المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ سبب النزول - التفسير الوسيط - مجمع البحوث - جـ ١

[مجموعة من المؤلفين]

الفصل: ‌ سبب النزول

{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (114)}

المفردات:

{وَمَنْ أَظْلَمُ} من: استفهام إنكاري، بمعنى النفي. والمعنى: لا أحد أظلم.

{مَسَاجِدَ اللَّهِ} : المراد بها جميع مساجد الله، وأماكن عبادته، فالآية قاعدة عامة، وإن كان‌

‌ سبب النزول

خاصًا كما سيأتي:

{لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ} : هوان وذلة.

التفسير

114 -

{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ

} الآية

الربط:

ندَّد الله - سبحانه - فيما سبق، باليهود والنصارى، لتضليل بعضهم بعضًا وفي هذه الآية، بَيَّن أن من يعطل الشَّعائر في بيوت العبادة، يُعاقب.

وقد دخل في ذلك: أهل الكتاب المذكورون، كما أن فيها نفيًا لزعمهم: أنهم أهل الجنة المختصون بها.

سبب النزول:

نزلت في المشركين لأنهم منعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الحديبية من دخول المسجد الحرام.

وعلى أي حال، فالمراد من المساجد: دور عبادة الله جميعًا، لأن العبرة بعموم اللفظ.

وهذا يدل على أن الإسلام يحترم دور العبادة في الديانات السماوية السابقة له.

المعنى:

لا أحد أظلم ممن منع الناس من ذكر الله في دور العبادة: فردًا كان المانع أو جماعة،

ص: 176

وسعى في خرابها بإلقاءِ القاذورات فيها، أو إغلاقها، أو الحيلولة دون دخول العابدين فيها، وتعطيل شعائرها الدينية بأي وجه من الوجوه.

وإنما وقع المنع على المساجد - مع أن الممنوع هم الناس - لأن طرح الأذى والتخريب ونحوهما، متعلق بالمساجد لا بالناس.

وظاهر الآية يفيد: أنه لا يوجد أظلم منه.

ولكن المراد: نفي وجود من يساويه في الظلم أيضًا، كما يدل عليه العرف.

فإذا قيل في معرض المدح مثلًا، من أكرم من فلان؟ فمعناه عرفًا: أنه لا يوجد أكرم منه ولا من يساويه.

{أُولَئِكَ} : المانعون المخربون للمساجد. {مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ} أي: ما كان ينبغي لهم دخولها إلا خاشعين خاضعين، بدلًا من الاجتراء على تخريبها أو تعطيلها. {لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} أي: لأولئك المانعين المخربين هوان وذلة في الحياة الدنيا، أي: أن هذا الحكم يبقى إلى يوم القيامة، ولهم في الآخرة عقاب في النار عظيم لا يقادر قدره.

وإذا كان المراد من مساجد الله، مساجد المسلمين خاصة، وأن الآية نزلت في أعدائهم الكافرين، فمعنى الآية: لا أظلم من الكافرين الذين منعوا ذكر الله في مساجد المسلمين، بتخريب أو غيره، أولئك الكافرون، ما كان يحق لهم أن يدخلوها إلا خائفين من بطش المؤمنين بهم، فكيف يستقيم أن يستولوا عليها، ويمنعوا المؤمنين منها.

والخزي الذي لهم في الدنيا: بقتل مشركيهم، وضرب الجزية على أهل الذمة منهم. وحبسهم، ونحو ذلك.

ويقتضي حمل الآية على هذا المعنى: أن على المؤمنين أن يرهبوا الكافرين أعداء الله، ويكونوا في قوة ومنعة حتى يحموا بيوته، ويمنعوا أولئك الأعداء من تخريبها وتعطيلها.

واستنبطوا منها تحريم دخولهم فيها، وهذا رأي المالكية. وعليه يجعل قوله تعالى:{مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ} : كناية عن النهي عن تمكينهم من دخولها، ليتفق ذلك مع قوله تعالى:{إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} (1)

(1) التوبة: 28.

ص: 177

والمساجد يجب تطهيرها من النجاسات، ولذا يمنع الجنب والحائض والنفساءُ من دخولها. ولكن الحنفية يجيزون دخولهم فيها بإذن المسلمين، فإن الآية تفيد دخولهم بخشية وخضوع، ولأن وفد ثقيف قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم فأنزلهم في المسجد.

وعلى فرض أن الآية تفيد النهي، فهو محمول على كراهة التنزيه لا التحريم.

أو على دخول الحرم بقصد الحج لأن النبي صلى الله عليه وسلم في فتح مكة قال للمشركين: "من دخل دار أبي سفيان فهو آمن. ومن دخل الكعبة فهو آمن".

وفرق الشافعي بين المسجد الحرام وغيره. وقال: الحديث منسوخ بالآية. ذكره الآلوسي.

{وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (115)}

المفردات:

{الْمَشْرِقُ} : موضع الشروق.

{وَالْمَغْرِبُ} : موضع الغروب. والمراد بهما هنا: هما وما بينهما من الجهات والأماكن.

{فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} أي: فهناك جهته. أي: قبلته التي أمر عباده أن يتجهوا إليها، فالوجه والجهة شيء واحد.

{إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} أي: يوسع على عبادة في التشريع. أو واسع العلم. محيط بما تستطيعون عمله، فلا يكلفكم ما يشق عليكم.

التفسير.

115 -

{وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ

} الآية.

قال ابن عمر نزلت في المسافر: يتنقل حيثما توجهت به راحلته، خرّج مسلم عنه قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي - وهو مقبل من مكة إلى المدينة - على راحلته حيث كان وجهه، قال: وفيه نزلت {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} نقله القرطبي.

ص: 178

لا يمنع السبب المذكور، من ارتباط الآية بما قبلها: فإن الآية السابقة أفادت: أن بعض الظالمين قد يمنعون المصلين من الصلاة في مساجد الله، وهذه الآية أباحت الصلاة في أي مكان غير المساجد الممنوعة، على أن يتجهوا إلى جهة الله، أي قبلته التي شرعها، كما تضمنت إباحة صلاة النافلة للمسافر على الراحلة ونحوها، متجهًا إلى مقصده فهو قبلته، وهو الذي استفيد أيضًا من سبب النزول.

ولله وحده الأرض كلها: مشرقًا ومغربًا وما بينهما، ففي أي مكان، وجهتم وجوهكم نحو القبلة التي أمر الله عبادة بالاتجاه إليها: للعبادة والدعاء والذكر، فهناك - حيث توجهتم - جهة الله أي قبلته التي أُمرتم بالتوجه إليها.

فإن مُنعتم عن الصلاة إليها في مسجد أو مكان، فاستقبلوها - في فروضكم ونوافلكم - في مسجد أو مكان آخر. فإن إمكان الاتجاه إليها غير مختص بمسجد دون مسجد، أو مكان دون مكان.

ومن كان راكبًا على دابة ولا يمكنه أن ينزل عنها، لخوف - على نفسه أو ماله - من ضرر يلحقه بالانقطاع عن القافلة، أو كان بحيث لو نزل عنها لا يمكنه العودة إلى ركوبها، أو نحو ذلك، فإنه يصلي الفرض في هذه الأحوال على الدابة، إلى أي جهة يمكنه الاتجاه إليها، وتسقط عنه أركان الصلاة التي لا يستطيع فعلها على الصفة المطلوبة، ولا إعادة عليه (1). وحكم السيارة والقطار والطيارة حكم الدابة أيضًا.

وقيل: المراد: بوجه الله: ذاته. وهذا كناية عن عمله - تعالى - بعبادتهم في أي مكان.

قال أصحاب هذا الرأي: إن الآية نزلت لتنزيهه - تعالى - عن أن يكون في حيز وجهة، توطئة لتحويل القبلة إلى الكعبة.

والمعنى عليه: ولله المشرق والمغرب، فلا يختص ملكه وعلمه بمكان دون مكان، فأينما تولوا وجوهكم في الصلاة والدعاءِ، فهناك - حيث اتجهتم - سلطان الله وعلمه بعبادتكم، فلن تضيع عليكم.

ثم ختم الآية بهذا التذييل:

{إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} : يوسع على عباده في دينهم، ولا يكلفهم بما ليس في وسعهم {عَلِيمٌ}: بمصالحهم وبما يعملون في مختلف أماكنهم.

ص: 179

{وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ (116)}

المفردات:

{سُبْحَانَهُ} : تنزيها وتبرئة لله لائقة به مما قالوا.

{قَانِتُونَ} : منقادون خاضعون.

التفسير

116 -

{وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ

} الآية.

بعد أن بين الله - سبحانه - شيئًا من مآثم اليهود وضلالهم، وأشار إلى تعصبهم الذي أرداهم، ووقوع النصارى فيما وقع فيه اليهود: حيث اتَّهَمَ بعضهم بعضًا بأنهم ليسوا على شيء، تكلم في شأن النصارى واليهود. ومن جاراهم في نسبة الولد لله من المشركين الذين جعلوا الملائكة بنات الله.

جاء الإسلام بتوحيد الخالق وتنزيهه عن الولد، بين أهل كتاب ومشركين: يزعمون أن لله ولدًا، فاليهود يزعمون أن عزيرًا ابن الله، والنصارى يزعمون مثل ذلك لعيسى، والمشركون يزعمون مثله للملائكة، فيقولون إنها بنات الله.

وقد أنزل الله - تعالى - هذه الآية الكريمة لتبرئته - تعالى - عما يزعمون، وضمنها الدليل على ذلك في قوله:{بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ} .

وقد تضمن الدليل: أنه لا يصح أن يكون لله ولد، لأنه مالك السموات والأرض، ومن يدعونه ولدًا ليس كذلك، ولابد أن يشبه الولد أباه.

ولأنه مملوك لله ومخلوق له، فهو من جملة السماء والأرض التي يختص بملكها الله، والمملوك لا يكون ولدًا، وأن الولد يُحتاج إليه ليعين أباه، ويرثه بعد موته، والله غير محتاج إلى معونة لخضوع الكل له - تعالى - وانقيادهم لإرادته، كما أنه حي لا يموت، فلا حاجة له إلى ولد يرثه بعد موته. فخضوع الكائنات لربها، واحتياجها إليه باقٍ لا ينتهي، فكيف يموت حتى يرثه ولده: تعالى الله عما يقولون.

ص: 180

{بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (117)}

المفردات:

{بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} : مبدعهما ومخترعهما على غير مثال سابق. من بدعه بمعنى أنشأه واخترعه. وكما يأتي فعيل بمعنى مفعول، يأتي بِمَعْنَى فاعل، كما هنا. ونظيره: السميع بمعنى الْمُسْمِعُ، في قول الشاعر:

"أمن ريحانة الداعي السميع"

وكل من أنشأَ ما لم يسبق إليه يُقال له: مبدع، ومنه أصحاب البدع.

{وَإِذَا قَضَى أَمْرًا} : أي شاءَ إيجاد شيء.

{كُنْ فَيَكُونُ} : نفذه في حينه بيسر وسهولة.

التفسير

117 -

{بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ

} الآية.

هذه حجة أخرى لإبطال دعوى الولادة لله - تعالى - وتقريرها: أنه تعالى مبدع لكل ما سواه، فاعل على الإطلاق، وهذا أمر لا ينازِعُ فيه صاحب كتاب ولا مشرك.

وبما أن من زعموه ولدًا لله - تعالى - داخل ضمن من أبدعه واخترعه من السموات والأرض، فلهذا، لا يصح أن يكون ولدًا له سُبْحَانَه، لأن الولد ينشأُ عن التوالد لا الخلق.

وأشار إلى حجة أخرى في قوله: {وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} . ومن زعموه ولذا، ليس له هذه القدرة والسرعة في التكوين، فكيف يكون ولدًا لله، والولد على سنة أبيه! وليس المراد بقوله:{كُنْ فَيَكُونُ} حقيقة الأمر والامتثال، لأنه تعالى يخلق المعدوم، والمعدوم لا يؤمر، بل المراد تمثيل سهولة تَأَتِّي المقدورات وفق مشيئة الله - تعالى - وتصوير حدوثها: بانفعال المأْمور وطاعته للآمر القوي المطاع. تقريبًا للأذهان

ص: 181

والأمر عنده تعالى أيسر من ذلك، فالخلق عنده لا يتوقف على أن يأمر بـ (كنْ)، بل يتوقف على الإرادة والمشيئة، فإذا أراد شيئًا كان كما أراد في حينه ومكانه.

{وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ لَوْلَا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (118)}

التفسير

118 -

{وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ

} الآية.

بعد أن حكى الله - سبحانه - عن الكافرين اعتقادهم أن لله ولدًا، حكى هنا تعنتهم، وطعنهم في نبوة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم.

اختلف المفسرون في المراد من: {الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} فقال ابن عباس: هم اليهود. وقال مجاهد: هم النصارى. وأكثر أهل التفسير على أنهم مشركوا العرب. لقوله حكاية عنهم: {فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ} (1). وعبر عنهم بالذين لا يعلمون، استهجانًا لذكرهم، لقبح ما صدر عنهم، ولأن ما يحكي عنهم لا يصدر إلا عن الجهلاء. وفي التعبير بالفعل:{لَا يَعْلَمُونَ} تيئيس من علمهم، فهم لن يتجدد لهم علم - مع تجدد الآيات والعبر والعظات - لغباوتهم.

{لَوْلَا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ} أي: هلَّا يكلمنا الله بغير واسطة: آمرًا وناهيًا، أو مصدقًا على نبوتك.

{أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ} : المراد من الآية: ما اقترحوه من جعل "الصفا" ذهبًا. ورُقِيِّه في السماء وغيرهما مما حكاه الله عنهم بقوله: {وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا} (2).

وهذا منهم غاية في الجحود والإنكار، لاستهانتهم بما أنزله الله عليهم من آيات، وبما أيده به من معجزات.

(1) الأنبياء:5

(2)

الإسراء: 90

ص: 182

ثم سرَّى الله عن نبيه، فقال:{كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ} - أي - مثل ذلك القول السقيم، قال الذين كانوا قبلهم من الأمم السابقة، أو من اليهود والنصارى، إذ قالوا:{أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً (1)} وقالوا: {لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ (2)} وقالوا: {هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ (3)} وقالوا: {اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ (4)} .

{تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ} أي: تشابهت قلوب السابقين مع قلوب اللاحقين في الكفر، والإعراض عن الحق، والعناد، والمكابرة. والمعنى: أن تشابه أقوالهم نابع من تشابه قلوبهم.

{قدْ بَيَّنَّا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} أي: يطلبون اليقين، وهو العلم الذي لا يخالطه شك، وذلك بالنظر والاستدلال.

ولم يتعرض للرد على طلبهم تكليم الله، لظهور بطلانه.

{إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ (119)}

المفردات:

(بشيرًا ونذيرًا) أي: مخبرًا لمن آمنوا بما يسرهم من الثواب، ومنذرًا لمن كفروا بما يحزنهم من العقاب.

(الجحيم): النار، إذا شب وقودها واضطرمت.

التفسير

119 -

{إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ

} الآية.

هذه الآية تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم وبيان لمهمته، كي يتوجه إليها بكلِّيَّتِهِ، ولا يلتفت إلى معارضيه من أهل الكتاب والمشركين، بعد ما سجل تعنتهم.

إنا أرسلناك أيها الرسول، بالدين الحق، المؤيد بالبراهين، إلى أهل الأرض جميعًا {بَشِيرًا} أي: مبشرًا من آمن بصلاح الحال وحسن المآل {وَنَذِيرًا} : ومنذرًا من كفر بعذاب الجحيم، ليختاروا ما أحبو لأنفسهم. ولست مجبرًا لهم على الإيمان، فلا عليك إن أصرُّوا

(1) النساء:153

(2)

البقرة: 61

(3)

المائدة:113

(4)

الأعراف:138

ص: 183

وكابروا: {وَلَا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ} فيقال لك: لماذا لم يؤمنوا؟ ولن يُنسب إليك تقصير، بعد ما بلغتهم رسالة ربك.

وفي التعبير عن الكافرين بأنهم أصحاب الجحيم: استهجان لذكرهم، وإيذان بعقابهم بالجحيم، وأنهم ملازمون لهذا العقاب، لما تفيده الجملة الإسمية من الاستمرار والدوام.

{وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (120)}

المفردات:

(لئن): مكونة من لام القسم وإن الشرطية.

التفسير

120 -

{وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى

} الآية.

أراد الله سبحانه: أن يبين لرسوله غاية أعدائه من اقتراح الآيات، ويحذره منهم، فقال ما معناه: إن اليهود والنصارى يقترحون الآيات تعجيزًا، لا طلبًا للهداية، فلو أتيتهم يا محمد، بكل ما يسألون، فلن يرضوا عنك، ولن تنال رضاهم، حتى تتبع دينهم الزائف المنحرف، قل لهم يا محمد: إن هدى الله الذي أنزله إليك، هو الهدى الذي يجب اتباعه والاهتداء به، إذ لا هادي غيره، لأن غيره ليس من عند الله، ونقسم: لئن اتبعت يا محمد، ديانتهم الباطلة الناشئة عن الهوى - بعد الذي جاءك من الوحي المقتضى للعلم بالحق - مالك من جهة الله وليُّ يواليك ولا نصير يعينك.

والغرض من توجيه الخطاب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: {وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ

} الآية:

ص: 184

هو إقناط اليهود والنصارى من إمكان تخلِّيه عن دعوته، وليس المراد تحذيره حقيقةً من اتباع أهوائهم بعد ما جاءَه من الحق، فإن ذلك لا يُتصور حصوله منه.

وقوله: {مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ} الآية: جواب القسم في قوله: {وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ} أغنت عن جواب الشرط، على القاعدة المعروفة، وهي: أن القسم والشرط إذا اجتمعا يكون الجواب للمتقدم، ولذا خلت الجملة عن الفاء. ويجوز أن يكون التحذير للأمة المحمدية، مخاطبة به في شخص الرسول الكريم، وهو بهذا الوجه قائم دائم للمسلمين أجمعين إلى يوم القيامة.

{الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (121)}

التفسير

121 -

{الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ

} الآية.

الذين تفضلنا عليهم بإعطائهم الكتاب من أحبار اليهود حالة كونهم يقرأونه حق قراءته فلا يحرفونه، بل يحلون حلاله ويحرمون حرامه، ويحرمون حرامه ويصدقون كل بشاراته، أولئك يتمتعون حقًا بنعمة الإيمان بكتابهم، ولذلك أسلموا.

أما الذين كفروا به، بأن حرفوه وأساءُوا تأوليه، وجحدوا بشارته، فأُولئك هم - وحدهم - الخاسرون دون سواهم. ولذلك لم يسلموا كما أسلم الأولون.

ولا وجه لتخصيص الآية بمن أسلم من أهل الكتاب كما جنح إليه بعض المفسرين، فقد تضمنت من كفر منهم في آخرها.

وقد حمل بعض المفسرين: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ} على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم والكتاب على القرآن. وهذا الحمل خطأ، فإنَّ عُرْفَ القرآن: على أن أهل الكتاب هم: اليهود والنصارى. ولم يذكر المسلمون فيه. إلا بعنوان المسلمين والمؤمنين. كما أن السياق واللحاق، في بني إسرائيل فلا وجه لما قاله هؤلاء المفسرون.

ص: 185

{يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (122) وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (123)}

المفردات:

{إِسْرَائِيلَ} هو: يعقوب بن إسحق بن إبراهيم، عليهم السلام.

{اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ} : تذكروا ما أنعمت به عليكم، من: الإنجاء من بطش الفراعنة، وإنزال التوراة، وغير ذلك.

والمقصود من أمرهم بتذكرها: أن يشكروها بالإيمان، بما يجب الإيمان به.

{وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ} أي: على عالمي زمانهم.

{وَاتَّقُوا يَوْمًا} : المراد باليوم: يوم القيامة، وباتقائه: التحفظ من عقابه.

{لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا} أي: لا تحمل عنها شيئًا من جزاء عملها.

{وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ} أي: لا يُقبل منها فداء.

التفسير

122 -

{يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ

} الآية.

بعد أن نفى الله ما افتراه أهل الكتاب والمشركون من أن لله ولدًا، وأيد نبوة محمد صلى الله عليه وسلم التي أنكروها، ذكَّرَ بني إسرائيل بنعمه عليهم، وحذَّرهم من كفرها.

وقد سبق التذكير بهذه النعم في الآيتين 47، و48 من هذه السورة، ولكنه كرر تذكيرهم بها هنا، تأكيدًا لوجوب شكرها بالإيمان، وليرتب عليها الوعيد الشديد.

يا أبناء النبي إسرائيل، تذكروا ما أنعمنا به من النعم على آبائكم حتى شملتكم، ومنها أنَّي فضلتكم على عالمي زمانكم، بما آتاكم الله من التوراة دونهم.

ومن حَقَّ تذكركم لهذه النعم وتقديركم لها: أن تشكروها.

ص: 186

ومن شكرها: أن تؤمنوا برسالة محمد صلى الله عليه وسلم التي بشرت بها التوراة، التي فضلْتكم بها على الوثنيين والمعطلين المعاصرين لكم، فقد انتهى العمل بالتوراة.

123 -

{وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا

} الآية.

أي: واتقوا بإيمانكم بمحمد عقاب يوم: لا تحمل فيه نفس مؤمنة عن نفس كافرة شيئًا من الجزاءِ، {وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ}: أي فداء، مهما عظم، لَوْ وَجَدَتْهُ. {وَلَا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ} إذ لا شفاعة لكافر {وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ} من أحد، إذ لا غالب للقهار جل جلاله (1) - واليوم المذكور هو يوم القيامة، وإنما خوطب اليهود في زمان النبي صلى الله عليه وسلم بما في الآيتين، لأن ما أُنعم به على آبائهم، هو نعمة عليهم.

ولكي يأمرهم بوقاية أنفسهم من العقاب: أمرهم بالإيمان بما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم شكرًا لهذه النعم.

وفي خطابهم منسوبين إلى جدهم - إسرائيل عليه السلام إشعار لهم بأن ذرية الرسول الصالح: الذي أمرهم ألا يموتوا إلا وهم مسلمون، يجب عليهم امتثال ما يأمرهم به رسول الإسلام، الذي هو دين جميع الأنبياء والرسل عليهم السلام.

والتعرض لنفي الفداء والشفاعة والنصرة في هذا اليوم، لأَنها هي الأمور التي اعتادها بنو آدم في تخليصهم إذا وقعوا في شدة.

{وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ (124)}

المفردات:

{وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ} : اختبره ببعض التكاليف.

{بِكَلِمَاتٍ} : هي ما كلفه الله به من التكاليف، التي سنتحدث عنها في المعنى.

{إِمَامًا} : قدوة للناس.

(1) راجع تفسير الآية (48) من سورة البقرة في موضع الشفاعة.

ص: 187

{قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي} : أي واجعل من أبنائي أئمة.

{لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} : العهد هنا: الإمامة والنبوة. وينال: بمعنى يدرك، أو يصيب. وعهدي: فاعل، والظالمين: مفعول.

التفسير

لما ذكر فيما تقدم اشتراك أهل الكتاب، وعبدة الأصنام في جعلهم ولدًا لله، وفَنَّدَ هذه الدعوى الكاذبة، ودعا بني إسرائيل إلى أن يتقوا يومًا لا تجزي نفس عن نفس شيئًا، أتبع ذلك ذكر ما كان عليه إبراهيم عليه السلام من عقائد مخالفة لما قالوا، موافقة لما دعاهم إليه رسوله محمد صلى الله عليه وسلم.

والغرض من ذكر ذلك توبيخهم على ما هم عليه مما يخالف ما كان عليه إبراهيم، مع ادعائهم الانتساب إليه، وسيرهم على ملته.

124 -

{وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ

} الآية.

الابتلاء: الامتحان. وهو عند الخلق لاستجلاء ما خفي علمه لديهم. والمراد به - في حق الخالق - تكليفُ العبد ببعض التكاليف. وأُطلق عليه الابتلاء - مع أنه تعالى لا يخفى عليه -شيء - لما فيه من إظهار أعمال العبد التي كانت خفية قبل أن يفعلها، كما يحدث في الامتحان. والكلمات هي: الواجبات التي كلفه الله بها، ولما كان التكليف بها يكون بكلمات، أُطلقت عليها مجازًا.

قال ابن العربي: تسمية الشيء بمقدمته أحد قِسْميِ المجاز.

والمراد بها التكاليف: ما كلفه الله به من شرعه. ومنها ما سيأتي مما حكاه الله في شأنه، وقد أبرزه من بين تكاليفه، لاتصاله بموضوع المحاجة مع أهل الكتاب والمشركين وجماعها الإسلام.

والمراد من قوله {فَأَتَمَّهُنَّ} أنه وَفَّى بتلك التكاليف جميعًا.

روى عن ابن عباس أنه قال: ما ابتلى الله أحدًا بهن فقام بها كلها، إلا إبراهيم: ابتلى بالإسلام فأَتمه، فكتب الله له البراءة، فقال:{وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى (1)} .

(1) النجم: 37.

ص: 188

وقد بين الله هنا: أنه تعالى كافأَه على هذا الإتمام، بأن جعله للناس - عامة - إمامًا يؤتم به، وقدوة يُقتدى به في جميع العصور والأجيال والمل لمن بعده. بخلاف كل نبي، فإمامته خاصة بأُمته، ولهذا جيءَ به موعظة وزجرًا لأهل الكتاب والمشركين: الزاعمين أنهم يسيرون على منهاجه.

ولما بشر إبراهيم بهذه المكافأة، طلب إبراهيم مثلها لبعض ذريته فقال:{وَمِنْ ذُرِّيَّتِي} أي واجعل بعض ذريتي إمامًا للناس، وهو كعطف التلقين، كما يقال: سأكرمك، فتقول: وزيدًا، فتكون الجملة دعائية - فرد الله عليه قائلًا:{لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} أي: لا يدرك عهدي بالنبوة الظالمين العصاة، ولا يصيبهم، لأن الأنبياء معصومون من المعاصي.

وإطلاق الظالمين على العصاة، لأنهم ظلموا بمعاصيهم أنفسهم وغيرهم.

وقد حصلت بركة دعوته هذه لعدد من بنيه الصالحين، جعلهم الله أنبياء، وهذه القراءة: نصبت الظالمين مفعولًا لينال، و (عَهْدِي) فيها مرفوع محلًا على الفاعلية، أي لا يصيب عهدي - بالنبوة - الظالمين.

وقرأ قتادة والأعمش: (الظَّالِمُونَ) بالرفع فاعلًا لينال، وعهدي حينئذ مفعول.

والمراد من القراءتين واحد، إذ الفعل تصح نسبته إلى كل من العهد والظالمين، على الفاعلية أو المفعولية، فإن مانالك فقد نلته.

{وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (125)}

المفردات:

{الْبَيْتَ} : المراد به الكعبة.

{مَثَابَةً لِلنَّاسِ} : مرجعًا لهم للعبادة. من ثاب بمعنى: رجع.

ص: 189

{مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ} : هو الحجر الذي كان يقوم عليه عند بناء البيت.

{مُصَلًّى} : مكان صلاة.

{وَعَهِدْنَا} : أي أمرنا أمرًا مؤكدًا.

{طَهِّرَا بَيْتِيَ} : نظفاه من كل ما لا يليق من الأوثان، وجميع الخبائث.

{وَالْعَاكِفِينَ} : أي المعتكفين في المسجد، أي: الملازمين له زمنًا ما.

{وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} : الركع جمع راكع، والسجود جمع ساجد، والمراد بهما المصلون.

التفسير

125 -

{وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا

} الآية.

أي واذكر يا محمد وقت أن أمرنا بأَن تصير الكعبة المعظمة مرجعًا للحجاج: يرجعون إليه بعد أن يتفرقوا عنه، أو موضع ثواب يُثاب الناس بالحج إليه، والاعتمار فيه.

(وَأَمنًا) أي موضع أمن، والمقصود من جعل البيت مكان أمن: أن الحج إليه، يجعل الحاج مطمئنًا إلى رحمة الله، فإنه مكفر لكثير من الذنوب، وأن من لاذ به، كان آمنًا من ظالميه، لغلظ عقوبة الاعتداء فيه وفي الحرم الذي حوله، تشريفًا وتكريمًا له.

ولقد سرى هذا الأمن إلى حيوانه غير المستأنس، فيحرم صيده فيه، ولذا أُطلق الأمن في الآية ولم يُقيد.

وتكريمًا لإبراهيم عليه السلام أمر الله تعالى أن يتخذ الناس - عند الحجر الذي قام عليه لبناء البيت - موضع صلاة لركعتي الطواف وسواهما. والأمر استحباب.

ثم أمر سبحانه إبراهيم وابنه إسماعيل عليهما السلام أن يطهرا هذا البيت - وما حوله - من كل ما لا يليق بعبادة الله وحده فيه، وفي مقدمته الأوثان، حتى تكون العبادة خالصة لله، وقد حفّ بالعابد: الطهر والنظافة من الأوساخ الحسية والمعنوية: كالضوضاء، وأدران القلوب، وهكذا يجب أن يكون الأمر في دور العبادة في شريعتنا، فالحكم ممتد إلينا من عهد إبراهيم عليه السلام. وقد تقرر بالسُّنة إلى جانب ما ورد هنا، وإنما خص البيت بالحكم، لمناسبة الحديث عن شئونه. وقد أمر بتطهيره - على هذا النحو - من أجل الطائفين به للنسك من أهل الحرم، أو الوافدين عليه من بقاع الأرض، ومثلهم الزائرون.

ص: 190

فالتطهير عام من أجل الجميع.

وكما أمره بتطهيره مما ذكر للطائفين، أشرك معهم في هذا الحكم: المعتكفين فيه عن الناس لعبادة ربهم، والمصلين الذين عناهم سبحانه بقوله:{وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} .

وإنما عبر عن المصلين بالركع السجود، لأن أبرز معاني الطاعة والخضوع لله في الصلاة، يتجسم في الركوع والسجود.

ولم يستجب أهل الكتاب والمشركون لهذا الأمر {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} لكفرهم فإن أهل الكتاب لا يصلون إلى البيت الحرام، الذي بناه جدهم إبراهيم، وصرف وجوه الناس إليه، وحملهم على أداء النسك حوله، والمشركون لوثوه بالأوثان والذبائح حولها، وهذا ما يَدَّعون الانتساب إليه، فأين دعواهم هذه مما يعملون؟

أما محمد صلى الله عليه وسلم فهو الذي أحيا شريعة جده وحافظ عليها كما أمر.

{وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (126)}

التفسير

126 -

{وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا

} الآية.

مازال الحديث متصلًا، فبعد أن تكلم إبراهيم وتكلم عن البيت الذي بناه، شرع يتكلم عن مكَّة: بلد البيت وموطن ولده إسماعيل، وموضع نسكهما.

والمعنى: واذكر وقت أن قال إبراهيم - وقد أنزل ولده الرضيع وأمه بوادٍ غير ذي زرع - يا رب اجعل هذا المكان المقفر: الذي لا شجر فيه ولا زرع ولا ماء، اجعله {بَلَدًا آمِنًا} بأن تحوله من هذا الإقفار إلى بلد آهل بساكنيه، ذي أمن، فلا يُعتدى على قاطنيه، وقد كانت مكة حرمًا آمنًا قبل إبراهيم عليه السلام.

فقد روى مسلم عن ابن عباس مرفوعًا "أن هذا البلد حرمه الله يوم خلق السموات والأرض" الحديث، ودعاء إبراهيم لإظهار تلك الحرمة وتجديدها.

ص: 191

{وَارْزُقْ أَهْلَهُ} الذي يسكنونه {مِنَ الثَّمَرَاتِ} المختلفة، بأن تجعل بقربه قرى تثمرها، أو أن تُيَسّر جلبها إليهم من الأقطار الشاسعة، وخص دعوته بالمؤمنين منهم بقوله:(من آمن منهم بالله واليوم الآخر) إظهارًا لشرف الإيمان وخطره، واهتمامًا بشأن أهله، ومراعاة لحسن الأدب، وإيذانًا بأنهم هم المستحقون لهذا الرزق، دون من كفر من أهل الكتاب والمشركين {قَالَ} الله تعالى:{وَمَنْ كَفَرَ} منهم {فَأُمَتِّعُهُ} زمانًا {قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ} وألجئه إليه يوم القيامة فلا يستطيع الفكاك منه جزاء له على كفره.

والواو في {وَمَنْ كَفَرَ} عطف على جملة من كلام الله على جملة) من كلام إبراهيم عليه السلام وهي {مَنْ آمَنَ} عطف تلقين، للإيجاز في القول.

وقد أرشدت الآية: إلى أن الله يرزق الكافر في الدنيا كما يرزق المؤمن، وإن كان المؤمن أهلًا لكل خير. فرزق الكافر لاستدراجه، ولو حرم الله الكافرين من التوسعة في الرزق في الدنيا وخص بها المؤمنين، لانساقوا إلى الإيمان قسرًا. وقد قضت حكمته - سبحانه - أن يكون الإيمان اختياريًا، حتى يتجه إليه الإنسان عن طريق النظر في آيات الله، التي يبصرها قوم ويعمى عنها آخرون. ووصف التمتع بالقلة، لأن مدة الدنيا قليلة بالنسبة إلى الآخرة، ولتعرض متعها إلى الزوال كل لحظة.

{وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (127) رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (128) رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (129)}

المفردات:

{يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ} : القواعد: الأسس، جمع قاعدة، ورفعها: البناءُ عليها.

ص: 192

{أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ} : جماعة مستسلمة ومنقادة لك بالإيمان والعمل الصالح، أو المراد بها: أُمة دينها الإسلام، وهي أمة محمد صلى الله عليه وسلم.

{وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا} : متعبداتنا في الحج.

{رَسُولًا مِنْهُمْ} : أي من أنفسهم، ولم يبعث من ذريتهما فيهم غير محمد صلى الله عليه وسلم.

{الْكِتَابَ} : القرآن.

{وَالْحِكْمَةَ} : وضع الأُمور في مواضعها.

{وَيُزَكِّيهِمْ} : ويطهرهم من دنس الشرك والمعاصي.

{الْعَزِيزُ} : الغالب الذي لا يُقهر.

{الْحَكِيمُ} : الذي لا يفعل إلا ما فيه الحكمة والمصلحة.

التفسير

127 -

{وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}

واذكر يا محمد أيضًا حين بنى إبراهيم فوق أُسس الكعبة، ورفعها هو وإسماعيل ابنه، وهما يقولان داعيين: ربنا تقبل منا بناء هذا البيت: الذي سيكون قبلة ومطافًا لعبادك، إنك أنت وحدك دون سواك السميع دائمًا لأقوالنا، العليم في كل حين بخفايا نياتنا.

128 -

يا ربنا وأضف إلى تفضيلك بتقبل طاعتنا في بناء الكعبة منا، تفضلك بأن تجعلنا منقادين دائمًا لك: لا نخالف أمرك، ولا نعصي نهيك، بحيث يكون قياد قلوبنا بيدك وحدك.

ياربنا وأضف إلى ما تفضلت به: أن تجعل بعض ذريتنا جماعة مستسلمة ومنقادة لك، في إيمانها وطاعتها، لا للهوى والشيطان.

وعرِّفنا يا ربنا أماكن حجنا ومذابح هدينا، واقبل توبتنا وتوبة ذريتنا، إنك أنت - لا سواك - مانح التوبة، والمتفضل بقبولها وإن عَظُمَ الذنب وتعدد، وأنت كثير الرحمة، عظيم الإحسان.

ص: 193

فإن قيل: إن الأنبياء لا يعصون ربهم، فما وجه طلب إبراهيم وإسماعيل من ربهما أن يتوب عليهما؟ أي يقبل توبتهما:

فالجواب: أن ذلك محمول على هضم النفس، أو على أن يتوب عليهما مما خالفا به الأَوْلى، أو فعلاه سهوًا أو أفراد ذرياتهما.

129 -

{رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} .

يا ربنا، وأتمَّ على ذريتنا نعمتك: بأَن تبعث فيهم رسولًا منهم، لا من غيرهم. يتحدث بلغتهم ويقرأُ عليهم آياتك البينات، ويعلمهم معاني القرآن وأسراره، ويعلمهم الحكمة. أي وضع الأمور في مواضعها، ويطهرهم من دنس الشرك وقبيح العادات، إنك أنت يا رب - لا سواك - العزيز: الغالب الذي لا يُقهر، الحكيم: المدبر عن حكمة وإتقان.

تفصيلات لبعض ما تقدم: لم نشأْ أن نقطع على القاريء اتصال المعنى الإجمالي بشيء من التفصيلات وقد رأينا أن نأْتي بما يلزم منها فيما يلي.

في نداء إبراهيم وإسماعيل لله - سبحانه - بعنوان الربوبية لهما إذ يقولان: {رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا} مظهر من مظاهر الخضوع والإجلال له - سبحانه - وقد أكد رجاءَهما في تقبله - تعالى - لدعائهما بقولهما: {إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} فإن من كان هذا شأنه يتفضل بقبول عملنا الذي علم أننا أخلصناه لوجهه.

وبما أنهما مسلمان مخلصان له تعالى، يكون قولهما:{رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ} مراد منه: أَدِم علينا نعمة هذا الإسلام لك: بامتثال أوامرك واجتناب نواهيك دائمًا. فالمسلم لا يطلب أن يُجعل مسلمًا، بل أن يدوم على إسلامه، والمقصود من الإسلام فيما قالا: الخضوع والاستسلام إلى الله - تعالى - بتوحيده، ونفي الشركاء والأولاد والزوجات عنه - تعالى - وغير ذلك من أمهات الفضائل: التي اشتركت فيها جميع الأديان، إلى جانب ما اختصا به في شريعتهما.

وما من شريعة إلا كان الغرض منها الإسلام لله أي الخضوع له فيما شرعه.

فالإسلام بهذا المعنى: هو دين الأنبياء جميعًا، وعليه قوله تعالى:{مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (1)} .

(1) آل عمران: 67.

ص: 194

وهذا يفيد: أن الإسلام الذي يدين به، هو ما ليس فيه الشرك الذي تردى فيه اليهود والنصارى والوثنيون.

ويجب أن يُعرف أن دين إبراهيم، ليس مطابقًا للإسلام في فروع الشريعة، بل في أُصولها وأُصول العقائد.

فإن كل دين، جاءت فيه فروع تناسب الأمة التي كلفت بها.

وقد كان دين إبراهيم يسيرًا في شرائعه وأحكامه، إذ جاءَ في صحائف، ولم يأت في كتاب كبير، كالإسلام واليهودية والنصرانية.

وقد امتاز الإسلام بأنه تناول كل فروع الحياة، وأعطاها الأحكام المناسبة لها، فكان - لذلك - صالحًا لكل زمان ومكان.

وقد طلب إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام من ربهما أن يجعل من ذريتهما جماعة مسلمة له - تعالى - ولم يعمما الذرية، لما وقر في نفسيهما، من أن بعضهم سيكونون كفارًا، لما عرفاه من طبائع البشر، وسيرهم على هواهم، وتنكرهم لشرائع رسلهم.

وخصَّا ذريتهما بالدعاءِ، لأنهم أحق بالشفقة، والدعاء لهم بالصلاح مطلوب شرعًا. ومعنى {وَتُبْ عَلَيْنَا}: وفقنا للتوبة أو تقبل توبتنا.

والتوبة في حق الأنبياء تكون من ترك ما هو الأولى، أو من خطأ في الاجتهاد. وعلى هذا نحمل التوبة التي يسأل الأَنبياءُ والمرسلون قبولها.

ولعل في ذكر هذه الجملة هنا بعد قوله: {وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا} إرشادًا إلى أن تلك المواضع، أمكنه التخلص من الذنوب، وطلب التوبة مما فات منها.

والغرض من قولهما: {إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} التوسل إلى قبول توبتهما، بما عُرف من شأنه - تعالى - وهو: أنه كثير التوبة على عباده، رحيم بهم.

وقد واصل إبراهيم وإسماعيل دعواتهما فقالا: {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ} أي في ذريتهما {رَسُولًا مِنْهُمْ} وقد استجاب الله دعاءهما فبعث محمدًا صلى الله عليه وسلم.

والرسول - في عرف المتكلمين - إنسان ذكر، حُر، أُوحي إليه بشرع وأُمِر بتبليغه. فإن لم يؤمر بتبليغه كان نبيًا فقط، وليس برسول.

وسأل إبراهيم وإسماعيل أن يكون الرسول من الأُمة ليكون أَدعى إلى الاستجابة، لمعرفتهم بحاله - في نشأته - وبلسانه.

وسرُ الجمع بين الأمور الأربعة الواردة في قوله تعالى: {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}

ص: 195

أن تلاوة الآيات وحفظها بألفاظها كما نزلت، والتعرف على بلاغتها، وروعة أساليبها ووجوه إعجازها - كل هذا - داعٍ إلى تفهم معانيها وتعقل مراميها.

فإذا جمع الإنسان بين التلاوة والفهم، كان أحرى وأجدر بتقبل الحكمة النبوية التي ظهرت في حياة الرسول العظيم صلى الله عليه وسلم قولًا وعملًا.

فإذا ما ارتقى إلى هذه الدرجة، زاد خيره وعم نفعه وطهر قلبه، وخلص لمولاه، ونظفت جوارحه مما يُغضب الله.

على أن الآية قد استوفت منابع الدين أُصولًا وفروعًا.

فكل رأي لا يستند إلى الكتاب أو السنة - أو إلى أصل مستمد منهما على وجه معقول - فهو ردٌّ على صاحبه.

{وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (130)}

المفردات:

{وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ} : من اسم استفهام إنكاري بمعنى النفي، ويرغب: يتعدى للمكروه بعن كما هنا، فإنهم يكرهون ملته، أي لا أحد ينصرف عنها لكراهته إياها، ويتعدى للمحبوب بفي، يُقال رغب في كذا: أي أحبه: والملة في الأصل: الطريقة، وغلب إطلاقها على الدين.

{سَفِهَ نَفْسَهُ} : امتهنها واستخف بها مثل سفَّه - بفتح الفاء المشددة - وأصل السفه الخفة، فمن رغب عما يرغب فيه - وهو ملة إبراهيم - فقد بالغ في امتهان نفسه وإهانتها، والاستخفاف بها. وقيل: إن سفه مضمن معنى الجهل، أي فقد جهل نفسه أي: لم يفكر فيما ينفعها.

{اصْطَفَيْنَاهُ} : اخترناه للرسالة من بين سائر الخلق.

التفسير

130 -

{وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (130)}

لا أحد يزهد في دين إبراهيم إلا شخص امتهن نفسه واحتقرها، لأنه دين التوحيد الخالص

ص: 196

{وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ} : ولقد اخترناه في الدنيا لرسالتنا من بين الخلق، وإنه في الآخرة لفي عداد الصالحين: المشهود لهم بالثبات على الاستقامة والخير والصلاح، المستحقين للفوز بأكرم الدرجات.

جاءت هذه الآية: تبين ضلال اليهود والنصارى والمشركين، في صدهم عن الإسلام ومحاربة محمد صلى الله عليه وسلم فإن الآيات السابقة سيقت لبيان أن إبراهيم الذي يفخر مشركوا العرب بانتسابهم إليه، وتفخر اليهود والنصارى بأنهم من بني إسرائيل الذي هو يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم، إنما كانت شريعته على نمط الإسلام من: التوحيد، والعقائد وأُصول الأحكام.

وهؤلاء وأولئك بصدهم عن الإسلام، ومحاربتهم له قد رغبوا عن ملة إبراهيم إلى الشرك، وادعاء الولدية له تعالى، فاستحقوا أن يقول الله فيهم: إنهم سفهوا أنفسهم، واحتقروها حيث وضعوها في بؤرة الردة عن دينه الحق، إلى الوثنية والشرك، ووصف الله بما لا يليق به، بدل أن يرفعوها إلى قمة الإسلام: دين إبراهيم الذي يدعون انتسابهم إليه، والله هو الذي جمع له كرامتي الدنيا والآخرة، فكان حريًا أن يسيروا على منهاجه.

{إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (131) وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (132)}

التفسير

131 -

{إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ

}

المراد بالإسلام هنا أتم وجوهه من إخلاص التوحيد لله، وكمال الإنقياد لأوامره واجتناب نواهيه، في كل حال.

{قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} : بادر إبراهيم إلى الامتثال، لكمال استقامته التي رفعته عند الله إلى المنزلة العليا، وقال: أسلمت لرب العالمين، ولم يقل: أسلمت لك،

ص: 197

ليذكر الله بما يدل على عظم شأنه، ويشير إلى أن من كان ربًا للعالمين: لا يليق بأحد منهم، إلا أن يتلقى أمره بالخضوع وحسن الطاعة. فهو إشارة إلى سبب الإخلاص لله.

132 -

{وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ

}

التوصية: إرشاد الغير إلى ما فيه صلاح وقربة، ووصى أبلغ من أوصى لما فيها من معنى التكثير، والضمير في (بِهَا) يعود على {مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ}: أي وصى إبراهيم بنيه باتباعها.

ودلت هذه الآية، على أن إبراهيم يجمع إلى كمال استقامته، العمل على تكميل غيره، وأن أحق من يسدي إليه النصح: البنون {وَيَعْقُوبُ} معطوف على إبراهيم، أي وصى يعقوب أبناءَه اتباعًا لوصية جده إبراهيم قائلًا:{يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ} وهو الإسلام.

وفي نداء الأبناء بلفظ البنوة المشعر بمكانتهم في قلب الداعي، وفي تأكيد الجملة بإنَّ واسميتها، وفي التعبير بلفظ الجلالة، وإسناد الاصطفاء إلى ضميره، وفي اختيار مادة اصطفى ما يفيد تأكيد: أن دين الإسلام هو خير دين.

{فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} .

تفيد هذه الجملة: نهيه لهم عن أن يموتوا إلا وهم مسلمون، وبما أن الموت ليس في استطاعة أحد دفعه حتى ينهى المرء عنه، فلذا يكون الغرض نهيهم عن التدين بدين غير الإسلام حتى لا يدركهم الموت وهم به كافرون.

{أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (133) تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (134)}

المفردات:

{أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ} أم بمعنى: بل الانتقالية وهمزة الإنكار. أي: بل أكنتم.

{شُهَدَاءَ} : جمع شهيد بمعنى شاهد: أي حاضر.

ص: 198

{إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ} : وقت حضور علاماته ليعقوب.

{تِلْكَ أُمَّةٌ} : تلك جماعة. والإشارة راجعة إلى الأنبياء الثلاثة.

{قَدْ خَلَتْ} : مضت.

التفسير

133 -

{أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ

} الآية.

بعد توبيخ المخالفين لملة إبراهيم، بقوله تعالى: "ومن يرغب

" الآية.

وبعد بيان أن هذه الملة هي التي وصى بها إبراهيم ويعقوب أبناءهما - جاءت هاتان الآيتان، لإنكاره افتراءٍ أهل الكتاب على يعقوب، أنه كان على ما هم عليه من التدين، وبيان أن انتسابهم إلى آباء صالحين، لا يغني عنهم فتيلًا.

والخطاب لأهل الكتاب من اليهود الذين زعموا: أن يعقوب أوصاهم - حينما أشرف على الموت - بالبقاء على يهوديتهم المحرفة، القائلة: بأن لله ولدًا، وأنه شريك لأبيه. وحضور الموت: حصوله، والمراد: حضور علاماته، والإشراف عليه، لأن الميت فعلًا لا يستطيع أن يوصي من حضره. وأم بمعنى: بل والهمزة، وبل للإضراب الانتقالي، من توبيخهم على رغبتهم عن ملة إبراهيم: إلى توبيخهم على افترائهم على يعقوب عليهما السلام والهمزة لإنكار مشاهدتهم يعقوبَ عند احتضاره، أي: بل ما كنتم حاضرين عند مشارفة الموت له، حتى تقولوا ما قلتم.

{إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي} : وجه يعقوب الوصية لبنيه في صورة سؤال، لبيان شدة اهتمامه بأمرهم، وليطلب بسؤاله جوابًا منهم: يعبر عن رسوخ إيمانهم، وعقدهم النية على أن يخصوا الإله الحق بعبادتهم والاستفهام بـ (مَا) في قول يعقوب لبنيه:{مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي} : لأَنها تستعمل عند إبهام المسئول عنه لغرض، كما هنا، حيث أراد ألا برشدهم إلى الجواب، حتى ينبع هو من عقولهم دون إيحاء، كما تُستعمل في السؤَال عن المجهول، وإن دخل فيه العاقل والعالم، فإن سُئل عن عاقل بعينه استعملت مَنْ الخاصة به. أما غالب استعمالها - أي ما - ففي السؤَال عن غير العاقل، وقد تستعمل في السؤال عن وصف العاقل، كقولك ما زيد؟ أطبيب أم فقيه؟

ويجوز أن يكون السؤال عن العبادة التي يتعبدون بها.

ص: 199

{قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا} .

كان يكفي في جوابهم أن يقولوا نعبد الله، ولكنهم أطنبوا وأسهبوا: اغتباطًا وتمسكًا بالحق، وإيذانًا بأنه عقيدة مشتركة بين الأنبياء الثلاثة كما هو عقيدته، وليس أمرًا مخترعًا، بل هو حقيقة الاتباع لإبراهيم وذريته، وذكروا إسماعيل - عم يعقوب - في جملة آبائه تجوزًا، وقدموه على أبيهم إسحاق لأنه أسَنُّ منه، وذكروا {إِلَهًا وَاحِدًا}: للتأكيد، وللتلذذ بالإقرار بالوحدانية، وأكدوا أيضًا، واستمتعوا بقولهم:{وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} أي: مستمرون في عبادته، والتمسك بدين الإسلام.

134 -

{تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ

}

{تِلْكَ} : إشارة إلى إبراهيم وأبنائه الأنبياء، وأُنثت لتأنيث الخبر وهو (أُمَّةٌ).

(خَلَتْ): مضت وانقضت. والأُمَّة: الجماعة يجمعهم أمر واحد، نحو الموطن أو اللغة.

{لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ} ، الكسب: العمل لإصابة ما فيه نفع. لفظ مقدر يقتضيه المعنى - والتقدير: لها جزاءُ ما كسبت، ولكم جزاءُ ما كسبتم.

وحاصل المعنى: تلك جماعة من الأنبياء لها جزاءُ ما كسبت من التوحيد والإسلام لله، ولكم جزاءُ ما كسبتم من الكفر والمعاصي.

{وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} أي: لا يقع لكم سؤال عن أعمالهم. بل عن أعمالكم أنفسكم. فلا تنفعكم أعمالهم الصالحة وأنتم على نقيضها، وإن كنتم من ذرياتهم، فمن أبطأ به عمله لم يسرع به نسبه. فاستقيموا على الإسلام الذي دعاكم إليه رسوله محمد. كما استقام أنبياؤكم عليه، فإن أباكم إبراهيم وَصَّى به بنيه فقال:{وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} .

ص: 200

{وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (135) قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (136) فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (137) صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ (138)}

المفردات:

{حَنِيفًا} : مائلًا عن الباطل إلى الحق، ومن الحنف بمعنى: الميل، أو مستقيمًا من الحنف بمعنى: الاستقامة، فهو يستعمل في المعنى وضده.

{الْأَسْبَاطِ} : جمع سبط هو: ولد الولد، من السبط وهو التتابع، وكان ليعقوب إثنا عشر ولدًا خرجت من كل منهم ذريات كثيرة، أُطلق على ذرية كل واحد: منهم سبط، بالنسبة لجدهم يعقوب.

فالأسباط في بني إسرائيل، قبائل يهودية، تنتمي إلى أصل واحد، كالقبائل العربية، وكانوا اثنتي عشر قبيلة، كما قال تعالى:{وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا (1)} .

{بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ} أحد: اسم موضوع لمن يصلح للخطاب، يستوي فيه المذكر والمؤنث. مفردًا كان أو مثنى أو جمعًا، ولذا صح دخول (بَيْنَ) عليه (2).

{فِي شِقَاقٍ} : الشقاق: الخلاف أو العداوة، وكل تصح إرادته هنا.

{صِبْغَةَ اللَّهِ} : الصبغة في الأصل: الحالة التي يكون عليها الصبغ، وهو تلوين الشيء بلون مَا.

(1) الأعراف: 160.

(2)

ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: "ما أحلت الغنائم لأحد سواد الرأس غيركم".

ص: 201

وأُطلقت في الآية على الإيمان، لأنه يتداخل في القلوب تداخل الصبغ في المصبوغ ويظهر أثره على المؤمن، كما يظهر أثر الصبغ في الثوب، ويُقال: تصبغ فلان في الدين، إذا أحسن دينه.

التفسير

135 -

{وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (135)}

بعد أن بين الله سبحانه وتعالى ضلال اليهود والنصارى - في أنفسهم - بقوله حكاية عنهم: {لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى} (1) بين هنا إضلالهم لغيرهم، بقولهم:{كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا} ثم أتبع ذلك الرد عليهم، وفيما يلي بيان ذلك.

{كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا} .

حكت لنا هذه الجملة، دعوة كل من اليهود والنصارى للمؤمنين، إلى اتباع دينهم، وزعمهم أنه الحق دون غيره. وليس المعنى أن كلا الفريقين قالوا ذلك على وجه التخيير، بل المعنى: أن اليهود قالوا لهم: كونوا هودًا تهتدوا، والنصارى قالوا لهم: كونوا نصارى تهتدوا.

ويساعد على إفادة هذا المعنى - باللفظ الموجز - ما هو معروف من أن كل فريق منهما يدعي أن ديانة الآخر باطلة.

{قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا} الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم و {بَلْ} : إبطال لما ادعاه كل من الفريقين. و (مِلَّة): منصوب بفعل مقدر تقديره: نتبع. و {حَنِيفًا} : حال من إبراهيم ملازمة له.

والمعنى قل يا محمد: بل نتبع ملة إبراهيم مستقيمًا دائمًا على الحق.

وهذا يشير إلى أن اليهودية والنصرانية - بعد تحريفهما - غير مستقيمتين، وأن ملة إبراهيم - وهي الإسلام الذي نحن عليه - أولى بالاتباع من الملل المعوجة.

وقوله تعالى: {وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} نفي عن إبراهيم أن يكون مشركًا، وعرض بإشراك جميع الكافرين: الذين يفخرون بانتسابهم إلى إبراهيم، ويدعون أنهم على ملته. فكفار العرب عبدوا الأصنام واقترفوا كثيرًا من النقائص.

(1) الآية 111 - من هذه السورة

ص: 202

واليهود قالوا: عزير ابن الله، والنصارى قالوا: المسيح ابن الله، وغير ذلك من القبائح. فكأنه يقول لهم: بل أنتم المشركون.

136 -

{قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ

} الآية.

الخطاب للأمة الإسلامية جمعاء، والإيمان بالله تصديق جازم بما اختص به - سبحانه - من صفات الكمال: تصديقًا قائمًا على النظر في أسرار الكون، والانتباه إلى ما يلقاه الإنسان في حياته، من رعاية الله ولطفه، وغير ذلك من عظائم خلقه وحكمته.

{وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا} : وآمنا بالقرآن الذي أنزله الله إلينا، لنعمل بما كلفنا الله فيه.

{وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ} المراد بما أُنزل إليهم: الصحف التي أنزلها الله إلى إبراهيم، المشار إليها بقوله تعالى:{إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى، صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى} (1) وصح نسبه إنزالها إلى الأنبياء الثلاثة من بعده، ثم الأَسباط، مع أنها أُنزلت على إبراهيم خاصة، لأنهم مأمورون باتباعها، والتعبد بما فيها والدعوة إليها.

{وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى} : وآمنَّا بما أُعطي موسى وهو التوراة، وبما أُعطي عيسى وهو الإنجيل. وعطف عيسى على موسى دون تكرير الفعل، لأن عيسى جاءَ مصدقًا لما في التوراة، عاملًا بما فيها، مع نسخ أحكام يسيرة منها، كما قال تعالى:{وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ (2)} ، فكأن ما أُوتيه النبيان شيءٌ واحد.

{وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ} وآمنا بما أُعطي النبيون جميعًا من عند ربهم، وهذا تعميم بعد تخصيص، وتخصيص المنزل إلى إبراهيم ومن تبعه، لأن من دخلوا في هذه المحاجة من اليهود والنصارى والمشركين، يدعون الانتساب إليه. وتخصيص موسى وعيسى لما مر قريبًا: من أن اليهود والنصارى، دعوا المسلمين إلى اتباع اليهودية أو المسيحية، وترك الإسلام. وقدم الإيمان بالله، لأن ما بعده متوقف عليه. وقدم:{وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا} لأن الإيمان به واجب على وجه التفصيل، والإيمان ببقية الكتب يكفي على وجه الإجمال، ولأنه مصدق للكتب السابقة ومُهيمن عليها.

(1) الأعلى: 18، 19.

(2)

آل عمران: 5

ص: 203

{لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ} التفرقة: جعل الشيء مفارقًا للآخر، وأحد هنا بمعنى: جماعة، لأن بَيْنَ لا تدخل إلى على متعدد.

والمعنى: لا نفرَّق بين جماعة من النبيين، فنؤمن ببعض، ونكفر ببعض، كما فعل اليهود. وقيل: إن في الكلام معطوفًا مقدرًا لظهوره، أي لا نفرق بين أحد منهم، وبين غيره كما في قول النابغة:

فما كان بين الخير لو جاء سالمًا

أبو حجر إلا في ليال قلائل

أي بين الخير وبيني.

وهذا التعبير أبلغ من قولك: لا نفرق بينهم، لما فيه من الدلالة - صراحة - على عدم التفريق بين كل فرد منهم وبين من عاداه، كائنًا من كان.

وفيه تعريض باليهود إذ آمنوا بموسى وكفروا بعيسى ومحمد.

وتعريض بالنصارى، لكفرهم بمحمد - صلوات الله وسلامه عليه -.

{وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} : وقولوا - أيضًا - ونحن لله مسلمون خاضعون بالطاعة.

ومن جمال التعبير: أن هذه الآية، ابتدأت بالإيمان الذي هو فعل القلب، واختتمت بالإسلام الذي هو فعل الجوارح.

137 -

{فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا

} الآية.

الفاءُ في قوله تعالى: {فَإِنْ آمَنُوا} لترتب ما بعدها على ما قبلها، وسيأتي نظم هذا الترتيب في ذكر المعنى.

وظاهر الآية مشكل، لأنه يقتضي أن يكون لله مثل، ولو آمنوا بهذا المثل لاهتدوا، وذلك لا يصحن فالله - تعالى - منزه عن المثل، فلا اهتداءَ إلا بالإيمان به وحده.

ولهذا ذهب المفسرون في تأويلها عدة مذاهب، نذكر منها رأيين:

(أحدهما) أن (مِثْلَ) صلة جاءت لمجرد التوكيد، ولم يُقصد معناها وهي (المثلية)، كما هي في قوله تعالى:{وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ (1)} أي عليه - وأُيَّد بقراءة ابن مسعود

(1) الأحقاف: 10.

ص: 204

وابن عباس {فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا} بحذف كلمة (مثل).

(والرأي الثاني) - وهو الذي نختاره - أن: (مثل) ليست صلة (أي ليست زائدة للتوكيد) وأن الباء في قوله (بِمِثْل) للاستعانة، وأن المعنى: فإن دخلوا في الإيمان بوساطة شهادة مثل الشهادة التي ثبت لكم الإيمان بموجبها، فقد اهتدوا، والمراد بهذه الشهادة: ما مر في الآية قبلها.

وحاصل معنى الآيتين على هذا التأويل: قولوا، أيها المؤمنون: آمنا بالله وما أُنزل إلينا في القرآن، وما أُنزل إلى إبراهيم وذرياته من الأنبياء، لا نفرق بين أحد منهم، ونحن له مخلصون. فإن ترتب على هذا البيان الشامل لما عند أهل الكتاب وما عندكم: أنهم دخلوا في الإيمان - بسبب اعتراف وشهادة مثل الشهادة التي ثبت لكم الإيمان بموجبها - فقد اهتدوا إلى الحق.

{وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ} أي: وإن أعرضوا عن الدخول في الإيمان بهذا الاعتراف، وفرقوا بين الرسل، فآمنوا ببعض، ولم يخلصوا لله - فما هم إلا غارقون في خلاف وعداوة، وليسوا طلاب حق.

وسُمى الخلاف شقاقًا لأن أحد المختلفين يأْخذ في شق غير شق صاحبه: صورة أو معنى.

{فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ} : يكفي من الكفاية بمعنى الوقاية.

والمعنى: فسيقيك الله شرهم، أو بمعنى الإغناء، والمعنى: فسيغنيك الله عن مقاومتهم وتصدير الفعل بالسين دون سوف، للإشعار بأن ظهوره عليهم سيتم في زمن قريب من نزول الآية.

وقد أنجز الله وعده بتفريق كلمتهم، وقتل بني قريظة وإجلاءِ بني النضير، وغير ذلك مما حاق بباقي اليهود، وكل ذلك بفضل الله.

ص: 205

{وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} إيراد وصفي: {السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} بعد وعد الله نبيه بالنصر في قوله: {فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ} إنما يشعر: بأنه محيط بمكرهم ومحبطه، فلن يأخذوا رسوله على غرة.

138 -

{صِبْغَةَ اللَّهِ

} الآية.

صِبْغَةَ مصدر مؤكد لفعل من معناه وهو قوله السابق: {آمَنَّا بِاللَّهِ} وكأنهم قالوا: صبغنا الله صبغته.

والصبغة: الحالة التي يكون عليها الصبغ، عبر بها عن الإيمان على الوجه الذي مضى في الآيات، لأنه يظهر أثره على المؤمن، ظهور لون الصبغ على المصبوغ، ويتداخل في قلوبهم، تداخله في نسيج الثوب.

فالكلام من الصور البلاغية على سبيل الاستعارة.

ويجوز أن تكون فيه مشاكلة تقديرية لما يصنعه النصارى، من صبغهم أولادهم بماءٍ أصفر يسمونه المعمودية، يزعمون أنه يطهر المولود.

والمراد من الآية على هذا: أن دين الله الإسلام، هو الذي يطهر من الآثام دون سواه. و (مَنْ) في قوله:{وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً} للاستفهام الإنكاري، فهي بمعنى النفي.

والتفضيل في المعنى جار بين صبغة الله وصبغة غيره، لا بينه - تعالى - وبين غيره في الصبغة، والمعنى: لا صبغة أحسن من صبغة الله، أي لا دين أحسن من دين الله، الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم وكما أنه لا دين أحسن من دينه، فلا دين يساويه في الحسن أيضًا. فإنه لا يوجد حسن في غيره من الأديان، بعد أن تجاوزت الحق في شأنه وشأن رسوله كما مر في الآيات.

وهذا الأسلوب - وإن كان في ظاهره نفي الدين الأحسن من دين الله - فإنه في الاستعمال العربي، نفي لما يساويه في الحسن أيضًا، فأَفعل التفضيل فيه على غير بابه.

{وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ} أي: ونحن - لله الذي أعطانا هذه النعمة - عابدون، شكرًا له عليها وعلى سائر نعمه.

ص: 206

{قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ (139) أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (140) تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (141)}

المفردات:

{أَتُحَاجُّونَنَا} : أتجادلوننا. فصيغة المفاعلة اعتبارية، فكأن كلًا من المتجادلين يأتي بحجة يدحض بها قول خصمه.

{وَالْأَسْبَاطِ} : هم أولاد يعقوب. والمراد بهم هنا، أنبياؤهم.

{وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ} : أي وما الله بساه، بل هو عالم.

التفسير

139 -

الخطاب بقل للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد من المحاجة في الله: المجادلة في دينه.

ذلك أن اليهود والنصارى: يدَّعون أن الدين الحق هو دينهم، وأن الجنة لن يدخلها سواهم، كما تقدم قريبًا، والاستفهام هنا للإنكار.

{وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ} الرب: الخالق المربي لعباده بنعمه. والمعنى: لا وجه لتفضيلكم أنفسكم علينا، فنحن - وأنتم في العبودية لله - سواءٌ، فكيف تحرموننا من فضله؟

ص: 207

{وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ} أي: ولنا أعمالنا الحسنة، ولكم أعمالكم السيئة، كما يُستفاد ذلك من التعقيب بقوله:{وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ} والإخلاص: هو أن يقصد بالعمل وجه الله وحده. وهؤلاء لم يخلصوا أعمالهم لله. فقد عبدوا عُزيرًا وعيسى عليهما السلام فأَنَّى لهم دخول الجنة بأعمال أشركوا فيها:

ولم تصف أعمال المسلمين بالحسن، وأعمال سواهم بالسوء، تجنبًا لنفور المخاطبين، واكتفاء بالتعريض اللطيف: الذي توحي به جملة {وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ} .

140 -

{َمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى

} الآية.

أم: منقطعة، بمعنى بل وهمزة الإنكار، والآية مسوقة لإنكار قول اليهود: إن الأنبياء السابقين كانوا على دينهم وقول النصارى: إنهم كانوا نصارى مثلهم، أي: لا يقل أحد منكم هذا القول الباطل، وقد أمر الله فيها نبيه أن ينكر عليهم ويُبَكِّتَهم فيقول:

{قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ} : فالهمزة للاستفهام الإنكاري التوبيخي، وأعلم: أفعل تفضيل، والتفضيل على سبيل الاستهزاء، إذ المقصود أنهم لا علم عندهم، والمعنى: أن ما زعمتوه هو على خلاف ما يعلمه الله: فأنتم تقولون: إنهم كانوا على يهوديتكم أو نصرانيتكم، والله يقول:

{يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ (1)} فكيف يكون على دينكم وأنتم بعده؟ والحق أنه كان حنيفًا مسلمًا، أي: على المباديء التي أقرها الإسلام، وأهمها: التوحيد، وعدم اتخاذ الولد.

ولذا صح أن يقول الله في شأنه {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (2)} .

(1) آل عمران: 65

(2)

آل عمران: 67

ص: 208

أي إن إبراهيم، لم يكن على طريقة اليهود والنصارى، في زعمهم: أن لله ولدًا، وغير ذلك من أكاذيبهم. ولمي كن على طريقة من أشرك بالله، بل كان حنيفًا مائلًا عن الباطل إلى سنة الإسلام من التوحيد ونظافة العقيدة، وأَبناؤُه الذين ذكرتموهم كانوا على دين أبيهم، فهل أنتم أعلم بديانتهم من الله؟

الله هو الذي يعلم. أما أنتم فتجادلون بالباطل.

{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ} .

الشهادة: هي شهادة الله: أن إبراهيم لم يكن يهوديًا ولا نصرانيًا، بل كان حنيفًا مسلمًا.

وقد شهد الله بذلك في كتابي اليهود والنصارى - التوراة والإنجيل - وهم يعلمون ذلك وقد كتموا الشهادة بذلك في جدلهم مع النبي صلى الله عليه وسلم وادعى كل من الطائفتين: أنه كان على دينه، فأنكر الله عليهم كتمان الحق الذي شهد به الله، فقال ما معناه: لا أحد أظلم ممن كتم شهادة ثابتة عنده في كتابه، منزلة من الله، حين زعم أن إبراهيم كان على دينه. مع ما فيه من شرك بالله. واتخاذ ولد له سبحانه، والحق أنه لم يكن كذلك بل كان حنيفًا مسلمًا، وما كان من المشركين.

وكما أنه لا أظلم ممن ادعى ذلك، فكذلك لا يساويه أحد في الظلم.

ويجوز أن تكون هذه الشهادة هي ما جاء عنه في القرآن: {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا

} الآية.

والمعنى: أن محمدًا أدى شهادة عنده - في القرآن من الله - عن إبراهيم بأنه لم يكن يهوديًا ولا نصرانيًا، بل كان حنيفًا مسلمًا، ولم يكن يسعه كتمانها فإنه لا أظلم ممن كتم شهادة عنده من الله، فلماذا كتمتموها ولم تؤَدوها كما أداها محمد صلى الله عليه وسلم؟ وعلى كل، ففي عموم الآية تعريض بكتمانهم شهادته تعالى بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم في كتابهم، وسائر شهاداته.

{وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} : الغافل: هو الذي لا يفطن للأمور. مأخوذ من قولهم: أرض غفل، أي: لا عَلَمَ بها، ولا أثر عمارة. والغفلة: السهو والإهمال.

ص: 209

والحكمة في اختيار طريق نفي الغفلة لإثبات عدم الترك: أن نفي نقيص الصفة أبلغ في إثباتها من الإثبات نفسه، لأنه يستلزم إثبات الصفة إلى جانب نفي النقيض، لأن في المقام للتهديد والوعيد.

والمعنى: أن الله مُحصٍ أعمالكم، محيط بها، لا تخفى عليه خافية. ولن يترك أُموركم دون عقوبة، وبخاصة إذا كانت بالغة السوء، ككتمان ما أنزل الله.

141 -

{تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ}

الأمة المشار إليها في الآية: إبراهيم وأبناؤه الرسل وقد وردت هذه الآية آنفًا: في ختام دحض مزاعم ومفتريات أهل الكتاب، وتكررت هنا، للمبالغة في تحذيرهم من تركهم لدين الإسلام الذي كُلفوا به، وادعائهم أنهم على دين آبائهم الأنبياء.

وكأن الآية تقول لهم: إن أمامكم دينًا دُعيتم إلى اتباعه، واقترنت دعوته بالحجة الواضحة. فانظروا في دلائل صحته وسمو حكمته، ولا تردوه بمجرد دعوى: أن آباءكم الأنبياء السابقين، كانوا على ما أنتم عليه الآن، فإن دعواكم هذه لا تفيد، ولو فرضنا تَسْلِيمَهَا لكم، فإن الشرائع تختلف باختلاف الأمم، فتلك أُمة مضت. لها عملها وفق شريعتها، وهذه أُمة أخرى: لها عملها حسب شريعتها، ولا تُسأَلون عن أعمال آبائكم وشريعتهم، بل عن أعمالكم أنتم، وفق شريعتكم التي شرعها الله لكم. وهي الإسلام، فلا تتمسكوا بشريعة كانت لمن قبلكم، بل تمسكوا بشريعة الإسلام التي نسخها، وقام الدليل على صحتها، وقد تعبدكم الله بها.

ص: 210

{سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (142)}

المفردات:

{السُّفَهَاءُ} : خفاف العقول، أو الجهلاء.

{مَا وَلَّاهُمْ} : ما صرفهم.

{صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} : طريق قويم، لا عوج فيه. والمراد به هنا: طريق الحق.

التفسير

142 -

{سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا

} الآية.

روى البخاري في صحيحه، عن البراء:"أن النبي صلى الله عليه وسلم كان أول ما قدم المدينة، صلى إلى بيت القدس ستة عشر شهرًا، أو سبعة عشر شهرًا، وكان يعجبه أن تكون قبلته قِبَلَ البيت، وأنه صلَّى أول صلاة صلاها (1) صلاة العصر، وصلى معه قوم، فخرج رجل ممن كان صلَّى معه، فمر على أهل مسجد وهم راكعون (2)، فقال: أشهد بالله، لقد صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم قِبَلَ مكة، فداروا كما قِبَلَ البيت".

وفي رواية ابن إسحاق، وغيره، عنه، زيادة: فأنزل الله - تعالى -: {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا

} الآية.

ذهب الإمام الزمخشري وغيره من المفسرين، إلى أن الله - سبحانه - أخبر بما سيقوله السفهاءُ قبل وقوعه، ليكون وقعه خفيفًا على قلوب المسلمين عند حدوثه، لأن مفاجأة المكروه

(1) أي جهة البيت، كما سيأتي.

(2)

أي في العصر.

ص: 211

أشد، والعلم به قبل وقوعه أبعد من الاضطراب إذا وقع، لما يتقدمه من توطين النفس، وأن الجواب العتيد (1) قبل الحاجة إليه أقطع للخصم، وأَردُّ لشغبه - وفي هذا أيضًا - إعجاز قرآني، للإخبار بالغيب قبل وقوعه.

وذهب القرطبي وغيره: إلى أن الفعل: {سَيَقُولُ} ، بمعنى: قال، وأن الآية الكريمة أوردت الماضي بصيغة المستقبل، دلالة على استمرار ذلك القول وتجدده.

والسفهاءُ المتسائلون عن تحويل القبلة هم اليهود، كما ذكر ابن عباس، أو المشركون كما ذكر الحسن، أو المنافقون، كما ذكر السُّدِّيّ ..

قال الراغب: ولا تنافي بين أقوالهم، فكلٌّ قد عابوا، وكلٌّ سفهاء.

وقد تناولت الآيات السابقة: أن أهل الكتاب سفهوا على ملة إبراهيم عليه السلام فإنهم علموا الحق، وكتموه {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ} (2) وجاءت هذه الآية الكريمة، لتذكر لونًا آخر من ألوان سفههم، وسَفَهِ من ماثلهم من المشركين والمنافقين.

والتعبير بقوله {السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ} للإيذان بأنهم انفردوا من بين الناس بالحمق والجهل. أما غيرهم من المؤمنين فقد كملهم الله بالعقل، فاطمأنوا لحكمة الله في تحويل القبلة.

مضمون الآية: أن الله - تعالى - سيستجيب لكم، ويوليكم قبلة ترضونها، وهي البيت الحرام، وسيقول السفهاء حينئذ: ما الذي جعل المسلمين يتجهون إلى البيت الحرام، وينصرفون عن بيت المقدس؟

وقد لَقَّن الله رسوله الإجابة على ذلك، بأن الله - تعالى - ليس محدودًا بمكان أو زمان فقال:{قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ} : ومن كان له المشرق والمغرب، فله الأرض كلها. فكل مكان منها مشرق عند قوم، مغرب عند آخرين، وإذا كانت الأرض كلها لله، فله - سبحانه - أن يختار منها ما يشاء، ليكون قبلة لكم، تتجهون إليها في العبادة.

(1) العتيد: المهيأ والمعد.

(2)

البقرة: 140.

ص: 212

إن قيل: ما الحكمة في تحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة، مع أن الله يقول:{قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ} ويقول: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} فلماذا لم تبق إلى بيت المقدس عملًا بالآيتين المذكورتين. فكما ينطبقان على الكعبة، ينطبقان على بيت المقدس وسواهما؟

فالجواب من نواح ثلاث:

الأولى: أن الحكمة فيه مذكورة في الآية التالية، في قوله تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ

} الآية، وسيأتي بيانها.

والثانية: أن الكعبة كانت قبلة لإبراهيم عليه السلام والنبي والمؤمنون أولى الناس باتباعه. قال تعالى: ِ {إنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا

} الآية (1).

والثالثة: أن في التحويل إليها تأليفًا لقلوب قريش ومشركي العرب: الذين يقدسون الكعبة، ويسوؤهم الانصراف عنها.

{يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} : أي يرشد مَن يشاءُ إرشاده إلى طريق مستقيم يوصل إلى سعادة الدارين. وقد هدانا إليه أولًا، حينما أمرنا باستقبال بيت المقدس: قبلة النبيين، ثم هدانا إليه آخرًا، حينما أمرنا باستقبال الكعبة، قبلة أبينا إبراهيم، وفي كلٍّ خير ورشاد.

{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (143)}

(1) آل عمران: 68.

ص: 213

المفرادات:

{وَسَطًا} : خيارًا عدولًا. فقد روى الترمذي: أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر في قوله تعالى: {أُمَّةً وَسَطًا} قال: الوسط: العدل. قال الترمذي: حديث حسن صحيح.

وفي التنزيل: {قَالَ أَوْسَطُهُمْ} (1): أي أَعْدَلهُم وخيرُهم. والصلاة الوسطى هي: الفضلى.

{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} العقب: مؤَخر الرجل، ومعنى (ينقلب على عقبيه): يرجع إلى الخلف، والمقصود أنه يرتد عن دينه.

التفسير

143 -

{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا

} الآية.

هذا خطاب من الله للمؤمنين، لتشريفهم بوصفهم بالعدالة، ليكونوا شهداء على الناس، بعدما وصف الكفار والمنافقين بالسفه والاستهزاء على تحويل القبلة. وبضدها تتميز الأشياء.

أي وكما هديناكم أيها المؤمنون إلى صراط مستقيم، بتوليتكم القبلة التي ترضونها، جعلناكم عدولًا أخيارًا، تضُمّون إلى الإيمان والعلم والعمل، فكنتم - بذلك - خير أُمة أُخرجت للناس.

{لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} بأن الرسل بلغوهم عن الله، ونصحوهم، ولم تَعُدْ لهم حجة على الله بعد مجيء الرسل، وإنما يشهدون بذلك وهم لم يروا شيئًا، لأنهم يشهدون اعتمادًا على شهادة القرآن، والقرآن كلام الله، فهم يشهدون بشهادة الله تعالى.

{وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} : بأن ما قلتموه هو الحق، لأن المصدر واحد للجميع، وهو كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.

وفي هذا المعنى يروي البخاري، عن أبي سعيد الخدري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يُدعَى نوح عليه السلام يوم القيامة، فيقول: لبيك وسعديك

(1) القلم:28.

ص: 214

يارب، فيقول: هل بلَّغت؟ فيقول: نعم، فيقال لأُمته: هل بلغكم؟ فيقولون: ما أتانا من نذير، فيقول: من يشهد لك؟ فيقول: محمد وأمته، فيشهدون أنه قد بلَّغ، ويكون الرسول عليكم شهيدًا، فذلك قوله عز وجل: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا

} الآية.

وقد جاءَ في رواية أحمد وغيره: أنه - تعالى - يستشهد أمة محمد على تبليغ سائر الأنبياء لأُممهم، ولا تقتصر شهادتهم على نوح: الذي ورد إفراده بالشهادة في رواية البخاري المذكورة.

(وعلَى) في قوله: {عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} بمعنى اللام، كما قاله القرطبي، أي ويكون الرسول لكم شهيدًا، أو للمشاكلة بين قوله:{لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} وقوله: {وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} .

ثم تحول الخطاب للأمة - من قوله - تعالى - لهم: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا

} الآية - إلى خطاب الرسول، بقوله - تعالى -:{وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ} . للإيذان بأن خطابه خطاب لهم، وأنه كان معهم فيما كانوا فيه من استقبال بيت المقدس: لم ينفرد عنهم.

والمعنى: وما جعلنا قبلتك الأولى - بيت المقدس - ثم حولناك عنها، إلى البيت الحرام، إلا لنميز من يتبعك - في كلتيهما - ممن ينصرف عن اتباعك، فإن اتباع الرسول - ولو كان فيما تكرهه النفس - من آثار الإيمان والتسليم لمن هو أعلم بالحكمة، وهو الله - تعالى - فالحكمة في تحويل القبلة: تمييز الصادق في الإيمان عن غيره.

وقد ظهر أثر ذلك بارتداء بعض أهل الكتاب الذين أسلموا عن الإيمان، بعد تحويل القبلة إلى الكعبة، وجعلوا يرجفون مع بعضهم قائلين:{مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا} . والله - سبحانه - يعلم ما كان وما يكون.

فالمراد بالعلم هنا: التمييز بالاتباع الفعلي.

ص: 215

والارتداد على العقبين، هو: الرجوع إلى الخلف، وهو تمثيل للارتداد عن الإسلام ومخالفة أمر الرسول صلى الله عليه وسلم لما في كليهما من أسوءِ حالات العود والارتداد.

{وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ

} الآية.

أي وإن كانت التولية إلى الكعبة لكبيرة، أي ثقيلة الوقع على النفوس، لما في مخالفة المألوف من مشقة. ولكن الأمر يسيرٌ على من هداهم لله، لأن القضية عندهم، قضية طاعة الله ورسوله، وليست الاستمساك بعادة مألوفة، أو تفضيل جهة على غيرها من الجهات. قال تعالى:{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} (1).

{وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} :

جاء في حديث رواه البخاري عن البراء بن عازب، قوله: وكان الذي مات على القبلة - قبل أن تحول إلى البيت - رجالا قتلوا، لم ندر ما نقول فيهم! فأنزل الله - عزل وجل - قوله:{وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} .

وأَخرج الترمذي عن ابن عباس قال: لما وجه النبي صلى الله عليه وسلم إلى الكعبة قالوا: يا رسول الله: كيف بإخواننا الذين ماتوا، وهم يضلون إلى بيت المقدس؟ فأنزل الله - تعالى -:{وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} قال الترمذي: حديث حسن صحيح. والمعنى: وما كان الله ليُضيع صلاتكم إلى بيت المقدس قبل نسخ التوجه إليه، بل سيثيبكم عليها، لأَنها كانت - حينئذ - إلى قبلة مشروعة.

وإذا لم ننظر إلى سبب النزول، كان المعنى: وما صح ولا استقام: أن الله - سبحانه - يُضيع إيمانكم وثباتكم على طاعة الله ورسوله، في الاتجاه - أولا - إلى بيت المقدس، ثم في الاتجاه - ثانيا - إلى البيت الحرام.

{إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ} : تعليل للجملة السابقة، مؤكد بإن واللام، يعني: أن الله - سبحانه - يشمل الناس برأفته ورحمته، وبخاصة عباده المؤمنين الطائعين، فلهذا لا يضيع إيمانهم.

(1) الأحزاب: 36.

ص: 216

والرأفة: نوع من الرحمة، تختص بدفع المكروه، وتخفيف النكبات والعقوبات. أما الرحمة: فتشمل هذا وغيره من أنواع التفضل والإنعام، وتعمُّ كلتاهما الإنسان والحيوان.

ولما كان دفع الضرر مقدمًا على جلب النفع، فلهذا سبق هنا ذكر الرأفة، كما ورد في قوله تعالى:{وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً .... } (1).

{قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (144)}

المفردات:

{تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ} : تردد وجهك، وتطلعك إلى السماء.

{شَطْرَ} : جهة، وناحية.

{وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ} : في أي مكان وُجدتم.

{فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا} : أي فلنمكننك من استقبالها، من قولك: وليته كذا إذا صيَّرته واليًا له، أو لنحولنَّك إليها.

{فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} : أي فاصرفه نحوه.

التفسير

144 -

{قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ

} الآية.

المعنى: قد رأيناك تتجه بوجهك إلى السماء دائمًا، تصرفه في أرجائها، مرددًا بصرك في ضراعةٍ، ورجاء تطلعًا للوحي، بتحويل القبلة إلى الكعبة.

(1) الحديد: 27.

ص: 217

و (قَدْ) هنا للتحقيق، وعبر بالمضارع:(نَرَى): استحضارًا للصورة الماضية، أو إيذانًا بتعدد الرؤية، حسب تجدد تقلب وجهه صلى الله عليه وسلم.

{فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا} : استجبنا لرجائك، فلنحولنَّك إلى القبلة التي تحبُّها وهي الكعبة. والتأكيد باللام والنون، يفيد أنَّ هذا الوعد الكريم لابد من حصوله.

وارتضاء النبي للقبلة: حُبّه لها، لمقاصد دينية وافقت مشيئة الله وحكمته.

والتعبير عن الوعد بتحويل القبلة بهذا الأسلوب، فيه من تكريم النبي صلى الله عليه وسلم ما لا غاية وراءه. وقد عقب الوعد بالتنجيز، فقال:

{فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} : أي فاصرفه نحوه لوجود الكعبة فيه. والمراد بالحرام: المحرَّم، لأن القتال فيه محرم.

والتعبير عن الكعبة بالمسجد الحرام: إشارةٌ إلى أنَّ الواجب هو مراعاة الجهة.

روى ابن ماجة، والحاكم والدارقطني، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنَّه قال:"ما بين المشرق والمغرب قبلة".

وروى البيهقي، أنه عليه الصلاة والسلام قال: "البيت قبلة المسجد. والمسجد قبلة لأهل الحرم. والحرم قبلة لأهل الأرض في مشارقها ومغاربها من أُمتي).

{وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} : توجيه الأمر للأمة بعد توجيهه للنبي صلى الله عليه وسلم لئلا يلتبس الحكم على المسلمين، فيظنوا أنَّ الأمر خاص به وحده عليه السلام أي وفي أي مكانٍ من الأرض وجدتم، فاصرفوا وجوهكم في الصلاة نحو المسجد الحرام.

وفي الآية إشعار بانتشار الإسلام في بقاع الأرض، وأن المسلمين سيفتح الله عليهم البلاد، وأن عليهم - حيثما كانوا - أن يتجهوا في صلاتهم نحو المسجد الحرام.

{وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ} : المقصود بالذين أُتوا الكتاب هنا: الذين اعترضوا وشنعوا على المؤمنين حينما انصرفوا عن استقبال بيت

ص: 218

المقدس قبلتهم إلى استقبال الكعبة، كما مرَّ في سبب النزول، وهم الذين نزل فيهم الوعيد الآتي.

والمعنى: وإن الذين أُتوا الكتاب، وأّثاروا الفتنة في شأن تحويل القبلة، ليعلمون يقينًا أّنَّ تحويلَها هو الحق من ربهم، وأنه منزل من الله، فما بالهم يثيرون الفتنة بشأنه؟ فهم يعلمون من كتبهم: أَنَّ لكل دين قِبْلةً، وأنك صادق لا تنطق إلا بالحق الذي يصدر عن ربهم. وكما يعلم اليهود ذلك من كتابهم، يعلمه النصارى من كتابهم أيضًا.

والآية مؤَكدة بعدة مؤَكدات، هي: إنَّ وأَنَّ واللام، وذكر الحق ونسبته إلى الرب - سبحانه - لتقرير أنه وحي من الله.

{وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ} : أي أن الله لا يخفى عليه ما يدبره أهلُ الكتاب، من الكيد للإسلام، وسيحاسبهم عليه حسابًا عسيرًا، لأنهم يعلمون الحق، ويكتمون ما يعلمون هذا، وفي قراءَةٍ (تَعْمَلُونَ). والخطاب للمسلمين الذين يستمعون إلى أقوالهم ويتأثرون بها، فيكون - على كلا المعنيين - إنذارًا من الله للمحرِّفين والمنحرفين.

ومن هذا يُسْتَنْبَط: أَنَّ الإصغاءَ للأَراجيفِ والشائعاتِ الضارة، لا يحل للمسلمين.

{وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (145)}

المفردات:

{آيَةٍ} : الآية: المعجزة، أو الدليل القطعي.

ص: 219

التفسير

145 -

{وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ

} الآية.

المقصود من أهل الكتاب هنا: من شنع في أمر القبلة، وهم اليهود سكان المدينة وأَضرابهم، وكذا من لم يشنع، وهم النصارى إذ لم يشتركوا معهم في الفتنة، لأنهم لم يكونوا من سكان المدينة، لا وقت التحويل ولا بعده، فهم جميعًا لا يتبعون قبلة الرسول ولو جاءَهم بكل آية. والتعبير عنهم جميعًا بأَهل الكتاب تلميحًا بلومهم، وإيذانًا بأَنه ينبغي لهم - وهم أهلُ كتابٍ سماوي - أن يعملوا بنصوصهِ، ولا يحرِّفوها أو يسيئوا تأويلها.

واللام في "ولئن": للتوكيد.

والمعنى: ولئن جئت يا محمد أهل الكتاب بكل حجة دالة على مشروعية التحويل، ما استجابوا لك، فلا تعلق آمالك باجتذابهم إليك، لأن ترك اتباعك ليس عن شبهة تزيلها بحجة، بل هو مكابرة وعناد، على الرغم من علمهم بأنك على الحق.

{وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ} : ولست أنت بمتبع قبلتهم بعدما جاءّك من الوحي، لأنك على الحق المبين، وهو حسم لأطماعهم في يذلك، ولن يتبع بعضهم قبلة بعض، فلا اليهود متجهون إلى قبلة النصارى، وهي المشرق، ولا النصارى متجهون إلى بيت المقدس، قبلة اليهود، مع أن المسيحية امتداد لليهودية، لتمسك كل فريق بقبلته، فكيف يعيبون على المسلمين انفرادهم عنهم بالقبلة، وهي حق من عند الله؟!

{وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ} .

المعنى: ولئن اتبعت اليهود يا محمد في شان القبلة وغيرها، من بعد ما جاءَك من وحي الله المفيد للعلم واليقين، فإنك حينئذ من الظالمين، بترك علم الله إلى هوى هؤلاءُ المبطلين.

والخطاب وإن كان للنبي عليه الصلاة والسلام فهو لأُمته عامة، تحذيرًا لهم، كما في قوله تعالى:{وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} (1)، وما أجدر المسلمين أن

(1) ص: 26.

ص: 220

يتدبروا هذه الآية الكريمة. فقد أصبح الهوى عند معظم الناس الآن إلها معبودًا، حتى قاد بعضهم إلى سوء استخدام العلم، فأمسى يهدد الإنسانية ومدنيتها وحضارتها بالفناء والانتهاء. فهؤلاء أضلهم الله على علم، على حد قوله تعالى:{أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ} (1).

{الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (146) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (147)}

المفردات:

(الممترين): الشاكِّين.

التفسير

146 -

{الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ

} الآية.

الذي عليه جمهور المفسرين: أن الهاء في {يَعْرِفُونَ} مراد به النبي صلى الله عليه وسلم وكنى به عنه عليه السلام تفخيمًا لشأنه وإشعارًا بأَنه في غير حاجة إلى تعريف، لأنه عُرف في كتبهم بالنبيّ الأُمي، كما قال تعالى:{الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ (2)} .

كما عُرف فيها بصفات أُخرى تحققت فيه.

وذَكَرَ الأبناء لأنهم ألص بآبائهم، فهم وآباؤُهم أكثر خبرة ودراية بهم، واستيثاقًا من نسبهم بحكم الفطرة.

(1) الجاثية: 23.

(2)

الأعراف: 157.

ص: 221

فالآية تقرر: أن أَهل الكتاب - وهم اليهود والنصارى - يعرفون أَن محمدًا رسول الله، معرفة حقيقية، كمعرفة الآباء بالأبناء.

قال عمر لعبد الله بن سلام، وكان من أحبار اليهود قبل إسلامه:"أتعرف محمدًا صلى الله عليه وسلم كما تعرف ابنك؟. قال: نعم، وأكثر. لقد بعث الله أمينه في سمائه إلى أمينه في أرضه بنعته، فعرفته. أما ابني فلا أدري ما كان من أمر أُمه. فقبَّل عمر رأسه".

{وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} : فالبشارة به صلى الله عليه وسلم كانت موجودة بوضوح في التوراة والإنجيل. وعلماء اليهود والنصارى يعرفونها حقًا، ولكنهم ينكرونها لمرض نفوسهم، إلا من عصمه الله منهم فآمن.

ونحن نعلم أنهم حرفوا الكتابين، وقاموا بطمس ما يتعلق بالنبي صلى الله عليه وسلم لتبقى فيهم السلطة الدينية.

ولكن إنجيل "برنابا" سلم من أيديهم، وظل قرونًا مدفونًا في خزائنهم، حتى عثر عليه أخيرًا في مكتبة الفاتيكان بروما، وتسرب إلى العالم، فارتاعوا، لأنه يفضح أكاذيبهم، فأعلنت الكنيسة أنها لا تعترف به إنجيلًا، مع أنه من أقدم أناجيلهم وأقربها إلى الصحة، لأنه كُتب في القرن الأول الميلادي، ونصوصه ناطقة صريحة بأوصاف النبي صلى الله عليه وسلم وأهداف رسالته.

وقد جاء في الإصحاح الثاني والسبعين منه على لسان المسيح عليه السلام: "إنني قد أَتيت لأُهيئَ الطريق لرسول الله الذي سيأتي بقوة عظيمة على الفُجَّار، ويبيد عبادة الأصنام من العالم". ثم قال: "وسينتقم من الذين يقولون: إني أكبر من إنسان .. وسيجيءُ بحقٍّ أَجلْى من سائر الأنبياء .. وسيمتدُّ دينه، ويعمّ العالم".

وجاء في الإصحاح السابع والستين منه: "تعزيتي هي في مجيء الرسول الذي سيبيد كل رأي كاذب فيّ، وسيمتد دينه، ويعم العالم بأسره .. ولا نهاية لدينه، لأن الله سيحفظه صحيحًا".

وفي الإصحاح العشرين بعد المائتين: "يظن كل شخص أني صُلبْتُ، لكن هذه الإهانة والاستهزاء تبقيان إلى أن يجيء محمد رسول الله، فإذا جاءَ في الدنيا، ينبه كل مؤْمن إلى هذا الغلط، وترتفع هذه الشبهة من قلوب الناس".

ص: 222

والأناجيل التي يعترفون بها، والتوراة التي بين أيدينا الآن، بقيت فيها إشارات عدة (1) ترمز إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقد عني بها كثير من الباحثين، وفي طليعتهم العلامة: رحمة الله الهندي، في كتابه:"إظهار الحق". فارجع إليه إن شئت.

وذكرت الآية الذين يكتمون الحق وهم يعلمونه، ويستلزم هذا أن هناك فريقًا آخر، يعلم الحق ويعلنه ويؤْمن به ويؤَيده. ومن هذا الفريق: الصحابي الجليل عبد الله بن سلام، الذي كان من أحبار اليهود وأسلم، ونزل فيه قول الله تعالى:{وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ} (2).

ومن أحبار اليهود والنصارى الذين عرفوا الصفات النبوية فآمنوا: زيد بن سعنة وتميم الداري، والجارود بن عبد الله، وإدريس بن سمعان. ولإسلام كل من هؤُلاء قصة لا يتسع المقام لذكرها، وإسلامهم جميعًا يستند إلى صفات الرسول في التوراة والإنجيل.

147 -

{الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} .

الامتراءُ: إما بمعنى الجدل أو بمعنى الشك، فإن كان بمعنى الجدل، فالغرض من الآية وصفُ أهل الكتاب بأنهم قوم عادتهم الجدل، دون أن يهدفوا إلى الحق، وأمر الرسول بمجانبتهم وألَاّ يجاريهم في جدلهم.

والمعنى في هذا: الحق نزل عليك يا محمد من ربك، وهؤلاء قوم عادتهم الجدل بدون طائل، فاتركهم ولا تكونن من المجادلين مع قوم هذا خلقهم، فلا فائدة تُرجى ممن عميت قلوبهم.

وإن كان الامتراءُ بمعنى الشك: فالخطاب فيه لكل مكلفٍ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لا يتصور منه الشك ولا يليق به، فإنه لم يقم بدعوته إلا على بينة من ربه {مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى. وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى. إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى. عَلَّمَهُ شَدِيدُ} " {مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى. لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} (3).

(1) من أمثلة هذه الإشارات: سفر التثنية: 18/ 18، 23/ 2. والمزامير إصحاح: 45 حيث أورد في صفحة 17 مطابقة للرسول صلى الله عليه وسلم وإنجيل متى 4/ 17، 6/ 10، 13/ 24، وإنجيل يوحنا (راجع تفسير المنار جـ 9 ص 240 - 283).

(2)

الأحقاف: 10

(3)

أوائل سورة النجم.

ص: 223

والشاك لا يستطيع أن يمضي فيما يشك فيه، فضلًا عن أنه يلاقي الصعاب في سبيله، ولا يستطيع أن يقول ما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم:"والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري، على أن هذا الأمرَ، ما تركته حتى يُظهرَه الله، أو أَهْلِكَ دونه".

والمعنى على هذا: الحق نزل عليك يا محمد من ربك، فلا تكونن أيها المكلف، من الشاكين في ذلك، ودع ما يقوله الأَفَّاكون من أهل الكتاب، واكتسب المعارف التي تعصمك منه.

{وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (148)}

المفردات:

{وِجْهَةٌ} : جهة.

{مُوَلِّيهَا} : متجه إليها.

{فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} : فاطلبوا السبق إليها.

التفسير

148 -

{وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ

} الآية.

ولكل فرد أو قوم، جهة وقبلة هو موليها وَجْههُ في الخيرات وغيرها. وكثير من الشعوب يتسابقون في سبيل دنياهم، دون رقابة من الضمير الديني، حتى كادت المدينة الحديثة تدمر العالم تدميرًا، أما أنتم - معشر المسلمين - فعليكم أن تتجهوا إلى الخير النافع في الدنيا والآخرة، لكم ولغيركم، وأن تسبِقوا سواكم إليه، فهذا صراط الله المستقيم، فاتبعوه {وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} . (1)

(1) الأنعام: 153.

ص: 224

وهكذا يقرر الإسلام الرقابة الدينية على التصرفات البشرية، حتى لا ينحرف الناس عن جادة الصواب.

{أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} : هذا تحذير من الانحراف في الاستباق في الحياة الدنيا، يعني أن الله - تعالى - مالك أمركم جميعًا وإليه مرجعكم، فأينما كنتم فوق الأرض، أو في بطنها، أو بين طبقات الفضاء يأت بكم الله إليه جميعًا، بأن يقبضَ أرواحكم، ويحشركم إلى حسابه وجزائه:{وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ} (1). فقدوته عظيمة، وعلمه محيط بكل شيءِ.

{وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (149) وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (150)}

التفسير

149 -

{وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ

} الآية.

ناقشت الآية السابقة السفهاء من الناس، الذين أشاعوا الأَراجيف عند تحويل القبلة، وأفحمتهم بالدليل القاطع، وأَثبتت أن أهل الكتاب - وهم أصحاب الثقافة الدينية في ذلك العصر - يعرفون أن الحق في استقبال الكعبة، كما يعرفون أبناءَهم، ولكنهم ينكرونه مع أنه قبلة جدهم إبراهيم الذي يُشَرِّفون أنفسهم بالانتساب إليه.

(1) العنكبوت: 22.

ص: 225

وقد عقب الله ذلك بأمر الرسول بالاتجاه في صلاته إلى البيت الحرام، سواءٌ أكان بالمدينة، أم كان خارجها، تعميمًا لاستقبالها في أي مكان.

وأَمرُ الرسول أمر لأُمّتِه. فهو إمامهم {وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} أي: وإن الاتجاه إلى المسجد الحرام في أي مكان، لهو الأَمر الثابت الموافق للحكمة، المنزل عليك من ربك: الذي وَالَاكَ بفضْلهِ وإحسانه. فلا تعْدِل عن استقبال القبلة التي شرعها لك، فإنه مُطَّلع على عملك، وعلى أعمال عباده جميعًا، فيجازيهم حسبما عملوا.

وفي نسبة إلى (ربك): إيذان بصدقه صلى الله عليه وسلم فيما جاءَ به وأنه - تعالى - يحفظه من مؤَامرات أعدائه، ويعاقبهم عليها.

وختم الآية بقوله: {وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} . لوعد المطيع، ووعيد العاصي.

150 -

{وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ

} الآية.

أمر الله رسوله بالتوجه إلى المسجد الحرام، ثلاث مرات:

الأولى في قوله:

{فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} .

والثانية في قوله:

{وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ} .

والثالثة في قوله:

{وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} .

وحكمة هذا التكرير: أن القبلة لها شأن خطيرٌ. والنسخ من مظان الشبهة والفتنة فلذا أكد أمرها مرة بعد أُخرى. مع أنه قد ذكر في كل مرة حكمة جديدة.

ذكره أبو السعود.

ص: 226

وقال القرطبي - نقلا عن غيره في تعليل التكرار -: إن موقع التحويل كان معنتًا في نفوسهم جدًا، فأَكد الأَمر، ليرى الناس الاهتمام به، فيخف عليهم، وتسكن نفوسهم إليه.

ويمكن حمل التكرار على أن الآية الأُولى: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} ، لتشريع تحويل القِبْلَة من بيت المقدس إلى الكعبة، وقوله بعد ذلك:

{وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} لتشريع الاتجاه إليها في الأسفار، وقوله:{وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} لتشريع الاتجاه إليها من المقيمين في بقاع الأرض المختلفة.

وعلل الأمر باتجاههم إلى الكعبة في كل مكان يصلون فيه، بقوله:

{لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا} .

فَأَهل الكتاب يعلمون من كتابهم: أن اتجاهكم إلى الكعبة حق. فإذا اتجهتم إليها لم يكن عليكم أي دليل ينقص من عملكم، فهي قِبْلَةُ أبيهم إبراهيم، وإن لم يعجبهم انصرافكم عن قبلتهم.

والمشركون سيعلمون - بهذا الاتجاه - أنكم ورثة ملَّة أبيكم إبراهيم وقبلته، وكانوا يعترضون عليكم، بمخالفة قبلته، والآن: سقط هذا الاعتراض.

أما الظالمون المعاندون: فلا حيلة لكم معهم. فهؤلاء يقولون: ما تحوَّلَ إلى الكعبة إلا ميلًا إلى دين قومه، وحبًا لبلده. أو بدا له فرجع إلى قبلة آبائه. ويوشك أن يرجع إلى دينهم، وتسمية هذه الكلمة الشنعاء (حُجَّة) - مع أنها أفحش الأباطيل - من قبيل قوله تعالى: " {حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ} (1) حيث كانوا يسوقونها مساق الحُجَّةِ.

{فَلَا تَخْشَوْهُمْ} : فإن مطاعنهم ل تضركم.

{وَاخْشَوْنِي} : فلا تخالفوا أمري.

{وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} :

(1) الشورى: 16.

ص: 227

أي: وأمرتكم بذلك، لأُتِمَّ نعمتي عليكم، ولعلكم تهتدون بامتثال ما أمرتكم به إلى سعادة الدارين.

ومن تمام نعمة الله على المسلمين: تطهير البيت الحرام من الأصنام، وتطهير الجزيرة العربية كلها منها، وقد تم هذا في آخر حياة الرسول عليه السلام فحقق الله وعده ونصر جنده، وهزم الأحزاب وحده.

وقد تحققت للمسلمين البُشْرَيَاتُ الثلاث، التي أشارت إليها الآية الكريمة: قطع ألسنة السفهاء، وإتمام النعمة بإكمال الأمن، وتعميم الهداية ونشرها بين الأُمم والشعوب.

قال تعالى: " {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا

} (1) الآية.

{كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (151)}

المفردات:

{يُزَكِّيكُمْ} : يطهركم.

{الْكِتَابَ} : القرآن الكريم.

{الْحِكْمَةَ} : السنة النبوية، أو ملكة عقلية للتمييز بين الحق وغيره.

التفسير

151 -

{كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا

} الآية.

الخطاب للعرب، و {كَمَا أَرْسَلْنَا} متعلق بقوله:{وَلِأُتِمَّ} .

والمعنى: ولأُتم نعمتي عليكم بما سبق من جعلكم أمة وسطًا، وكونكم شهداء على الناس، واستقبالكم الكعبة قبلَةَ أبيكم إبراهيم، كما أرسلنا فيكم رسولًا منكم، أي عربيًا

(1) المائدة: 3.

ص: 228

مثلكم، وأنزلت عليه كتابًا سماويًا معجزًا، محفوظًا من التحريف والتبديل، يتلوه عليكم فيخرجكم به من الظلمات إلى النور.

{وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ} .

ويُطَهِّر نفوسكم، ويمحصها لله بوعظه وإرشاده، حتى يكون عملكم خالصًا، لوجه الله - تعالى - وتتلاقى القلوبُ على محبة ورضوان من الله، وتكونوا - دائمًا - في نصرة دين الله، ويعلمكم كتاب الله وما فيه: من أُصول التوحيد، وشعائر الدين، ومناهج الخُلُقِ الفاضل ليكون كل ذلك دستورًا لكم، ويعلمكم الحكمة، وهي: سنة الرسول صلى الله عليه وسلم كما قال الإمام الشافعي.

ومن معاني الحكمة: إصابة الحق والصواب.

وما من شك في أن فهم القرآن والسنة والعمل بهما، يُنَمِّي في المؤمن موهبة الحكمة التي تهديه إلى الصواب، فيما يتعرض له من مشكلات.

{وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا} (1)

والمؤمن البصير، يدرك الصواب بنور الله:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا} (2).

{فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ (152)}

التفسير

152 -

{فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ

} الآية.

فاذكروني بالطاعة واللسان، أذكركم بالثواب وبالثناء في الملإِ الأعلى. وإن نعم الله المتوالية عليكم: تستدعي أن تلهج ألسنتكم بذكر الله - تعالى - وتنفعل جوارحكم بطاعته.

(1) البقرة: 269.

(2)

الأنفال: 29.

ص: 229

ومن كرمه - تعالى - إكرامه الذين يذكرونه: بذكره إياهم.

عن أبي هريرة - رضى الله عنه - عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث قدسي عن الله - عزل وجل -:

يقول الله تعالى: "أنا عند ظن عبدي بي، وأنا مَعَهُ حين يذكرني. فإن ذكرني في نفسِه، ذكرتُهُ في نفسي، وإن ذكرني في ملإٍ، ذكرته في ملإٍ خيرٍ منه"(1).

والذكر من العبد: يكون بالأقوال والأفعال الخالصة، ومن الرب: بحسن المكافأة.

{وَاشْكُرُوا لِي} أي: اشكروا نعمي عليكم. ومن أجَلِّها أنني أرسلت فيكم رسولًا منكم يزكيكم، ويعلمكم، ويهديكم إلى الله.

وشكر المُنعم واجب.

والشكر يكون: بتوجيه الجوارح إلى ما خلقها الله له، وبذلك المال فيما أباحه وندب إليه، ونشر العلم فيما ينفع، لوجه الله - تعالى - فشكر العالم: نشر العلم، وشكر القوي: مساندة الضعيف، وشكر الغني: الصدقة، وشكر الحاكم: العدل والتواضع. وهكذا.

وقد وعد الله الشاكرين بموالاة نعمه عليهم: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ} (2).

{وَلَا تَكْفُرُونِ} أي: ولا تكفروا نعمي بجحدها أو منع زكاتها، أو ترك طاعة الله شكرًا له عليها، فإن العقاب على ذلك شديد.

وقد أعطى الله قارون المال الوفير، فلما ادَّعَى أنه ناله بجهوده وعلمه، و {قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي} (3) خسف الله به وبداره الأرض. ولما أعطى الله - سبحانه - سليمان عليه السلام ملكه الواسع، قال:{هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ} (4) فشكر الله، فَحَفِظَ عليهِ نعمتَه.

(1) رواه الشيخان والترمذي.

(2)

إبراهيم: 7

(3)

القصص: 78

(4)

النمل: 40

ص: 230

{وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ (45)}

المفردات:

(الصَّبْر): ضبط النفس، وقوة الاحتمال.

التفسير

153 -

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ

} الآية.

يُعِدُّ الله المسلمين لما سيواجهونه من الفتن والمحن والحروب، ويدربهم تدريبًا نفسيًا على ملاقاة الشدائد، واحتمال الأهوال، فيأمرهم سبحانه وتعالى، أن يستعينوا على خوض غمار الأحداث والمحن بسلاحين رئيسيين، هما: الصبر والصلاة.

أما الصبر، فيكون برياضة النفس على احتمال المكاره، وقمع الشهوات، وملاقاة النكبات، مع التسليم لله بقضائه، وانتظار فرجه، والرضا بحكمه.

وبعض المفسرين يقسم الصبر إلى ثلاثة أنواع: صبر على ترك المحارم، وصبر على فعل الطاعات، وصبر على المكاره والنوازل.

ومن أهم مواطن الصبر: الصبر عند لقاء العدو جهادًا في سبيل الله.

ولهذان كان ثواب الصابرين غير محدود: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} (1).

ولأهمية الصبر: ورد ذكره في القرآن، في نحو سبعين موضعًا، وأورد ابن القيم الجوزية في كتابه:"عدة الصابرين" أكثر من عشرين فضيلة للصبر.

وأما الصلاة: فهي: أُم العبادات، ومعراج المؤمنين إلى منازل الصالحين. واستغراق المؤمن فيها، علاج لما قد يتعرض له من أخطار الحياة، لأَن المؤمن الذي يستعين فيها بالله

(1) الزمر: 10

ص: 231

- تعالى - على شدائده، لا يتخلى عنه سبحانه، بل يعينه على الخلاص منها، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة.

ثم أكد نتيجة الاستعانة بذلك، فقال:{إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} أي: يمنحهم السكينة والعزاء والعوض، والمدد الذي يعين على الثبات والخروج من المآزق، ولم يقل إن الله مع الصابرين والمصلين، لأن الصلاة تجعل المصلي مع الله - تعالى - وإذا كان المصلي مع الله، فالله معه مثلما هو مع الصابر، كما أن الصلاة نوع من الصبر.

وليس الصبر بلادة في الإحساس، واستسلامًا للنوازل، وإنما هو: ثبات على مكافحة البلاءِ.

{وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ (154)} .

التفسير

154 -

{وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ

} الآية.

إن الحياة الدنيا ليست نهاية المطاف، بل بعدها مرحلة القبر، ثم البعث، ثم الحساب ثم الجنة أو النار.

والشهداء في قبورهم أحياءٌ حياة كريمة، وإن كانت غير مشاهدة، فلهذا نهى الله الناس عن أن يقولوا: إنهم أموات، وقرر أنهم أحياءٌ فقال:

{بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ} .

أي: بل هم أحياءٌ: حياة مؤكدة، وإن لم نشعر بها، لأننا لا ندرك مما يحيط بنا إلا القليل. وحياة الشهداء مصحوبة بالرزق. قال تعالى:

ص: 232

{أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ. فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} (1).

فهم أحياءٌ ممتعون برزق ربهم، وهم به فرحون، ويستبشرون بما يقدمه إخوانهم من الجهاد في سبيل الله وما ينتظرهم من ثوابه الجزيل، ولكن كنه هذه الحياة، علمه عند الله.

وقد أنبأنا النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه مسلم: "إن أرواح الشهداء في حواصل طيور خضر، تسرح في الجنة كيف شاءَت

الخ". وكل ما نعلمه فيما عدا ذلك: أن الشهداء في حياة خير مما نحن فيه.

وذكر حالة الشهداء بعد الحض على الصبر، لأَنها من ثمراته الطيبات.

{وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156)}

المفردات:

{وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ} البلاء: الاختبار.

التفسير

155 -

156 - {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ

} الآية.

اقتضت حكمة الله تعالى أن تكون هذه الدنيا دار ابتلاء وتمحيص، {لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ} (2)

(1) آل عمران: من آية: 169 وآية: 170.

(2)

الأنفال: 42.

ص: 233

والإيمان درجات: فمن الناس " {مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ} (1)، {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ} (2)، {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ} (3).

والله - سبحانه - ليس في حاجة إلى أن يختبر عباده، ولكنه اختبرهم ليقيم عليهم الحجة:{أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ} (4).

وسنة الله تجري على خلقه أجمعين، حتى الأنبياء.

روى البخاري والترمذي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أشد الناس بلاءً: الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل". وخرَّج مسلم، عن أبي سعيد وأبي هريرة - رضى الله عنهما - أنهما سمعا من رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله:"ما يُصيب المؤمن مِنْ وَصَبٍ ولا نَصَبٍ، وَلَا سَقَمٍ، ولا حَزَنٍ، حتى الهَمّ يهمه، إلا كُفِّرَ به من سيئاته".

وقد أعدَّ الله المسلمين لحمل رسالتهم الكبرى إلى العالم، فأمرهم بالصبر والجهاد، حتى تعلو كلمة الله، وأنبأهم بأنهم سيتعرضون لشيءٍ من الخوف، وهو غير الجبن، إذ هو: غريزة توقظ في صاحبها التوقِّي من الأخطار.

وقد حدث الخوف للمسلمين في غزوة الخندق وحُنين، وأنبأَهم - سبحانه - أنهم سيتعرضون لشيءٍ من الجوع، فقد كان صلوات الله وسلامه عليه، يربط على بطنه من الجوع.

وقالت عائشة - رضوان الله عليها -: "لقد مات رسول الله صلى الله عليه وسلم وما شبع من خبز وزيت في يوم واحد مرتين" رواه مسلم.

وكان عليه الصلاة والسلام: يغزو مع أصحابه أحيانًا، وليس لهم طعام إلا ورق الشجر، أو ثمرات يتبلغ بها الواحد منهم.

(1) الحج: 61.

(2)

العنكبوت: 10.

(3)

البقرة: 207.

(4)

العنكبوت: 2.

ص: 234

كما أنبأهم - جل شأنه - أنهم سيتعرضون لنقص من الأموال، كما حدث لهم في أُحُد وتَبُوك، ولفقد الأنفس، كما حصل لهم في أُحُد ومُؤتة، ولنقص الثمرات، كما حدث في عام الرَّمادة.

ومعنى الابتلاء من الله: أن يعاملهم معاملة المختبر - وهو العالم بحالهم - ليتميز الصابر المجاهد المحتمل، من الضعيف في دينه ونفسه، وفق ما علمه الله منه أزلا، فيجازى كل منهما على ما عمله، لا على ما علمه الله منه.

والخوف: يكون من إزعاج أعدائهم لهم وإرهابهم إياهم، أو من توقع المكاره في النفس أو المال أو الولد.

والجوع: يكون من قلة الموارد، ونحو ذلك.

ونقص الأموال: بقلة الكسب والخسارة في التجارة ونحوها.

ونقص الأنفس: بالقتل أو الموت.

ونقص الثمرات: بنحو الآفات.

وقد أردف الله تأكيد الابتلاء بذلك، بالحث على الصبر وبيان عاقبته، فقال:

{وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ. الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} .

الخطاب في قوله {بَشِّرِ} : للنبي صلى الله عليه وسلم أو لكل من يستطيع التبشير.

والمصيبة: المكروه الذي يؤلم. وليس الصبر هو: الاسترجاع باللسان وحده، بل بالقلب معه، بأن يتذكر أن نعم الله عليه كثيرة، وأن ما أبقاه الله له، أضعاف ما استرده منه، فيهون المصاب بذلك على نفسه، ويستسلم، فذلك هو المقصود بقوله:{إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} ، لا مجرد الاقتصار على النطق:{إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} ، وإن كان ثواب هذا القول عظيمًا.

قال صلى الله عليه وسلم: "ما من عبد تصيبه مصيبة فيقول: {إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} اللهم آجرني، إلا آجره الله - تعالى - في مصيبته، وأخلف له خيرًا منها

" إلخ. أخرجه مسلم.

ص: 235

وإطلاق البشرى - بدون تقييد - يشير: إلى أن ثواب الصابرين الذين يقولون ذلك، لا يحيط به الوصف.

ويجوز أن يكون المُبَشّرُ به، هو ما دلت عليه الآية التالية من أن: عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأنهم مهتدون، فما أعظمها بشارة.

{أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (157)}

المفردات:

{صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ} : الصلاة من الله: الرأفة والمغفرة.

التفسير

157 -

{أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ

} الآية.

هذا هو جزاء الصابرين الذين يُبَشَّرُونَ به، وهو: أن لهم من ربهم ثلاث بشريات.

الأُولى: صلوات الله عليهم. وذُكِرَت بصيغة الجمع للتكثير. وصلاة الله عليهم، هي مغفرته لهم، ورأفته بهم.

والثانية: رحمته، بإزالة آثار المصيبة، أو تعويضهم بما ينعم به عليهم، من جلب نفع أو دفع ضر.

والبشرى الثالثة: جاءت في قوله تعالى:

(وأولئك هم المهتدون) إلى مطالبهم الدنيوية والأُخروية، فإن من نال رأفة الله ورحمته، لم يفته مطلب.

ص: 236

وقد جمع في البشارة بين الصلاة - وهي هنا بمعنى الرأفة - وبين الرحمة - وهي شاملة للرأفة - للمبالغة، كما في قوله تعالى:{رَأْفَةً وَرَحْمَةً (1)} ، وقوله:{رَءُوفٌ رَحِيمٌ (2)} .

{إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ (158)}

المفردات:

{الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ} : هضبتان ملحقتان حاليًا بالمسجد الحرام: يسعى بينهما الحاج والمعتمر.

{مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} : من علامات دين الله في الحج والعمرة. والشعائر: لغة: جمع شعيرة، وهي العلامة.

{فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ} : أي قصد الكعبة لأداء المناسك في موسم الحج.

والحج لغة: القصد، وشرعًا: قصد الكعبة للنُّسُك المشتمل على الوقوف بعرفة، في زمن مخصوص.

{أَوِ اعْتَمَرَ} : أي زار الكعبة لنسك العمرة، وهي كالحج، فيما عدا الوقوف بعرفة وأنها لا تختص بزمان. والاعتمار في اللغة: الزيارة مطلقًا، كالعمرة.

{فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} : فلا إثم عليه في أن يسعى بينهما.

{وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا} : أي ومن زاد خيرًا على ما طُلب منه.

التفسير

158 -

{إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ

} الآية.

(1) الحديد: 27.

(2)

الحشر: 10.

ص: 237

روى البخاري عن عاصم بن سليمان قال: "سألت أنس بن مالك، عن الصفا والمروة، فقال: كنا نرى أنهما من أمر الجاهلية، فلما كان الإسلام أمسكنا عنهما" فأنزل الله عز وجل: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} .

وفي رواية الترمذي، عن أنس، أنهما:"كانا من شعائر الجاهلية".

ويشرح الشعبي أمرهما في الجاهلية، فيقول:"كان على الصفا في الجاهلية صنم يُسمى: إسافًا، وعلى المروة صنم، يُسمى: نائلة، فكانوا يمسحونهما، إذا طافوا، فامتنع المسلمون عن الطواف بهما من أجل ذلك، فنزلت الآية"، أي نزلت لرفع الحرج من السعي بينهما. بعد ما أُزيلت عنهما الأصنام.

والمعنى: إن الصفا والمروة من معالم دين الله، فهما من مناسك الحج والعمرة في الإسلام، بعد أن أُزيل الصنمان من فوقهما، وتمحض الذكر بينهما لله - تعالى -

{فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} : أي فمن كان حاجًا أو معتمرًا، أو جامعًا بين الحج والعمرة، فلا إثم عليه في أن يسعى بينهما.

وقد علمت مما تقدم: أن السعي بينهما كان نسكًا وعبادة في الجاهلية، ولكن العبادة فيه كانت للوَثَنَيْن القائمين فوقهما، فكان الساعون من أهل الجاهلية يمجدون وثنيتهما أثناء السعي. فلماء جاءَ الإسلامُ، أقر السعي بينهما، بعد أن أزال الأصنام، وجعل الذكر لله - تعالى - وحده، وهذا وأمثاله من السياسة الشرعية في الإسلام، فإنه إذا أقر أمرًا كان معروفًا في الجاهلية، لحكمة تقتضي إقراره، جرده من مظاهر الوثنية، ووجهه إلى الله - تعالى - قصدًا وذكرًا.

قال الآلوسي: وقد وقع الإجماع على مشروعية الطواف - أي السعي بينهما في الحج والعمرة - لدلالة نفي الجُناح على ذلك، لكنهم اختلفوا في الوجوب، فعن أحمد: أنه سُنَّة، وبه قال أنس، وابن عباس، والزبير، لأن نفي الجناح يدل على الجواز، والمتبادر منه

ص: 238

عدم اللزوم، كما في قوله تعالى:{فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا (1)} وليس مباحًا بالاتفاق، لقوله تعالى:{مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} فيكون مندوبًا.

عن الشافعي ومالك: أنه ركن فيهما، وحجتهما في ذلك: ما أخرجه الطبراني عن ابن عباس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"إن الله كتب عليكم السعي فاسعوا". وكتب بمعنى: فرض، كما في قوله تعالى:{كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ (2)} . وما رواه مسلم، عن عائشة، قالت:"ما أَتَمَّ الله حج من لم يسع بين الصفا والمروة، ولا عمرته"، ولقوله صلى الله عليه وسلم:"خذوا عني مناسككم". وقد صح أن النبي صلى الله عليه وسلم سعى بينهما.

وعن أبي حنيفة: أنه واجب يجبر تركه بدم. اهـ. بتصرف.

ومن أراد مزيدًا في تعرف وجوه نظر الأئمة. فليرجع إلى كتب الفقه.

{وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ} .

التطوع: ما يأتي به الإنسان من الطاعة غير المفروضة عليه، أي وَمَن أتى بشيء من النوافل، فإن الله {شَاكِرٌ} له، أي يثيبه عليه {عَليمٌ} بكل شيءٍ، فلا يخفى عليه تطوعه، نيةً وكيفيةً ومقدارًا، فلا ينقص من أجره شيئًا.

واعلم أن السعي بين الصفا وا لمروة، شعيرة موروثة عن أُم إسماعيل عليه السلام فقد جاء في حديث طويل، رواه البخاري عن ابن عباس، بعد ما ذكر: أن إبراهيم عليه السلام جاء بهاجر وابنها إسماعيل، عند مكان البيت، وتركهما، فقالت له:"يا إبراهيم: أين تذهب، وتتركنا بهذا الوادي الذي ليس فيه إنس ولا شيءٌ؟ "، ثم قالت له:"آلله أَمرك بهذا؟ قال: نعم، قالت: إذًا لا يضيعنا" ومضى ابن عباس في الحديث إلى أن قال: "حتى إذا نَفِد ما في السقاء، عطشت، وعطش ابنها، وجعلت تنظر إليه يَتلَوَّى، فانطلقت كراهية أن تنظر إليه، فوجدت الصفا أقرب جبل في الأرض يليها، فقامت عليه، ثم استقبلت الوادي تنظر، هل ترى أحدًا؟ فلم تر أحدًا، فهبطت من

(1) البقرة: 230.

(2)

سورة البقرة: 183.

ص: 239

الصفا، حتى إذا بلغت الواديَ، رفعت طرف درعها، ثم سعت سعي الإنسان المجهود، ثم جاوزت الوادِيَ، حتى أتت المروة، فقامت عليه .. إلى أن قال:"ففعلت ذلك سبع مرات". قال ابن عباس: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "فذلك سعي الناس بينهما" ومضى في الحديث، إلى أن قال: "فإذا هي بالملَك عند موضع زمزم، فبحث بعقبه - أو قال بجناحه - حتى ظهر الماءُ:(أي ماء زمزم) إلى آخر الحديث.

{إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ (159) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (160)}

المفردات:

{الْبَيِّنَاتِ} : الحجج الواضحات، جمع بينة.

{الْهُدَى} : ما يهدي إلى الحق والرشاد.

{فِي الْكِتَابِ} : المرادُ به ما يشمل جميع الكتب السماوية، ومنها التوراة والإنجيل والقرآن.

{يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ} : يطردهم من رحمته.

{وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ} : يسخط عليهم الناس.

{وَبَيَّنُوا} : أي أظهروا ما كتموه.

التفسير

159 -

{إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى

} الآية.

ص: 240

قال الآلوسي: أخرج جماعة عن ابن عباس، قال: سأل معاذ بن جبل، وسعد بن معاذ، وخارجة بن زيد، نفرًا من أحبار يهود، عن بعض ما في التوراة، فكتموهم إياه وأَبَوا أن يخبروهم، فأنزل الله - تعالى - هذه الآية.

وعن قتادة: أنها أنزلت في الكاتمين من اليهود والنصارى.

المعنى في هذه الآية الكريمة - وإن كان سبب نزولها خاصًا - وعيدٌ لكل من كتم علمًا يحسنه: سواءٌ أكان من اليهود، أم النصارى، أم غيرهم. فالعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.

فكل من آتاه الله علمًا، وَجَبَ عليه أن يبذله للمحتاجين إليه، ولا يكتمه، وإلا كان آثمًا. ولكونها عامة، قال أبو هريرة، فيما رواه البخاري عنه:"لولا آية في كتاب الله ما حدثت أحدًا بشي أبدًا" ولعله قال ذلك، حين قيل له: أكثرت في الرواية.

وكما جاء الوعيد عن الكتمان في القرآن، جاء في السنة.

أخرج أبو يعلي والطبراني بسند صحيح، عن ابن عباس - رضى الله عنهما - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من سُئل عن علمٍ فكتمه، جاء يوم القيامة مُلجَمًا بلجام من نار".

ومع أن العلم يجب تبليغه، فليس على العالم أن يبلغ منه إلا ما يناسب السامع، لكيلا يضل بسبب ضعف استعداده الفكري، أو العلمي أو وهن دينه.

ولهذا كان ابن مسعود يقول: "ما أنت بمحدث قومًا حديثًا لا تبلغه عقولهم، إلا كان لبعضهم فتنة".

وفي هذا المعنى، يقول صلى الله عليه وسلم:"حدثوا الناس بما يفهمون، أتحبون أن يُكَذَّب الله ورسوله"(1)؟!.

وقد دلت الآية على هذا المعنى. فإن الوعيد فيها، إنما هو على كتمان ما كان من البينات الواضحات، والهدى الذي لا يضل به الناس.

أما سواه، فيُكتم - إلا عن أهله - مخافة الفتنة. وقد فعل ذلك أبو هريرة.

(1) أورده الفردوسي وذكره القرطبي.

ص: 241

روى البخاري عنه: أنه قال: "حفظت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعاءَين أما أحدهما: فبثثته، وأما الآخر: فلو بثثته، قطع هذا البلعوم".

قال القرطبي: قال علماؤنا: وهذا الذي لم يبثه أبو هريرة، وخاف على نفسه فيه الفتنة أو القتل، إنما هو يتعلق بأمر الفتن، والنص على أعيان المرتدين والمنافقين، ونحو هذا، مما لا يتعلق بالبينات والهدى.

{مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ} .

المراد بالكتاب: جنس الكتاب الشامل للتوراة والإنجيل والقرآن.

فاليهود من أهل هذا الوعيد، لأنهم كتموا ما في كتابهم، من نعت محمد صلى الله عليه وسلم الذي {يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ} (1)، وكتموا عقوبة الرجم، وغير ذلك من الحق الذي أخفوه وهم يعلمون.

والنصارى كذلك لكتمانهم ما في كتابهم الإنجيل من البشارة برسول يأتي من بعد عيسى اسمه أحمد، وأنه أُمِّيُّ، وغير ذلك من نعوته، ونعوت أتباعه التي منها أنهم {كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ} (2).

وكل من حبس علمًا عن الناس بينه الله في القرآن أو السنة، فهو كاتم لما بيَّنَهُ الله في الكتاب.

وينطبق هذا على كل علم نافع ضروري.

{أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ} :

أي أولئك الكاتمون للعلم الذي بَيَّنَهُ الله في الكتاب، يطردهم الله من رحمته، ويسخط عليهم الخلق، فيزدرونهم وينبذونهم، ففي العلم حياة النفوس، وهو حق للناس يجب بذله.

160 -

{إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا

} الآية.

(1) سورة البقرة: 146.

(2)

سورة الفتح: 29.

ص: 242

استثنى الله من أولئك الكاتمين المعاقبين بالطرد من رحمته وبسخط الخلائق: من تابوا ورجعوا عن كتمانهم العلم، {وَأَصْلَحُوا} بإظهار ما كتموه، وتصحيح ما حرَّفوه أو أساءوا فيه الفتوى، وردهم ما أخذوه بسبب التحريف أو الكتمان {وَبَيَّنُوا} الحق دائمًا، ليكون ذلك أمارة على صدق توبتهم من الكتمان. فهؤلاء: لا يعاقبهم الله بما توعد به الكاتمين لأن الله - تعالى - يفرح بتوبة عباده، وقد أكد الله - سبحانه - العفو عنهم، المأخوذ من الاستثناء بقوله:{فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ} أي: أقبل توبتهم المقرونة بالإصلاح، وتبيين الحقن {وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} ومن كان شأنه المبالغة في قبول التوبة وسعة الرحمة، فهو الجدير بأن يتوب على عباده ويرحمهم، إذا بادروا بالتوبة والإصلاح والتبيين.

وقد اشتملت الآية على أركان التوبة:

1 -

الرجوع عن الذنب ويشير إليه قوله: (تابُوا).

2 -

الندم على ما فات لأنه من تمام التوبة.

3 -

رد المظالم إن وجدت، ويشير إليهما قوله:{وَأَصْلَحُوا} .

4 -

العزم على عدم العود، ويشير إليه قوله:{وَبَيَّنُوا} .

{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (161) خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (162)}

التفسير

161 -

{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ

} ألآية.

بَيَّنَ الله قبل ذلك: أن الذين يكتمون ما أنزل الله من البينات والهدى، يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون. واستثنى منهم من تابوا، وأصلحوا، واستقاموا على تبيين الهدى فأُولئك يقبل الله توبتهم، ويعفو عنهم.

ص: 243

وبين في هذه الآية والتي بعدها، عقوبة الكافرين بصفة عامة. ويدخل فيهم الذين كفروا بكتمان الهدى من أهل الكتاب، تأكيدًا لعقوبتهم السابقة.

والمعنى: إن الذين كفروا بالهدى الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم وأصروا على الكفر، فلم يتوبوا - غير مكترثين بما يقرع أسماعهم من آيات الهدى، وما تراه أبصارهم من دلائل الحق، وأقاموا على إصرارهم، حتى ماتوا وهم كفار - أولئك تستمر عليهم لعنة الله التي لازمتهم من أول كفرهم، ولعنة الملائكة والناس.

وجميع هؤلاء تستمر لعنتهم عليهم، بسبب إصرارهم على الكفر.

وكلمة: {أَجْمَعِينَ} : تأكيد وليست خاصة بالناس، وليس المقصود من لعنة الناس لهم: أنهم جميعًا يلعنونهم، بل المقصود: أن كثيرًا من الناس يلعنونهم.

162 -

{خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ}

أي خالدين في لعنة الله، أو في النار. لا يخفف عنهم العذاب بأنواعه، يوم القيامة فهم فيه معذبون بغضب الله ونار جهنم، والزمهرير.

{وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ} : أي ولا هم يؤخرون ساعة دون عذاب. مأخوذ من الإنظار بمعنى التأخير، أو المعنى: ولا هم يُنظرون من الله - تعالى - نظر رحمة (1)، وإرجاع الضمير في قوله:{خَالِدِينَ فِيهَا} إلى النار، ولم يسبق ذكرها، للإيذان بأنها معروفة حاضرة في الذهن، وإن لم تذكر. تهويلًا لأمرها، ولأن لعنة الله تؤذن بها، فإنها هي الطرد من رحمته ومَن طرده الله من رحمته، عذبه بناره.

{وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (163)}

المفردات:

{إِلَهٌ} الإله: المعبود.

(1) النظر بهذا المعنى يتعدى، ويأتي منه المبنى للمجهول، كما في الأساس.

ص: 244