الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
طريق تقبل وجهات النظر المسيحية، أو حتى تتسم بتلك الجرأة التي اتسمت بها تفسيرات أمير علي للإسلام، إنها حركة تطهير أكثر منها حركة تحرير، ولا تزال أوضاع المسلمين القديمة التي أضفى عليها الزمن قدسية خاصة يتمسك بها ويحافظ عليها بكل عناد. ولكن أهلية وذكاء أمثال هؤلاء الرجال الجدد تجعلنا نتحقق من ضرورة رعايتهم، رعاية شاملة وخصوصية مع جهد ومثابرة متواصلة للاتفاق معهم" (1).
الاستشراق يتفاءل بتطور الإسلام:
ينظر الاستشراق إلى حركات التجديد العصراني للإسلام بنفس نظرة التفاؤل التي ينظر بها المبشرون، ويعقد على هذه الحركات آمالًا عريضة لتطوير الإسلام، ولا يكتفي الاستشراق بالآمال والأماني بل له وسائله الخاصة لدفع المسلمين في هذا الاتجاه (2). والذي يهمنا هنا أن نبرز موقفه من هذه الحركات.
نقرأ مثلًا في كتاب جولد تسيهر "العقيدة والشريعة في الإسلام" في الفصل الأخير عن (الحركات الدينية الأخيرة) كلامه عن "المرحلة العصرية الحديثة من مراحل تطور الإسلام في الهند" ويتحدث عن هذه المرحلة قائلًا:
"إن اتصال المسلمين الوثيق بالمدنية الغربية، وخضوع الملايين الفقيرة منهم لدول غير إسلامية، وذلك بسبب ما قام به الأوروبيون من الفتح والاستعمار، وكذا مساهمتهم في المظاهر العصرية للحياة الاجتماعية، نتيجة لغزو المدنية الغربية لبلادهم -كل هذه العوامل قد أحدثت أثرًا عميقًا في الطبقات الإسلامية المستنيرة، وفي علاقاتها بما توارثته من نظريات وتقاليد دينية، وكانت هذه النظريات والتقاليد في حاجة شديدة ملحة إلى التقريب والملاءمة بينها وبين الظروف الجديدة.
وقد اهتدت هذه الطبقات المستنيرة إلى العمل على نقد التعاليم الإسلامية، والتفرقة بين معالم الإسلام الأصلية والزيادات التاريخية التي أضيفت إليه، والتي يسهل تضحيتها في سبيل حاجات المدنية ومقتضيات العمران. . . وإن هذه
(1) وثائق المؤتمر في Filming، "Missions Work Among Muslims" P.6
(2)
راجع فصول: "التغريب في دراسات المستشرقين" في كتاب "الإسلام والحضارة الغربية" محمد محمد حسين ص 135 - 210.
الميول العقلية التي رمت إلى التوفيق بين الحياة والفكر الإسلاميين، وبين مطالب الحضارة الغربية التي نفذت إليهما، شايعها على الأخص المستنيرون من مسلمي الهند، وعضدوا نشاطها الاجتماعي والأدبي، وساهموا في جهودها الخصبة المنتجة، فالسيد أمير علي والسير سيد أحمد خان بهادور وأضرابهما من الشخصيات البارزة الأخرى في العالم الإسلامي، كانوا قادة هذه الحركة الروحية، التي ترمي إلى إحياء الإسلام وإعادة تنظيمه.
وقد تحققت نتائج هذه الحركة في الحياة الروحية الجديدة للإسلام الهندي، الذي يتقدم شيئًا فشيئًا في همة ومثابرة، وهو إسلام عقلي حكم هؤلاء المستنيرون عقولهم في فهم تعاليمه، متأثرين بالتيارات الفكرية في المدنية الحديثة، ومال أشياع الماضي المستمسكون به إلى تسمية هذه الجهود بالاعتزال الجديد.
وهذه الروح العصرية التي بدأ ظهورها في الهند قد أثرت في التفكير الديني في البلاد الإسلامية الأخرى، مصحوبة بغيرها من المؤثرات، ومع ذلك فالأثر الهندي لا يزال ضعيفًا إلى اليوم. ومن البلاد الإسلامية التي تأثرت بنزعة التجديد مصر وتونس والجزائر والأقطار التتارية الخاضعة للحكم الروسي.
وعلى كل حال فإن الجهود التي بذلها المسلمون في البقاع الإسلامية المختلفة للأخذ بأسباب الحضارة، واتصال هذه الجهود بحياتهم الدينية اتصالًا وثيقًا، لما يعدهم إلى مرحلة جديدة في تطور الإسلام فيعمدوا في المستقبل نتيجة لهذه المحاولات إلى أن ينتقدوا مصادر الفقه والعقائد الإسلامية نقدًا تاريخيًا علميًا" (1).
وكان جولد تسيهر في بداية فصله هذا، قد تحدث عن الطريقة التي يتطور بها الإسلام وتصوره عن كيف أمكن ويمكن للشريعة أن تواجه التطور وتحول الظروف وتغيرها، بعد أن يقرر أنه "ليس من الصواب أن نعد الجمود وعدم القابلية للتغيير من الصفات اللازمة للشريعة الإسلامية". وفي رأيه أن من أوائل هذه الطرق "فتح ثغرة في حصن السُّنَّة المنيع"، حين يتعذر على المسلمين "أن يتقيدوا بالفكرة السُّنِّية المتشددة التي يعدونها المعيار الأوحد للحق والقانون"(2).
(1)"العقيدة والشريعة في الإسلام" جولتسيهر ص 290.
(2)
المصدر نفسه ص 253.
والأمر الثاني في نظره تجاوز "ما تقرر في عصور الإسلام الأولى من عادات وتقاليد"، ثم هناك مفهوم (المصلحة)؛ أي: ما يقتضيه الصالح العام، وهو الغاية من تطبيق الشريعة، وهو مفهوم واسع ومن الممكن بناء عليه "التخلي عن القواعد التي قررتها الشريعة إذا ما يثبت أن مصلحة الجماعة تتطلب حكمًا يغاير حكم الشرع"(1).
وهناك أيضًا مبدأ "تبعية الأحكام للأحوال" ويمكن به اتخاذ أحكام جديدة في الظروف التي تتغير (2).
المستشرق جب: نبوءة بمستقبل الإسلام:
كتاب المستشرق جب (الاتجاهات الحديثة في الإسلام Modern Trends in Islam) يبحث بكامله في موضوع واحد هو موضوع التجديد العصراني في الإسلام. ولقد سبقه في هذا المضمار كتابان: كتاب تشالز آدمز Adams Charles. C. (الإسلام والتجديد في مصر، Islam and Modernism in Egypt)، والذي ظهر عام (1933 م). وكتاب ولفرد كانتول سميث W.C Smith الإسلام المعاصر في الهند Modern Islam in India والذي نشر في عام (1943 م). ويأتي كتاب جب متممًا ومكملًا لجهود الكتابين السابقين، ومعتمدًا على التحليل واستخلاص النتائج، أكثر من الاعتماد على السرد التاريخي، الذي اهتم به الأولان. والكتاب في الأصل ست محاضرات ألقاها المؤلف في جامعة شيكاجو في عام (1936 م) ضمن برنامج محاضرات عن الأديان المقارنة (3).
يحتوي الكتاب على ستة فصول: الفصلان الأولان تمهيد للدراسة، وثلاثة فصول تشتمل على صلب الدراسة، ثم فصل خاتم. يتحدث في الفصل الأول عن منابع الفكر الإسلامي القرآن والسُّنَّة والإجماع، ولا يخلو حديثه عنها من الهنات، ولكن تناولها يخرج بنا عن موضوع البحث. وفي الفصل الثاني يتحدث عن الاتجاهات والحركات الفكرية في الإسلام بين القرن الثاني عشر والتاسع عشر الميلادي (الخامس والثالث عشر الهجري) ويصفها بما يسميه "التوتر
(1)"العقيدة والشريعة في الإسلام" جولتسيهر ص 255.
(2)
المصدر نفسه ص 256.
(3)
والترجمة العربية الحسيني ص Gipp، H.A "Modern Trends in Islam" P.VII-XII 17
الداخلي في الإسلام" ويفصل الحديث عن الحركات الأخيرة حركة محمد بن عبد الوهاب في الجزيرة العربية، ونشاط الأفغاني ومحمد عبده وسيد أحمد خان، ونشاط الجماعات الصوفية التي تمثل في انتشار القديمة منها وتأسيس أخرى جديدة.
ثم تأتي الفصول الثلاثة التالية دراسة متكاملة عن العصرانية في الإسلام، (حتى زمن تأليف الكتاب) تحت العناوين: مبادئ العصرانية The Principles of Modernism، الديانة العصرانية الجديدة Modernism Religion ، والقانون والمجتمع (أي: إصلاحات العصرانية فيهما). ويحلل في الفصل الأخير مستقبل الإسلام في العالم وبخاصة مستقبل التجديد العصراني.
وليس غرضي هنا أن أعطي ملخصًا كاملًا للكتاب ولكن سأعرض فقط نقاطًا من رؤيته وتحليلاته للحركة العصرانية في الإسلام.
منذ البداية يقدم لنا جب نبوءة صريحة عن مستقبل الإسلام في نظره، ويذكر أن غرضه الأساسي في الكتاب البحث عن: إلى أي مدى تحققت هذه النبوءة؟ فبعد أن يرصد التطورات الأخيرة في المسيحية في القرن التاسع عشر والعوامل التي أدت إلى ظهور الحركة العصرانية في الغرب يقول:
"يجب علينا أن ننتظر تطورات في حركة التفكير الإسلامي بشكل مواز للتفكير الغربي في القرن التاسع عشر، إذ إن الأوضاع التقليدية في الإسلام بوجه عام متشابهة للأوضاع في الدين المسيحي في القرن الثامن عشر في أوروبا، وأن انتشار التعليم العلماني في المائة سنة الأخيرة في البلاد الإسلامية عرّض الفئات المثقفة من المسلمين لنفس التأثيرات التي دفعت إلى ظهور الفكر الديني الغربي الحديث. وإذا كانت الأسباب المتماثلة تؤدي إلى نتائج متشابهة فيجب علينا أن نتوقع حدوث تطور مماثل في الفكر الديني الإسلامي"(1).
فهل تحققت هذه النبوءة؟
في محاولته للإجابة على هذا السؤال، يقدم عرضًا مقتضبًا لتطور حركة التجديد العصراني في مصر والهند، وأهم النتائج التي توصلت عمومًا إليها،
(1) المصدر نفسه ص (P.46)74.
فيقول: إنه يجب ألا نبالغ في أمر انتشارها وأهميتها، فهي حركة ضعيفة ولا تقارب قوة الإسلام (المحافظ) وتأثيره، وأن الجماعات (المحافظة) وبخاصة في مصر تراقب "التجديد العصراني" بحذر ومتحفزة للإطباق عليه متى حانت الفرصة (1)، وأنها بشكل أساسي تنحصر في عوام المثقفين ثقافة غربية Educated Laymen، وأنها لا تشكل تيارًا منتظمًا من النظريات ذات الأسس السليمة المقبولة، ولكنها بصفة عامة تأثيرات فردية وردود فعل شخصية Subjective impulses (2) .
ويستمر جب في تحليلاته فيقول، بما أن المبدأ الأساسي للعصرانية ينحصر في المطالبة بالحرية الواسعة للبحث في المصادر الإسلامية، واستخدام الفكر الحديث في تفسيرها، دون اهتمام بآراء الفقهاء والعلماء الأوائل (3)، إلا أنه لا يجد إلا في الهند وفي تركيا إلى حد ما مجددين شرعوا في إعادة النظر في أسس الشريعة كلية (4)، وبينما كان رجال الدين أنفسهم في الغرب هم الذين أعادوا تشكيل الفكر الديني وفقًا للآراء الفلسفية والتاريخية السائدة، فلا يمكنه أن يجد بين علماء الدين الإسلامي من يقوم بهذا النشاط، باستثناء الجهود المحدودة جدًا التي قام بها الشيخ محمد عبده (5). ورغم أن الدراسة النقدية للمؤلفات التي وضعت في القرون الوسطى عن السُّنَّة والفقه قد أصبحت سلاحًا للعصرانيين لا يستغنى عنه، إلا أن القرآن لم يتعرض لأي نوع من أنواع النقد التاريخي سوى من فئة قليلة (6).
ولكن إذا كان الباب لم ينفتح لنقد القرآن، إلا أنه قد انفتح لإعادة تفسيره في ضوء المعرفة الحديثة، مما أدى إلى اطراح طرق التفسير القديمة. يقول جب:"مدعيًا أن الحاجة كانت ماسة لخطوة من هذا النوع":
"إن الأجيال المسلمة الحاضرة بحاجة أن يبرهن لها أن لا شيء في القرآن
(1) المصدر نفسه ص 82 (P.54).
(2)
المصدر نفسه ص 76 - 77 (pp. 48، 49 .).
(3)
المصدر نفسه ص 87 (P.58).
(4)
المصدر نفسه ص 81 (P.53).
(5)
المصدر نفسه ص 75 (P.57).
(6)
المصدر نفسه ص 78 (P.50).
خاطئ لأن الزمن تجاوزه، وأن التفكير العلمي والتاريخ الحديث لم يؤثر قط في قيمته كوحي كامل ونهائي لقضايا الكون، وإلا انهدم القول بأنه كلام الله الحرفي. وهكذا كانت الحاجة ماسة لإعادة تفسير القرآن، بما يعتبر من صميم التفكير العلمي المعاصر، مثل تفسير "الطير الأبابيل" بمعنى جراثيم. (ورغم أن جب يرى أن مثل هذا التفسير مدعاة للسخرية)، إلا أنه يعتقد أن ما هو أهم من محتواه أنه "قد طرح منهج التفسير القديم جانبًا"(1).
ويقارن المؤلف بين حركتي التجديد في مصر والهند، فيرى أن اتجاهات التفكير في الهند ذهبت أبعد مما يشاهد في الشرق الأدنى، وأن من أسباب ذلك أن التعليم على النمط الأوروبي دخل الهند قبل أن يعرفه الشرق الأدنى، وانتشر أكثر، كما أن وضع الهند المستقل والحرية التي ينعم بها المسلمون، تجعلهم يعبرون عن آرائهم بمنأى عن سلطة دينية رسمية (كالأزهر في مصر) تراقبهم وتقمعهم (2). ويصف مدرسة سيد خان في استخدامها مبدأ الملاءمة مع الطبيعة Conformity to nature، ورفض مبدأ المعجزات، بأنه اتجاه (عقلاني) ولكنها بلغت في أقصى تطرفها تحت ستار العلوم الطبيعية حدود المبالغات والأوهام (3). ولعل إقبال في رأي المؤلف يشكل أهم صورة للطائفة الإسلامية الحديثة في الهند، لكنه من الناحية الفكرية الصورة المخيبة للآمال نظرًا لمتناقضاته (4). ولكن الهند في رأي المؤلف أنجبت طائفة واحدة جديدة ناجحة هي حركة الأحمدية (القاديانية)، التي اتخذت شكل إصلاح تحرري سلمي، وهي تفتح الطريق لبداية جديدة لأولئك الذين فقدوا إيمانهم بالإسلام القديم (5).
وينتقد جب كتابات العصرانيين فيقول: إنه مهما كان تعاطفه مع أهداف (المصلحين) وجهودهم المبذولة للخلاص من وطأة الماضي، إلا أنه يرى أن أغلب كتاباتهم "تثير الدهشة وتصدمنا بطريقتها في المناقشة وبحث الحقائق، إننا نحس بخطأ ما فيها، ولو من عدم التوافق، كأن المؤلف إما عاجز عن التصرف
(1) المصدر نفسه ص 103 (P.72).
(2)
المصدر نفسه ص 83 (P.56).
(3)
المصدر نفسه ص 87 (P.58).
(4)
المصدر نفسه ص 88 (P.59).
(5)
نفسه ص 90 (P.61).
بما لديه؛ أو أنه يرغب في بلوغ نتيجة مرسومة سلفًا"، ولكنه لا يندهش من كل ذلك ويرى أن هذا الفكر لا زال في بداية الطريق (1).
وفي فصله عن إصلاحات الحركة العصرانية في المجتمع والقانون، يرى أن العصرانيين يتبنون وجهة النظر الغربية في كثير من إصلاحاتهم، وتمتد مطالباتهم بإصلاحات في ميادين الطلاق وتعدد الزوجات والإرث والوقف وغيرها (2). ويحلل الفصل الذي خصصه سيد أمير علي لبحث وضع المرأة في الإسلام، ويصفه بأنه "سرد عمليًا كل المقترحات الحديثة حول المسألة، وبطريقة أكثر إقناعًا من أغلب المؤلفين الذين أتوا بعده، ورددوا أقواله في كل اللغات الإسلامية، بأعنف النغمات وألطفها"(3). ويصف موقف العصرانية عمومًا حيال قضايا القانون والمجتمع، بأنه فوضى فكرية واندفاع عاطفي خيالي وإن كان يأمل أن يولد استمرار المطالبة بالإصلاحات في هذه المجالات "تطورًا داخليًا في الإسلام"(4).
وفي الفصل الأخير يقدم جب نصائحه من أجل مستقبل أفضل للإسلام في العالم! إذ إنه يعتقد أن الإسلام ليس مهددًا من الخارج بقدر ما هو مهدد من الداخل، وما يحدث حين يقوى الأثر التقني للحضارة الغربية في المجتمع الإسلامي بصورة أعمق هو إما أن تزداد العلمانية انتشارًا، أو أن الحركة المهدية (ويعني: بها أي حركة ترى أن الحقيقة إنما تظهر بحد السيف) سوف تحدث رد فعل عنيف (5)، ولكن جب يرى طريقًا آخر يمكن أن يتم التوفيق بواسطته بين الإسلام والفكر المعاصر، ويقول: إنه طريق بمتناول المفكرين المسلمين لو أنهم تنبهوا لأهميته وشاءوا استعماله، هذا الطريق هو منهج البحث التاريخي وطرائقه. إن هذا المنهج -كما ينصح جب- هو وحده الكفيل بإيجاد النقد العلمي المقبول، وإعادة مرونة التفكير الإسلامي.
وبعد هذه النصيحة الغالية يختم جب كتابه بالتساؤل والتفاؤل: "هل يمكننا
(1) نفسه ص 94 (P.64).
(2)
نفسه ص 124 - 126 (P.89،91).
(3)
نفسه ص 131 (P.95).
(4)
نفسه ص 143 (P.105).
(5)
المصدر نفسه ص 167 (P.121).