المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌التجديد العصراني للنصرانية: - مفهوم تجديد الدين - جـ ١

[بسطامي محمد سعيد]

فهرس الكتاب

- ‌المقدمة

- ‌الباب الأول المفهوم السُّنِّي للتجديد

- ‌الفصل الأول تعريف التجديد وضوابطه

- ‌أصل كلمة التجديد:

- ‌تفصيل معنى التجديد:

- ‌ضوابط التجديد:

- ‌إحصاء المجددين:

- ‌الفصل الثاني نماذج من جهود المجددين

- ‌تمهيد:

- ‌الإصلاح السياسي والسعي لإعادة الخلافة الراشدة:

- ‌جهود عمر بن عبد العزيز:

- ‌الشافعي في مجال الاجتهاد والتشريع:

- ‌تصحيح الانحرافات:

- ‌جهود الأشعري:

- ‌الغزالي وتصحيح الانحرافات:

- ‌الباب الثاني مفاهيم التجديد الخاطئة

- ‌الفصل الأول مفهوم التجديد عند العصرانية في الغرب

- ‌ما العصرانية

- ‌الفرقة المتحررة في اليهودية:

- ‌التجديد العصراني للنصرانية:

- ‌الفصل الثاني مفهوم التجديد عند العصرانية في العالم الإسلامي

- ‌1 - الطبقة الأولى من المفكرين

- ‌تمهيد:

- ‌أبو العصرانية في العالم الإسلامي:

- ‌تجديد إقبال:

- ‌محمد عبده وتلامذته:

- ‌الفصل الثالث مفهوم التجديد عند العصرانية في العالم الإسلامي

- ‌2 - الطبقة الثانية من المفكرين

- ‌تمهيد:

- ‌محمد أسد: نسخة أوروبية لسيد خان

- ‌العصرانية وتطوير الدين:

- ‌سقطة كتاب "أين الخطأ

- ‌مفكرون آخرون:

- ‌الفصل الرابع إعجاب الغرب بالعصرانية في العالم الإسلامي

- ‌تمهيد:

- ‌شهادة التبشير:

- ‌الاستشراق يتفاءل بتطور الإسلام:

- ‌نظرة الإعلام الغربي:

- ‌أمريكا وتجديد الإسلام:

- ‌الباب الثالث العصرانية في ميزان النقد

- ‌الفصل الأول نقد المبادئ العامة

- ‌تمهيد:

- ‌فروض العصرانية الأساسية:

- ‌محاسن ومساوئ العصرانية في الغرب:

- ‌الفصل الثاني نقد المسائل التفصيلية

- ‌تمهيد:

- ‌من عقائد العصرانية:

- ‌منهج العصرانية في التفسير:

- ‌هل هناك منهج نقد حديث للسُّنَّة

- ‌الاجتهاد في أصول الفقه:

- ‌السُّنَّة التشريعية وغير التشريعية:

- ‌الثابت والمتغير في الإسلام:

- ‌نقد فقه العصرانية:

- ‌الخاتمة

- ‌قائمة المراجع

الفصل: ‌التجديد العصراني للنصرانية:

لقد عادت الحركة لاستعمال اللغة العبرية في الصلوات، وأعيد للصلوات كثير من الطقوس التي رفضت في القرن السابق، وأصبح يحتفل بكثير من الأعياد كالطريقة التقليدية، وعادت ليوم السبت حرمته وعادت لهجة الحديث عن كثير من المسائل أكثر اعتدالًا وأكثر اقترابًا من وجهة النظر التقليدية (1).

وليس هذا التراجع في الأفكار والمبادئ فقط بل إن فكر اليهودية المجددة يعتبر فكر أقلية والفرقة التقليدية (Orthodox) لا تزال تضم أغلبية اليهود في أمريكا (2). وفي دولة اليهود التي أقاموها في فلسطين لا تعترف الدولة بفرقة اليهودية المتحررة وقد يكون ذلك بسبب العداء التاريخي بينها وبين الحركة الصهيونية، والمعابد الحرة القليلة التي أنشئت وسط معارضة كبيرة لا تجد تشجيعًا ولا دعمًا ماديًا من الدولة (3). ورغم أن الإقبال على الدين نفسه ضعيف وسط اليهود في العالم، إلا أنه في محيط المتدينين القلة، لا يمكن الزعم أن حركة اليهودية الإصلاحية، بعد قرنين من الصراع، قد استطاعت أن تغير الصورة بالقدر الذي كانت تحلم به.

‌التجديد العصراني للنصرانية:

وفي نفس الوقت الذي كانت تزدهر فيه تلك الحركة لتجديد اليهودية كانت النصرانية بشقيها الكاثوليكية والبروتستانتية تشهد تطورات مماثلة، تشترك في نفس الهدف وهو إيجاد التآلف بين إيمان الآباء وبين أفكار العالم الحديث. يقول أحد الكُتَّاب الغربيين ممن سجلوا هذه الظاهرة وهو جون راندال في كتابه "تكوين العقل الحديث":

". . . الذين دعوا أنفسهم بالمتدينين الأحرار في كل فرقة دينية، سواء بين البروتستانت أو اليهود أو حتى الكاثوليك قد ذهبوا إلى القول أنه إذا كان للدين أن يشكل حقيقة حية، وإذا كان له أن يظل تعبيرًا دائمًا عن الحاجات الدينية للجنس البشري، فلابد له أن يتمثل الحقيقة والمعرفة الجديدتين، وأن يتآلف مع الشروط المتغيرة في العصر الحديث من فكرية واجتماعية" ويقول هؤلاء إن تعديل

(1) Blau، p. 179، Martin، p.421.

(2)

انظر: المصدر نفسه P.396.

(3)

blau، p 181، Martin p.259.

ص: 106

العقائد في ضوء المعرفة السائدة "يجب أن يتم المرة تلو المرة ما دامت معرفة الإنسان تنمو وحياته الاجتماعية تتغير"(1).

ولا شك أن هذه الاتجاهات سعت لإحداث تغيير جذري في النصرانية أكبر بكثير مما حاوله الإصلاح الديني السابق على يد لوثر وكالفان. وعمومًا تنسب نشأة حركة التجديد الحديثة في القرنين التاسع عشر والعشرين إلى ثلاثة عوامل رئيسة (2)، فهناك أولًا: التقدم العلمي الهائل الذي أوجد تصورًا جديدًا للكون يخالف التصور القديم، ولما كان اللاهوت المسيحي قد اشتمل في صلب عقائده على نظريات عفا عليها الزمان فقد نشبت حرب عنيفة بينه وبين العلم الحديث. وهذا التباين والاختلاف بين اللاهوت والعلم الحديث يشتد ويزداد عندما ينشأ تسليم مطلق بقوة العلم الحديث ومنهجه، وافتراضاته والفلسفات الجديدة التي تصاحبه، ومن أجل التوفيق بين المعارف الجديدة وعقائد الدين انبرى رجال الدين أنفسهم لإعادة تأويل هذه العقائد على ضوء العلم والفلسفات الحديثة.

والعامل الثاني الفعال الذي دفع بهذه الحركة للظهور هو استخدام منهج النقد التاريخي في نقد التوراة والإنجيل، فقد أخضعا لمقاييس البحث التي أخضعت لها كل الكتابات والمخطوطات التاريخية القديمة، وجرت محاولات لاكتشاف التناقضات في رواياتها والاختلافات في أسلوبها ومن ثم برز السؤال هل هي كتب مقدسة موحاة من الله أم هي من وضع بشر؟ ومن مؤلفوها ومتى ألفت؟ وقد شاركت مجموعة من اللاهوتيين في هذه البحوث وسلموا بنتائجها، واستخدموها في صالح الدعوة إلى تعديل العقائد في ضوء المعرفة الجديدة.

العامل الثالث الذي كان له أثره أيضًا هو توسع الدراسات الدينية المقارنة، فقد اتجهت الأبحاث إلى دراسة أديان الإغريق والمصريين، وأديان الهند وأديان المجتمعات البدائية في أفريقيا وآسيا، ونشأت نظريات وفلسفات عن أصل وتطور الدين وقد دعمت هذه الدراسات نقد الكتاب المقدس المسيحي، إذ بدا مماثلًا من جهات كثيرة للآداب المبكرة والكتب المقدسة عند الشعوب الأخرى، وتدعمت أكثر وجهة النظر الداعية إلى إجراء التعديلات على تعاليم الدين.

(1)"تكوين العقل الحديث" جون راندال 2/ 217.

(2)

المصدر نفسه ص 220 و 240؛ Moor، G. H،History of religions p.377.

ص: 107

حركة التجديد في الكاثوليكية:

أطلق البابا بيوس العاشر في عام (1907 م) في منشورين أصدرهما على هذه الحركة اسم العصرانية (Modernism) ودمغها بالكفر والإلحاد ووصفها بأنها "مركب جديد لكل عناصر البدع والهرطقة القديمة"(1)؛ فقد أعلن قائلًا: "لو حاول إنسان أن يجمع معًا جميع الأخطاء التي وجهت ضد الإيمان، وأن يعصر في واحدة عصارتها وجوهرها كلها لما استطاع أن يفعل ذلك بأفضل مما فعل العصرانيون"(2).

وقد كان صدور هذين المنشورين بداية لسلسلة من الإجراءات التي اتخذتها سلطات الكنيسة الكاثوليكية في روما لقمع هذه الحركة، وقد كان من الإجراءات الأخرى وضع الكتب والمجلات التي تشتمل على آرائها في قوائم الكتب المحرمة قراءتها على الكاثوليك، وطرد بعض القساوسة من الكنيسة وإعلان كفرهم، وصياغة قسم معين عرف باسم "القسَم ضد العصرانية"(oath against Modernism) أصبح لزامًا على كل من أراد أن يتبوأ منصبًا دينيًا في الكنيسة أن يقسمه (3)، وبسبب هذا القمع اضمحلت الحركة رويدًا رويدًا حتى تلاشت داخل الكنيسة.

كان مهد الحركة في فرنسا ومنها إلى دول أوروبا الأخرى وأمريكا. وكان من أبرز قادة هذه الحركة الراهب الفرنسي لويزي (Loisy)(1857 - 1940 م) والذي أعلنت ردته (excommunicated) في عام (1908 م) والذي كان في البداية أستاذًا في المعهد الكاثوليكي في باريس، ثم بعد أن أبعد انتقل إلى كلية علمانية هي الكوليج دي فرانس أستاذًا لتاريخ الكنيسة. نشر لويزي أول كتاب له آثار العاصفة في (1902 م) بعنوان:"الإنجيل والكنيسة"(L Evangile et Eglise) وقد وصف الناشرون الكتاب بأنه مخطط تاريخي لتطور المسيحية، وتفسير لأشكالها ورموزها وعقائدها، لتتوافق مع معلومات التاريخ وطرق التفكير المعاصرة، ثم أتبعه بمجموعة من الكتب كان شعاره فيها "الولاء للكنيسة والعلم" وكان هدفه

(1)" The catholic Encyclopaedia"، P.394

(2)

المنشور المسمى pascendi. انظر: "تكوين العقل الحديث" راندال 2/ 235.

(3)

المصدر نفسه و (1975) The New Encyclopaedia Britannica (Micropaedia) V. VI P.960

ص: 108

دومًا إيضاح أن الكاثوليكية متوافقة ومنسجمة مع العقل وطرق البحث العلمي الحر.

وفي إنجلترا كان ممن برزوا الأب جورج تيريل (Tyrel) ت 1909 م) وقد أعلن كفره وطرد من الكنيسة أيضًا.

ويعرف جورج تيريل العصرانية بقوله:

". . . إنها محاولة للتوفيق بين أسس العقيدة الكاثوليكية وبين العقل ونتائج النقد التاريخي التي لا تقبل الجدل. . . وأنها تهدف إلى إثبات الانسجام والوئام الكامل بين حقائق الدين وبين التعبيرات المتغيرة والمتطورة لهذه الحقائق في شكل عقائد (doctrines) ومؤسسات. . .".

ويقول أيضًا ". . . في نظري أن أحسن وصف للعصرانية أنها الرغبات والجهود لتكوين مجموعة جديدة من مبادئ اللاهوت، تتماشى مع منهج البحث النقدي التاريخي. . . وأعني بالعصراني (Modernist)؛ أي: متدين من أي كنيسة يؤمن بإمكانية إيجاد توافق بين حقائق الدين الأساسية وبين الحقائق الأساسية في العالم المعاصر"(1).

والحركة العصرانية في الكنيسة الكاثوليكية لم تكن حركة منظمة أو فرقة مستقلة، بل كانت بالأحرى مجموعة من الأفكار وأحيانًا متناقضة لمفكرين مستقلين عن بعضهم البعض، وإن جمعت بين بعضهم حبال الصداقة والود، وتبادل الرسائل والأفكار، والصفات المشتركة التي تجمعهم هي أن حركاتهم نبعت من داخل الكنيسة، فقد كانوا جميعًا من أصحاب المناصب الدينية فيها، وأنهم سعوا لتقويض سلطة الكنيسة المطلقة، ورفض المنقول (Tradition) المتمثل في النصوص الحرفية للكتب المقدسة، وفي الشروح القديمة لها، مع محاولة إعادة تأويل عقائد الكاثوليكية على ضوء المعرفة الحديثة.

(1) انظر: "تكوين العقل الحديث" 2/ 234، و"دائرة المعارف البريطانية"، ط 1954 م، مادة:(Tyrell- loisy)، ودائرة معارف الدين والأخلاق، مادة:(Modernism).

A. vieban، Who are The Modernists of the encycli& Modernism cal، Amerisan، Ecclesiastical Review (May 1908) V 38. p.489، 508 Vieban، Acritical Valuation of loisys Theories، Ibid، (Jan 1909) V.40.1 - 12.

ص: 109

النقد التاريخي للمنقول:

الجانب الأول في العصرانية هو ما اضطلعت به من نقد للتوراة والإنجيل في إطار ما سمي بالنقد التاريخي، ومن الكتب التي تناولت هذا الجانب كتاب الراهب لويزي "أناجيل مرقص ومتى ولوقا"(L S Evangiles Sypnotiques)، والذي ظهر عام (1907 م). والكتاب ضخم في مجلدين عدد صفحاته 1832 صفحة؛ وفي هذا الكتاب توصل الراهب الكاثوليكي إلى آراء مدهشة. فهو يؤكد أن الأناجيل بصورتها الحالية تشتمل على مجموعة من الأساطير والخرافات ولهذا لا يمكن أن تكون هي كلمات الله المقدسة. ولكن ما هي هذه الخرافات والأساطير؟ في نظره كل ما هو غيبي وخارق للطبيعة (Supernatural) فهو خرافة. . . مثل ماذا؟ مثل ولادة المسيح من أم عذراء يقول:"فهذه الأسطورة لابد أن تكون قد تكونت خارج فلسطين في أرض بعيدة عن موطن عيسى وبعيدة عن أي معرفة حقيقية بتفاصيل حياته. . ." وهو مؤمن بأن المسيح قد ولد من أم وأب كما يولد سائر الناس، وأن أباه هو يوسف النجار. . . وكذلك موت عيسى في تحليلاته قد أحيط بكثير من الأوهام، وحسب بحثه العلمي التاريخي أن عيسى قد قتله أعداؤه اليهود، وقطعوا جسده إربًا إربًا ورموا أجزاء رفاته في قناة للمياه. ولكن تلاميذه لم يصدقوا موته، واستمروا يعتقدون أنه ما زال على قيد الحياة، وادعى بعضهم رؤيته في مكان ما ثم تطورت هذه العقيدة إلى أنه رفع من قبره وأن قبره قد وجد خاويًا!

ويمثل هذا الخيال الخصب يستمر لويزي في نقده، ويقسم معجزات عيسى إلى قسمين: معجزات عادية مثل: إشفاء المرضى، وأخرى خارقة للطبيعة مثل: إحياء الموتى وتكثير الطعام وما إليها، وفي اعتقاده أن النوع الأول فقط هو الصحيح أما النوع الآخر فلم يحدث أبدًا. وهذا عنده أحد الأدلة على أن الأناجيل كتبتها عقول بشرية وحشتها بما لا يصدقه العقل! وعلى نفس الأسس في رفض كل ما هو فوق الطبيعة ينتقد فكرة ألوهية عيسى ويقول:"إن ادعاء أن عيسى إنسان مقدس، وأنه كان واعيًا بأنه إله في صورة بشر لا يمكن أبدًا إثبات أنه حقيقة، بل هناك أكثر من دليل على أنه باطل. . . إن عقيدة ألوهية المسيح ما هي إلا رمز للصلة القوية التي تربط الإنسانية جمعاء بالله ممثلة في شخص المسيح"(1).

(1) Recent Bible Study، American Ecc. Review (April 1908) V 38 p. 450 - 459 and (Hab 1909) V 40 p.1 - 15.

ص: 110

وعلى هذا المنهج تقيم العصرانية رفضها لسلطة المنقول (Tradition) لأنه يناقض ما أثبته العلم الحديث في نظرها، وتدعي أن المنقول سواء تمثل في الأناجيل أو في شروحها، ما هو إلا تعبير عن التطور المرحلي للفكر الديني في العصر الذي كتب فيه. إنها تنفي نفيًا باتًا أن تكون النصوص التي تلصق بها صفة القدسية، قوالب محدودة جامدة لحقائق الدين ثابتة لكل الأزمنة، ولكنها فقط تعبير عن مشاعر وتجارب البشر في عهد تاريخي معين. وبناء على هذا يعتقد أن الحقائق الدينية تخضع لتفسيرات متطورة حسب تقدم المعرفة البشرية، وكلما تقدمت المعرفة حدثت تصورات جديدة لحقائق الدين (1). يقول جورج تيريل في كتاب "برنامج العصرانية":

". . . القديس توما الأقويني (2) كان المجدد الصحيح في زمنه، والرجل الذي جاهد بثبات وعبقرية عجيبين للتوفيق بين الإيمان والفكر في أيامه، ونحن الخلفاء الصحيحون للمدرسيين في كل ما كان ذا قيمة صحيحة في عملهم، وفي حسهم الدقيق في تكييف الديانة المسيحية مع الأشكال الدائمة التغير في الفلسفة والثقافة العامة"(3).

وكانت من نتائج هذا النقد التاريخي أن دخلت فكرة التطور في تعاليم الدين وتبع ذلك مفهوم نسبية الحقيقة (4)، وصاحب ذلك بعض المبادئ الأخرى ذات الصلة. ذلك أن المرء إذا آمن أن تعاليم الدين تخضع لتطور مستمر، وتكيف وتشكل حسب نمو المعرفة، فإن ذلك يستتبع أن تنشأ في ذهنه مجموعة من الأسئلة الهامة منها: ما الثابت والمتغير في الدين؟ وهل حقائق الدين مطلقة (absolute) ما دامت تتكيف حسب المعرفة النامية؟

فالعصراني يواجه هنا سؤالًا حرجًا: كيف يوفق بين تطور تعاليم الدين وعقائده في كل عصر وبين قيمتها كحقيقة؟ ولقد حاولت العصرانية التغلب على هذه الصعوبة بأن تفرق بين ما تسميه "الروح"(Spirit) وبين "الشكل"(form)

(1) The Encylopadia Americana (1972) V 19.P. 289 K.

(2)

حوالي (1225 - 1274 م) من أقطاب فلسفة المدرسيين وهي فلسفة نصرانية سائدة في القرون الوسطى مبنية على منطق أرسطو (انظر: "الموسوعة الفلسفية"، مادة: (الأقويني)).

(3)

"تكوين العقل الحديث" راندال 2/ 235.

(4)

Moore،"History of religions" P.337.

ص: 111

الذي يأخذه التعبير العقدي، واصفة "الروح" بأنها أمر ثابت ومطلق، وواصفة الشكل بأنه "أداة" فقط ذات قيمة نسبية ومتغيرة. وتعرف "روح" الدين تعريفًا غامضًا "أو هكذا بدا لي" إذ يقال أنها ذلك الإدراك الذي يقوم شاهدًا على وجود تجربة دينية معينة، ولكن هذا الإدراك والوعي بالتجربة الدينية لا يمكن إلا وأن يمر عبر العقل البشري الذي يترجمه في فكر ورموز تصطبغ وتتأثر بالعادات والتقاليد وطرق التفكير السائدة في زمن ظهورها. فالروح هي ذلك الإدراك، أما الشكل فهي تلك الرموز التي يعبر فيها عنه، ولذا فهي قابلة لأكثر من تفسير (1).

إعادة تفسير النصرانية:

إن الدعوة الرئيسة لحركة العصرانية هي المناداة بضرورة إعادة تفسير مفاهيم النصرانية التقليدية في ضوء ما يسمى معارف العصر. ويقول العصرانيون أن عقائد المسيحية الحالية قد نصت ضمن الفلسفة الأفلاطونية الحديثة، ولا يمكن فهمها إلا في حدود تلك الفلسفة، وقد أخذوا هم على عاتقهم أن يعيدوا تفسيرها على ضوء الفلسفة الجديدة، ولأنهم ذهبوا إلى أنها رموز فكرية تمثل تجربة الماضي الدينية فقد احتفظوا بالكلمات والعبارات القديمة، ولكنهم استعملوها في معان مختلفة تمامًا عن المعنى الذي استعمله فيها أوغسطين والأقويني وكالفان وويزلي، وتبريرهم لهذا يقوم على القول أن كلًّا من هؤلاء المفكرين أخذ اللغة التقليدية بدوره وفسرها تفسيرًا مختلفًا عن الآخر. وأن معنى المذاهب القديمة كان دائم التغير للتكيف مع العالم الفكري الجديد الذي يعيش فيه المفكر. . . إن اللاهوت يجب أن يصب خمر المعرفة الجديدة في الزجاجات القديمة من العقائد الكلاسيكية (2)، وقد أخذت هذه التفسيرات اللاهوتية الجديدة أشكالًا عديدة، ولكن مهما يكن شكلها فقد تضمنت انفصالًا جذريًا عن المفاهيم اللاهوتية القديمة (3).

والمفتاح الأساسي الذي استعمل لإعادة تفسير تعاليم النصرانية هو مذهب الحلول، وهو أن الله والكون والإنسان شيء واحد. وعلى ضوء هذا المذهب

(1) انظر: v.8. p.767. "Encyclopaedia of Religion and Ethics"

(2)

" تكوين العقل الحديث" جون راندال 2/ 249.

(3)

المصدر نفسه ص 249.

ص: 112

ذهبت العصرانية تفسر كل العقائد والأمور الغيبية، التي تظن أنها متعارضة مع ما يثبته الحس والتجربة والعلوم العصرية، "ولم يتبين لي كيف أن العصرانية آمنت أن مذهب الحلول نفسه مذهب موافق للعقل ولما يثبته الحس والتجربة".

ومهما يكن الأمر فإن فكرة الحلول إذا طبقت على الوحي "فكل الكلمات الحكيمة والرسالات الرفيعة من أي رجل جاءت فهي وحي"، فالفلاسفة والشعراء والأنبياء والقديسون "جميع هؤلاء كانوا مدارج للوحي الإلهي"(1)، وذلك لأن الإنسان نفسه ذو طبيعة إلهية. وبكلمات جورج تيريل الوحي هو التجلي الذاتي (Self-Manifestation) للإله في حياتنا الباطنية"، إن كلمة وحي "في الأصل ترمز إلى تجربة دينية، ثم أصبحت تدل على التعبير عن تلك التجربة ونقلها للآخرين"؛ وعلى هذا فالوحي "ظاهرة خالدة موجودة في كل نفس متدينة ولا ينقطع أبدًا. . ." (2).

والمعجزات ليست هي تدخلًا منفصلًا من الذات الإلهية لخرق قوانين الطبيعة، بل كل شيء في الطبيعة فهو معجزة، والمعجزات في كل مكان وكل حادث، حتى حوادث الطبيعة، والشائعة هي معجزة إن كان فيها ما يؤدي إلى تفسير ديني. وليس الخلود استمرارًا للحياة وراء القبر بل يمكن أن نحصل عليه الآن وفي هذه الحياة، وهو أن نتحد مع الثابت الخالد ونحن وسط المؤقت وأن نكون أزليين في كل لحظة. "فالنظرية القديمة التي أقرها مجمع خاليدونية (Council of Calcedon) في عام (451 م) كان معناها أن الشخص الواحد يسوع يملك طبيعتين متباينتين متمايزتين تمامًا، الإلهية والإنسانية. أما بعد توحيد ما هو إلهي وما هو إنساني، فقد فقدت قيمتها جميع نقاط المجادلات القديمة حول الأصل الإلهي للمسيح، والتجسد، وولادة العذراء، فالمسيح إلهي حقًا تمامًا كما أن جميع الناس إلهيون، لكنة كان واعيًا لألوهيته وتمكن من أن يخضع حياته بشكل أتم إلى هذه الألوهية"(3).

رفض سلطة الكنيسة:

ومن أهداف العصرانية أيضًا رفض سلطة الكنيسة، ولكن ليس إلغاؤها بل

(1)"تكوين العقل الحديث" جون راندال ص 250.

(2)

" The American Ecclesistical Review"، V.501 (May 1908).

(3)

" تكوين العقل الحديث" راندال ص 250 - 251.

ص: 113

تحويلها إلى مؤسسة اجتماعية. فالمفروض أن لا تكون الكنيسة مصدرًا للتفسير والتشريع، وأن لا تكون هي الجهة التي تحدد الخطأ والصواب وتميز بين الحق والباطل، ولكن الذي يحدد ذلك هو الحكم الفردي للمرء (Private Judgement)، فمن الممكن للكاثوليكي أن يرفض التفسيرات التي تقدمها سلطات الكنيسة ويصل إلى تفسيرات خاصة به يقبلها ضميره (1).

وتعتبر العصرانية الكنيسة مؤسسة تاريخية، ولكن لم يؤسسها المسيح إنما نشأت استجابة لحاجات معينة، وأنها بأنظمتها الحالية أثر من تطور المسيحية، خدمت الدين المسيحي في ظروف سابقة ولكنها الآن وبأنظمتها العتيقة تقتل "الروح" الحقيقية للمسيحية، ولكن مع هذا فإن أحدًا من الكُتَّاب الرئيسيين في هذه الحركة لم يقدم طريقة محددة لإصلاح الكنيسة، ولقد كان يظن أنه بإحياء "الروح" الحقيقية للمسيحية فإن الكنيسة تلقائيًا وبحركة من داخلها ستصلح أخطاءها، وتستجيب للحاجات التي تفرضها عليها ظروف العصر (2).

التجديد العصراني للبروتستانتية:

وفي الوقت نفسه وفي خطوط متوازية سار التجديد في البروتستانتية الحرة (Liberal Protestantism)، ومن المؤكد أن المفكرين في كلا الحركتين قد أثروا وتأثروا بعضهم ببعض (3). وفي كل من ألمانيا وإنجلترا وفرنسا وأمريكا ظهر مفكرون بارزون في حركة البروتستانتية الحرة. وحتى تتضح أوجه المقارنة بين العصرانية في شقي النصرانية، هذه بعض أمثلة من آراء أحد المفكرين الكبار وهو البروفيسور أوجيست سباتية (1830 - 1901 م)، الذي كان أستاذًا في كلية اللاهوت البروتستانتي في جامعة باريس، وتظهر آراء سباتية في مؤلفين "مخطط فلسفة الدين"(1897 م) و"دين السلطة ودين الروح"(1903 م)، ويغطي الكتابان نفس الموضوعات، وينتقدان نقدًا مرًا ما سمي بدين "السلطة" والمقصود بها البروتستانتية التقليدية (Orthodox Protestantism) والكاثوليكية، ويحبذان ما يسميه

(1)"تكوين العقل الحديث" راندال. P.502

(2)

" موسوعة الدين والأخلاق" V.8 p.768.

(3)

راجع مقال: A Vieban، Modernism and protestantism American Ecclesiastical Review (August 1909) V.41 P.129 - 151.

ص: 114

المؤلف "دين الروح"(1)، وهذه قراءات في فكرة (2):

نقرأ مفهوم تطور الدين في مثل قوله: "إن المعرفة الدينية تبقى بالضرورة خاضعة للتحول الذي يحكم تجليات الحياة والفكر الإنساني"، "إن الأشكال التي لا تستطيع بعد أن تكون مرنة قابلة للتغير، والرموز التي استنفذت تفسيرها الحي، والجسم المتصلب الذي لا يتمثل ويرفض أي عنصر وارد من الخارج -هذه كلها تمثل حالة موت وعقم يتلوها انحلال سريع". وهو ينتقد البروتستانتية التقليدية لأنها تتجاهل الظروف التاريخية والنفسية التي تنظم شكل وظهور المعرفة الدينية.

ونقرأ أيضًا: "إن الضمير الإنساني الفردي وحده هو الحاكم على حقائق الدين "إن حقائق الدين ونظامه الأخلاقي يتوصل إليها عن طريق ذاتي شخصي (Subjective) وهو ما يمكن تسميته بالضمير"، والوحي هو الوعي الدائم بالإله في الإنسان، ولأن الإنسان ذو طبيعة مزدوجة فالكتاب المقدس خليط مما هو إلهي وبشري، وعلى ذلك لا يمكن الاقتباس منه مباشرة والاحتجاج به وفرض سلطته المطلقة على الفكر اللاهوتي المعاصر.

وعيسى كان "مجرد بشر" والمعرفة المتاحة له كانت هي الثقافة السائدة في عصره وسط اليهود، فلهذا كان يؤمن بالمعجزات بنفس الطريقة التي يفهمها بها عصره، وهي إمكانية تدخل الإله في قوانين الطبيعة، مع أن المعجزات الآن -تلك الوسيلة التي كانت برهانًا على صحة الدين في الماضي- قد أضحت أعصى في البرهان من الدين نفسه.

ويؤمن سباتية بفكرة الحلول أيضًا يقول: "اكتشف في شعوري الوجود المستتر والحقيقي لعلة خاصة هي أنا ولعلة كلية هي الله. . . بداخلي أنا يسكن كائن أكبر مني، إنه ضيف غريب مستتر، استشعر فعله السرمدي تحت الظواهر المتغيرة لنشاطي. . . إنني لا أستطيع أن أفهم وجود المتناهي مع اللامتناهي لكن هذه الثنائية موجودة في كل مكان. .".

(1) A Vieban، Modernism and Protestantism American Ecclesiastical Review (August 1909) V.41 P.129 - 151 و"مصادر وتيارات الفلسفة المعاصرة في فرنسا" ج بنروبي ترجمة: د. عبد الرحمن بدوي ص 375 - 377.

(2)

راجع: المصدر نفسه.

ص: 115

تعريفات وخطوات للإصلاح:

تلك لمحات تعطي فكرة عن تشابه خطى التجديد في الكاثوليكية والبروتستانتية، ونقدم هنا بعض تعريفات للعصرانية لكتاب إنجليزي بروتستانتيين، تزيد الحقيقة السالفة تأكيدًا ووضوحًا. يقول أحدهما (برسي جاردنر) (Percy Gardner):" إن العصرانية (Modernism) مبنية على التطور العلمي والمنهج النقدي التاريخي، وإن أهدافها ليست هي طرح وإلغاء حقائق الدين المسيحي، ولكن ما ترمي إليه هو إنعاش هذه الحقائق وتجديدها، على ضوء المعرفة النامية، وإعادة تفسيرها بطريقة تلائم ظروف العصر الثقافية". . . ويقول آخر (فرنون ستور (Vernon Storr): " العصرانية هي تلك المحاولات التي تبذلها مجموعة من المفكرين لتقديم حقائق الدين المسيحي في قوالب المعرفة المعاصرة. . . إننا الآن لا نركب المركبات التي تجرها الخيول، ولا نلبس ملابس أجدادنا، ولا نتكلم لغتهم، ولا نؤمن أن الأرض هي مركز النظام الشمسي كما كانوا يؤمنون، فلماذا في ميدان اللاهوت نكره على أن نفكر بعقول العصور البالية. . . الويل للكنيسة التي تغمض عينيها فتعمى عن رؤية نعمة المعرفة الجديدة"(1).

ولعل في تطور حركة العصرانية في إنجلترا ما يعطي نموذجًا من خطواتها العملية في الإصلاح (2). فقد أدى ازدهارها هناك إلى تأسيس اتحاد للعصرانيين في عام (1898 م) سمي اتحاد رجال الكنيسة المعاصرين (The Modern Churchmens Union) وكان شعاره "من أجل تقدم الفكر الديني الحر"، وكان من نشاطات هذا الاتحاد بث المفاهيم العصرانية في مدارس التعليم الديني، وتقديم الدراسات والبحوث ونشر الكتب وإصدار المجلات والدوريات، وإعادة صياغة العقائد ومراجعة كتب الصلوات، وإصلاح طرق التبشير ووسائله في الخارج.

ومن جهوده إصدار مجلتين إحداهما "رجل الكنيسة الحر"(Churchman Liberal) ما بين (1904 - 1908 م) والأخرى "رجل الكنيسة المعاصر"(Modern Churchman) شهرية من (1911 م) إلى (1956 م). وعقد الاتحاد سلسلة من المؤتمرات ومن أهمها مؤتمر في عام (1921 م) في كمبردج كان له صدى واسع.

(1)"دائرة المعارف البريطانية"(1954 م) V.15، P.650.

(2)

انظر: "دائرة المعارف البريطانية"(1959 م) V.15، P.640.

ص: 116

وقدم الاتحاد صياغة جديدة للعقائد البروتستانتية في وثيقة وكانت توزع باسم "الإيمان المسيحي المعاصر بلغة المسيحية القديمة"، وخطا الاتحاد خطوة أخرى جريئة وهي وضع كتاب جديد لتلاوته في الصلوات ظهر في عام (1928 م)، اشتمل على تراتيل ملفقة من فرق المسيحية المختلفة، لكن البرلمان الإنجليزي رفض الاعتراف بشرفية استعماله في الكنائس، إلا أنه استمر يستخدم اختيارًا بصفة غير قانونية.

وموقف العصرانية الإنجليزية من الكنيسة نابع من قناعتها الراسخة أن الكنيسة ليست لها عصمة من الخطأ مطلقة، أو تعاليم ثابتة أو أعراف جامدة أو دستور محدد، ولكن مع ذلك فإن الكنيسة في نظرها هي المؤسسة الوحيدة الصالحة لإقامة مملكة المسيح في الأرض، ولهذا كانوا يدعون إلى "كنيسة قوية مستقرة في دولة مسيحية متطورة"، ودعوا للتعاون بين الدولة والكنيسة، وخاصة في مجالات التعليم وإلى ولاء المسيحي للاثنين معًا.

خاتمة العرض:

وفي خاتمة هذا العرض المجمل لحركات التجديد العصراني في اليهودية والنصرانية بشقيها التي شهدها القرنان التاسع عشر الميلادي والعشرون، يحق للمرء أن يتساءل: هل نجحت هذه الحركات في استقطاب العقل المعاصر الذي سعت جاهدة لتقديم تأويلات دينية جديدة تناسبه؟ لعل الإجابة الدقيقة المعتمدة على الإحصائيات والأرقام غير متيسرة، إلا أن العالم الغربي في ذات القرنين الماضيين قد شهد انحلالًا وتراجعًا في التدين مما لا يترك مجالًا لأحد أن يظن أن تلك "الجرعات" الممزوجة صناعيًا في معامل العصر؛ قد حققت شيئًا في إرضاء عقل الرجل المعاصر وقلبه وضميره {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ (1) رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً (2) فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ (3)} [البينة: 1 - 3]. صدق الله العظيم (1).

(1) انظر: "النقد التفصيلي للعصرانية في الغرب" ص 226.

ص: 117