الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أن تتخذ قرارًا سفيهًا مثل هذا. ولذا فإن شعبًا لم يفارقه العقل لا يبدد الجهود والأعمال التي تمت على أيدي أسلافه وإنما يتقدم إلى الأمام مضيفًا إلى الأعمال السابقة أعمالًا جديدة لم يتح للأولين أن يقوموا بها وهكذا لا يزال يتقدم بخطى حثيثة في ميدان الكمال والإتقان" (1).
إن الفقهاء الأوائل بشرٌ ما في ذلك شك، ولا يعني ذلك أن ما قالوه فهو خطأ يجب اطراحه. أو لسنا أيضًا بشرًا فما الذي يجعل لنا فضلًا عليهم؟ إن فقه الأولين فيه الخطأ والصواب وكل ذي عقل يري أن ما كان صوابًا قبلناه وما كان خطأ طرحناه.
وإذا كان تقسيم الشريعة إلى شريعة الله وشريعة الفقهاء له إيحاءات خاطئة، فالأفضل منه أن يجعل ذلك التقسيم أكثر تفصيلًا، حتى يكون أكثر بيانًا ووضوحًا وقد قسم الإمام ابن تيمية الشريعة ثلاثة أقسام (2): شريعة منزلة وهي القرآن والسُّنَّة، وشريعة اجتهادية وهي ما توصل إليها عن طريق الاجتهاد، وشريعة محرَّفة وهي التي يظن أنها من الشرع وهي محض انحرافات. فالشريعة الاجتهادية تتعدد الآراء فيها في المسألة الواحدة ونقبل ونرفض منها بحسب الأدلة، أما الانحرافات والتحريفات فمرفوضة كلها.
الثابت والمتغير في الإسلام:
من مبادئ العصرانية تقسيم الدين إلى ثوابت ومتغيرات وقد تناول مفكروها هذه القضية بالبحث في المسيحية واليهودية (3) والإسلام (4). ويشرح الدكتور معروف الدواليبي هذا المبدأ في مقال له بعنوان: "النصوص وتغير الأحكام بتغير الزمان" فيقول:
(1)"مفاهيم إسلامية حول الدين والدولة" المودودي ص 172.
(2)
"فتاوى ابن تيمية" 19/ 308.
(3)
كتب ثيودور باركر في عام 1848 م كتابًا عن الثابت والمتغير في المسيحية وبعد عشر سنوات تناول المفهوم نفسه في اليهودية ليلينثال، انظر: Balu، "Modern vaneties of 7 Tudidm"، P.
(4)
انظر: "الثابت والمتغير"(جمال الدين عطية، مجلة المسلم المعاصر، العدد 23) رمضان - 1400 هـ) ص 5، و (النصوص وتغير الأحكام) معروف الدواليبي، مجلة المسلمون العدد السادس السنة الأولى (1371) ص 553، و (مقدمة في إحياء الشريعة) صبحي المحمصاني ص 59 وما بعدها، وفلسفة التشريع للمؤلف نفسه ص 198.
"إذا كان النسخ لا يصح إلا من قبل الشارع نفسه فهل يصح في الاجتهاد تغيير ما لم ينسخه الشارع من الأحكام وذلك تبعًا لتغير الأزمان؟
1 -
إن جميع الشرائع من قديمة وحديثة قد أخذت بمبدأ جواز النسخ لما في الشريعة من بعض الأحكام، تبعًا لتغير المصلحة في الأزمان. غير أنها لم تأخذ بمبدأ السماح للمجتهدين بتغير حكم من الأحكام مادام ذلك الحكم باقيًا في الشريعة ولم ينسخ من قبل من له سلطة الاشتراع.
2 -
وقد تفردت الشريعة الإسلامية من بين جميع تلك الشرائع من قديمة وحديثة، بالتمييز ما بين المبدأين أولًا وبالأخذ بهما ثانيًا.
فلقد اعتبرت الشريعة الإسلامية النسخ لبعض الأحكام الشرعية حقًا خاصًا بمن له سلطة الاشتراع وأخذت به. أما التغيير لحكم لم ينسخ نصه من قبل الشارع فقد أجازته للمجتهدين، من قضاة ومفتين تبعًا لتغير المصالح في الأزمان أيضًا، وامتازت بذلك على غيرها من الشرائع، وأعطت فيه درسًا بليغًا عن مقدار ما تعطيه من حرية للعقول في الاجتهاد، ومن تقدير لتحكيم المصالح في الأحكام. وهكذا أصبح العمل بهذا المبدأ الجليل قاعدة مقررة في التشريع الإسلامي، فتعلن بأنه "لا ينكر تغير الأحكام بتغير الأزمان"(1).
فعلى رأي الكاتب الفاضل أن الشريعة الإسلامية تمتاز بالمرونة والطواعية في هذه الناحية على غيرها من التشريعات، فتجيز للقاضي أو المفتي تغيير حكم من الأحكام، ولو كان هذا الحكم ثابتًا بنص القرآن أو السُّنَّة، تبعًا لتغير المصالح بتغير الأزمان، مع أن كثيرًا من القوانين قديمًا وحديثًا لا تتميز بهذه المرونة، فلا يمكن لقانون وضعه مجلس تشريعي أن ينقضه أحد كائنًا من كان ولو أحد قضاة المحاكم العليا أو رئيس الوزراء. ويقول أن ذلك أصبح في الإسلام قاعدة فقهية مقررة وهي أنه "لا ينكر تغير الأحكام بتغير الأزمان".
ولتتضح لنا الحقيقة في هذه المسألة لابد من النظر أولًا في هذه القاعدة الفقهية، التي أشار إليها الكاتب، ثم ننظر في الأدلة التي تورد عادة لتعضيد وجهة النظر القائلة بهذه المرونة الواسعة للشريعة الإسلامية، التي لا تدانيها حتى أكثر القوانين العصرية تقدمًا.
(1) مجلة المسلمون ع/ 6 السنة الأولى ص 553.
من المعروف أن أحكام الشريعة تنقسم إلى قسمين رئيسين: أحكام مصدرها نصوص القرآن والسُّنَّة مباشرة، وأحكام مصدرها الاجتهاد دون أن تستند مباشرة على النصوص مثل أن تكون مبنية على مصلحة سكتت عنها النصوص أو عُرْف أو عادة لم ينشئها نص شرعي.
ولا يختلف اثنان أن الأحكام في كلا القسمين إنما ترمي إلى تحقيق مصالح الناس ومراعاة منافعهم. ومما لا ريب فيه أن بعض هذه المصالح والمنافع يتبدل ويتغير بتغير الزمان أو المكان، أو لأي عامل من العوامل التي تؤثر في تغير المصالح.
ففي القسم الثاني من الأحكام التي لم يكن مصدرها النص مباشرة، لم يجد الفقهاء صعوبة تذكر في تقرير أن المصلحة التي لم يأت بها نص أصلًا يمكن أن تتغير وتصبح في حين من الأحيان مفسدة، أو أن العرف والعادة الذي لم يتكون إثر نص شرعي أصلًا، يمكن أن يتبدل ويتغير، وحينئذ قرروا بلا تحفظ أن الأحكام في هذا القسم تتغير بتغير الزمان؛ لأن الأصل الذي تبني عليه أصل متغير، وتغيره سواء كان مصلحة أو عرفًا متصور عقلًا وواقع ملموس.
أما القسم الثاني من الأحكام وهي الأحكام التي تقررها النصوص مباشرة فكل أحد يقر أن النص مقصود منه تحقيق المصلحة للناس ومقصود منه منفعتهم، فغاية النص وهدف النص وحكمة النص هي المصلحة. حينئذ لم يستطع ذهن الفقهاء أن يتصور أن هذه المصلحة التي يثبتها النص يمكن أن تتغير وتصبح في زمن من الأزمان مفسدة. ذلك أن من المتفق عليه أن المصلحة ليست تابعة للهوى أو المزاج الشخصي، وأن المصالح التي تقررها النصوص هي المصالح حقيقة. وأن من التناقض الواضح أن يقال أن مصلحة ما عارضت النص. فالنص هو عدل كله ورحمة كله وحكمة كله ومصلحة كله، فأي مصلحة تلك التي تعارض النص، إلا إذا كانت نابعة من هوى أو مصدرها مزاج سقيم. حينئذ قرر الفقهاء أن الحكم الذي مصدره النص حكم ثابت إلى يوم الدين لا يتغير بتغير الزمان.
يقول الإمام ابن حزم مؤكدًا هذه الحقيقة:
"إذا ورد النص من القرآن أو السُّنَّة الثابتة في أمر ما على حكم ما. . . فصح أنه لا معنى لتبدل الزمان ولا لتبدل المكان ولا لتغير الأحوال، وأن ما
ثبت فهو ثابت أبدًا، في كل زمان وفي كل مكان وعلى كل حال، حتى يأتي نص ينقله عن حكمه في زمان آخر أو مكان آخر أو حال أخرى" (1).
وعلى هذا فإن القاعدة الفقهية (لا ينكر تغير الأحكام بتبدل الزمان) قد وضعها الفقهاء للقسم الثاني من الأحكام، وهي الأحكام التي لا تستند مباشرة على نص شرعي، بل مصدرها عرف أو مصلحة سكتت عنها النصوص. وهذه القاعدة هي إحدى قواعد المجلة وقررتها المادة 39، وقد جاء شرح هذه القاعدة بقصرها على الأحكام التي لم تستنبط من النصوص (2)، وعلى هذا استقر فهم الفقهاء. يقول الدكتور مصطفى الزرقاء في بحثه لهذا الموضوع:
"من المقرر في فقه الشريعة أن لتغير الأوضاع والأحوال الزمنية تأثيرًا كبيرًا في كثير من الأحكام الشرعية الاجتهادية، وعلى هذا الأساس أسست القاعدة الفقهية القائلة "لا ينكر تغير الأحكام بتغير الزمان". وقد اتفقت كلمة فقهاء المذاهب على أن الأحكام التي تتبدل بتبدل الزمان واختلاف الناس هي الأحكام الاجتهادية من قياسية ومصلحية وهي المعنية بالقاعدة الآنفة الذكر، أما الأحكام الأساسية التي جاءت الشريعة لتأسيسها وتوطيدها بنصوصها الأصلية فهذه لا تتبدل بتبدل الأزمان بل هي الأصول التي جاءت بها الشريعة لإصلاح الأزمان والأجيال"(3).
أثر العرف في تغير الأحكام:
ويزيد الإمام الشاطبي أحد علماء أصول الفقه المتمكنين مسألة تأثير العرف في تغير الأحكام شرحًا وتوضيحًا، فيبين أن العادات والأعراف المتبدلة هي الأعراف التي لم تنشئها الشريعة أصلًا، ولم تتعرض لها إطلاقًا لا بمدح ولا ذم، إنما أنشأها الناس بأنفسهم نتيجة العلاقات الاجتماعية بينهم. فهذه هي التي يؤثر تغيرها في أحكامها الشرعية فيتغير حكمها تبعًا لتغيرها. وضرب بعض الأمثلة على ذلك منها على سبيل المثال العبارات التي يكون لها تأثير في إنشاء
(1)"الإحكام في أصول الأحكام" ابن حزم 5/ 771 - 774.
(2)
انظر: "شرح المجلة" محمد خالد الأتاسي 1/ 91.
(3)
"تغيير الأحكام بتغير الزمان"، د. مصطفى الزرقاء -مجلة المسلمون ع/ 8 ص 891 (1373 هـ).
أو إنهاء عقود المعاملات المالية، مثل البيع أو ألفاظ الطلاق، فهذه يراعى فيها العبارات التي يعتادها الناس والاصطلاحات التي يستعملونها في كل عصر. ومن الأمثلة أيضًا للعوائد التي تتغير ويكون لها تأثير العادات الخاصة بالزواج مثلًا، فهذه قد تختلف من عصر إلى عصر، أو من بلد إلى بلد، فإذا كانت العادة مثلًا أن يدفع المهر كاملًا قبل الزواج، أو الهدايا التي تدفع للعروس تكون من ضمن المهر، فلهذه العادات تأثير في الأحكام الشرعية.
أما العادات والأعراف التي تنشئها الشريعة وتعتبرها من المحاسن أو تذمها وتعدها من القبائح، فهذه لا تتبدل ولا تتغير بل هي ثابتة، وفيما يلي عبارة الإمام الشاطبي التي شرح فيها هذه القضية (1):
يقول: "العوائد المستمرة ضربان، أحدهما: العوائد الشرعية التي أقرها الدليل الشرعي أو نفاها، ومعنى ذلك أن يكون الشرع أمر بها إيجابًا أو ندبًا، أو نهى عنها كراهة أو تحريمًا، أو أذن فيها فعلًا وتركًا. والثانية: هي العوائد الجارية بين الخلق بما ليس في نفيه وإثباته دليل شرعي.
فأما الأول: فثابت أبدًا كسائر الأمور الشرعية. . . فهي إما حسنة عند الشارع أو قبيحة. . . فلا تبديل لها. . . فلا يصح أن ينقلب الحسن فيها قبيحًا ولا القبيح حسنًا. . . إذ لو صح مثل هذا لكان نسخًا للأحكام المستقرة المستمرة والنسخ بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم باطل؛ فرفع العوائد الشرعية باطل".
أما الثانية: فهي عند الشاطبي المتبدلة ثم ضرب لها أمثلة كما سقناها.
رأي الطوفي في أثر المصلحة في تغير الأحكام:
أسلفنا القول: إن الحكم الذي جاء به نص حكم ثابت لا يتغير لأن المصلحة التي يحققها مصلحة ثابتة لا تتغير، وقد ظل هذا هو الرأي السائد الوحيد بين الدوائر العلمية، لا يشذ عنه فقيه ولا يعرف أحد رأيًا غيره، حتى نشرت مجلة المنار في أوائل هذا القرن رأيًا مهجورًا لأحد فقهاء القرن السابع الهجري، وهو نجم الدين الطوفي ذكرت المجلة أنه تحدث عن المصلحة بما لم تر مثله لغيره من الفقهاء (2).
(1) انظر: "الموافقات" للشاطبي 2/ 283 وما بعدها.
(2)
"المصلحة في التشريع الإسلامي ونجم الدين الطوفي"، مصطفى زيد ص 194.
فمن هو الطوفي هذا؟ وما رأيه الذي شذ به عن بقية الفقهاء؟
تذكر المصادر التي ترجمت لحياة الطوفي أنه كان من الفقهاء الحنابلة، وتصفه بالعدل والصلاح والفضل، ولكن هذه المصادر ذاتها تلقي ظلالًا على انحراف منهجه في التفكير، وتتهمه بالتشيع والرفض وسب الصحابة، وتجعل ذلك سببًا للثائرة التي ثارت عليه حين كان في القاهرة، ومنها نفي إلى بلدة صغيرة. وإذا كان البعض يشكك في صحة ما اتهم به ويبرئ ساحته، إلا أن كل الكتابات قديمًا وحديثًا تتفق على أن رأيه في المصلحة رأي شاذ، لم يعرف قبله ولم يتابعه فيه أحد بعده إلا بعض المعاصرين (1)، وقد يكون الشذوذ وحده ليس عيبًا وإن كان في الغالب دليل الخطأ، فهل كان رأي الطوفي في المصلحة مع كل تلك الظلال القاتمة في حياته ومع ذلك الشذوذ رأيًا صائبًا أم كان رأيًا لا وزن له؟
أوضح الطوفي رأيه في المصلحة في ثنايا شرحه لأحد الأحاديث الأربعينية وهو حديث: "لا ضرر ولا ضرار"(2) وخلاصة رأيه أن المصلحة أقوى مصادر التشريع، بل هي أقوى من النص والإجماع، وأنه في غير دائرة العبادات والمقدرات فإن المصلحة تقدم على النص والإجماع إذا عارضتهما.
يقول: "واعلم أن هذه الطريقة التي ذكرناها مستفيدين لها من الحديث المذكور -حديث: "لا ضرر ولا ضرار"- ليست هي القول بالمصالح المرسلة على ما ذهب إليه مالك، بل هي أبلغ من ذلك، وهي التعويل على النصوص والإجماع في العبادات والمقدرات، وعلى اعتبار المصالح في المعاملات وباقي الأحكام. . . فالمصلحة وباقي أدلة الشرع إما أن يتفقا أو يختلفا، فإن اتفقا فبها ونعمت، وإن اختلفا وتعذر الجمع بينهما قدمت المصلحة على غيرها. . . وإنما اعتبرنا المصلحة في المعاملات ونحوها دون العبادات وشبهها؛ لأن العبادات حق للشرع خاص به، ولا يمكن معرفة حقه كمًا وكيفًا وزمانًا ومكانًا إلا من
(1) راجع في ذلك: المصدر نفسه ص 67 - 88، و"ضوابط المصلحة في الشريعة الإسلامية"، محمد سعيد رمضان البوطي ص 202 - 206، وانظر:"ذيل طبقات الحنابلة" لابن رجب 2/ 366.
(2)
انظر: النص الكامل لهذا الشرح في ملحق كتاب "المصلحة في التشريع الإسلامي" لمصطفى زيد.
جهته، فيأتي به العبد على ما رسم له. . . وهذا بخلاف حقوق المكلفين فإن أحكامها سياسية شرعية، وضعت لمصالحهم فكانت هي المعتبرة وعلى تحصيلها المعول. . . ولا يقال: إن الشرع أعلم بمصالحهم فلتؤخذ من أدلته؛ لأنا قد قررنا أن رعاية المصلحة من أدلة الشرع وهي أقواها وأخصها فلنقدمها في تحصيل النافع" (1).
ويسوق لرأيه هذا عددًا من الأدلة منها (2):
1 -
أن النصوص إجمالًا وتفصيلًا قد بيَّنت أن مقصود الله عز وجل من تشريع أحكامه تحقيق المصلحة ورفع الحرج. من ذلك مثلًا قوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185]، وقوله:{وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78]، وقال عليه السلام:"الدين يسر" وقال: "بعثت بالحنيفية السمحة".
2 -
حديث: "لا ضرر ولا ضرار" وهو واضح الدلالة في نفي الضرر والمفسدة وتقديم المصلحة على جميع أدلة الشرع، فإذا تضمنت بعد أدلة الشرع ضررًا كان لابد عملًا بهذا الحديث من إزالة ذلك الضرر.
3 -
أن النصوص متعارضة مختلفة فلهذا تكون سببًا للخلاف والتفرق، أما المصلحة فأمر حقيقي لا يختلف فيه ولهذا فهي أولى بالتقديم على النصوص.
4 -
أن المصلحة دليل متفق عليه أما الإجماع فدليل مختلف حوله فالتمسك بالمتفق عليه أولى من التمسك بما اختلف فيه.
وهذا مجمل ما عند الطوفي من أدلة على رأيه، ولكن تحليل هذه الأدلة بكل روية وتمعن يظهر فيها ضعفًا وتناقضًا لا يخطئه من له أدنى إدراك بالأدلة وطرق مناقشتها.
1 -
فمما لا يختلف فيه اثنان أن النصوص دلت عمومًا وتفصيلًا أن أحكام الشريعة غايتها المصلحة، ولكن هذا دليل إثبات أنه حيثما وجد النص فثم المصلحة، والله أراد من النصوص اليسر ولم يرد بها العسر، وكل نصوص الدين
(1) ملحق كتاب "المصلحة في التشريع الإسلامي" مصطفى زيد ص 235 و 238 و 240.
(2)
انظر: المصدر نفسه ص 235 وما بعدها.
ما جعل الله فيها من حرج وهي سمحة سهلة، فكل أدلة الطوفي في أن المصلحة واليسر ورفع الحرج هي مقصود الشارع، فهي دليل على ضرورة التزام النص وتقديمه؛ لأنه الذي يحقق المصلحة في كل الظروف.
2 -
وحديث: "لا ضرر ولا ضرار" هو أحد الأدلة أيضًا على أن كل نصوص الشرع لا ضرر فيها، وأن المصلحة متحققة منها دائمًا، إذ كيف يقرر الرسول أنه لا ضرر وتكون بعض النصوص التي جاء بها سببًا في الضرر. إن من يفرض وقوع الضرر من تطبيق النص يقع في تناقض بيِّن.
3 -
والاختلاف في تقدير المصلحة أمر واقع، وهو اختلاف كبير واسع، فالمصلحة ليست أمرًا منضبطًا يتفق عليه الناس وإلا لو كان الأمر كذلك لاتفق الناس في شرائعهم ونظمهم وطرق حياتهم، وكل هذا ينقض ما قاله الطوفي من أن المصلحة أمر حقيقي متفق عليه.
4 -
والطوفي في عبارته عن تقديم المصلحة على الإجماع متناقض جدًا، فهو يقول إن المصلحة متفق عليها والإجماع مختلف حوله، فتقدم المصلحة لأنها متفق عليها "فأصبح معنى كلامه: الإجماع أضعف من رعاية المصلحة لأن رعاية المصلحة مجمع عليها والإجماع غير مجمع عليه" (1).
5 -
ومن الملاحظ أن الطوفي لم يأت بمثال واحد يرينا فيه كيف أن المصلحة عارضت النص وكيف تقدم عليها، حتى نستيقن مما يقول، وما ذلك إلا لأنه لن توجد مطلقًا بعد طول الاستقراء والبحث حالة واحدة تعارض فيها المصلحة النص لأن ذلك التعارض أمر متوهم (2).
ولضعف أدلة الطوفي وشناعة رأيه حمل عليه كثير من المعاصرين حملة قوية. فيقول الشيخ أبو زهرة عن رأيه أنه: "رأي شاذ بين علماء الجماعة الإسلامية" ويقول: ". . . إن مهاجمته للنصوص ونشر فكرة نسخها أو تخصيصها بالمصالح هي أسلوب شيعي، أريد به تهوين القدسية التي تعطيها الجماعة الإسلامية لنصوص الشارع. والشيعة الإمامية يرون أن باب النسخ والتخصيص لم يغلق لأن الشارع الحكيم جاء بشرعه لمصالح الناس في الدنيا والآخرة، وأدرى
(1) انظر: "ضوابط المصلحة في الشريعة الإسلامية"، محمد سعيد رمضان البوطي ص 212.
(2)
انظر: "ابن حنبل" لأبو زهرة ص 359.
الناس بذلك الإمام فله أن يخصص كما خصص النبي صلى الله عليه وسلم لأنه وصى أوصيائه. وقد أتى الطوفي بالفكرة كلها وإن لم يذكر كلمة الإمام ليروج القول وتنتشر الفكرة" (1).
ويقول الشيخ عبد الوهاب خلاف: ". . . وإن الطوفي الذي يحتج بالمصلحة المرسلة إطلاقًا فيما لا نص فيه وفيما فيه نص فتح بابًا للقضاء على النصوص وجعل حكم النص أو الإجماع عرضة للنسخ بالرأي؛ لأن اعتبار المصلحة ما هو إلا مجرد رأي وتقدير، وربما قدر العقل مصلحة، وبالروية والبحث يقدرها مفسدة. فتعريض النصوص لنسخ أحكامها بالآراء وتقدير العقول خطر على الشرائع الإلهية وعلى كل القوانين"(2).
شذوذ بعض المعاصرين:
ومع وضوح خطأ الطوفي فقد تمسك برأيه بعض المعاصرين وألبسوا به العلمانية ثوبًا إسلاميًا، فجعلوا العبادات وحدها هي الثابتة في الإسلام التي يلتزم بها بالنصوص، أما في غير دائرة العبادات فالباب مفتوح على مصراعيه لتعديل النصوص وتغييرها، وحذفها وإضافة غيرها. يقول الدكتور النويهي في مقاله بعنوان:"نحو ثورة في الفكر الديني"(3).
"إن كل التشريعات التي تخص أمور المعاش الدنيوي والعلاقات الاجتماعية بين الناس والتي يحتويها القرآن والسُّنَّة لم يقصد بها الدوام وعدم التغير ولم تكن إلا حلولًا مؤقتة، احتاج لها المسلمون الأوائل وكانت صالحة وكافية لزمانهم، فليست بالضرورة ملزمة لنا، ومن حقنا بل من واجبنا أن ندخل عليها من الإضافة والحذف والتعديل والتغير، ما نعتقد أن تغير الأحوال يستلزمه".
اجتهادات عمر بن الخطاب:
ويضيف هؤلاء المعاصرين تأييدًا لرأيهم في تغير الأحكام الثابتة بالنص تبعًا
(1)"ابن حنبل" لأبو زهرة ص 363.
(2)
"مصادر التشريع الإسلامي فيما لا نص فيه" عبد الوهاب خلاف ص 101.
(3)
مجلة الآداب (بيروت) عدد مايو 1970 م ص 101.
لتغير المصالح بتغير الزمان حججًا جديدة منها: اجتهادات عمر بن الخطاب، التي يرون أنه لم يتمسك فيها بالتطبيق الحرفي للنصوص ومنها استبدال الشافعي لمذهبه العراقي القديم بمذهبه المصري الجديد (1).
ونتناول هذه الحجج فيما يلي:
يقال: إن عمر بن الخطاب رضي الله عنه لم يلتزم بحرفية النصوص في عدد من اجتهاداته وفيما يلي اثنان من أشهرها:
1 -
"اجتهاد عمر بن الخطاب رضي الله عنه في قطع العطاء الذي جعله القرآن الكريم للمؤلفة قلوبهم كان في مقدمة الأحكام التي قال بها عمر تبعًا لتغير المصلحة بتغير الأزمان رغم أن النص القرآني لا يزال ثابتًا"(2).
ويقول النويهي عن ذلك:
"فأي شيء هذا إن لم يكن إلغاء تشريع قرآني حين اعتقد أن الظروف المتغيرة لم تعد تجيزه؟ لكن هل يجرؤ علماؤنا وكتابنا على مواجهة هذه الحقيقة الصريحة؟ "(3).
ولكن هل صحيح أن عمر في هذه القضية غيَّر حكمًا ثابتًا بالقرآن؟ إن سؤالًا واحدًا كفيل بوضع هذه القضية في موضعها الصحيح، وهو: هل كان يوجد مؤلفة قلوبهم في عهد عمر أم لا؟
فمن المعلوم أن مصارف الزكاة محدودة لأصناف ثمانية معروفة أوصافهم فإذا لم يوجد صنف منهم في أي عصر من العصور، مثل عدم وجود صنف (في الرقاب) في هذا العصر، فكل ما يمكن أن يقال أن مصرفًا من مصارف الزكاة موقوف حتى يوجد من يستحقه، فكل ما فعله عمر رضي الله عنه هو أنه حكم بعدم وجود صنف المؤلفة قلوبهم في عصره، وليس ذلك إلغاء لتشريع قرآني وليس فيه تغيير لحكم ثابت بالقرآن لتغير الزمان، فإذا وجد المؤلفة قلوبهم في أي عصر أعطوا
(1) راجع: مقال معروف الدواليبي "النصوص وتغير الأحكام"، مجلة المسلمون ع/ 6 السنة الأولى ص 553، و"مقدمة في إحياء الشريعة" المحمصاني ص 67.
(2)
مقال الدواليبي المصدر نفسه ص 555.
(3)
مقال النويهي - مجلة الآداب (بيروت) ص 100، عدد مايو 1970 م.
وإذا لم يوجدوا لم يعطوا (1).
2 -
". . اجتهاد عمر رضي الله عنه عام المجاعة في وقف تنفيذ حد السرقة على السارقين وهو قطع اليد. . . وفي هذا تغيير لحكم السرقة الثابت بنص القرآن عملًا بتغير الظروف التي أحاطت بالسرقة"(2).
ولكن من الواضح أن عمر هنا إنما درأ الحد بالشبهة ودرأ الحدود بالشبهات أمر مشروع وروي عن غير واحد من الصحابة (3). ويقول ابن القيم عن ذلك: "فإن السنة إذا كانت سنة مجاعة وشدة غلب على الناس الحاجة والضرورة، فلا يكاد يسلم السارق من ضرورة تدعوه إلى ما يسد به رمقه - وهذه شبهة قوية تدرأ القطع عن المحتاج وهي أقوى من كثير من الشبه التي يذكرها كثير من الفقهاء"(4).
فليس في اجتهاد عمر تغيير للنص الثابت بالقرآن استجابة للظروف.
فقه الشافعي القديم والجديد:
ومن الأمثلة التي تساق لتغير الأحكام بتغير الظروف ما ثبت من تغير فقه الشافعي القديم حين كان بالعراق إلى فقهه الجديد حين انتقل إلى مصر (5). وتغير فقه الشافعي من القديم إلى الجديد أمر ثابت، أما تعليل هذا التغير بتغير الظروف فهو يحتاج إلى نظر. فمن المعلوم أن الشافعي قد جمع فقهه في كتبه وهو قد ألف أكثر هذه الكتب في القديم، ثم حين أعاد تأليفها في الجديد كان يأمر بتمزيق الأولى التي حوت اجتهاداته القديمة والتي تغير رأيه فيه (6)، وفوق ذلك فقد روى البيهقي عنه أنه كان يقول:"لا أجعل في حل من روى عني كتابي البغدادي"؛ وكتابه البغدادي هو المشتمل على مذهبه القديم (7)، فلماذا هذا التشدد في نسخ آرائه القديمة وسعيه لإماتتها؟
(1) راجع: "منهج عمر بن الخطاب في التشريع" محمد بلتاجي ص 175 - 191، والكتاب كله مناقشة قيمة لاجتهادات عمر.
(2)
مقال الدواليبي ص 555.
(3)
راجع: "نيل الأوطار" الشوكاني 7/ 118.
(4)
"إعلام الموقعين" 3/ 14.
(5)
"مقدمة في إحياء الشريعة" المحمصاني ص 67.
(6)
"مناقب الشافعي" البيهقي 1/ 256.
(7)
"الشافعي" أبو زهرة ص 192 - 395.
لا يبدو من ذلك أن السبب في تغير اجتهاداته تغير ظروف مصر عن ظروف العراق؛ لأن الأمر لو كان كذلك لأجاز للناس رواية ونقل مذهبه العراقي، ولكن تشدده في نسخه وسعيه لإماتته كأنه لم يقله، دليل على أنه اكتشف أخطاء في اجتهاده القديم، لهذا أحب ألا ينقل عنه رأي خطأ. وإعادته النظر في آرائه القديمة وتغير اجتهاده فيها أمر عادي بسبب زيادة علمه وخبرته لا بسبب تغير الظروف.
ويقول أحد أشهر تلامذته وهو الإمام أحمد بن حنبل عن كتبه القديمة والجديدة التي حوت (فقهه القديم والجديد). . . "عليك بالكتب التي وضعها بمصر فإنه وضع هذه الكتب بالعراق ولم يحكمها ثم رجع إلى مصر فأحكم تلك"(1).
ولعل استقراء المسائل التي تغير اجتهاده فيها هي أفضل وسيلة لمعرفة ما إذا كانت للظروف أثر في ذلك، ولا أعلم مسألة واحدة يمكن أن يقال أن لتغير الظروف بين مصر والعراق أثر في تغير رأيه فيها.
رأي الإمام ابن القيم في تغير الأحكام:
عقد الإمام ابن القيم في كتابه "إعلام الموقعين" فصلًا عن (تغير الفتوى واختلافها بحسب تغير الأزمنة والأمكنة والنيات والعوائد). وقد حمل سوء الفهم لهذا الفصل بعض الناس فجعل رأي ابن القيم ورأي الطوفي سواء (2)، ولكن الدارس لرأي ابن القيم من الأمثلة التي ساقها يتضح له أنه لا فرق بينه وبين رأي سائر الفقهاء في إثبات تغير الأحكام في دائرة المسائل التي سكتت عنها النصوص، أما في دائرة النصوص فالأحكام ثابتة إلا إذا دل النص نفسه على تغيرها.
وقد أورد ابن القيم عددًا من الأمثلة لتغير الحكم وكل أمثلته تدور على الحالات الآتية (3):
1 -
الحالة التي يثبت تغير النص فيها نص آخر، مثل نهي النبي صلى الله عليه وسلم أن تقطع
(1)"مناقب الشافعي" البيهقي 1/ 263، و"مناقب الشافعي" ابن أبي حاتم ص 60.
(2)
انظر: "المصلحة في التشريع الإسلامي" مصطفى زيد ص 161.
(3)
"إعلام الموقعين" ابن القيم ص 4 - 50.
الأيدي في الغزو، فتعطيل الحد هنا في هذا الظرف ثابت في نص آخر.
2 -
الحالة التي تتعارض فيها المصالح التي تثبتها النصوص ومثالها ترك إنكار المنكر إذا كان يستلزم ما هو أنكر منه.
3 -
حالة يستعمل فيها القياس وإلحاق الأشباه والنظائر بأمثالها التي تثبتها النصوص، ومن أمثلة ذلك أن النص جعل صدقة الفطر في أصناف مخصوصة، فيقاس عليها أمثالها من الأصناف التي تصلح أن تكون قوتًا، في البلاد التي لا يوجد فيها الأصناف التي حددها النص.
4 -
حالة استثنائية قاهرة خاصة بحالة العجز والضرورة ومثالها صحة طواف الحائض إذا خشيت أن تفوتها رفقتها في الحج. مع أن بعض النصوص يفهم منها عدم صحة ذلك في الأحوال العادية.
5 -
الحالات التي تتغير فيها عبارات العقود والأيمان والطلاق والنذور تبعًا لتغير العرف والعادة في ذلك.
وليس من أمثلة ابن القيم مثال واحد لتقديم المصلحة على النص.
أحكام النصوص ثابتة:
ومن هذه المناقشات كلها لا نجد دليلًا واحد يؤيد رأي العصرانية فيما تحاوله من فتح الباب لتغيير الأحكام المستندة على النصوص، بل إن الأحكام في دائرة النصوص أحكام ثابتة إلى يوم الدين لا تستطيع هيئة تشريعية أن تبدل فيها أو تغيرها.
لا كهنوتية في الإسلام. . . ولكن!:
ينادي سيد خان (1) وأمثاله من العصرانيين بفتح أبواب الاجتهاد وبإتاحة حرية واسعة في الاجتهاد حتى للأفراد العادين ولو أدى ذلك إلى فوضى فكرية. وهكذا "نشأت في أيامنا وجهة جديدة للتفكير تقول: أن لا كهنوتية في الإسلام، فليس للعلماء من اختصاص بالقرآن والسُّنَّة والشريعة حتى يكون لهم وحدهم الحق في التعبير عنها، بل المسلمون جميعًا يتمتعون بهذا الحق معهم، وما عند العلماء من حجة تجعل آراءهم أوجد من آرائنا وأقوالهم أكثر وزنًا من أقوالنا في أمر الدين. .".
(1)"إعلام الموقعين" ابن القيم ص 150 من هذا البحث.
". . . ولعمر الحق أنه لو تركت صورة الجهل على حالها تشتد وتثور لا يبعد أن يقوم غدًا رجل منا فيقول: أن لا قضاء في الإسلام فيجوز لكل أحد من الناس أن يدلي برأيه في القانون ولو لم يكن يعرف منه الألف والباء. ويقوم بعده رجل آخر يقول ويعلن: أن لا هندسة في الإسلام، فمن حق كل رجل أن يتكلم في الهندسة ولو لم يكن على أدنى معرفة بمبادئها. ثم يقوم بعده رجل ثالث ويعلن: أن ليس هناك من حاجة إلى حذق مهنة الطب، فيشرع في معالجة المرضى ومداواتهم من غير أن يكون على صلة بالطب".
". . . نعم لا جرم أنه لا كهنوتية في الإسلام ولكن هل يعلم هؤلاء اليوم ما معنى ذلك؟ إنما معناه أن الإسلام ليس كاليهودية حتى ينحصر فيه علم الشريعة والقيام على الخدمات الدينية في وسط من الأوساط، أو قبيلة من القبائل، ولم يفرق فيه -كما في المسيحية- بين الدين والدنيا، فتكون الدنيا للقياصرة ويكون الدين للرهبان والأحبار. ولا ريب -كذلك- أن لا اختصاص لأحد بتفسير القرآن والسُّنَّة والشريعة وأنه لا ينحصر العلماء في سلالة خاصة من السلالات أو أسرة معينة من الأسر، فلا يكون إلا لأفرادها يتوارثونه كابرًا عن كابر، ولهم وحدهم أن يتحدثوا باسم الدين، ويجتهدوا في تعاليمه دون سائر المسلمين. فكما أنه من الممكن لكل أحد من الناس أن يكون محاميًا إذا درس القانون، أو مهندسًا إذا درس الهندسة، أو طبيبًا إذا درس الطب، فكذلك يجوز في الإسلام لكل فرد من أفراد المسلمين إذا درس القرآن والسُّنَّة وصرف جانبًا من أوقاته وجهوده في تلقي علمهما أن يتكلم في مسائل الشريعة، وهذا هو المعنى الصحيح المعقول إن كان هناك معنى لانعدام الكهنوتية في الإسلام".
"ليس معناه أن الإسلام كالألعوبة في أيدي الأطفال يجوز لكل من شاء من الناس أن يعبث بأحكامه وتعاليمه ويصدر فيها آراءه، كما هو الشأن في أقضية أعلام المجتهدين وفتاواهم، ولو لم يكن قد بذل أدنى سعي في فهم القرآن والسُّنَّة والتبصر فيهما. وإذا لم يكن مقبولًا ولا معقولًا أن يدعي المرء أنه مرجع في أمر من أمور الدنيا من غير علم به، فما بالنا إذن نقبل في أمر الدين ادعاء هؤلاء القوم الذين يتكلمون فيه من غير معرفة بأصوله ومبادئه"(1).
(1)"نظرية الإسلام وهديه في السياسة" المودودي ص 244.