الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ضوابط التجديد:
بعد تحديد معنى التجديد والإشارة لمضمونه، يمكن أن تذكر بعض الضوابط التي تجعل المعنى الصحيح للتجديد لا يلتبس بالمعاني الخاطئة التي قد يلصقها بعضهم بمفهوم التجديد، والتي سيأتي إن شاء الله تفصيل كامل لها في الباب الثاني من هذا البحث. وهذه الضوابط مأخوذة من معاني التجديد المذكورة سابقًا، ومندرجة تحت مضامينها، ولكنها أفردت بالبحث زيادة في التوضيح وتأكيدًا لمفهوم التجديد.
الاعتماد على النصوص الموثقة:
يأتي في مقدمة ضوابط التجديد، اعتماده في فهم الدين والسعي لإحيائه، على نصوص صحيحة موثقة معتمدة. ولقد تعهد الله تعالى بحفظ نصوص القرآن، إذ قال:{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9)} [الحجر: 9]، فلم يدخل في حروفه تحريف ولا زيادة ولا نقص، مثل ما حدث للكتب السابقة التي وكل أمر حفظها لأهلها كما قال تعالى:{إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ} [المائدة: 44]، فضيعوها وحرّفوها (1). أما القرآن فلم يدخله تحريف، وقد أجمعت الأمة بجميع طوائفها على ذلك. وإن كان قد طعن في القرآن بعض الطاعنين قديمًا وحديثًا بشبهة التحريف والنقص، إلا أن ما قالوه ليس إلا ظنونًا وأوهامًا لا يقوم عليها دليل. فمن أولئك غلاة الشيعة الإمامية الذين ادعوا في بعض كتبهم زيادات ونقصًا، رووها بروايات ضعيفة غير ثابتة، ردها وفنَّدها كثير من العلماء منهم بعض علمائهم المعتبرين. يقول الطبرسي -مثلًا- في "مجمع البيان" ما نصه:"أما الزيادة في القرآن فمجمع على بطلانها وأما النقصان فهو أشد استحالة". ثم قال: "إن العلم بصحة نقل القرآن؛ كالعلم بالبلدان والحوادث الكبار والوقائع العظام والكتب المشهورة وأشعار العرب المسطورة، فإن العناية اشتدت والدواعي توفرت على نقله وحراسته وبلغت إلى حد لم يبلغه شيء فيما ذكرناه؛ لأن القرآن مفخرة النبوة ومأخذ العلوم الشرعية
(1) انظر في ذلك: "تفسير القرطبي" 10/ 5.
والأحكام الدينية، وعلماء المسلمين قد بلغوا في حفظه وحمايته الغاية حتى عرفوا كل شيء اختلف فيه من إعرابه وقراءته وحروفه وآياته، فكيف يجوز أن يكون مغيرًا أو منقوصًا مع العناية الصادقة والضبط الشديد" (1). وحاول بعض المستشرقين في العصر الحاضر إثارة شبهات حول توثيق نص القرآن، ولكنهم عجزوا أن يأتوا بدليل علمي مقبول، مع كثرة البحث والتنقيب وجمع مخطوطات القرآن القديمة ومقابلتها مع بعضها البعض.
ومع سلامة نص القرآن الكريم من التحريف وثبوته، فإن ذلك يشمل القراءات برواياتها ووجوهها المنقولة الثابتة بضوابطها المتفق عليها، حسب ما صرح به علماء القراءات وجهابذتهم. ومن أولئك الإمام ابن الجزري الذي قال في أول كتابه عن القراءات:"كل قراءة وافقت العربية ولو بوجه، ووافقت أحد المصاحف العثمانية ولو احتمالًا، وصح سندها فهي القراءة الصحيحة، التي لا يجوز ردها ولا يحل إنكارها، بل هي من الأحرف السبعة التي نزل بها القرآن، ووجب على الناس قبولها، سواء كانت عن الأئمة السبعة أم عن العشرة أم عن غيرهم من الأئمة المقبولين، ومتى اختل ركن من هذه الأركان الثلاثة، أطلق عليها ضعيفة أو شاذة أو باطلة، سواء كانت عن السبعة أم عمَّن هو أكبر منهم، هذا هو الصحيح عند أئمة التحقيق من السلف والخلف"(2). فكل قراءات القرآن يعتمد عليها في فهم الدين وفقهه وأحكامه وتجديده وإحيائه.
أما ضبط نصوص الحديث وتوثيقها فقد توفرت له جهود ضخمة ممتدة من العصور الأولى حتى عصرنا الحاضر، وتمخضت تلك الجهود في حفظ نصوص الحديث وتنقيتها مما شابها من وضع وزيادة وتحريف، وتدوينها في دواوين متداولة معروفة، من كتب الصحاح والسنن والمسانيد وغيرها. ومع كثرة التنقيح والتمحيص فلا تزال كثير من الأحاديث الواهية الضعيفة بل الموضوعة منتشرة ومشتهرة، وإذا اعتمد التجديد على نصوص حديثية غير صحيحة ولا موثقة، فإنه يكون تجديدًا أعرج قد يفسد أكثر مما يصلح. وهذا مجدد القرن الخامس الهجري أَبو حامد الغزالي، مع الاعتراف له بالفضل وبكثير من المزايا، إلا أن
(1)"مجمع البيان" الطبرسي 1/ 15.
(2)
"النشر في القراءات العشر" للحافظ محمد بن محمد بن الجزري 1/ 8.
إصلاحه وتجديده، وبخاصة كتابه "إحياء علوم الدين"، قد شابه كثير من الدخن والبدع بسبب اعتماده على الأحاديث الضعيفة وشحن كتابه بها، كما سيأتي بيانه لاحقًا في دراسة آثار المجددين في الفصل الثاني من هذا الباب. فلابد للتجديد أن ينضبط بالنصوص الحديثية الصحيحة وإلا لم يكن تجديدًا بالمعنى الصحيح.
اتباع مناهج علمية في فهم النصوص:
إذا كان القرآن والحديث هما المصدران الأساسيان للدين، فإن توثيق نصوصهما وحفظهما من الضياع ركن أساسي لأي تجديد للدين. لكن مما لا شك فيه أن النصوص ليست حروفًا وألفاظًا وأصواتًا، إنما النصوص معانٍ ومفاهيم، ولهذا فإن بقاء أي دين وتجديده ودوامه إنما يكون بفهم نصوصه الأصلية فهمًا صحيحًا، وحفظ معانيها السليمة وعدم تحريفها وتغييرها وتبديلها. ومثل ما توفرت لضبط نصوص القرآن ونصوص الحديث وتوثيقها، مناهج علمية معروفة في علوم القرآن وعلوم الحديث، كذلك توفرت لضبط فهم النصوص وتأصيل معانيها، مناهج علمية معروفة في أصول تفسير القرآن وفي أصول الفقه. هذه الضوابط العلمية لفهم النصوص من أهم ضوابط التجديد السليم التي ينبغي له أن ينضبط بحدودها ولا يتجاوزها وإلا كان تحريفًا وانحرافًا. وليس القصد هنا استقصاء هذه الضوابط وإنما تكفي الإشارة لأهمها (1).
من أول ضوابط فهم نصوص القرآن والحديث أن اللغة العربية هي المفتاح لمدلولاتها ومعانيها، والمقصود بها اللغة التي كان يتحدث بها العرب في عهد نزول القرآن. يقول ابن تيمية:"يحتاج المسلمون إلى شيئين: أحدهما: معرفة ما أراد الله ورسوله صلى الله عليه وسلم بألفاظ الكتاب والسُّنَّة، بأن يعرفوا لغة القرآن التي بها نزل، وما قاله الصحابة والتابعون لهم بإحسان وسائر علماء المسلمين فى معاني تلك الألفاظ، فإن الرسول لما خاطبهم بالكتاب والسُّنَّة عرَّفهم ما أراد بتلك الألفاظ، وكانت معرفة الصحابة لمعاني القرآن أكمل من حفظهم لحروفه، وقد بلَّغوا تلك المعاني إلى التابعين أعظم مما بلَّغوا حروفه"(2). وحسب هذا الضابط فإن معاني
(1) انظر: "في فقه التدين فهمًا وتنزيلًا"، الدكتور عبد المجيد النجار، الدوحة، كتاب "الأمة" 1420 هـ.
(2)
"كتب ورسائل وفتاوى ابن تيمية في التفسير" 1/ 353.
ألفاظ القرآن والحديث تؤخذ من لغة العرب في عهد ظهور الإسلام، وليس بحسب ما تولَّد بعد ذلك واستجد فيها من معان. وقد قامت جهود ضخمة لحفظ لغة القرآن وبقائها حية مستمرة، مع تطاول العهد وتطور اللسان العربي وتغيره.
ومن ضوابط فهم النصوص أيضًا أن تفهم في حدود المعاني التي فهمها السلف من الصحابة والتابعين ومن تبع نهجهم من العصور التالية، حسب ما أشار إليه قول ابن تيمية المنقول في الفقرة السابقة. ولا يعني ذلك جمود معاني القرآن على التراث المنقول عن السلف، إذ أن معاني القرآن يمكن أن تتسع وتستوعب معانٍ جديدة بحسب اتساع المعارف والتجارب البشرية المتراكمة، لكن اتساع معاني القرآن هذا ينبغي أن يكون أساسه ما فهمه السلف من المعاني، ولا يكون مناقضًا ومخالفًا لها. فتظل معاني السلف للنصوص هي الأصل والمحور الذي يتسع وينساح لكل جديد من علوم ومعارف.
ومن ضوابط فهم النصوص أن تقرأ في ضوء الظروف والأحوال التاريخية التي صاحبت نزولها، وهو ما يعرف بأسباب النزول وفيه مؤلفات كثيرة شائعة وكتب التفسير وشروح الحديث تنقله وترويه؛ لأنه من أسس الوقوف على المعاني وإزالة ما يلابسها من الإشكال والغموض. قال ابن دقيق العيد:"بيان سبب النزول طريق قوي في فهم معاني القرآن"، وقال ابن تيمية:"معرفة سبب النزول يعين على فهم الآية فإن العلم بالسبب يورث العلم بالمسبب"(1).
ومن ضوابط فهم النصوص أن تعتبر وحدة متكاملة، يفهم بعضها في سياق البعض الآخر، ذلك أن بعضها يبين بعضًا، وكلها من معين واحد لا تناقض فيه ولا اختلاف، كما قال الله تعالى في وصف القرآن:{وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} [النساء: 82]. ولهذا يقول ابن تيمية في كتابه "أصول التفسير": "فإن قال قائل فما أحسن طرق التفسير؟ فالجواب أن أصح الطرق في ذلك أن يفسر القرآن بالقرآن، فما أجمل في مكان فإنه قد فسر في موضع آخر، وما اختصر في مكان فقد بسط في موضع آخر. فإن أعياك ذلك فعليك بالسُّنَّة، فإنها شارحة للقرآن وموضحة له، بل قد قال الإمام أَبو عبد الله محمد بن إدريس الشافعي: كل ما حكم به رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو مما فهمه من القرآن، قال الله تعالى:
(1)"الإتقان في علوم القرآن" جلال الدين عبد الرحمن السيوطي 1/ 87.
{إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ} [النساء: 105]، وقال تعالى:{وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44]، وقال تعالى:{وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ} [النحل: 64]. ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألا أني أوتيت القرآن ومثله معه" يعني: السُّنَّة، والسُّنَّة أيضًا تنزل عليه بالوحي كما ينزل القرآن، لا أنها تتلى كما يتلى، وقد استدل الإمام الشافعي وغيره من الأئمة على ذلك بأدلة كثيرة ليس هذا موضع ذلك" (1).
وخلاصة الأمر أن ضوابط فهم النصوص هي التي تحفظها من الضياع والتبديل، والتجديد السليم هو الذي ينضبط بضوابط فهم النصوص هذه، وإلا كان تحريفًا للنصوص عن مواضعها بتأويلها بغير التأويل الصحيح.
الالتزام بضوابط الاجتهاد:
الاجتهاد من وجوه التجديد الأساسية التي لا يكتمل إلا بها، إذ لا يخلو عصر أو بلد من جديد لم يكن معلومًا من قبل. ولكن ذلك الاجتهاد الذي يصاحب التجديد ليس باجتهاد غير ملتزم ولا منضبط، بل هو اجتهاد بالمعنى الفقهي الأصولي للاجتهاد، ملتزم ومرتبط بضوابط تسدد مسيرته وتهدي طريقه، وتقربه من الصواب وتبعده من الخطأ والزلل. فللاجتهاد منهج علمي محدد مرسوم، لا يمكن أن يتجاوزه الباحث المجتهد، مثله في ذلك مثل كثير من علوم البشر ومعارفهم، مقيدة بمناهج علمية مرتضاة من علمائها، لابد لكل باحث من التزامها. وقد بيَّنت كتب أصول الفقه مناهج الاستنباط والاستدلال، ببحوث كثيرة وثرة وغنية.
وقد تنوَّعت وتعددت عبارات الأصوليين في تعريف الاجتهاد، وليس هذا موضع بسطها وهي مذكورة في كثير من المصادر، منها على سبيل المثال تعريف الشوكاني أنه "بذل الوسع في نيل حكم شرعي عملي بطريق الاستنباط"(2). وبالنظر في دراسات الأصوليين عن الاجتهاد يمكن أن تتبين عدة ضوابط ترسم منهجه وتحدد مجاله، وبالتالي تضبط التجديد الذي لا محيد له من الاجتهاد لبيان أحكام الشرع في الحوادث الطارئة المتغيرة.
(1)"كتب ورسائل وفتاوى ابن تيمية في التفسير" 13/ 363.
(2)
"إرشاد الفحول إلى تحقيق علم الأصول" محمد بن علي بن محمد الشوكاني، ص 418 وما بعدها.
من الواضح بادئ ذي بدء أن الاجتهاد لابد أن يكون من فقيه مؤهل له مقدرات عالية علمية وعقلية وسلوكية، تمكنه من القيام بجهد علمي مرموق لاستكشاف الحقيقة، مثله في ذلك مثل كل خبير في فن من الفنون أو علم من العلوم، لا يمكن أن يأتي بالجديد فيها من اختراعات واكتشافات إلا من كان عالمًا جامعًا حاذقًا ماهرًا. وقد تحدثت كتب الأصول عن مؤهلات المجتهد بين موسع ومضيق (1)، إلا أنه من غير المقبول ولا المعقول أن يتطفل على الاجتهاد دخلاء ليس لهم من العلم الشرعي إلا النزر اليسير، يتجرأ أحدهم على الفتيا في أعقد المسائل الشرعية، وهو لا يحسن إعراب بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ.
ثم إن الاجتهاد لا يكون إلا بدليل شرعي معتبر، وفي ذلك يقول الإمام الشافعي رحمه الله:"وليس لأحد أبدًا أن يقول في شيء: حلّ أو حرم، إلا من جهة العلم. وجهة العلم الخبر في كتاب الله أو السُّنَّة أو الإجماع أو القياس"(2). ولا يجوز لأيِّ مجتهد أن يقول بغير علم أو استناد إلى أدلة، وقد نقل الإمام ابن عبد البرّ إجماع الأئمة على ذلك فقال:"الاجتهاد لا يكونُ إلا على أصول يُضاف إليها التحليل والتحريم، وأنه لا يجتهد إلا عالمٌ بها، ومن أشكل عليه شيءٌ لزمه الوقوف ولم يجز له أن يحيل على الله قولًا في دينه لا نظير له من أصل ولا هو في معنى الأصل، وهو الذي لا خلاف فيه بين أئمة الأمصار قديمًا وحديثًا فتدبره"(3). واعتمادًا على هذا فلا ينبغي أن يقبل أي اجتهاد يخالف نصًا في القرآن أو السُّنَّة، أو يخالف مقاصد الشريعة العامة.
ولابد للاجتهاد من التفرقة بين الثوابت الدائمة والمتغيرات، فتغير الفتوى والأحكام له أسباب كثيرة أوضحها الفقهاء في مواضع كثيرة، منها ما أشار إليه الإمام ابن القيم في كتابه أعلام الموقعين في فصل جعل عنوانه:"فصل في تغير الفتوى واختلافها بحسب تغير الأزمنة والأمكنة والأحوال والنيات والعوائد"(4)، ولكن تلك المتغيرات كلها تقع تحت تغير المصالح والأعراف، وهو ما يمكن أن
(1) انظر مثلًا: "المستصفى في علم الأصول"، محمد بن محمد الغزالي أَبو حامد ص 342.
(2)
"الرسالة" بتحقيق أحمد شاكر ص 39.
(3)
"جامع بيان العلم وفضله" يوسف بن عبد البر النمري 2/ 57.
(4)
"أعلام الموقعين عن رب العالمين" ابن القيم 2/ 425.
يكون متغيرًا، أما الأحكام القائمة على نص فهي ثابتة أبدًا. يقول الإمام ابن حزم مؤكدًا هذه الحقيقة:"إذا ورد النص من القرآن أو السُّنَّة الثابتة في أمر ما على حكم ما. . . . فصح أنه لا معنى لتبدل الزمان ولا لتبدل المكان ولا لتغير الأحوال، وأن ما ثبت فهو ثابت أبدًا، في كل زمان وفي كل مكان وعلى كل حال، حتى يأتي نص ينقله عن حكمه في زمان آخر أو مكان آخر أو حال أخرى"(1).
منافاة الابتداع:
من ضوابط التجديد الهامة أنه يضاد الابتداع تمامًا، فالتجديد والابتداع ضدان ليس فقط لا يجتمعان، بل إن كل واحد منهما ينفي الآخر ويصادمه ويهدمه. وقد يخلط بعض الناس أن التجديد هو الإتيان بجديد، وهو بذلك يشتبه عليهم بالابتداع. لكن جديد التجديد هو ما كان له أصل، وذلك معنى جديد كما سبق توضيحه في مباحث اللغة، أما جديد الابتداع فهو ما لا أصل له سابق، وهو الجديد المذموم إذ لم يقم على دليل شرعي يسنده. وسيأتي في الفصل القادم أن من مجالات التجديد الهامة تصحيح الانحرافات والبدع.
من هو المجدد:
إن الإجابة على هذا السؤال ستساعدنا أكثر في استجلاء نظرة السلف إلى ماهية التجديد. وقد اختلف السلف فيما بينهم في تحديد من هو المجدد في كل قرن، يقول ابن كثير:"قد ادعى كل قوم في إمامهم أنه المراد بهذا الحديث"(2)؛ يعني حديث: "إن الله يبعث على رأس كل مائة سنة من يجدد الدين". وسنرى بعد قليل القوائم التي ضمت أسماء المجددين.
وهذا الاختلاف في تحديد أسماء المجددين يفرض على الذهن تساؤلًا: كيف يعرف المجدد؟ وهل من وسيلة إلى أن نعلم من هو مجدد القرن؟
من الظاهر أنه لا سبيل إلى القطع والجزم، إنما يرجع في تحديد المجدد إلى غلبة الظن باستقراء قرائن أحواله ومدى الانتفاع به (3). وإذا كان تعيين
(1)"الإحكام في أصول الأحكام" ابن حزم 5/ 771 - 774.
(2)
"فيض القدير" للمناوي 2/ 282.
(3)
انظر: "عون المعبود" 11/ 391.
المجدد إنما هو بالظن، والظن يخطئ ويصيب، فلا مجال إذًا لاعتبار ذلك التعيين أمرًا قاطعًا لا يقبل الجدل، ولا مجال إذًا للادعاء بأن شخصًا بذاته هو المقصود بالحديث، فهذه دعوى لا يعلم حقيقتها إلا الله تعالى (1). وكل ما في الأمر أنه لما ذكر أحمد بن حنبل جازمًا أن المجددين في المائتين الأوليين هما عمر بن عبد العزيز والشافعي، تجاسر من بعده إلى إضفاء صفة المجدد على من رأوه أهلًا لذلك (2). وتتابع العلماء في العصور المتتالية إلى تعداد المجددين ينتقدون آراء من سبقهم ويقدمون أسماء جديدة. ومن هذه الزاوية يتضح أن الباب واسع للاختلاف حول المجددين، إلا أنه لابد من ضوابط ومقاييس لمعرفة المجدد، حتى لا يطلق كل أحد القول فيزعم من غير أساس أن المجدد هو فلان (3).
شروط المجدد:
إن من هذه الضوابط ما يرجع إلى المواهب والصفات الذاتية التي رأى السلف أن المجدد ينبغي أن يكون متحليًا بها، ومنها ما يرجع إلى الأعمال التي يقوم بها في حياته وإلى أي حد يمكن أن تندرج الأعمال تحت عنوان التجديد، ومنها ما يرجع إلى مدى الانتفاع به وشهرته وآثاره التي تركها في عصره (4).
أما ما يخص الصفات الذاتية للمجدد، فإنه من الضروري أن يكون حائزًا على مواهب كثيرة، وسجايا متعددة، تؤهله لمهمة هي شبيهة بمهمة الأنبياء عليهم السلام.
(1) هذا رأي الزين العراقي. انظر: "خلاصة الأثر" المحبي 3/ 346.
(2)
انظر: المصدر نفسه ص 346.
(3)
انظر: كتاب "المجددون في الإسلام" لعبد المتعال الصعيدي، فقد عد من المجددين أسماء كثيرة وهي لا ترقى إلى رتبة المجدد.
(4)
يقول السيوطي جامعًا آراء السلف في هذه الضوابط:
والشرط في ذلك أن تمضي المائة
…
وهو على حياته بين الفئة
يشار بالعلم إلى مقامه
…
وينصر السُّنَّة في كلامه
وأن يكون جامعًا لكل فن
…
وأن يعم علمه أهل الزمن
وأن يكون في حديث قد روي
…
من أهل بيت المصطفى وقد قوي
وكونه فردًا هو المشهور
…
قد نطق الحديث والجمهور
وما نذكره من هذه الضوابط هو بسط لما أشار إليه السيوطي وغيره، وراجع:"عون المعبود" 11/ 392، و" فيض القدير" 1/ 10.
ومن ذلك أن تكون له ملكات عقلية، وقدرات فكرية، تمكنه من أن يكون ذا قدم راسخة في العلوم، ليس فحسب في مجال الكثير من فنونها وفروعها، كما تجمع الكتب في الخزانات والصناديق، ولكن أن يكون ذا نظر ثاقب، يستطيع به أن يحوز ملكة نقدها وبيان صحيحها من سقيمها، أو بعبارة أخرى أن تكون له الأهلية لقيادة الفكر في عصره.
فهذا التفوق العقلي، وتلك المقدرات العلمية العالية، أو كما يقول السيوطي:"يشار بالعلم إلى مقامه" و"أن يكون جامعًا لكل فن"(1)، هي من أوائل الصفات التي رأى السلف ضرورة توفرها في المجدد، وجعلوها مقياسًا لمن يستحق أن يوصف بأنه مجدد القرن. ومن الأمثلة على ذلك تلك المناقشة التي يجريها ابن عساكر عن مجدد القرن الخامس والتي يرد فيها على من رأى أن مجدد القرن هو أمير المؤمنين المسترشد بالله فيقول:"وعندي أن الذي كان على رأس الخمسمائة، الإمام أَبو حامد محمد الغزالي الطوسي الفقيه؛ لأنه كان عالمًا عاملًا، فقيهًا، فاضلًا، أصوليًا، كاملًا، مصنفًا، عاقلًا، انتشر ذكره بالعلم في الآفاق وبرز على من عاصره"(2).
وإذا كان العلم هو أحد أبرز صفات المجدد، فقد ضم بعض السلف إلى ذلك أن يكون المجدد مجتهدًا (3). ومما لا شك فيه أن هذه الصفة ضرورية لكل من تبوأ منصب التجديد، فكما رأينا أثناء عرض تعريف السلف للتجديد فإن مواجهة المشكلات التي تتولد في كل عصر، والاجتهاد في وضع الحلول لها في ضوء التفكير الإسلامي الأصيل هو من أهم مجالات التجديد.
ومن الواضح أن المجدد ينبغي أن يكون متقدمًا في كثير من الصفات الشخصية الأخرى، وأن تكون له فضائل جمة كثيرة لم يتعرض السلف إلى بيانها بالتفصيل، وإن كانوا قد ألمحوا إليها، وأشاروا إلى أنه ينبغي أن يجمع كثيرًا من صفات الخير (4).
(1) راجع: أبيات السيوطي السابقة.
(2)
"تبين كذب المفتري" ابن عساكر ص 53.
(3)
"فيض القدير" للمناوي 1/ 10.
(4)
راجع: "فتح الباري" ابن حجر 13/ 295.
وغني عن القول أنه لابد للمجدد أن يضطلع بعمل من الأعمال التي تدخل تحت معنى التجديد، ومن أهم ذلك تجلية الإسلام مما يعلق به من الانحرافات والشوائب الدخيلة على مفاهيمه الأصيلة، وإعادته إلى منابعه الأولى الكتاب والسُّنَّة، سواء كان ذلك في المجال الفكري ببث الآراء وإفشاء العلم بالتدريس وتأليف الكتب أو في المجال العملي بإصلاح سلوك الناس وتقويم أخلاقهم، ويأتي في قمة ذلك إصلاح الإمارة والحكم. وفي الجملة لابد أن يكون المجدد كما قال السلف:"ناصرًا للسُّنَّة قامعًا للبدعة" ومن لا يكون كذلك لا يكون مجددًا ألبتة وإن كان عالمًا بالعلوم مشهورًا بين الناس مرجعًا إليهم (1). فمجرد كون المرء جسرًا أو قنطرة تنتقل عبرها العلوم، لا يكفي لأن يجعل في مصاف المجددين، ومع الاعتراف بجلال العمل الذي يؤديه، إلا أنه لابد أن ينضاف إلى ذلك جهد إزالة الشوائب والأخطاء النظرية في العلوم، وردها إلى منابع السُّنَّة، وتصحيح الانحرافات العملية في المجتمع وذلك هو المقصود من قول السلف:"نصر السُّنَّة وقمع البدعة".
يقول ابن عساكر في بيان رأيه في أن أبا الحسن الأشعري هو مجدد القرن الثالث وليس هو أبا العباس بن سريج: "وقول من قال إنه أَبو الحسن الأشعري أصوب؛ لأن قيامه بنصرة السُّنَة إلى تجديد الدين أقرب، وهو الذي انتدب للرد على المعتزلة وسائر أصناف المبتدعة المضللة، وحالته في ذلك مشتهرة، وكتبه في الرد عليهم منتشرة، فأما أَبو العباس ابن سريج فكان فقيهًا مضطلعًا بعلم أصول الفقه وفروعه نبيهًا"(2).
ولا ينبغي أن ينحصر أثر المجدد في دائرة ضيقة، ولا أن يقتصر النفع به في مجال محدود، بل إن السلف قد رأوا أن من يستحق ذلك اللقب ينبغي أن يعم علمه ونفعه أهل عصره (3). وأن تكون آثاره ومؤلفاته مشهورة ذائعة، وأن تكون جهوده الإصلاحية ذات تأثير بيِّن في اتجاهات الفكر والعلم وفي حياة
(1)"السراج المنير" 1/ 4، و"عون المعبود" 11/ 391 و 392، و"فيض القدير" 1/ 10، وراجع قول السيوطي:(وأن ينصر السُّنَّة في كلامه) في أبياته السابقة.
(2)
ابن عساكر، "تبيين كذب المفتري" ص 53.
(3)
راجع: أبيات السيوطي السابقة لقوله: (وأن يعم علمه أهل الزمن) ص 26.
الناس. ومن المعايير لمعرفة تأثير المجدد ما يتركه خلفه من أصحاب وتلاميذ ينشرون آراءه، ويوسعون دائرة الانتفاع بمصنفاته وأعماله الإصلاحية. يقول الزين العراقي:"وسبب الظن في ذلك -يعني: تعيين المجدد- شهرة من ذكر بالانتفاع بأصحابه ومصنفاته"(1). أو بعبارة أخرى يمكن أن يقال: أن يتكون في حياة المجدد ومن بعده اتجاه علمي وعملي متميز، أو إن شئت قلت: مدرسة أو مذهبًا، أو حركة، أو جماعة، وهي ألفاظ متقاربة تدل على الأثر الذي ينبغي للمجدد أن يتركه وإلا لم يعد مجددًا، وهذا الشرط ليس شرطًا اعتباطيًا تحكميًا، وإلا فهل يقال: إن أثر المجدد ينتهي بنهاية حياته؟
وقت بعث المجدد:
تلك مجملًا المقاييس التي تذكر عند تعداد وحصر المجددين، وعلى أساسها تساق الحجج والأدلة عند الاختلاف فيمن هو المجدد. وهي كما رأينا مقاييس عامة وليست دقيقة الدقة كلها، وإذا أفلحت هذه المقاييس في إخراج الكثيرين، ممن يمكن أن يزعم أنهم من المجددين، إلا أنها قد لا تكون كافية لحصر المجددين في واحد أو اثنين. ومن السهولة بمكان أن نلاحظ أن كثيرًا من العلماء والمشهورين قد جمعوا هذه الصفات. إلا أن هناك ضابطًا آخر أشار إليه السلف، وهو ما يمكن أن يسمى بالضابط الزمني وهو الذي أشار إليه الحديث من أن المجدد يبعث على رأس المائة. يقول الكرماني (أحد شراح صحيح البخاري):"قد كان قبيل كل رأس مائة أيضًا من يصحح ويقوم بأمر الدين، وإنما المراد من انقضت المائة وهو حي عالم مشار إليه". وقد ذكر معنى هذه العبارة ابن الأثير والسيوطي وغير واحد من السلف (2).
ورأس المائة يقصد به هنا آخر المائة، وهذا هو أحد معاني هذه اللفظة لغة، وهذا يعني أن تجديد الدين على يد المجدد يكون في نهاية كل مائة سنة. وجاءت لفظة (رأس المائة) هذه بنفس هذا المعنى في حديث آخر، وهو حديث ابن عمر في الصحيحين: "أرأيتم ليلتكم هذه فإن على رأس مائة سنة منها لا يبقى
(1)"خلاصة الأثر" للمحبي 3/ 346.
(2)
"فيض القدير" 7/ 12، وراجع: أبيات السيوطي السابقة. وراجع: ابن الأثير "جامع الأصول" 11/ 324.
ممن هو على ظهر الأرض أحد" (1). فمن الواضح أن المراد برأس المائة في هذا الحديث هو آخر المائة سنة، ولا يفهم من ذلك بحال أن المراد أولها. وكذلك الحديث الذي أخرجه الترمذي في الشمائل عن أنس: "بعثه الله رأس أربعين سنة، فأقام بمكة عشر سنين وبالمدينة عشر سنين وتوفاه الله إلى رأس ستين سنة" فالمقصود بذلك آخر المدة المذكورة. وعلى هذا الفهم استقر رأي جمهور السلف (2). وفي نظري أن الرأي الذي يخالف هذا ويذهب على أن المراد برأس القرن أوله خلاف لا طائل تحته، إذ أنه مما لا شك فيه أن نهاية أي قرن هي بداية لقرن آخر (3).
وكذلك استقر رأي السلف على أن حساب المائة سنة يكون باعتبار التاريخ الهجري، وبالرغم من أن الحديث محتمل لتفسيرات أخرى، فقد كان من الممكن أن يبدأ حساب المائة سنة من وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، أو من بعثته أو حتى من مولده (4). وبخاصة أن الحديث سابق لاستخدام التاريخ الهجري المعروف.
وهناك رأي بأن تحديد وقت بعث المجدد برأس المائة ليس المراد منه التخصيص وإنما قد ذكر اتفاقًا، وعلى هذا الرأي يمكن أن يكون المجدد في أول المائة أو وسطها أو آخرها، وبخاصة أنه قد يكون في أثناء القرن من هو أفضل وأحق بلقب المجدد ممن هو في رأس القرن، ولو كان هذا الرأي مستندًا إلى دليل صحيح لكانت دائرة التجديد أوسع، ولدخل كثير من العلماء ممن لم يدركوا رأس المائة في أعداد المجددين، ولكن لم يقتنع بوجاهة هذا الرأي أحد ولم يجد له أصحابه دليلًا يسنده (5).
وإذا كان ذكر رأس المائة أو نهاية القرن مقصودًا به التحديد، وهو لا ريب المقصود، إذ أنه لا توجد قرينة تجعل هذا التوقيت قابلًا للاحتمالات المختلفة، فما المراد من بعث المجدد عند نهاية القرن؟
(1)"صحيح البخاري"، باب السمر في العلم 1/ 55.
(2)
"عون المعبود" 11/ 389.
(3)
من الطريف أن يعتقد بعض الناس أن المراد برأس القرن اليوم الأول من السنة الأولى في القرن الجديد!.
(4)
المصدر نفسه ص 389.
(5)
المصدر نفسه ص 390.
ليس المراد من ذلك أن تكون وفاة المجدد عند نهاية القرن، بالرغم من أن ذلك هو الشائع وهو ظن الكثيرين، إذ أن كلمة (البعث) تدل على الإرسال والإظهار، والوفاة قبض وأخذ، وليست بعثًا أو إرسالًا. فالظاهر أن المراد أن تأتي نهاية القرن على المجدد وهو حي يقوم بعمل التجديد ويتصدى للإصلاح قد اشتهر بذلك وعرف عنه (1).
ولكن لما كان المرء لا يتأهل لهذه المرتبة ولا يصل إلى أن يكون مشارًا إليه في العلم قائمًا بأمر الإصلاح والتجديد إلا بعد أن تمضي فترة غير قصيرة من عمره، أو بعد أن تتقدم به السن غالبًا، فلهذا قد تختتم حياة المجدد قريبًا من نهاية القرن. ومن الأمثلة على ذلك عمر بن عبد العزيز الذي لا خلاف بين السلف في أنه مجدد القرن الأول وقد كانت وفاته سنة إحدى ومائة، وله أربعون سنة، ومدة خلافته سنتان ونصف، وهي المدة التي كانت فيها جهوده الإصلاحية. والشافعي مجدد القرن الثاني توفي سنة أربع ومائتين.
وتطبيقًا لهذه القاعدة -وهي ظهور المجدد واشتهاره عند نهاية القرن- لم يدخل السلف في المجددين كثيرًا من المشهورين في أثناء القرن، فأحمد بن حنبل مثلًا، بالرغم من الاعتراف له بالفضل، والاعتراف له بتقديم وتصحيح الدين، إلا أن اسمه لا يرد في إحصائية المجددين التي قدمها ابن عساكر، أو ابن الأثير، أو السبكي، أو الزين العراقي، أو السيوطي (2). ونجد أن ابن الأثير يذكر صراحة أنه استبعد أحمد بن حنبل من قائمة المجددين ويقول في ذلك:"وأما أحمد بن حنبل فلم يكن يومئذ -يعني: عند رأس القرن- مشهورًا فإنه مات سنة إحدى وأربعين ومائتين"(3).
فنهاية القرن إذن هي التوقيت الزمني لكل دورة من دورات التجديد، وقد جعل السلف هذا التوقيت إحدى القواعد لضبط وحصر المجددين. فإذا انضم هذا التوقيت إلى بقية المقاييس التي ذكرناها، من الصفات التي يطلب توفرها في
(1)" فيض القدير" المناوي 1/ 12، و"خلاصة الأثر" 3/ 347، وأبيات السيوطي السابقة ص 26.
(2)
انظر: الصفحات التالية من هذا البحث.
(3)
"جامع الأصول" ابن الأثير 11/ 322.
المجدد، ونوع الأعمال التي تصلح أن تعتبر تجديدًا، وقوة الأثر الذي يتركه المجدد في عصره، كانت تلك كلها هي المؤشرات التي يعرف بها من هو مجدد القرن، وهي مؤشرات فقط وليست علامات قاطعة، وهي مع عمومها الذي رأيناه تصلح لأن تشير لأكثر من واحد في كل قرن، ومن أجل ذلك رشح أكثر من اسم في كل قرن لمنصب التجديد.
تعدد المجددين في القرن:
ومع الاختلاف حول أسماء المجددين، وتقديم أكثر من اسم في كل قرن؛ إلا أن جمهور السلف يرى أن المجدد لكل قرن واحد لا يتعدد، وإن كان هناك اختلاف في تعيينه. وقد نسب السيوطي هذا الرأي إلى الجمهور في منظومته عن المجددين (1). وليس لهذا القول حجة إلا الرواية التي أخرجها البيهقي لحديث التجديد من طريق أحمد بن حنبل، قال:"يروى في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الله يمن على أهل دينه في رأس كل مائة سنة برجل من أهل بيتي يبين لهم أمر دينهم"، وإنى نظرت في سنة مائة فإذا هو رجل من آل رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عمر بن عبد العزيز، وفي رأس المائة الثانية فإذا هو محمد بن إدريس الشافعي"(2).
فقد جاء في هذه الرواية لفظ رجل، وهىِ أصرح في الدلالة على أن المجدد في القرن واحد. وتضيف هذه الرواية شرطًا آخر في المجدد وهو أن يكون من بيت النبوة وقد قوَّى السيوطي هذه الرواية (3)، وكأنه فيما يبدو يذهب إلى أن المجدد من آل النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه فرد لا يتعدد. ولكن لم تكن كل الأسماء التي قدمها للمجددين من البيت النبوي، وذلك في المنظومة نفسها التي ذكر فيها هذا الرأي. وفي الحقيقة لم يرد ذكر لأي اسم من أهل النبي صلى الله عليه وسلم في القرون بعد الثاني في الإحصاءات التي بين أيدينا (4). وذلك هو ما دفع السبكي لأن يتغلب على هذه الصعوبة بأن حصر جميع أسماء المجددين للقرون بعد الثاني، في أتباع
(1) راجع: أبيات السيوطي السابقة.
(2)
"توالي التأسيس" ابن حجر ص 48، و"طبقات الشافعية" للسبكي ص 199.
(3)
راجع: أبياته السابقة ص 26.
(4)
السبكي، "طبقات الشافعية" ص 199.
المذهب الشافعي، وذلك في رأيه لأن الشافعي وهو مجدد القرن الثاني وهو من أهل البيت قد صار "هو الإمام المبعوث الذي استقر أمر الناس على قوله، ومذهبه هو المذهب الذي استقر عليه الحال، وبعث في رأس كل مائة سنة من يقرر مذهبه"(1). وهذا عجيب من السبكي ولا أظن أحدًا تابعه على هذا الرأي؛ لأنه ليس له من دليل.
أما الاتجاه الآخر في قضية تعدد المجددين فهو الذي ذهب إلى أن المجدد في العصر الواحد يمكن أن يكون أكثر من واحد وقد تبنى هذا الاتجاه ابن الأثير، والذهبي، وابن كثير، وابن حجر (2).
يقول ابن الأثير: "والأولى أن يحمل الحديث على العموم، فإن قوله صلى الله عليه وسلم: "إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها" لا يلزم منه أن يكون المبعوث على رأس المائة رجلًا واحدًا، وإنما قد يكون واحدًا وقد يكون أكثر منه، فإن لفظة من تقع على الواحد والجميع، وكذلك لا يلزم منه أن يكون أراد بالمبعوث الفقهاء خاصة كما ذهب إليه بعض العلماء، فإن انتفاع الأمة بالفقهاء وإن كان نفعًا عامًا في أمور الدين فإن انتفاعهم بغيرهم أيضًا كثير، مثل أولي الأمر، وأصحاب الحديث، والقراء، والوعاظ، وأصحاب الطبقات من الزهاد، فإن كل قوم ينفعون بنفع لا ينفع به الآخر. إذ الأصل في حفظ الدين حفظ قانون السياسة وبث العدل والتناصف الذي به تحقن الدماء ويتمكن من إقامة قوانين الشرع، وهذا وظيفة أولي الأمر، وكذلك أصحاب الحديث ينفعون بضبط الأحاديث التي هي أدلة الشرع، والقراء ينفعون بحفظ القراءات وضبط الروايات، والزهاد ينفعون بالمواعظ والحث على لزوم التقوى والزهد في الدنيا.
فكل واحد ينفع بغير ما ينفع به الآخر، ولكن الذي ينبغي أن يكون المبعوث على رأس المائة رجلًا مشهورا معروفًا مشارًا إليه في كل فن من هذه الفنون.
فالأحسن والأجدر أن يكون ذلك إشارة إلى حدوث جماعة من الأكابر
(1) السبكي، "طبقات الشافعية" ص 199 - 200.
(2)
"جامع الأصول" 11/ 320، و"فيض القدير" 1/ 11، و"البداية والنهاية" ابن كثير ص 495، و"فتح الباري" ابن حجر 13/ 295.