الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الأول نقد المبادئ العامة
تمهيد:
كانت الفصول الماضية عرضًا خالصًا للفكر العصراني منذ بداية ظهوره في النصف الثاني من القرن الماضي، وسردًا للآراء منسوبة لأصحابها. ونخصص هذا الفصل للتحليل، والنقد والتقويم، وبيان مواضع الصواب والخطأ.
ورغم اختلاف نظرة العصرانية التفصيلية لمسائل الدين بين دين ودين، وبين مفكر وآخر إلا أن التمعن وتدقيق النظر، يرجع أصول هذه الفكرة إلى مبادئ أساسية، هي التي توجه منهجها في التفكير ونظرتها إلى الأمور الجزئية. وهذه الأصول والمبادئ الأساسية هي التي سوف توضع في ميزان النقد أولًا، ثم تتبعها التفاصيل والفروع.
فروض العصرانية الأساسية:
العصرانية في الدين -كما سبق تعريفها- هي أيّ وجهة نظر في الدين، ترى أن التقدم العلمي الحاضر والمعارف المعاصرة، تستلزم إعادة النظر في الفكر الديني القديم، وتأويل تعاليم الدين لتتلاءم مع معارف العصر السائدة وظروفه.
والمتأمل في هذا التعريف يرى أنه يقوم على فرض أساسي كبير، وهو أن العصر الحاضر بظروفه وأحواله، وعلومه ومعارفه، وتقدمه وتطوره، لا يناسبه ولا يتلاءم معه الفكر الديني التقليدي القديم، الذي نشأ وتكون متأثرًا بظروف عصره السائدة فيه. وإذا كان ذلك الفكر صالحًا لذلك الزمان فإنه ليكون صالحًا لهذا العصر فلابد من إيجاد المواءمة بينه وبين الظروف الجديدة المتغيرة. وقد تكون هذه المواءمة بإعادة تفسير وتأويل بعض تعاليم الدين، ورفض التفسيرات القديمة لها، وقد تكون باطراح بعض التعاليم التي لم تعد مناسبة وتغييرها بتعاليم مناسبة. وعلى كل حال فإنه لابد من إعادة تكييف الدين على ضوء ظروف ومعارف العصر السائدة.
ومن الممكن تقسيم هذا الفرض الأساسي إلى أجزاء ثلاثة:
أولًا: عصرنا الحاضر عصر متطور متقدم، وشهد تحولات وتغيرات كبيرة.
ثانيًا: ترتبط تعاليم الدين في كل عصر بظروفه وأحواله، مما يجعل بعضها لا يناسب عصرنا الحاضر.
ثالثًا: نظرة كل عصر إلى حقائق الدين نظرة نسبية بحسب المعارف المتاحة له، وما كان يؤمن بأنه حق في عصر قد لا يكون حقًا في هذا العصر.
وبناء على التصورات الثلاثة المتقدمة، يأتي التساؤل: ما الثابت في الدين، الذي يناسب كل عصر، وما المتغير الذي يتغير تبعًا لتغير المعرفة وتغير الأحوال. وإجابة العصرانية الأولية على هذا التساؤل هي أن الجزء الإلهي في الدين الذي مصدره الوحي هو الجزء الثابت في الدين، والجزء البشري في الدين الذي كونته عقول البشر هو الجزء المتغير، ومن ثم ينبع التساؤل: ما الإلهي في الدين، وما البشري؟
هذه هي الفروض الثلاثة الأساسية التي تنبني عليها فكرة العصرانية، والسؤالان الكبيران اللذان يستتبعان تلك الفروض. وهذه الأمور الخمسة تشترك فيها كل حركات العصرانية، سواء ما كان منها في اليهودية، أو النصرانية، أو الإسلام. وإذا انحلت عقدة هذه الأمور، واتضح وجه الصواب فيها، بانت حقيقة العصرانية، وأصبح من السهل الميسور نقد المسائل التفصيلية التي تقوم عليها.
وأول ما يستلفت النظر في الفروض الثلاثة الآنفة، أنها في الأصل ليست نظريات دينية، بمعنى أنها لم تتولد أساسًا نتيجة تفكير ديني، أو جاء بها وحي إلهي، إنما هي نظريات فكرية فلسفية نشأت خارج الدين. وعلى وجه الدقة فإنها من نظريات علم الفلسفة وعلم الاجتماع الغربيين. فمبدأ التطور Evolution (1) ، والمذهب النسبي Relativism، وعلم اجتماع المعرفة Sociology of knowledge، وأمثالها كلها ذات تأثير عميق في الفكر العصراني، وقد شيد بناءها فلاسفة الغرب وعلماء الاجتماع فيه، ولا يزال الجدل يحتدم حولها، ولها أنصارها ومؤيدوها، ونقادها ومعارضوها. وعلى هذا البناء الذي لم يستقر بعد ولم يعترف بأنه حقائق علمية ثابتة، تقيم العصرانية فكرها وتريد أن تحاكم الدين على أساسه.
نقد فكرة التطور:
تتحدث العصرانية عن التغير الاجتماعي والتطور الثقافي وكأنه مسلمة بديهية لا تحتاج إلى إثبات، ولكن هل تبدو فكرة التطور كذلك، إذا نظر إليها المرء بعين فاحصة؟
ما التطور؟
إن الكلمة في معناها الواسع تعني تغيرًا متواصلًا من حالة أولية إلى حالة متقدمة، وهذا المعنى يتضمن أن هناك تحولًا دائمًا يحدث، وأن هذا التحول يحدث نحو الأحسن، ومن هذا يمكن أن يقال أن التطور هو التغير نحو الأفضل أو أنه التحول نحو الأصلح.
والمدهش هنا أنك مهما عرَّفت التطور بأي ألفاظ متقاربة، فإن الذي يبدو واضحًا أن كلمة التطور لا تحمل معنى ذاتيًا مستقلًا، أو بعبارة أخرى أن كلمة التطور كلمة فارغة المحتوى، إلا إذا أضيفت إلى غيرها. ذلك أن التغير نحو الأحسن أو التحول نحو الأفضل يقتضي أن يكون واضحًا ما الأحسن وما الأفضل. إن التطور هو حركة إلى الأمام، ولا يمكن الحكم بأن حركة ما إلى
(1) The Encyclopedia of Philosophy، Vol،2،P.302،V،3،P.75.V.7،P.475،Macmillan& free Press، New York 1967.
الأمام أو إلى الوراء، إلا إذا كنا نعرف تمامًا ما الأمام وما الوراء. لابد من غاية أو هدف حتى يتضح ما إذا كانت الحركة تقترب من هذه الغاية أو تبتعد (1). لهذا نجد من السهل الحكم بأنه قد حدث تطور في التقنية، ذلك أن غاية التقنية أمر واضح وهو تحسين وسائل المعيشة، ومن الممكن بمعايير محددة أن نتبين ما إذا كانت وسيلة ما أحسن من غيرها أم لا.
أما في حياة الإنسان الاجتماعية فمن الذي يحدد ما الأحسن وما الأفضل؟ من الذي يحدد ما الأمام وما الوراء؟ إن وظيفة الدين الأولى أن يعطى الإنسان تصورًا واضحًا لما هو الأحسن وما هو الأصلح، وأن يحدد له بدقة الغايات الصحيحة والأهداف القويمة التي ينبغي أن يتجه لها بسعيه وحركته. ولهذا فقد كانت كلمة صائبة تلك التي انتقد بها هرش الحركة التجديدية في اليهودية حين قال:
"إن الدين في نظرهم صحيح مادام لا يتعارض مع التطور، وفي نظرنا التطور صحيح مادام لا يتعارض مع الدين"(2).
لقد نشأت العصرانية في منتصف القرن الماضي، حين كانت فكرة تطور المجتمع البشري فكرة مسيطرة على الأذهان، وأولع الناس بها أيما ولع، وقدحوا أذهانهم وخيالهم لوضع نظريات عديدة حولها، ولكن "ربما لا يوجد اليوم من بين المشتغلين بالعلوم الاجتماعية من يؤمن بنظرية تطور المجتمع في خط واحد نحو التقدم وفق مراحل محددة"(3) مع أن فكرة التطور الاجتماعي بهذا المفهوم غير صحيحة، فإن التغير الاجتماعي مسألة واقعة ومشاهدة ما في ذلك شك، ووظيفة الدين أن يوجه هذا التغير وأن يدفع به في مسار صحيح، وأن يصحح كل تغير يتناقض مع مُثُلِه وغاياته. فهل جعلت العصرانية الدين الحاكم على كل تغير، أم أنها تسعى لأن يتكيف الدين ويتلاءم مع كل تغير؟ إن التغير صحيح مادام يسير في إطار الدين وفي الاتجاه الذي يحقق غاياته، ولن يكون الدين صحيحًا إذا استجاب لكل تغير.
(1) انظر: Pirie، "Madsen، Trial & Error & the Idea of Progress".
(2)
انظر: ص 105 من هذا البحث.
(3)
"نظرية علم الاجتماع" نيقولا تيماشيف، ترجمة مجموعة من الأساتذة ص 417، دار المعارف بمصر، ط. رابعة.
"باعتباري مريدًا وتابعًا لدين لا يمكنني -أبدًا- أن أقبل وضعًا يستجيب فيه هذا الدين لكل تغير، ولا يمكن أن توافق أنت على ذلك أيضًا؛ لأن الدين ليس مقياس حرارة يقتصر عمله على تسجيل درجة الحرارة، ولا هو بالأداة التي ترصد اتجاه هبوب الرياح. . . لا يمكن تعريف الدين بهذه العبارات ولا يمكن أن يصير إلى أداة آلية غريبة. وليس بيننا واحد يريد من الدين أن يعمل كسجل لتغيرات الأزمنة، وأن دينًا وضعيًا مزعومًا لا يمكن أن يتحمل هذا الوضع فكيف بدين منزل؟
إن الدين يقر التغير كحقيقة واقعة، ويعطي أكمل مجال لسير الأمور من أجل تحول صحيح سليم.
الدين يتقدم مع الحياة يدًا بيد ولا يواكبها فقط كتابع لها. . . ووظيفته هو أيضًا أن يميز بين تغير سليم وآخر غير سليم، وبين نزعة هدامة وأخرى بناءة. . . ويجب أن يقرر الدين فيما إذا كان التحول نافعًا، أو ضارًا بالبشرية، أو بأتباعه على الأقل.
وبينما يتمشى الدين مع الحياة الديناميكية جنبًا إلى جنب من جهة، فإنه يعمل حارسًا وحاميًا لها من جهة أخرى، وتجب عليه مهمة المراقبة والضبط أيضًا. وليس من مهمة الوصي أن يدعم كل ما يفعله القاصر الموضوع تحت وصايته، ويؤيد كل ميوله الجيدة منها والسيئة، أو أن يصادق بختم الموافقة على كل شيء يسعى وراءه. . . بل إن الدين يمتلك ختمًا واحدًا وحبرًا واحدًا ويدًا واحدة فقط. . . وليس من شأنه أن يلصق طابعه على أي وثيقة أو صك. . . بل يجب عليه أن يميز ويختار. أجل إنه يفحص (الوثيقة) أولًا، ثم يصدر حكمه، فإن وجد فيها خطأ أو ضررًا حاول الدين أن يتركها، برفق إذا أمكن، أو بقوة إذا اقتضى الأمر ذلك، وإذا عرضت عليه وثيقة واعتبرها ضارة بالجنس البشري، فهو لا يمتنع عن تصديقها وختمها فقط، بل يكافح لمقاومتها" (1).
مكانة عصرنا بين العصور:
"إن الإنسان في كل عصر اعتبر عصره "عصرًا جديدًا" وظن العصور السالفة
(1)"الإسلام في عالم متغير" أبو الحسن الندوي ص 57.
عصورًا بائدة كانت تخلو من المزايا والمحاسن، وكان الناس فيها مصابين بالجهل والرجعية. أما عصره فهو جديد وأبناؤه متنورون متحضرون، متحلون بالعلوم والفنون، ونملك من الأشياء ما لم يحظ به الأولون. هذا الظن الخاطئ وقع فيه الإنسان في كل عصر. مع أننا إذا أغمضنا النظر عن الابتكارات العلمية والتطورات التقنية -التي قد فتح الله أبوابها على الإنسان رويدًا رويدًا- رأينا أن الإنسان لم يدخل عليه أي تبدل منذ الإنسان الأول إلى يومنا هذا: ظل قالب ذهنه نفس القالب، وظلت مواهبه الفكرية نفس المواهب، وظلت أهواء نفسه نفس الأهواء، وظلت متطلبات جسده نفس المتطلبات، وظل نمط تفكيره نفس النمط، لم يحصل أي فرق جوهري في تلك الجوانب أبدًا، وذلك أن الفطرة التي فطر عليها الإنسان ما زالت نفس الفطرة التي فطر عليها سيدنا آدم عليه السلام. وهذا هو السر في أن المنكر الذي أصيب به قوم لوط قبل أربعة آلاف سنة مثلًا، نرى اليوم وبعد أربعة آلاف من السنين يصاب به البلد البالغ في التحضر والتطور مثل أمريكا، التي تدعي أنها لا يقارعها بلد في العالم كله في نهضتها ورقيها، ونرى فيها ورثة قوم لوط يربو عددهم على عشرين مليون نفر. فأي فرق يا ترى قد طرأ على الإنسان في فطرته في تلك المئات من القرون.
وهكذا إذا قال فرعون -في قديم الأزمان- لوزيره: فاجعل لي صرحًا لعلي أطلع إلى إله موسى أين هو؟ ومن هو؟ وكيف هو؟ نرى اليوم وبعد ثلاثة آلاف وخمسمائة سنة مضت على تلك المقولة أنه لما ارتفع القمر الصناعي الأول الذي أطلقته روسيا، إلى مائة وخمسين أو مائتي ميل من الأرض إلى الفضاء، انفجر رئيس وزرائها آنذاك المستر خروتشوف قائلًا: اطلعنا إلى الآفاق السماوية، ولم نجد فيها أي وجود للإله؟ ويعلم من ذلك بداهة أنه لم يدخل أي تعديل على عقلية الإنسان في تلك الحقبة الطويلة من الزمان، التي تشتمل على ثلاثة آلاف وخمسمائة من السنين. لم يتبدل أسلوب تفكيره ونظره إلى الأشياء. نعم إذا حصل هناك فرق في هذا الباب فهو أن فرعون ما كان يقدر في ذلك العصر، إلا أن يبني عمارة شامخة لتحقيق غايته إلى أكثر حد. . . أما منكرو العصر الحاضر وفراعنته فقد تمكنوا من صنع الأقمار الصناعية وغزو الفضاء؛ أي: حصل تطور في التكنولوجيا فقط ولم يحصل أي تطور من الناحية العقلية.
وكما أن الدهرية وجدوا في سالف الأزمان كذلك يوجدون في العصر
الحاضر، وكما أن دعاة الفجور والمجون ومقترفي السوء والفاحشة، برزوا إلى مسرح الحياة في الأحقاب الخالية، كذلك شوهدوا اليوم وفي العصر الحاضر؛ أي: أنه لم يدخل أي فرق حتى في نوعية مجونهم وفجورهم، هكذا وكما أن الدنيا رأت أناسًا عرفوا الحق وآمنوا به وجاهدوا في سبيله في زمن نوح عليه السلام، كذلك ترى الدنيا وفي العصر الحاضر جماعات من البشر من حملة الحق ودعاته.
فما زال الخير هو الخير بنصه وفصه، وما زال الشر هو الشر بقَضِّه وقضيضه، ومن تقدم وسائل الإنسان وأساليبه، واكتشافاته العلمية واستخدام تلك الاكتشافات في مجالات الحياة، إذا طرأ على طبيعة الانسان فرق، فليس ذلك الفرق أساسيًا وجوهريًا، وانما هو فرق في التقنية والأسلوب" (1).
نقد معارف العصر:
تدعو العصرانية إلى النظر إلى تعاليم الدين من خلال معارف العصر ومن خلال الثقافة الحديثة. وما يتعارض مع هذه المعارف في نظرها تعتبره من الزوائد التي أدخلها البشر على الدين بفهمهم ومعرفتهم المتاحة لهم في عصرهم. وبما أن المعرفة البشرية تتقدم وتتسع آفاقها، فإنه لابد من إعادة النظر في فهم العصور الماضية للدين، وإرساء فهم جديد على ضوء المعارف العصرية.
وليس هناك من ريب أن الدين الصحيح هو الذي يساير المعرفة البشرية في اتساعها ولا يتناقض مع اكتشافات العلوم الجديدة، مهما تكاثرت وتعددت. ولكن القضية بالتعميم الذي تنادي به العصرانية يحتاج إلى نظر، فما هي حقيقة معارف العصر التي تدعونا العصرانية أن نطرح من أجلها تراث الدين في العصور الماضية؟
إن ذلك الإعجاب الكبير والثقة المفرطة بمعارف العصر تتداعى أمام ثلاثة مطاعن أساسية (2):
(1)"تحديات العصر الحاضر والشباب" أبو الأعلى المودودي، المختار الإسلامي، القاهرة 1399 هـ.
(2)
انظر: "نحن والحضارة الغربية" المودودي ص 164، "دور الطلبة في بناء مستقبل العالم الإسلامي" المودودي ص 33، "الدعوة الإسلامية والغزو الفكري". د. جعفر شيخ إدريس ص 4 - 8 (بحوث المؤتمرات العالمية للدعوة الإسلامية بالسودان 1401 هـ).
المطعن الأول: إن ثقافة العصر بالمفهوم الواسع لكلمة ثقافة تقوم كلها على أمور علمية، بل إن بعض نواحي هذه الثقافة ما تكون إلا على أذواق وأهواء لا صلة لها بالعلم، وليس ذلك قاصرًا على الآداب والفنون فقط بل يشمل مسائل أخرى كثيرة من شعب الحياة، خذ مثلًا الربا في الشعبة الاقتصادية وأوضاع المرأة في الشعبة الاجتماعية، فهذه وأمثالها لم تخضع لدراسة علمية دقيقة، ولا نظر إليها بنظر البحث العلمي المجرد بل هي عادات وتقاليد، تكونت على أثر عوامل متعددة، ولهذا فمن الخطأ أن يظن مثل قاسم أمين أو غيره، أن هذه الأوضاع قد بحثت بحثًا علميًا، وانتهى الناس إلى أن الاختلاط مثلًا هو مما يحبذه العلم، وأنه من المظاهر العصرية اللازمة، ولا حتى عمل المرأة، أو مسألة الطلاق، أو مسألة تعدد الزوجات أو غيرها من المسائل. إن من يظن هذا الظن يخلط خلطًا عجيبًا بين العلم والمعرفة وبين الأذواق والأهواء.
المطعن الثاني: إن القليل جدًا من معارف العصر وعلومه، باعتراف المتخصصين وذوي الخبرة في هذه العلوم، هو من الحقائق العلمية الثابتة والأمور اليقينية التي لا تقبل النقض. ومعظم العلوم العصرية حتى التجريبية منها، دعك عن العلوم الاجتماعية والإنسانية، تقوم على فروض واحتمالات، وفي كل يوم ينقض العلم نظرية ويبني نظرية أخرى، فكيف يخضع الدين لتفسيرات وتأويلات وفهم مختلف اعتمادًا على فروض واحتمالات متغيرة متبدلة؟
المطعن الثالث: مطعن هام وخطير، وهو أن معارف العصر بكل فروعها وأقسامها حتى العلوم التجريبية منها، لا تقوم على حقائق مجردة، معتمدة على المشاهدة والتجربة والاستنتاج، بل قد صاحبتها تصورات وتفسيرات ونظريات تسيطر عليها الروح الإلحادية المادية، فصاغت كل العلوم داخل هذا الإطار وصبتها في قالبه، ودونت كل حرف فيها بمداد الإلحاد والعداء للدين، وكل ما خرج عن الإطار المادي اعتبر خارج دائرة العلم، ووضع في باب الخرافات والأساطير، والأوهام والتخيلات.
وهكذا فإن ذلك التصور الإلحادي المادي قد ترك آثاره في كل فروع معارف العصر، وحين تنظر العصرانية للدين من خلال معارف العصر بكل ما فيها، ترتكب بحق الدين وبحق العلم، أخطاء شنيعة، وتأتي محاولاتها للتوفيق بين الدين وبين معارف العصر محاولات خرقاء شوهاء.
إن الموقف الصحيح هو أن معارف العصر برمتها، حتى التجريبية ينبغي أن تصاغ وتعاد كتابتها وتدوينها تدوينًا إسلاميًا، في ضوء مفاهيم الدين وداخل إطاره، ومن الخطأ البين أن يعكس الأمر وينظر إلى الدين من خلال معارف العصر ويعدل ويغير فيه بحسب ذلك.
ارتباط الفكر بالظروف:
من التصورات الأساسية عند العصرانية أن الفكر مرتبط بالظروف التي ينشأ فيها، وبالعصر الذي يظهر فيه، وتؤثر فيه عوامل الزمان والمكان. وانطلاقًا من هذا التصور يوصف الفكر الديني القديم (بالظرفية) وينادى بتطويره وجعله حديثًا معاصرًا، والحجة الأساسية التي تقدم لرفض ذلك الفكر، أنه تقليدي نشأ في عصور ماضية، وأنه ليس مسايرًا لاتجاهات العصر وتياراته.
وصلة الفكر بالظروف التي ينشأ فيها وإلى أي حد يرتبط الفكر بهذه الظروف ولا ينفك عنها مسألة ظهرت فيها نظريات عديدة، ووصل التطرف أقصاه عند بعض الفلاسفة فجعلوا الفكر وليد الظروف الاقتصادية وأدوات الإنتاج فقط. والنقد الأساسي الذي يوجه إلى أمثال هذه النظريات أنها تنظر إلى جانب واحد، وذلك ما يوقعها في الأخطاء إذ أنها تغفل عن سؤال هام وهو ما الذي يكوّن الظروف التي يقال إن الفكر مرتبط بها.
لعل المرء لا يحتاج إلى تفكير كثير ليصل إلى أن الله سبحانه قد جعل الإنسان عاملًا مؤثرًا فعالًا في الكون، وأن الإنسان بما أوتي من مواهب عقلية وقوى فكرية يؤثر في الظروف وتكوينها، وإذا كان صحيحًا أن طبقات كثيرة من المجتمع تخضع للظروف السائدة وتنقاد لها، إلا أن قادة الفكر ورواده ممن يجتهدون ويجددون، وتستحدث على أيديهم الآراء الجديدة والاكتشافات والاختراعات، لا يخضعون للظروف ولا يتأثرون بها. لقد عجزت العلوم الاجتماعية عن تفسير ظاهرة التجديد والابتكارات Innovations، بغير اعتبارها شذوذًا عن الظروف السائدة في المجتمع، وظاهرة فريدة لما حبا الله به العقل الإنساني من قدرات ومواهب (1).
(1) انظر: "الأفكار المستحدثة وكيف تنتشر" - 1. م. ترجمة، سامي ناشر، 241.
وإذا كان القول بأن الفكر يرتبط بالظروف تكتنفه مصاعب ويواجه بالنقد؛ فإن رفض الفكر لمجرد أنه نشأ في عصور ماضية، ولمجرد كونه قديمًا، قول لا صلة له بالعلم وبعيد عن الموضوعية، مهما صدر عمن يتحلى بأفخم الألقاب العلمية. إن الفكر لا يمكن أن يقبل أو يرفض باعتبار الزمان أو المكان الذي ظهر فيه ولكن يرفض إذا قدمت الأدلة على خطئه، فإذا ثبت أن الفكرة صحيحة كانت صحيحة ولو ظهرت في أحقاب ما قبل التاريخ، وإذا ثبت أن الفكرة خاطئة فهي خاطئة ولو أعلنها عباقرة العصر الحاضر.
هل حقائق الدين نسبية؟
إذا قيل إن الفكرة إما خاطئة أو صائبة -بغض النظر عن الزمان الذي شهد ظهورها- قالت العصرانية: ولكن إدراك حقائق الدين مسألة نسبية، فليس هناك صواب مطلق و"إن الحقيقة الثابتة تختلف الأنظار إليها باختلاف زاوية سقوط الشعاع الفكري".
والكاتب الفاضل الذي قرأت له هذا القول لا يقدم دليلًا أو حجة، بل يكتفي بالإشارة إلى أن نظرة الإنسان إلى الأشياء نظرة جزئية، وليست نظرة شاملة كاملة، وأن هذه النظرة هي بحسب معارف المرء وثقافته، وبحسب اهتماماته والزاوية التي ينظر منها (1).
وقضية النسبية Relativism في الحق truth أو في الأخلاق ethics قضية فلسفية، تتناحر حولها الفلسفة منذ أن عرف الإنسان الفلسفة وكعادة الفلاسفة في مناقشة القضايا، تتعقد وتتشابك الآراء، والفلاسفة وحدهم هم الجديرون بأن يغرقوا في مثل هذه المباحث، وهل استطاعت الفلسفة يومًا ما أن تحل لغزًا؟
وفي بساطة نتساءل: ما المقصود بأن الحقيقة نسبية؟ إذا كان المقصود أن معرفة الإنسان قاصرة وعلمه قليل، وأنى له بالعقل الذي يدرك الأشياء إدراكًا شاملًا، فهذا ليس موضع اختلاف، والبشرية بما فيها من عجز وقصور مؤهلة لإدراك قدر من المعارف تكفيها لأداء مهامها في هذه الفترة القصيرة من عمرها على الأرض.
(1) راجع: "الفكر الإسلامي والتطور" محمد فتحي عثمان ص 338.