الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أن نتبين قرينة ما تدل على التفكير الإسلامي في هذا المنحنى؟ هذه القرائن والحق يقال نادرة ولكنها موجودة، وأنه لأمر له دلالته أن يكون أكبر المصلحين الحقيقيين في الإسلام الشيخ محمد عبده متأثرًا تأثرًا عميقًا بإنتاج وتفكير ابن خلدون، وأن ينتشر في تعاليم تلاميذه المفهوم التطوري لسير التاريخ انتشارًا بطيئًا، مجاوزًا الحدود التي يضعها في وجهه المذهب السُّنِّي التقليدي. . . ولكن هذه ليست إلا خطوة أولى وأن الحرب على جمود السلفية لم تبدأ بعد" (1).
نظرة الإعلام الغربي:
نشرت مجلة الايكونوميست البريطانية في يناير (1981 م) مقالًا مثيرًا بعنوان: "المسلمون والعالم المعاصر"(2)، ويعالج المقال قضية الصراع بين الإسلام والغرب، ويتساءل هل هناك فرصة للملاءمة بينهما. وكاتب المقال صحفي وسياسي يدعى (جودفري جانس) تقول عنه المجلة أنه قضى خمسًا وعشرين سنة في الشرق الأوسط، فهو خبير بشؤونه، ولأهمية المقال الذي يبين وجهة نظر الإعلام الغربي فيما يجري في عالمنا الإسلامي المعاصر، ومرئياته عن محاولات التجديد التي تسعى للتوافق مع الغرب، نقتبس هنا بعضًا من فقراته (3).
يبدأ المقال بتأكيد الصراع بين الغرب والإسلام فيقول: "في الوقت الحاضر يواجه ويتحدى الإسلام والعالم الغربي أحدهما الآخر، ولا تطرح أية ديانة كبرى أخرى مثل هذا التحدي للغرب. والسبب في ذلك أن الإسلام واجه الغرب كرًا وفرًا طيلة (1500) سنة، والفترة الحالية هي فترة (كر). وكان الصراع السياسي متواصلًا طيلة المائة وثمانين سنة الماضية على الأقل. ومن الناحية الروحية Spiritually تحدى النظامان أحدهما الآخر طيلة قرن تقريبًا، أما من الناحية الاقتصادية فقد استمر هذا التحدي طيلة العشرين سنة الماضية.
(1) الصفحات 169 - 176 و (PP.124 - 129).
(2)
Godfrey Jansen، "Moslems and the Modern World"، the Economist ، January 3،1981 Pages 21 - 26.
ونشرت مجلة البلاغ (الكويت - مؤسسة البلاغ) ترجمة للمقال العدد 576، 19 ربيع أول 1401 هـ ص 58، وكذلك مجلة الأمة (قطر).
(3)
راجع ترجمة: المقال المشار إليه.
وهنالك أسباب عديدة طويلة الأمد وقصيرة الأمد تستلزم أن يواجه العالمان الإسلامي والغربي بعضهما البعض، فعلى الأمد الطويل هناك حقيقة التماس الجغرافي بين المدنيات والدول، فكما بين الأفراد فالجيرة نادرًا ما أنتجت روح جوار طيبة، وهناك شمولية الإسلام إذ لا يوجد فرق بين "المسجد" والدولة ولا فرق بين ما لله وما لقيصر. وفي المدى القصير هناك ما يسمى في الغرب "الإسلام المتطرف" وينظر إليه باعتباره مثيرًا للنزاع والجدل وبخاصة بعد ازدياد القوة الاقتصادية الجديدة للبلدان المنتجة للنفط (ومعظمها بلدان إسلامية)، وبعد فرض العقوبات الشرعية مثل الجلد والرجم في باكستان وغيرها، والدعاية التي أعطيت لهذه الأحداث في وسائل الإعلام الغربية، وأيضًا بعد الضجة التي أثيرت حول أحداث إيران، والتأثير الأوسع نطاقًا للثورة الإسلامية في إيران.
فهل هناك أية إمكانية لتفاهم متبادل بل ولاتفاق حقيقي؟
كان الغرب يتساءل لماذا لا يستطيع الإسلام أن يتقبل روح العصر؟ ويقترح النقاد الغربيون إعادة النظر في الإسلام من خلال المفاهيم المعاصرة، وآخر صيغة حديثة مقترحة هي ضرورة تجديد الإسلام وربطه بحاجات العصر الراهن. وهكذا فإن أكثر الغربيين جدية يتساءلون ببساطة (لماذا لا يستطيع المسلمون أن يكونوا مثلنا؟).
(نعم، لم لا؟) كان هذا الجواب الإسلامي الأول قبل حوالي قرن على تحدي العالم الغربي الذي كان عندئذ في كامل قوته. وبناء على الافتراض الذي ثبت الآن زيفه، بأن القوة العسكرية والسياسية والاقتصادية الغربية، هي امتداد لقوته الروحية والفكرية، نظر المسلمون المتعلمون في ذلك الوقت إلى مجتمعاتهم التقليدية، وهي مهزومة وتسيطر عليها القوى الغربية، فقرروا أنهم والإسلام متحجرون ومتخلفون ويعيشون خارج العصر. ولم تكن المسألة بالنسبة لهؤلاء المتعلمين مسألة ما إذا كان ينبغي على الإسلام أن يكيف نفسه مع القرنين التاسع عشر والعشرين، ولكنها كانت كيف وإلى أي مدى وبأي سرعة يجب عليه أن يفعل ذلك. وبسبب انطلاقهم من هذه الفرضية الانهزامية لم يصل المفكرون المسلمون الأوائل أمثال الأفغاني وعبده ورضا، الذين نشطوا بين (1875
و 1935 م) إلى أكثر من تصفيق أكفهما ببعضها، وفشلوا في تقديم أية مقترحات رئيسة وإيجابية للإصلاح.
ولحسن الحظ أن الإسلام ولأسباب ليس أقلها حيويته المستمرة أنتج ردود فعل أخرى على تحدي العالم المعاصر، وبسبب الثقة الجديدة بالنفس عند المسلمين أصبح التساؤل الأول هو: هل من الضروري أن يتكيف الإسلام مع القرن العشرين؟ ثم إذا كانت الإجابة بالإيجاب يأتي التساؤل بعد ذلك حول: كيف وإلى أي مدى يتم هذا التكيف؟
كيف يكون الإسلام واثقًا من نفسه إلى هذا الحد في هذا الوقت وهذا العصر وكيف يجرؤ على أن يطلب من العالم المعاصر أن يتكيف معه؟ السبب الأول والأفضل لهذه الثقة بالنفس لدى المسلمين هو اليقين الهادئ بأن الإسلام دين حي ويؤكد ذلك في أعين المسلمين أنفسهم على الأقل، أن الإسلام دين عالمي ينتشر بسرعة على العكس من أي عقيدة أخرى، والنمو يؤكد الحيوية. ولكن لماذا يجب أن يكون الإسلام حيويًا بصفة خاصة إلى هذا الحد في عصر الشك الروحي هذا؟ ويجيب المسلمون المعاصرون أن السبب في ذلك فقط في أن عمر الإسلام هو (1400) سنة وأنه أحدث العقائد في العالم، بل لأنه قبل كل شيء عقيدة واضحة بسيطة ويخلو من تعاليم المسيحية المعقدة، كما أن المبادئ الأخلاقية الإسلامية عملية ومن الواضح أنها تلائم بصورة حسنة حقائق الوجود اليومية، والإسلام في صيغ عبادته وأماكنها يختلف كثيرًا عن الطقوس الفخمة وشبه الوثنية لبعض أشكال المسيحية والبوذية والهندوسية. وإضافة لما سبق فإن الإسلام في نسخته السُّنِّية (التي تشمل 90 بالمائة من المسلمين) ديمقراطي ويقول بالمساواة إلى حد كبير ويخلو من المؤسسات الدينية ومراتب رجال الدين. ولأن للإسلام هذه الصفات (المعاصرة) كونه بسيطًا وعالميًا، ودون طقوس ويقول بالمساواة، فإن وجهة النظر الإسلامية تخلص إلى أنه يتفق مع الروح والعرف السائدين في أواخر القرن العشرين.
ورغم أن هذه الحجج توفر أسبابًا صالحة بصفة واضحة، لوجوب ألا يكون الإسلام والعالم المعاصر على خلاف مع بعضهما البعض فإن الخلاف بينهما هو حقيقة فعلية. وإذا حكم المرء من وسائل الإعلام العامة التي تعكس الشعور الشعبي، فإنه يجد بدلًا من الفهم المتبادل والود المتوقعين تنافرًا متبادلًا
على مستوى روحي وفلسفي عميق بين الإسلام والمجتمع الغربي.
مظاهر النفور:
ما يجده الإسلام منفرًا في ثقافة الغرب هو بصفة أساسية غياب الإيمان، إلا أن هناك أشياء كثيرة جدًا يرفضها الإسلام في المجتمع الغربي المعاصر ومنها الأنانية الفردية للمجتمع الغربي المدمرة للعائلة والأمة في النهاية، ومن مظاهر ذلك الانغماس في الجنس والإباحية الحيوانية. ويبدو أنه ليس في إمكان الغرب أن يعمل إلا القليل لهذه الميزات السائدة في مدنيته لجعل المسلمين أقل نفورًا منها، ما لم يعد الغرب إلى ينابيع إيمانه.
وهكذا إذا لم يتمكن الغرب من تغيير عيوبه، ماذا يستطيع الإسلام أن يفعل في مجال التكيف والتأقلم؟ يبدو هذا الاحتمال أكثر مدعاة للأمل، عندما ينظر المرء في تلك العناصر الموجودة في الإسلام، والتي تلقى الاعتراض من المجتمع الغربي. ويبدو أن هناك ثلاثة من هذه العناصر وهي عناصر قانونية واجتماعية، ولذلك فإنها على ما يبدو قابلة للتغير، وليست مسائل عقدية حتى لا تقبل التعديل. هذه العوامل الثلاثة المثيرة للاعتراض من جانب الغرب هي موقف الإسلام من المرأة، والعقوبات الشرعية للزنا والسرقة، وتحريم الربا.
وموقف الإسلام من المرأة لا يثير اعتراض الغربيين المعاصرين فحسب، بل وأي امرئ يؤمن بالقيمة الإنسانية للفرد، أما منع الربا فيمكن الروغان حوله، وحتى العقوبات يمكن إبعادها بتفسيرات أخرى، ولكن لا يمكن أن يكون هناك مهرب من الحقيقة الجلية، وهي أن الإسلام يضع المرأة التي تكون نصف البشرية في مرتبة ثانوية، وخاصة في مسألة تعدد الزوجات وسهولة الطلاق والتمييز في الإرث. وكل ذلك منصوص عليه بدقة واضحة في السورة الرابعة من القرآن التي عنوانها (سورة النساء)، وفي هذه السورة هناك تأكيد على المساواة الروحية بين الرجال والنساء، ولكن هناك تأكيد أيضًا أن هذه المساواة ليست أساسية {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ} [النساء: 34]، وفي هذه السورة أيضًا نص على عدم المساواة في الإرث حيث للذكر مثل حظ الأنثين، وليس للأرملة أكثر من ربع ميراث زوجها. وعندما جاء النبي محمد صلى الله عليه وسلم بهذه الأحكام في الجزيرة العربية في القرن السابع، وكان هو نفسه يتيمًا، فإن هذه الأحكام كانت جريئة وإنسانية،
وفي صف المرأة، ولأنها أعطت النساء والأرامل واليتامى مكانة في مجتمع لم تكن لهن فيه حقوق، وإن كانت مكانة ثانوية. وكانت حقوق المرأة المسلمة والوضع العائلي لها بموجب عقد الزواج أفضل من الأوضاع التي كانت تتمتع بها المرأة في أي مكان في العالم حتى عام (1800 م)، ولكن بدلًا من الحفاظ على روح الإصلاح التي صنعت النصوص القرآنية، لإعطاء النساء المسلمات مركزًا متساويًا في العالم المعاصر، يقال خاصة من رجال الدين المسلمين، أنه لا يمكن تعديل القرآن نفسه. وهكذا أصبحت نصوص القرآن الذي جاء أصلًا للإصلاح ثابتة وسندًا لأوضاع مختلفة.
وإذا اتبع الإسلام خطى متشددي آخر الزمان وأصر على التطبيق الصارم للنصوص القرآنية بالنسبة لوضع المرأة، والعقوبات والربا، فإنه من الطبيعي عندئذ ألا تكون هناك إمكانية للاتفاق بين الإسلام والغرب.
وردود الفعل الإسلامية للرفض الغربي لهذه الجوانب الثلاثة تقع في ثلاثة أنواع: فهناك الرفض المبسط القائل هذا هو الإسلام، وسيظل كذلك فخذوه أو اتركوه، وهي وجهة نظر متشددة، وجواب غير مناسب على التحدي المعاصر.
وإذا كان رد الفعل الأول هذا جريئًا ويتميز بقلة الحياء، فإن رد الفعل الثاني يبدو في أعين الغرب غير مقنع، في محاولته إيجاد الأعذار والمسوغات للموقف الإسلامي، إذ يقال أنه يجب توفر أربعة شهود عيان للزنا، وأنه لن تكون هناك سرقة في مجتمع عادل، وبالتالي لن يكون هناك قطع للأيدي وهلم جرا، وكثير من هذا النوع من التسويغ جاء وما زال يأتي في شبه القارة الهندية، خاصة من باكستان وأقل المعبرين عنه كان أمير علي في كتابه "روح الإسلام".
ورد الفعل الإسلامي الثالث هو ببساطة وعلى العكس تمامًا من رد الفعل الأول ويقول المعبرون عنه: علام كل هذه الضجة؟ فالقانون الشرعي ليس ثابتًا، وببساطة دعوا جانبًا أحكامه حول النساء، والعقوبات والربا، باعتبارها حواش وإضافات لجوهر الإسلام الروحي الخالد.
رمي أبواب الاجتهاد بالمنجنيق:
رد فعل الفريق الأخير من المفكرين المسلمين هو الذي يبدو منطقيًا أكثر من وجهة النظر الغربية. ولكن ليست القضية كذلك في الإسلام نفسه، إذ أن
هناك مبدأين إسلاميين، يجعلان من الصعب على معظم المسلمين القبول بتغيير كاسح كهذا.
المبدأ الأول هو الإيمان الأساسي بثبات القرآن وحصانته ضد التغيير، أما المبدأ الثاني فهو التأكيد على أن أقوال النبي صلى الله عليه وسلم وأفعاله، التي يتضمنها الحديث الشريف، ملزمة للمؤمنين بالقدر نفسه؛ لأن النبي -عليه أفضل الصلاة والسلام- كان رجلًا كاملًا، والمثال الإنساني الذي لا يخضع للتساؤل.
ويمكن التعامل مع المبدأ الثاني بسهولة إلى حد ما لأنه حتى المسلمون المتشددون اعترفوا بأن الكثير من الأحاديث غير صحيحة.
أما المبدأ الأول الخاص بالحرمة الكلية للقرآن فيمكن التعامل معه برقة واحترام من خلال (الناسخ والمنسوخ)، أي: أن آيات معينة في القرآن نفسه تنسخ أو تبطل آيات معينة أخرى. وهو يزيل القدسية الكاملة المضفاة على كل آيات القرآن، واستخدام مبدأ النسخ على نطاق واسع يفتح للمسلمين مجالًا للتفريق بين ما هو ثابت ودائم في القرآن وما هو مؤقت وخاص.
ويمكن لهذه التفرقة أن تتم بالتمييز بين سور القرآن التي نزلت على النبي في مكة، وبين السور التي نزلت عليه وهو حاكم ومشرع وقائد لأول مجتمع إسلامي في المدينة.
وهذا يعني (فتح باب الاجتهاد) الذي جرى الحديث عنه كثيرًا، والذي أعلن علماء الدين المحافظون أنه أغلق في القرنين العاشر والحادي عشر الميلاديين.
ولكن من الواضح أن فتح أبواب الاجتهاد، يمكن أن يتم فقط بعمل حاسم ذي شجاعة روحية وأخلاقية، تنبعث من داخل الأمة الإسلامية، ومن المجتمع الإسلامي نفسه. وواضح أن ذلك لم يحدث بعد. وفي كتابات المصلحين الأوائل تتكرر الإشارات إلى حاجة الإسلام إلى (لوثر). ولكن لا يمكن خلق أمثال لوثر بناء على الطلب، ومع ذلك فإن الحاجة قائمة في الإسلام لشخص مثله تمامًا، شخص قوي الإرادة، عالي الصوت، ومصلح اجتماعي ديني، واثق من نفسه، شخص لا يوقف أطروحته على الاجتهاد فحسب، بل ويرمي أبواب الاجتهاد بالمنجنيق إذا لم تبد دلائل على الانفتاح.