًا، على ضوء تجاربهم وعلى هدي ما تقلب على حياة العصر من أحوال متغايرة هو رأي له ما يسوغه كل التسويغ".
ثم ينتقل إلى أحاديث الرسول المصطفى صلى الله عليه وسلم التي هي الأصل الثاني العظيم للشريعة، وينقل رأي المستشرق جولد تسيهر بأن إخضاع الأحاديث للفحص الدقيق على ضوء القوانين المستحدثة في النقد التاريخي، يظهر أنها في جملتها لا يوثق بصحتها. . .
ثم يتناول بالبحث مسألة يعتبرها هامة، وهي أن الفرق بين الأحاديث التي تتضمن أحكامًا تشريعية والأحاديث التي ليس لها طابع تشريعي. . . وحتى السُّنَّة التشريعية يرى أن يبحث عن مدى ما تضمنته من عادات كانت للعرب قبل الإسلام، فتركها الإسلام دون تغيير، وأخرى أدخل فيها النبي تعديلًا. وهل قبول النبي لها تصريحًا أو ضمنًا قد أريد بها أن تكون ذات صفة عامة في تطبيقها.
ويستشهد بأن أبا حنيفة لم يكن أحيانًا يعتمد على هذه الأحاديث، وذلك في نظره موقف جد سليم ثم يقول: "إذا رأى أصحاب النزعة الحرة في التفكير العصري، أنه من الأسلم ألا تتخذ هذه الأحاديث من غير أدنى تفريق بينها،
أصلًا من أصول التشريع؛ فإنهم يكونون بذلك قد نهجوا منهج رجل من أعظم رجال التشريع بين أهل السُّنَّة".
والإجماع عند إقبال الذي هو الأصل الثالث من أصول التشريع الإسلامي قد يكون من أهم الأفكار التشريعية في الإسلام، وهو يرى ضرورة انتقال حق الاجتهاد من الأفراد إلى هيئة تشريعية إسلامية؛ لأن ذلك هو الشكل الوحيد الذي يمكن أن يتخذه الإجماع في الأزمنة الحديثة؛ لأن هذا الانتقال يكفل للمناقشات التشريعية الإفادة من آراء قوم من غير رجال الدين ممن يكون لهم بصر نافذ في شؤون الحياة. وهو يتوقع لمثل هذه الهيئة التشريعية أن تخطئ خطأ فاحشًا في تفسير الشريعة؛ لأنها قد تتألف من رجال ليست لهم دراية بوقائع التشريع الإسلامي، ولكنه يستبعد أن يكون الحل تأليف لجنة دينية مستقلة، تكون لها سلطة الرقابة ويرى أن العلاج الوحيد الناجع للتقليل من وقوع الأخطاء في التأويل، هو إصلاح نظام التعليم القانوني وتوسيع مداه.
ثم يتساءل عن إجماع الصحابة وهل إذا انعقد إجماعهم على أمر ما يكون ملزمًا للأجيال التي بعدهم؟ ويخلص إلى أن القول الجريء في ذلك هو أن الأجيال اللاحقة ليست ملزمة بإجماع الصحابة.
والأصل الرابع من أصول الفقه هو القياس ويرى إقبال أن القياس كان في الأصل ستارًا يتوارى خلفه الرأي الشخصي للمجتهد، وأن النقد الدقيق الذي وجه لمبدأ القياس كان يهدف إلى كبح الميل إلى إيثار النظر المجرد والفكرة التي تدور في العقل على الأمر الواقع، على أن المنتقدين أنفسهم وقعوا في خطأ آخر، وهو أنهم رغم إدراكهم ما للواقع من شأن، إلا أنهم في الوقت نفسه جعلوه ثابتًا إلى الأبد وقصروا نظرهم على (السابقات) التي وقعت بالفعل في أيام النبي وصحابته، ثم يدعو إلى إحسان فهم وتطبيق مبدأ القياس وهو أنه حق طليق في حدود النصوص الملزمة.
وعلى هذه الأسس يدعو إقبال العالم الإسلامي أن يقدم بشجاعة على إتمام التجديد الذي ينتظره، الذي من أهم نواحيه الملاءمة مع أوضاع الحياة العصرية وأحوالها. إلا أن إقبال يضيف بعض التحفظات هي من خير ما كتب في هذا الفصل حين يقول:
"إننا نرحب من أعماق قلوبنا بتحرير الفكر في الإسلام الحديث، ولكن