الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
التفسير
54 -
بين الله في هذه الَاية؛ طريقة توبة اليهود عن عبادة العجل، إلتى استعقبت العفو عنهم.
والمعنى: واذكر يا محمد، لمعاصريك من اليهود، فضل الله عليهم، إذ أَمر نبيه موسى
فقال لآبائهم: يا قوم، انكم ظلمتم أنفسكم، إِذ عرضتموها لعقاب الله باتخاذكم العجل
إلها، فعبدتم تمثالا؛ نقربا إليه، مع أَنه- كأصله- مخلوق الله، ولا قدرة له على شئ
في نفسه ولا غيره، فتوبوا إلى الله الذي خلقكم وسواكم في أحسن تقويم، فَأَهلِكُوا
أنفسكم بالندم على هذه الجريمة، والإقبال على الطاعة له تعالى. ذلكم خير لكم عند
خالقكم في الآخرة، لما فيه من عظيم الثواب والبعد عن شديد العقاب .. إنه- تعالى- هو
الذى يقبل التوبة كثيرًا عن عباده، البليغ الرحمة بهم.
مباحث الآية
1 -
{فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ} : البارىءُ؛ هو الذي خلق الخلق بريئًا من التفاوت. قال الله
تعالى: {
…
مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ
…
} (1) فقد خلق الاعضاءَ متناسبة متميزا بعضها عن بعض، في الصورة والوظائف، وجعل كل عضو بقوم بوظانفه العجيبة على الوجه الأَكمل -دون عناءِ- في تعاون مع سائر الأعضاه، كما جعل الناس متمايزين في الصورة. حتى بعرف بعضهم بعضا. فلا ترى أحدًا بشبه الآخرمماما في صورته. إلى غير ذلك عن سباب الكمال في الخلق.
وصدق الله تعالى إذيقول في سورة (التين): {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ}
(1) الملك - من الآية: 3
وفي ذكر: الباريءِ في هذا المقام، تقريع لهم بما كان منهم؛ من ترك عبادة الله الذي برأهم بلطيف حكمته، إلى عبادة ما لا يقدر على شيءٍ، وهو مثل في الغباوة والبلادة .. والفاءُ هنا.
تفيد تسبب الأمر بالتوبة على اتخاذهم العجل.
2 -
{فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} : المتبادر من القتل، إزهاق الروح، فإن كانت توبتهم هي القتل، فالمراد بقوله تعالى:{فَتُوبُوا} : اعزموا على التوبة، هذا إذا كانت الفاءُ للتعقيب.
فإن كانت تفسيرية. فالتوبة على أصل معناها، والقتل تفسير لها، كما قيل في قوله تعالى: {فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ
…
(1)}.
وإن كانت توبتهم هي الندم المعبر عنه بالقتل مبالغة، فعطف القنل على التوبة للتفسير، ولا إشكال فيه.
وكثير عن المفسرين- سلفًا وخلفًا- على أَن القتل حقيقي.
قال سفيان بن عيينة: كانت- توبة بني إسرائيل القتل.
وقال الزهري: لما قيل لهم: {فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} قاموا صفين. وقتل
بعضهم بعضًا حتى قيل لهم: كفوا، فكان ذلك شهادة للمقتول وتوبة للحي اهـ.
ورُوِىَ: أنه أَمر من لم يعبد العجل أن يقتل من عبده.
قيل: كانت جملة القتلى سبعين أَلفا. وبتمامها نزلت التوبة وسقطت الشِّفَارُ من أيديهم.
ونظرًا لأنه لم يأْت نص يعول عليه في السنة، يقتضى أَن القتل حقيقي-، فقد جنح بعض العلماءِ إلى أن المراد بالآية: اجعلو اأنفسكم كالمقتوله: بمزيد الغم والندم والإذلال.
وقدورد استعمال القتل في غير حقيقته في اللغة والسنة.
ومما وردفى ذلك قوله صلى الله عليه وسلم:"إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الأَخير منها".
أَي أبطلوا دعوته كمن مات- اهـ من لسان العرب.
وقد صدَر أبو السعود والبيضاوى تفسيرالآية بهذا المعنى المجازى، فقال كلاهما:{فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} : إتماما لتوبتكم بالبخع (2) أوقطع الشهوات اهـ.
(1) الأعراف - من الآية: 136
(2)
البخع: قتل النفس غمّا 10هـ من القاموس.
ومن الحكم: من لم يعذب نفسه لم يَنعمها، ومن لم يُقتلها لم يُحْيها. ذكره البيضاوى في تفسير الآية.
وأنكر القاضى عبد الجبار، أن يكون الله تعالى قد أمر بنى إسرائيل بقتل أنفسهم، إذ الأمر لمصلحة المكلف، وليس بعد القتل حال تكليف ليكون فيه مصلحة.
وقرأ قتادة {فَأَقِيلُوا أَنْفُسَكُمْ} : بالياءِ بدل التاء. والمعنى: إن أنفسكم تورطت في هذا الذنب العظيم، وفعلت ما يهلكها، فأقيلوها وارفعوها من هذه الورطة؛ بالتوبة والتزام الطاعة. وهذه القراءَة تزكى المعنى الثاني لقتل النفس المطلوب منهم.
3 -
{ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ} جملة معترضة: للتحريض على التوبة. يعني أن قتلهم لأنفسهم - بالندم على عبادة العجل- خير لهم من بقائهم على عبادته، لما يترتب عليه من العذاب والهلاك الدائم. وكرر كلمة الباريءِ، اعتناءً بالحث على التسليم لما أمَرَ به، وتَلَقى ما يرد من قبله بالقبول والامتثال.
4 -
{فَتَابَ عَلَيْكُمْ} إِن كان خطابا من الله لهم، فهو معطوف على محذوف، وكأنه قال: ففعلتم ما أَمركم به، فتاب عليكم بارئكم.
وإِن كان كلام موسى، فهو جواب شرط تقدبره: إن فعلتم ما أمرتم به. فقد تاب عليكم. وإنما لم يقل: فتاب عليهم، ليعود الضمير على القوم أَسلافهم، لأن هذه نعمة أريد بها تذكير المخاطبين في عهده صلى الله عليه وسلم. لا أسلافهم. فالنعمة على الآباءِ نعمة على الذرية.
المفردات:
{لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ} :"لن"؛ لنفي الفعل في المستقبل، ولا تفيد تأكيدًا ولاتأبيدًا، خلافًا للزمخشري، حكاه صاحب القاموس. والإيمان: التصديق الجازم.
{جَهْرَةً} : هي في الأصل مصدر جهرت بالقول، استعيرت للمعاينة، لتشابههما في الوضوح والانكشاف.
{فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ} : هي نار جاءتهم من ناحية السماء فأحرقتهم. ومن معانيها: الموت وكل عذاب مهلك.
التفسير
55 -
أضفى الله تعالى على بني إسرائيل الآلاءَ السابقة، وقابلوها بالكفر، حتى عيدوا العجل.
ودعاهم إلى التوبة: بالندم وكف نفوسهم عن أهوائها وشهواتها، فلما تابوا قبل توبتهم.
ومع كثرة البينات المتوالية التي قدمها موسى بإذن من الله تعالى، تفننوا في الطلب، وحسبوا أن الله تعالى في مكان وله حيز، بحيث يمكن أن يروه جهرة في الدنيا، فقالوا لن نؤْمن لك حق نرى الله جهرة: أي معاينة.
فالآية سبقت؛ لبيان تعنتهم في طلب الآيات، وتأثرهم بما فاله سيدهم فرعون مصر لهامان:
{
…
يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ. أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ (1)}.
وفي ذلك عبرة وتسلية للنبى صلى الله عليه وسلم، فيما يلقاه من تعنتهم.
والمعنى: واذكروا أيها اليهود المعاصرون للنبى صلى الله عليه وسلم، إذ قال أجدادكم لموسى عليه السلام: {لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ
…
} أي لن نسلم لك - مصدقين مذعنين راضين مطمئنين- {حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً} : أَي حتى نراه مشاهدة وعيانا. أو الجهرة صفة لخطابهم، كما روى عن ابن عباس.
(1) غافر- من الآية 36 والآية 37
والمعنى على الرأْي الثاني: واذ قلتم- جهرة وعلانية غير مبالين- يا موسى، لن نؤْمن من أجل قولك، حتى نرى الله بأَعيننا.
{فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ} : استولت عليكم وأهلكتكم، لفرط عنادكم وطلبكم المستحيل.
والصاعقة: الموت، أو نار سفطت عليهم من السماء.
{وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ} : أي تنظرون اليها، وهي نصيبكم وتباشر اهلاككم.
56 -
{ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ
…
} الآية.
{مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ} بالصاعقة، وكان ذلك بدعاءَ موسى عليه السلام، ومناشدته ربه بعد أن أفاق.
والموت هنا، ظاهر في مفارفة الررح الجسد بقرينة ذكر البعث معه.
وقال بعض العلماءَ: كان موتهم غشيانا رهمودا، لا موتا حقيقيا. كما فى قوله تعالى: {
…
وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ (1)
…
}.
والمراد من البعث على هذا، إعادة النشاط والصحو لهم.
وقال آخر: موتهم؛ هوجهلهم الذي كانوا فيه. وبعثهم: تعلمهم أحكام التوراة؛
ومن هذا المعنى قوله تعالى: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ
…
} (2) وقول الشاعر:
وذو الجهل ميت وهو ماش على الثرى
…
يُظَنُّ من الأحياء وهو عديم
{لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} : أي لكي تشكروا نعمته تعالى ببعثكم بعد الموت، أو جميع نعمه بعد ما كفرتموها.
والمراد من شكرهم- له تعالى: ما يعم قيامهم بما كلفوا به، وتركهم لما نهوا عنه قبل موتهم
بالصاعقة، فإن الله- بعد موتهم- بعئهم لييشكروه تعالى: بالعمل بما شرعه لهم قبل صعقهم،
حتى تغفر لهم جرائمهم.
فلفظ الشكر: يتناول جميع الطاعات، لقوله تعالى: {
…
اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكرًا
…
} (3).
(1) إبراهيم - من الآية: 17
(2)
الأنعام - من الآية: 122
(3)
سبأ- من الآية:13
المفردات:
{الْغَمَامَ} : السحاب. واحده غمامة، كسحابة. سمى به: لأنه يغم وجه السماء، أي يستره.
{الْمَنَّ} : المشهرر، أنه الترنجبين. وهو شىءٌ يشبه الصمغ: حلو مَشوب بحموضة.
{وَالسَّلْوَى} : "طائر يشبه السمانى، أَو هو السماني بعينها.
التفسير
57 -
هذه الآية تتضمن الإنعام السابع على بني إسرائيل، وهي معطوفة على {بَعَثْنَاكُمْ} مؤْذنة بأن الإظلال بالغمام، كان بعد البعث، ولم يكن قبل الصعق، فإنهما جميعًا معطوفان بلفظ {ثُمَّ} على ما قبلهما، وهو أخذتكم الصاعقة، و {ثُمَّ}: تفيد الترتيب على ما سبقها.
والمعنى: وجعلنا الغمام يظلكم، بعدالبعث، ويرد عنكم حر الشمس في التيه.
{وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى} المن هو- كما سبق- صمغة حلوة فيها بعض الحموضة، وكان ينزل عليهم كالندى، من الفجر إلى طلوع الشمس. وقيل: هو ما مَنَّ الله به عليهم من غير تعب ولا زرع. ومنه قوله صلى الله عليه وسلم في حديث رواه مسلم: "الكمأَة من المَنِّ الذي أنزل الله على بني إِسرائيل" أي: بعض المن. والكمأة: نبات معروف. والسلوى: هي السماني أو طائر صغير يشبهها. وكانت تأتيهم بُكْرَةً وعشية فبخناروق سِمَانَها ويَدَعُون غيرها.
{كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} : المراد من طببات الأرزاق: مستلذاتها وفي الكلام قول مقدر.
أي: وقلنا لهم: كلوا.
{وَمَا ظَلَمُونَا} بتركهم لشكرنا، وإقبالهم عل معصيتنا، واقتراحهم أدنى الأرزاق وهو الفوم والعدس والبصل، بدلًا من خيرها وهو المن والسلوى {لَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ}: أي ولكن كانوا لا يظلمون سوى أنفسهم، بتعريضها للعقاب والحرمان، دون أن يعود شىءً من ظلمهم وآثاره على الله، والتعببر بجملة {كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ}: يشير إلى أن الظلم لأنفسهم كان خلُقًا قديما فيهم، وأنهم مستمرون عليه.
المفردات
{الْقَرْيَةَ} : المدينة من قريتُ إذا جمعت، سميت بذلك لأَنها تجمع الناس، وقبل:
القرية: مسكن القلة من الناس. والمدينة: مسكن الكثرة منهم. والمشهور عن ابن عباس وغيره: أنها بيت المقدس.
{رَغَدًا} : واسعا هنيئا.
{حِطَّةٌ} : أي حطٌ لذنوبنا وغفرانٌ لها.
{رِجْزًا} : أي عذابا، وراؤه مثلثة. لغة.
التفسير
58 -
{وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ
…
} الآية
الظاهر أن الأمر كان على لسان موسى، وهو كالأوامر السابقة واللاحقة. والقرية على المشهور: هي بيت المقدس أو أربحا، ولكنالم نجددليلا يؤيد هذا القول المشهو ر، والأمر للإباحة، بدليل عطف {فَكُلُوا مِنْهَا} عليه، فإن الأمر بالأكل للإباحة، وهو غير الأمر المذكور في قوله تعالى:
{يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ
…
} (1)، فإنه للإيجاب. بدليل عطف
النهي عليه في قوله: {وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ} ، فإن النهي فيه للتحريم وقد عوقبوا علي مخالفته بأن يتيهوا أربعين عاما، وأَمر الإباحة هنا مؤخر عن أمر التكليف في قوله:{ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ} .
{فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا} : أي فكلوا منها في أي مكان شئتم أكلا واسعًا: لا يقتصر على سد الجوع، وهذه نعمة كبرى، أنعم الله بها عليهم، بعد خروجهم من التيه: حيث أمرهم أن يدخلوا قرية ذات زروع وثمار، وأباح لهم أن يأكلوا من طيباتها - حيث شاءُوا - كلا واسعًا هنيئًا، بعد أن كانوا حيارى في التيه: مقصورين فيه على لون واحد من الطعام. وقد أمرهم الله أَن يدخلوها من بابها فقال: {وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا} متطامنين خاشعين: شكرًا لله تعالى على إخراجكم من التيه، والإنعام عليكم بالاسترزاق في هذ. القرية.
كما أَمرهم أن يسألوه تعالى: العفو عن ذنوبهم الماضية فقال لهم: {وَقُولُوا حِطَّةٌ} أي حِطةٌ منك با الله لخطايانا وغفرانٌ لذنوبنا. ووعدهم الله أن يستجيب دعاءهم واستغفارهم عن خطاياهم فقال: {نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ} : نستر لكم سيئاتكم السابقة، فلا نعاقبكم طيها {وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ}: ثوابًا على إحسانهم، فوق غفران خطاياهم، ولكن هؤُلاء المنكرين للنعم لم يستجيبوا {فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا} بما أمروا به وهو قولهم: حطَّةٌ، المفيد لطلب حط ذنوبهم وغفر انها {قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ} ليس فيه خضوع واستغفار لذنوبهم، إعراضا وعنادًا منهم لربهم {فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ}: أي فأنزلنا عليهم- لظلمهم- عذابًا من السماءَ، بسبب ما استمروا عليه من الفسق المتجدد، والخروج عن الطاعة آنا فآنا.
وظاهر قوله تعالى: {فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ} أنهم لم يشتركوا جميعًا في تبديل ماقيل لهم، بل الذين بدلوا هم الذين ظلموا.
(1) المائدة - من الآية: 21
وعلى هذا فإن النص يفيد: أن مَن دخل القرية قسمان: قسم أطاع ولم يبدل، وقسم عصى وبدل. فبدلًا من أن يدخلوا خاضعين خائفين متواضعين، دخلوا مستكبرين. وبدلًا من أن يستغفروا ويطلبوا حط الذنوب وغفرانها، لم يعترفوا بذنوبهم ولم يستغفروا الله منها، بل قالوا ما يخالف ذلك، استهزاءً بما كلفوا به، فاستحقوا أن ينزل الله عليهم من السماء رجزًا أي عذبا، بسبب فسقهم وفساد سرهم وعلانيتهم.
ويصح أن يكون التبديل وقع منهم جمبعًا، وأن المعنى: فبدلوا- جميعًا- قو لا غير الدى قيل لهم، لظلمهم.
المفردات.
{وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى} : طلب السُّقيا من الله.
{اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ} : المراد بالعصا هنا، آية موسى، وهي المسئول عنها بقوله تعالى:
{وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى} والمراد بالحجر: وليس حجرًا بعينه.
{فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا} : أي فخرجت منه بقوة بعد انصداعه هذه العيون.
{كُلُّ أُنَاسٍ} : أناس؛ جمع لا واحد له من لفظه، وتخذف همزته مع أل. والمراد بهم: السبط من أولاد يعقوب؛ أي كل سبط.
{مَشْرَبَهُمْ} : أي موضع شربهم.
{وَلَا تَعْثَوْا} : العثو عند بعض المحققين؛ مجاوزة الحد مطلقا، فسادًا أو غيره، ثم غلب في الفساد
التفسير
60 -
{وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا
…
} الآيه.
كلمة {إِذِ} تكررت خمس عشرة مرة، والقصص الخاصة ببنى إسرئيل.
وهي في اللغة: لمطق الظرفية في الزمن الماضي.: هي على تقدير: اذكر: والمراد من ذكر الوقت فيها: تذكر ما وقع فيه من النعم والحوادث، لعل ذاك يفيدهم العبرة، ويهيئُ نقوسهم للتوبة والاستجابة لأَمر الله.
ولم يعن القرآن بالترتيب الزمنى فى ذكر قصصهم، لأنه ليس له دخل فى تصحيح عقائدهم وأعمالهم. والذي له دخل في ذلك، هو تذكر النعم التي انعم الله بها عليهم، والعقوبات والحوادث التي حلت بهم في أي زمان، فإِن لهم- في تذكر ذلك- أعظم العبر، التي يجب أن تردهم إلى رشدهم، وتكفهم عن التمادي في طغيانهم.
وقد سبقت هذه الآيه، لبيان حال من أحوال بني إسرائيل في هجرتهم. وكانوا قد أصابهم في التيه عطش شديد، فاسنغاث موسى بربه، وطلب منه أن يسقى قومه حتى لا يموتوا عطشا وذلك قوله تعالى:{وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ} : أي دعا ربه، أن يهيىء لهم وسائل السقيا والري.
{فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ} : أجاب الله موسى عليه السلام فى طلب السقيا، ودله
على الطريقة التي تحقق رغبتهم، وتكون معجزة له أَمام قومه فقال له:{اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ} ، فضرب موسى الحجر {فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا} بعدد الأسباط: وهم ذرية يعقوب من أولاده الاثنى عشر. والمراد بعصا موسى: العصا التي ضرب بها البحر فانفلق، وكان كل فرق كالطود العظم. وهي معجزته الكبرى. والمراد بالحجر: أَي حجر، كما قال الحسن: ضربه فانفجر منه الماء، وهذا أَبلغ في الإِعجاز وأبين في القدرة.
والمراد من انفجار تلك العيون من الحجر، خروج الماء الغزير- بقوة- من اثنى عشر مكانا، في الحجر الذي ضربه موسى عليه السلام بعصاه. ونلك نعمة كبرى، من نعم الله عل بني إسرائيل.
وقد يقال: إن الله قادر على أن يمنحهم الماء بدون ضرب الحجر. بالعصا، فلماذا لم يفعل؟.
والجواب: أن الله تعالى، أراد أن يبين لهم كرامة نبيهم موسى على الله تعالى، ويؤَكد لهم نبوته: بإجراءِ تلك المعجزة على يديه، بمجرد ضربه الحجر بعصاه، حتى يقو ى إيمانهم بنبوته، التي يتشككون فيها من آن لآخر.
وقد مرَّ قريبا أنهم قالوا له: {لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً} كما أن فيها تثبيت إيمانهم
باللهِ، لأنه إيمات يتزلزل هن آن لآخر. فقد مرَّ قريبًا: أنهم أشرِبوا في قلوبهم حبَّ عبادة
العجل، مع عظيم آيات الله التي مرت بهم، والتي من شأنها أن تصرفهم عن الكفر به. ومن أقواها:
شقه البحر لهم، وعبورهم إلى سيناء - في طرق يابسة- بين حوائط من ماء.
{قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ} : أي قد علم كل ناس من الأسباط، محل شربهم من تلك العيون. فقد خصص لكل سبط منهم عين، حتى لا يحدث خلاف بينهم على الماء، فهم أهل خلاف وشقاق.
{كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ} أي قلنا لهم: كلوا المن والسلوى، واشربوا من رزق الله الذي تفضل به، فجمع لكم بين النعمتين المتلازمتين، بحيث تحصلون عليهما في يسر وسهولة، وذلك من أجلّ النعم وأعظمها.
وقوله: {مِنْ رِّزْقِ اللَّهِ} : إشارة إلى أن الأكل والشرب نعمة متمحضة من جانب الله تعالى، لا دخل لعملهم في الحصول عليها.
ثم عقب الأمر بالأكل، والشرب بالنهى عن الفساد، فقال:{وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ}
فإن من شأن النعمة أن تستحثهم على الطاعة والاستجابة للمنعم سبحانه، في نهيه
لهم عن الإفساد في الأرض، فقد هيأ لهم ما يكفهم عنه.
والعثو: الإفساد. فقوله بعد ذلك: {مُفْسِدِينَ} حال مؤكدة، لأن المعنى وأحد لكل من العثو والافساد، ولكن لو نظرنا إلى أصل معنى العثو وهو: مجاوزة الحد مطلقا، فسادا أو غيره، يكون التعبير بلفظ {مُفْسِدِينَ} لتعيين المراد من العثو.
المفردات:
{أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ} : الهمزة لإنكار طمع المومنين في إِيمان اليهود بعد ما علموا حالهم، أي استنكاره واستبعاده منهم، والفاءُ عطفت ما بعدها على مقدر، والتقدير:"أتحسبون قلوبهم صالحة للإيمان بعد ما علمتموه من حالهم، أفتصمعون أن يؤمنوا لكم"، والمراد نهيهم عن الطمع في ايمانهم بعد علمهم بحالهم.
{فَرِيقٌ مِنْهُمْ} : جماعة منهم.
{كَلَامَ اللَّهِ} : المراد به: التوراة.
{فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ} : بين لكم خاصة، أو حكم وقضى عليكم
{لِيُحَاجُّوكُمْ} : ليخاصموكم ويقيموا عليكم الحجة.
{عِنْدَ رَبِّكُمْ} : أي في كتاب رببهم وشرعه، كما تقول هو عند الله كذا، أي في كتابه وشرعه.
التفسير
كان النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنون معه، شديدى الحرص على إيمان اليهود، طامعين في دخولهم في لأنهم أهل كتاب، ولأنهم كانوا من: قبل يستفتحون ويستنصرون على إلاوس- والخزرج بالنبي الذي قرب زمانه، وذكرت أوصافه في كتابهم،
لكنهم- عندما جاءهم ما عرفوا- كفروا به؛ لما أنطوت عليهَ نفوسهم من الخبث، وسوء السريرة، ولما جبلوا عليه من سوء السيرة؛ ولهذا حكى الله فيما مضى مساوئهم، ونعى عليهم جناياتهم، وذكر أن قلوبهم قاسية، كالحجارة أو أشد قسوة، ورتب على ذلك إقناط المؤمنين من ايمانهم، ونهيه لهم عن الطمع فيه فقال:
75 -
{أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ
…
} الآية.
أي لا تطمعوا في ايمان اليهود مستجيبين لكم.
{وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ} : وهم الأحبار والرهبان.
{يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ} : أي يسمعون التوراة، ثم يتعمدون تحريف ما فيها، مما لا يوافق أَغراضهم، ولا يتمشى مع أهوائهم، من بعد ما فهموها، فَقُدَماؤُهُمْ حرفوها بتحليل الحرام، وتحريم الحلال، كما قاله مجاهد.
ومعاصروهم للنبى- صلى الله عليه وسلم حرفوها بتغيير نعت النبي صلى الله عليه وسلم وتبديل آية الرجم، وغير ذلك، حتى يحتفظوا لأنفسهم بالزعامة الدينية: يفعلون ذلك {مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ} : أي فهموه حق الفهم، دون أن تكون لهم شبهة فيما حرفوه، {وَهُمْ يَعْلَمُونَ} أنهم مبطلون كاذبون. أَو معناه: وهم يذكرون من غير نسيان، فهم - في جريمتهم هذه - عامدون مصرون. وإِذا كان أمرهم كذلك، فلا تطمعوا في إِيمانهم، فلا يؤمن من. ضاعت أمانته، وخبثت سريرته، واجترأَ على كلام الله بالتحريف مع العمد والإصرار.
فجملة {وَهُمْ يَعْلَمُونَ} : حال مؤَكدة لاستهجان قبح ما اجترأوا عليه من التحريف. والتعبير باللام في قوله {لَكُمْ} : لتضمين الكلام معنى الاستجابة فكأنه قيل: أفتطمعرن أَن يؤمنوا مستجيبين لكم.
ثم عقب الله اتصافهم بالخيانة العلمية، باتصافهم بالنفاق في الإيمان فقال:
76 -
{وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا
…
} الآية.
أي ومن صفاتهم التي تدعو إلى اليأْس من ايمانهم: أنهم منافقون، فقد كان بعضهم
إِذا لقوا الذين آمنوا، نافقوهم، وأظهرواْ أنهم مؤمنون برسول الله وما أنزك عليه، وأَخبروهم
أته صلى الله عليه وسلم مبشَّر به في التوراة.
{وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ} .
أي وإذا فرغ وخلا بعض اليهود - وهم الذين لم يظهروا النفاق - إلى بعض آخر-
وهم المنافقون منهم- بعدما سمعوهم يحدثون المؤمنيين ببعض ما كتموه من التوراة {قَالُوا}
-لائمين لإخوانهم المنافقيين منكرين عليهم: {أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ} : أتخبرون
المؤمنين بما فتح الله عليكم من أبواب العلم التي كتمناها عنهم كالبشارة بالنبي وعلاماته،
وأخذ ألميثاق على أنبيائهم بالأيمان به، وتبليغ أُممهم أَن يؤمنوأ به وأن ينصروه إن أدركوه،
- أتحدثونهم بذلك- {لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ} - أي ليقيموا عليكم به الحجة في كتاب ربكم وشرعه؟
وقيل المراد بقوله: {عِنْدَ رَبِّكُمْ} يوم القيامة، أي ليحاجوكم به يوم القيامة توبيخًا لكم، وزبادة في فضيحتكم على رءُوس الأشهاد؟
وهذا الرأى غير مقبول، فإنهم عالمون بأنهم محجوجون بما في كتابهم يوم القيامة: حدثوا به أو أخفَوه، فلا وجه لتوبيخ اخوانهم على اظهاره للمؤمنين. إِذاكان أن المراد بقوله {عِنْدَ رَبِّكُمْ} يوم القيامة.
روى عن ابن عباس أن ناسا منهم أَسلموا. ثم نافقوا. فكانوا يحدثون المؤمنين بما عذب به آباؤُهم، فقالت لهم اليهود: أتحدثونهم بما فتح الله عليكم، أي بما حكم به عليكم من العذاب، ليقولوا نحن أَكرم على الله منكم؟
نقله القرطبى، وقدمه على ما سواه من الآراء.
{أَفَلَا تَعْقِلُونَ} خطر هذا الفعل علينا وعليكم؟
والتعبير بالفتح فى قولهها: {بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ} الإيذان بأَنه سر مكتوم، وباب مغلق فى وجه غيرهم، فلاينبغى أن يطلع عليه سواهم.
ثم وبخهم الله -تعالى- وجهّلهم، وأنكر عليهم هذا التلوُّن والنفاق في الدين فقال:
77 -
{أَوَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ} ؟
أَي أَيلومونهم على التحدث: بما فتح الله عليهم، مخافة أَن تقوم عليهم الحجة، ولا يعلمون أن الله- سبحانه وتعالي-محيط بما يسرونه من أقوالهم عن الؤمنين، ومايعلنونه
من النفاق، فلا تخفى عليه خمافية من أمرهم، وأنه مطْلع رسوله- صلى الله عليه وسلم بالوحى عل كيدهم فتحصل المحاجة، كما حدث في آية الرجم، وتحريم بعض المحرمات عليهم؛ فأي فائدة في اللوم والعتاب؟ فليرتدعوا عن ذلك وينزجروا، ويدخلوا في الإيمان بقلوبهم.
والاستفهام في (أوَ لَا يَعْلَمُونَ): إنكاري: مؤْذن بشناعة نفاق المنافقين منهم، وقبح اللوم من أصحابهم لهم، على اطلاع المؤمنين على صفة الرسول وغيرها في التوراة، مع علمهم أن الله يعلم سرهم ونجواهم.
المفردات:
{أُمِّيُّونَ} : جمع أُمي، وهو الذي لأ يقرأ ولا، يكتب، منسوب إِلى الأم، إِيذانا بأنه- في الخلو عن العلم والكتابة- كما ولدته أُمه.
{أَمَانِيَّ} : جمع: أُمنية، وهي في الأصل، ما يقدره الإِنسان في نفسه، مأْخوذة من مَنَى، إذا قَدَّر. والمراد بها هنا الأَكاذيب التي أَخذوها عن شَياطينهم المحرفين للتوراة، كما قاله ابن عباس ومجاهد.
{فَوَيْلٌ لَهُمْ} : الويل في الأصل، مصدر لا فعل له من لفظه، مثل ويح، والمعنى هلاك لهم وشدة عذاب. وهى كلة دعاءٍ.
التفسير
بعد أن بين الله -سبحانه- جنايات اليهود في ماضيهم وحاضرهم، وفي جملتها تحريفهم لكتاب الله التوراة، من بعد ما عقلوه، عقَّب ذلك بذكر فريق جاهل منهم: تأَثر بتحريف أحبارهم، وضل بإضلالهم، وهم الأُميون فقال:
78 -
{وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ
…
} الآية.
ْأي ومن هؤُلاء اليهود، عوام جهلة: لا يعرفون القراءَة ولا الكتابة، فلا يقرءُون التوراة، لا يتحققون مما فيها. ومدى علمهم بها أماني مدسوسة وأكاذيب باطلة، تلقوها عن رؤسائهم وأحبارهم، وعملوا بها تقليدًا لهم.
ومن هذه الأُمنيات والأكاذيب: أن آباءهم الأنبياء يشفعون لهم، وأَن الله سبحانه وتعالى يعفو عنهم ويرحمهم، وإن كفروا بمحمد- صلى الله عليه وسلم وأن الجنة لا يدخلها إلا من كان هودا، وأن النار لا تمسهم إلا أَياما معدودات، وأنهم صفوة الإنسانية، وشعب الله المختار لعمارة الأرض، وأَنهم أبناءُ الله وأخباوه، وأَن السيطرة على الناس لهم، وغير ذلك من الأماني التي تمنوها، فهؤُلاءِ- ضلوا، تبعًا لأضاليل أَحبارهم.
والاستثناءُ في قوله {إِلَّا أَمَانِيَّ} : منقطع عن الكتاب وليس. متصلا به؛ لأَن أمانيهم الكاذبة المذكورة، لا توجد في كتابهم، فهي من اختراع أَحبارهم. فإلا بمعنى: لكن، أي: لكن يعتقدون أَماني فارغة: لا أصل ولا حقيقة لها.
{وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ} : أي وما هم إلا قوم يظنون، المراد من الظن هنا، الكذب أو التوهم، أَي: وما هم إلا قوم يكذبون أَو يتوهمون هذا، فلا علم عندهم بما يقولون، ولا دليل عليه، فأنى يرجى منهم الإيمان بالرسول وهم على هذه الاوهام، مغرورون بتلك الأماني! ثم أنذر الله -سبحانه- الأَحبار المحرفين للحق بالهلاك، فقال:
79 -
{فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا
…
} الآية.
أي هلاك عظيم لهؤلاء الذين يحرفون كتاب الله، وهو التوراة، إذ يكتبونها بأيديهم، ويدسون فيها أكاذيبهم، وما يحفظ عليهم رياستهم وجاههم، موهمين العوام أنها من عند الله، ليحملوهم على اعتقادها، والتعلق بالأماني - التي زيفوها في التوراة: يبتغون بهذا الفعل ثمنًا قليلًا، هو: الاحتفاظ بالرياسة، وأكل أموال الناس بالباطل. وهم بهذا يرتكبون. أكبر جريمة، وهي: افتراءُ الكذب على الله، ويختارون الباطل وينبذون الحق، فيكونون بذلك: كمن يبيع شيئا نفيسًا غالى القيمة. بثمن تافه!
وسبب ذلك: أنه لما ضعف أمر علمائهم في أمتهم، عمدوا إلى أمور تصرف الناس إليهم وألحقوها بالتوراة، وقالوا لسفهائهم: هذا من عند الله ليقبلوه عنهم، فتتأكد رياستهم.
وكان مما أحدثوا فيها أن قالوا: {لَيْسَ عَلَيْنَا في الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ} (1): يعنون بالأُميين: العرب، ويعنون بأنهم ليس عليهم في الأُميين سبيل: أن ما أخذوا من أموالهم فهو حل لهم، ومنه قولهم: لا يضرنا ذنب، فنحن أبناءُ الله وأحباؤُه، وأن النار لن تمسنا إلا أياما معدودات. إلى غير ذلك مما كذبهم الله فيه فقال:{فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ} : من تحريف كلام الله، وتبديله، وسوء تأْويله {وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ} بالباطل من جاء ورياسة ومال.
وتكرير الويل هنا؛ لتأْكيد الوعيد، وتعليله صراحة بالتزوير في الحق، وبكسبهم الحرام، بعد الإشعار به في صدر الآية {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا} .
وإنما قيد الكتابة با لأيدي، مع أنها لا تكون إلا بها، لتحقيق مباشرفهم ما حرفوه، زيادة في تقبيح أَفعالهم، ولتأكيد القصد إلى التحريف، ليشتروا به ثمناَ قليلًا. ولأن الأيدى جوارح تقع بها أكثر الجنايات.
وقدم الكتابة وأَخر: يكسبون؛ لأن الكتابة مقدمة، وإلكسب مترتب عليها، فالكتابة سبب، والكسب مسبب عنها.
(1) آل عمران 75
المفردات:
{لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ} : لن تصيبنا، والمس: اتصال أحد الشميئين بآخر واصابته له.
{أَيَّامًا مَعْدُودَةً} : يضبطها العد، فهي إذن قليلة
{بَلَى} : حرف جواب كنعم، إلا أنها لا تقع إلا جوابًا لنفي متقدم، سواءً أدخله استفهام أَم لا، وتفيد إثبات ما بعدها.
{وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ} : الخطيئة: السيئة التي استمكنت من النفس، وحملتها على تجنب الصواب عمدًا، وإِحاطتها به: شمولها له واستيلاؤُها على جميع تصرفاته، كما يحيط الثوب بلابسه.
التفسير
اليهود أهل غرور وزعم باطل، فهم يزعمون أنهم أبناء الله وأحباؤه، وأنهم شعب الله المختار، ولذا عطف القرآن على ما سبق، ضربًا آخر من ضروب غرورهم، وافترائهم الكدب على الله وهم يعلمون، فقال:
80 -
{وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً
…
} الآية.
إدًعى هؤلاء اليهود أن النار لا تمسهم في الآخرة ولا تصيبهم إلا أياما قليلة يضبطها
العد. مثل اهذا الكلام الذي قالوه؛ لا يجوز قوله أو اعتقاد مدلوله، إلا بعهد من الله -
تعالى - مالك يوم الدين، الذي يقضى فيه بدخول الجنة والنار، ولا معقب لحكمه.
ولذا أمر الله نبيه أن يرد عليهم موبخًا ومبكتًا بقوله: {قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللهِ عَهْدًا} .
بأن النار لن تمسكم إلا أيامًا معدودة؟!
والاستفهام في {أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللهِ عَهْدًا} للإنكار والنفى، أي: لسنتم على .. عهد من الله بما تدعون.
أما قوله تعالى: {فَلَنْ يُخْلِفَ اللهُ عَهْدَهُ} فهو جواب شرط مقدر، أي إن صح أن لكم عهدا عنده -تعالى- بما قلتم، فلن يخلف الله عهده. وإِظهار لفظ الجلالة في موضع الإضمار؛ للإشعار بعلة الحكم. فإن عدم الخلف في العهد من أَحكام إلأُلوهية.
ثم أكد توبيخهم على ما افترَوه على الله فقال: {أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} أي بل أتقولون على الله ما لا دليل لكم عليه، فأنتم تفترون على الله الكذب {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ} (1).
وإنما وبّخهم على قولهم على الله ما لا يعلمون وقوعه- مع أن ما أسندوه إليه يعلمون أنه لم يقع- للمبالغة في التوبيخ والنكير. فان التوببخ على الادنى مستلزم للتوبيخ على الأعلى بالطريق الأولى.
ثم أبطل الله دعواهم على وجه أعم وأشمل، لهم ولسائر الكفرة بقوله:
81 -
أي بلى: تصيبكم النار فيصهر بها ما في بطونكم والجلود، أنتم وغيركم ممن سار سيرتكم، وأحاطت به خطيئته مثلكم، وتلازمكم وإِياهم النار خالدين فيها، لأَن القانون الإلهى العادل، الذي شرعه رب العالمين: أن من كفر بالله، وعمل السيئات، واستولت عليه الخطايا حتى صار لا يخلو منها، فأُولئك أصحاب النار، أي الملازمون لها في الآخرة. هم فيها خالدون لا يبرحونها.
(1) الزمر:60.
وقد دل قوله تعالى: {بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ} على أنه لم يبق جانب من قلبه ولسانه وجوارحه إلا اشتملت عليه سيئته وخطيئته، واستولت عليه. وهذا لا يتحقق إِلا فى الكافر.
ولذلك فسر علماءُ السلف: السيئة والخطيئة في الآية بالكفر. وقد روى ذلكَ عن ابن عباس وأبى هريرة، ومجاهد وعطاءٍ وغيرهم.
ويشهد لهذا: أن الجزاءَ عليهما هو الخلود في النار، كما نص عليه قوله تعالي:{فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} .
كما آذن به تعقيب هذه الآية بثواب المؤمنين في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} .
وبهذا التأْويل. لا يحتج بالآية على خلود أصحاب الكبيرة في النار.
وفى الآية تحذير شديد. من ارتكاب السيئات، فانها تؤدى إلى التمادى فيها، فلا يبالي صاحبها بالكفر، فعلى من يرتكب سيئة أَن يبادر بالتوبة منها، فإن من لم يبادر بها، أَحاطت الخطيئة بقلبه، فاصبح مظلمًا لا ينفذ إليه النور، فيكفر، والعياذ بالله تعالى.
قال صلى الله عليه وسلم "إن العبد إذا أذنب ذنبًا نُكِتَتْ في قلبه نُكْتةً سوداءُ.
فإن تاب ونزع واستغفر صقل قلبه، وإن عاد زادت حتى تعلوَ قلبه، فذلك الران الذي ذكره الله -تعالى- في القرآن:"كلا بَلْ (1) رَانَ عَلَى قُلوبِهِمْ ما كَانُوا يَكْسِبُونَ"(2).
وفي هذه الحالة تحيط به الخطايا، كأنه محبوس فيها لايجد لنفسه منها مخرجا.
وجريا على سنة القرآن في ذكر الوعيد مقرونا بالوعد، ترهيبا وترغيبا، أردف ذلك الوعيد ببيان في جزاءِ المؤمنين الصادقين في الإيمان، ليظهر الفرق بين الاشقياءِ والسعداءِ، فقال سبحانه:
82 -
{وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} .
أَي والذين جمعوا بين الإيمان الصحبح، ومايترتب عليه من أَعمال صالحة؛ أولئك هم أصحاب الجنة الجديرون بدخولها، بحسب وعدالله وفضله. هم فيها خالدون: منعمون بكل ما يشتهون.
(1) السين للسكتة فى التلاوة وسط الكلام.
(2)
سورة المطففين: الآية 14؛ والحديث رواه أحمد والترمذى والحاكم والنسائى وغيرهم.
وترتيب الإثابة بالجنة على الإيمان والعمل الصالح: يؤذن بأن العمل الصالح، لا بد منه للحصول محل هذا الثواب، فهو الدليل على صدق الإيمان وقوته، وحياته، فكما أَن أغصان الشجرة وثمارها، دليل على حياة الشجرة وقوتها، فكذلك العمل الصالح، دليل - على حياة الإيمان وقوته.
المفردات:
{مِيثَاقَ} : الميثاق: العهد المؤَكد.
{وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} : أي وتحسنون بالوالدين إحسانا مطلقا بلا حدود.
{وَالْمَسَاكِينِ} : الذين أذلتهم الحاجة وأسكنتهم.
{وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا} : أي قولوا لهم قولًا حسنا، وهو ما تطيب به النفوس.
ومنه الأمر بالمعروف، والنهى عن المنكر، في غير عنف ولا خشرنة.
التفسير
شروع في ذكر بعض القبائح التي ورثها اليهود المعاصرون للرسول عن أَسلافهم، ممَّا يجعل الإيمان مستبعدًا منهم، ويحمل المؤمنين على ألا يطمعوا فيه. وذلك أَنهم تولَّوا مدبرين عما أخذ عليهم العهد به من الفضائل. ومن كانوا كذلك، فلا ينبغى أَن يطمع المؤمنون في إيمانهم.
83 -
{وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ
…
} الآية.
أي واذكروا أيها المومنون، وقت أن أخذنا ميثاق بني إسرائيل، وعاهدناهم عهدًا مُؤكدا في التوراة:{لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ} أَي وقلنا لهم فى العهد: لا تعبد ون إلا الله،
والمقصود منه: نهيهم عن عبادتهم لغيره تعالى، فهو نفى بمعنى النهى، أي لا تعبدوا غيره تعالى، وهذا نظير قولك لشخص: تذهب إلى فلان وتقول له كذا، فهو بمعنى: اذهب إليه وقل له كذا، وهو أبلغ من صريح النهى، لما فيه من الإيذان بأنه ينبغى أن يسارع المنهى إلى الامتثال، حتى يخبر عنه بأنه امتثل فعلا، وانصَ عما نهى عنه.
والميثاق - بالتوحيد وغيره من العقائد وأمهات الشرائع والأخلاق - مأخوذ على جميع الأمم، كما أُخذ على بني إسرائيل، فلا خلاف بينها إلا في فروع الشرائع.، فإنها تختلف تبعًا للزمان والأَجيال؛ رعاية لمصلحة البشر، بحسب التطور الإنسانى.
والمراد من أَخذ الله الميثاق عليهم بالأُمور الآتية: توصيتهم بالعمل بها توصية مؤكدة في التوراة التي أنزلها على موسى عليه السلام {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} : وأَخذ الله عليهم العهد أَيضًا: بأَن يحسنوا إلى الوالدين وهذا الإحسان المأْمور به عامّ: يدخل فيه جميع مايجب لها من أنواع الرعاية والعناية، وقد قرن الله سبحانه وتعالى الأمر بالإحسان إلى الوالدين بالأمر بعبادته؛ لما الوالدين من الفضل الكبير على الولد؛ لأنهما بَذَلَا الكثير من العنابة الصادقة في تربيته والقيام بشئونه، أيام أن كان ضعيفًا عاجزَا، وكفلاه حتى قدر على الاستقلال، والقيام، بشئون نفسه، مع الحنان العظيم، لا يبغيان من وراء ذلك أَية مصلحة تعود عليهما، فهما أحق بالعناية والرعاية، وما جزاء الإحسان إلا الإحسان.
وتنكير الإحسان في قوله: {إِحسَانًا} ؛ للإيذان بتعميمه، وإِبلاغه، إلى أَقصى مداه.
{وَذِي الْقُرْبَى} : أي وأوصيناهم بالإحسان كذلك إلى ذوى القربى، وهم: مَن تكون بينهم وبين الإنسان صلة قرابة من جهة الأب أو إلَاّم، والإحسان إليهم هو: القيام بما يحتاجون إليه بقدر الطاقة، وذلك تقوية للروابط بين الأقارب ولأن من لا خير فيه لذوي قرابته فلا خير يرجى منه لغيرهم.
{وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ} : أي وأخذ عليهم الميثاق أيضًا: بالإحسان إلى اليتامى والمساكين.
واليتامى هم: الذين مات آباؤهم وهم في دون البلوغ، فهم لهذا في أَمس الحاجة إلى الإحسان، ويكون: بالكلمة الطيبة، والتوجيه الرشيد، والرعاية الحانية، والمعونة بالمال؛ إن احتاجوا إليها.
وفي القرآن والسنة كثير من الوصايا باليتامى؛ ليجدوا من المسلمين الكرماءِ العاملين؛
بدينهم، ما يعوضهم، عن فقد آبائهم، ولأن الإحسان إِليهم والرحمة بهم، حماية للمجتمع؛
حتى لا يكونوا عنصر شرٍّ وإفساد فيه.
ومن أهل الحاجة الذين أَوصاهم الله بالإحسان إليهم أَيضًا: المساكين الذين لا يقدرون
على الكسب، أَو لا يكفيهم ما يكسبونه، ففي العناية بهم تعاون وتكافل، وإِقامة للمجتمع
على أسس من التوادّ والتراحم.
{وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا} : ومن جملة الميثاق الذي أخذ عليهم: أن يقولوا للناس قولًا حسنا، كالنصيحة لهم، والأَمر بالمعروف، والنهى عن المنكر، مع التزام الحكمة والموعظة الحسنة ولين الجانب، والمخاطبة بما تطيب به نفوسهم؛ وعدم الإساءَة إليهم بالقول والخشونة؛ فإن الفظاظة والغلظة لا تليق بأَهل الشرائع السماوية.
وقد اشتمل المثاق على وجوب إِفراد الله -تعالى- بالعبادة والتوحيد، وهو الأَهم.
ولذلك قدم الأمر بهءلى سواه، ثم عطف عليه الأمر بالإحسان إلى العباد فى معاملتهم.
ولمَّا كانوا متفاوتين. فى ذلك، بدأ بأحقهم وهما الوالدان، ثم أَتبعهما ذوي القربى؛ رعاية لحق القرابة، ثم اليتامى لضعفهم، ثم المساكين سدًا لحاجتهم، ثم سائرالناس، بما هو مقدورلكل أحد، وهو الإحسان بالقول، بأن يلقوهم بالطيب من القول ويجتنبوا إيذاءَهم. فهذا النوع من الإحسان سهل هين على النفوس: يقدر عليه كل إنسان، ويستطيع أداءَه في كل حال، فلا عذر لتاركه.
ومن هذا نرى: أن هذا العهد قد اشتمل- بالإجمال- على أهم المقاصد للشرائع السماوية. فهى تكون أَولا: داعية إلى تطهير العقول والقلوب من رجس الوثينة، وإخلاص العبادة لله وحده
وتكون -ثانيا: لإصلاح المجتمع، وأول إصلاحه: رعاية الأَقارب والضعفاء - واليهود
لا يفعلون ذلك.
ومما أخذ الله به الميثاق على اليهود، وفرضه عليهم في كتابهم، ما حكاه بقوله:{وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} وإقامة الصلاه: أداؤُها تامة مستوفية الشرائط والأَركان. وإيتاءُ الزكاة: إعطاؤُها لمستحقيها.
والصلاة التى أُمر بنو إسرائيل بإقامتها، والزكاة التى أُمروا بإتيانها هما: الصلاة والزكاة المشروعتان في ديانتهم.
وقد ذكر ذلك كله ، ليعقب عليه: أنهم أعرضوا عما أخذ عليهم الميثاق بأدائه، كما سيجيءُ؛ حتى يعلم المؤمنون أَن نقض اليهود لمواثيق الله مرض قديم فيهم، فلا ينبغى للمؤمنين. أَن يطمعوا في إيمانهم.
ومع أن اقامة الصلاة وإِبتاء الزكاة؛ داخلان في عبادة الله التي أخذ بها الميثاق على بني إسرائيل، فإنه-تعالى- أَفردهما بالذكر- بعد الإحسان إلى الوالدبن والأقربين وأَصحاب الحاجات- لعظم شأْن- هاتين العبادتين، ولما للصلاةْ من الأثر اكبير في تربية النفس، والنهي عن الفحشاء والمنكر، والخشوع لعظمة الله، ولما في الزكاة من تخفيف ويلات الفقر والبؤْس عن المحتاجين، وحسن الصلة بالمجتمع عن طريق الإحسان. إليه.
هذا هو الميثاق الذي أَخذه الله على بني إسرائيل في التوراة، فماذا كان من شأْنهم؟
هل التزموا العمل بهذا الميثاق؟ إنهم لم يلتزموه، وكانت حالهم كما قال تعالى:{ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ} : فقد أفصحت الآية عما كان من أكثرهم- بعد أَخذ الميثاق عليهم، بما فيه خيرهم وسعادتهم- وهو أنهم تولوا عن العمل به، وهم معرضون غير مكترثين بما يترتب على اعراضهم ..
أَما القليلون منهم فإنهم التزموا العمل بالميثاق، وحافظوا على تنفيذه، وهم المخلصون
في إيمانهم من أسلافهم- قبل أن تنسخ شريعتهم بالإسلام- ومن آمن منهم بمحمد-
صلى الله عليه وسلم وحافظ على هذا الميثاق الموجود في سائر الأديان، كعبد الله بن سلام،
وزيد بت سعنة. وقوله: {وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ} لتأكيد توليهم، أَي ثم توليتم وأَعرضتم عن تنفيذ هذا الميثاق، وأَنتم قوم عادتكم التولي والإعراض عن المواثيق، وهي عادة ورثتموها عن آبائكم، ويؤخذ كونه عادة لهم من الجملة الإسمية الدالة على الثبوت. {وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ} .
وفي الآية التفات من الغيبة إلى الخطاب للحاضرين من اليهود فى قوله: {ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ} ، لأَنهم خلف لهؤلاء السابقين، في السير على نهجهم فى نقض العهود وعدم احترام المواثيق، فكأَنهم هم، فلذا خوطوا بتوليهم وإِعراضهم.
المفردات:
{لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ} : تريقونها، بأن يقتل بعضكم بعضًا.
ْ {تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ} : أصله تتظاهرون، فحذفت إحدت التاءَين تخفيفا، أَي تتعاونون عليهم.
{بِالْإِثْمِ} : هو الفعل الذي يستحق عليه صاحبه الذم والملام.
{وَالْعُدْوَانِ} : هو التجاوز في الظلم.
{أُسَارَى} : جمع أسير، بمعنى مأْسور، وهو من يؤخذ على سبيل القهر والغلبة.
{تُفَادُوهُمْ} : تنقذهم بدفع الفداء، وهو ما بدفع في فك الأَسير.
{خِزْيٌ} : هوان.
{يُرَدُّونَ} : يرجعون.
{اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ} : آثروا متاعها على نعيم الآخرة.
التفسير
ذكر الله بني إسرائيل فى الآية السابقة ، بأَهم الأَوامر التي أَخذوا العهد عليهم بالإتيان بها، وأنهم لم يأتمررا بها. ونقضوا الميثاق الذى واثقهم به.
وهنا، ذكَّرهم بأهم المنهيات، التى أخذ الميثاق عليهم في التوراة: بأَن ينتهوا عنها، فلم ينتهوا. على سياق الالتفاف إلى الخطاب الذي ختمت به الآية السابقة. فإن الميثاق بذلك - وإن كان على أسلافهم- غير أن المعاصرين منهم للدعودة الإِسلامية. يزعمون تمسكهم بالتوراة، وأنهم عاملون بها. فلذا خوطبوا بأنهم خالفوا ما أخذ عليهم فيها من المواثيق كما صنع أسلافهم. وذلك لإلزامهم بما يزعمون تمسكهم به.
وقدم توبيخهم على ترك امتثال الأوامر ،على التوبيخ على عدم اجتناب النهيات؛
لأَن الأوامر هي الاصل فى التكاليف الشرعية. كل نهى عن فعل، أمر بضده. فالنهي عن
الزنى، أمر بالعفة ، وهكذا ، فالأَمر هو الأساس. والنهي تابع له.
84 -
أخذ الله عليهم الميثاق بأ إلَاّ يسفك بعضهم دم بعض.: عبر عنه بقوله:
{لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ} :إشعار بأن دم كل فرد من أفراد الأُمة ،كأنه دم الآخر. فإذا سفكه فكأنه سفك دم نفسه.
وكذلك واثقهم ألا يخرج بعضهم بعضا من ديارهم، كما بينه بقوله:{وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ} : يدخل فى معنى الإِخراج من الديار المنهى عنه: أن يتصدى الرجل لايذاء جاره، حتى يلجئه إِلى الخروج من داره.
ومن الإخراج: أن يكونوا سببا فيه، كما حدث من اليهود في خيانتهم لعهودهم مع المسلمين، إذ كانت خيانتهم لهم، سببا في إخراجهم من ديارهم حول المدينة عقايا لهم.
{ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ} :ثم أنتم -أيها المعاصرون للنبى صلى الله عليه وسلم قد أقررتم بهذا الميثاق، واعترفتم بلزوم العمل بمقتضاه، وأنتم تشهدون على أنفسكم باعترافكم به، ولزوم العمل بمفتضاه، وذلك مثل قولك: أقر فلان بكذا شاهدًا على نفسه.
أو المعنى: وأنتم تشهدون اليوم على أسلافكم: أنهم أقروا بهذا الميثاق.
وسواءٌ أكان المعنى هذا، أم ذاك، فإنه يقتضى أَن يعمل اليهود المعاصرون للرسول، بالميثاق الذي أخذه الله على اليهود في كتابهم، حيث إنهم معترفون به، زاعمون أنهم متمسكون بالتوراة.
وهذا من باب الإلزام لهم بما يعتقدون وما يعترفون به، لا من باب أن التوراة لا يزالون مكلفين باتباعها، فقد نسخت بالقرآن.
وقد تضمن هذا الميثاق أربعة أمور تعتبر أساسا لمجتمع فاضل، يسوده السلامِ والطمأنينة، والعدالة والمودة والرحمة: ألا يسفك بعضهم دم بعض، وألا يخرجه من داره، وألا يتظاهر عليه بالإثم والعدوان، وأن يفتديه إذا أُسر. ولكنهم لم يعملوا بهذا الميثاق، كما تحدثت به الآية الكريمة، إذ تقول:
85 -
{ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ
…
} الآية.
وقوله: {ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ} : خطاب خاص باليهود المعاصرين للرسول، فيه توبيخ شديد لهم واستنكار واستبعادٌ قوىّ. لما ارتكبوه بعد إقرارهم الميثاق، وشهادتهم عليه. و {أَنْتُمْ}: مبتدأ، و {هَؤُلَاءِ}: خبره. ومناط الإفادة اختلاف الصفات، وإن اتحدت الذات، إِذ المعنى: ثم أنتم- بعد ذلك الميثاق والإقرار والشهادة- هؤُلاءِ] المشاهدون الناقضون المتناقضون، كما تعرب عنه الجمل الآتية:
{تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ
…
} إلخ، فإنها بيان للخبر، وتفصيل لأحوالهم المدرجة تحت إسم الإشارة ضمنا ة كأنهم قالوا: كيف نحن؛ فقيل: تقتلون أنفسكم، وذلك يشبه قولك: أنت ذلك الرجل الذي فعل كذا وكذا.
وقال الفراءُ: هؤلاءِ، هنا: اسم موصول بمعنى، الذين وما بعد. صلة.
{تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} : أي تتعاونون عليهم قتلا وإخراجا آثمين فى حقهم، معتدين ظالمين فيما تصنعونه بهم.
{وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ} : أي وأنتم مع قتل بعضكم بعضا، وإخراج بعضكم بعضا من ديارهم ، إذا وجدتم الذين أخرجتموهم من ديارهم، أسرى في أيدى غيركم من الأعداءِ؛ تسعون لفكهم. وتبذلون عوضا لإطلاقهم، وهذا من التناقض العجيب، حيث استحللتم اخراجهم وتعريضهم للأسر.
{وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ} : فكيف تخرجونهم من ديارهم ،وتستحلُّون ذلك ،وهوحرام عليكم في التوراة ، وإذا صاروا في الأسر بإخراجكم لهم فاديتموهم؟
أَليس هذا نقضا للميثاق. في جانب، وعملا في جانب آخر؟ فلماذا لم تتبعوا حكمها فى النهي عن إخراجهم، رقد اتبعتموه في افتدائهم؟
فقد جاءَ فيها أنه -تعالى.- أَخذ عليهم الميثاق: ألا يقتل بعضهم بعضا، أو يخرجه من داره، وأيما عبد أو أمة وجدتموه من بني إسرا ئيل، فاشتروه واعتقوه.
وكان اليهود من بني قريظة وبنى النضير يقيمون بالمدينة، ويحالف الأولون الأوس، والآخرون الخزرج، فكانت الحرب وإذا قامت في الجاهلية بين الأَوس والخزرج، انضم إلى كل فريق منهما حليفه من اليهود، وقتل بعض اليهود بعضا، أَو أخرجوهم من ديارهم ،وبعد الحرب: يفدى كل فريق منهم، أسرى الفريق الآخر عند حلفائهم، فعيرتهم العرب، وقالت: كيف تقاتلونهم، ثم تفدرنهم؟ فيقولون: أمرنا أن نفديهم، وحرم علينا قتالهم، ولكن نستحيى أن نذل خلفاءنا؛ فذمَّهم الله على تناقضهم فقال:
{أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ} ، فتفدون أسراكم، {وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ} فتقتلون أنفسكم، وتخرجون فريقا منكم من ديارهم؟ إذ لو كانوا يؤمنون به كله لما تناقضوا في العمل به.
والاستفهام للإنكار والتوبيخ، على والتفريق بين أحكام الله التي أخذ عليهم العهد بالعمل بما في التوراة.
ومناط التوبيخ والإنكار، هو كفرهم ببعضها مع إيمانهم ببعضها الآخر، وسمى عصيانهم بالقتل
والإخراج من الديار كفرا، إبرازا لشناعة ما ارتكبوه، بتنزيله منزلة الكفر بأحكام التوراة.
لذا توعدهم الله، تعالى- عل عصيانهم بنقضهم الميثاق النزل منزلة الكفر- بالخزي العاجل في الحياة الدنيا، والعذاب في الآخرة. فقال تعالى:
{فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ} : فالإشارة في قوله {ذَلِكَ} : راجعة إلى القتل والإخراج من الديار: الذين نقضوا بهما عهد الله بغيا وكفرا.
والمراد بالخزي في الحياة الدنيا، الذل والهوان مع الفضيحة بين الناس، إذ كانت العرب تعيرهم بقتلهم لذويهم، مع أنهم يفادون أسراهم، ثم ما تلا ذلك من قتل بنى قريظة وإجلاء بني النضير إلى أذرعات وأريحاء من الشام، وفي ذلك أعظم الخزى.
وتنكيير الخزي لتهويله. ووعيدهم بالعقاب على مخالفتهم التوراة مع أنها نسخت بالقرآن: أَما لأن ما فعلوه بقومهم، كان قبل البعثة. وهم كانوا حينئذ، مكلفين بالتوراة، أو لأن القرآن لا يقر الظلم، كما لم تقره التوراة.
{وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ} : أَي أن هذا الخزى الذي نزل بهم في الدنيا، لا يكفر عنهم سيئاتهم، وإنما يصيرون الى أشد أنواع العذاب يوم القيامة.
والمراد من قوله: {يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ} : أنهم يعاقبون به وينتهون إليه.
وبهذا التفسير لا يقال: إن الرد إلى أشد العذاب يقتضى أنهم كانوا فيه قبل ذلك.
والتعبير بقوله {يُرَدُّونَ} بضمير الغيبة، للإيدان بعموم هذه العقوبة لمن يكون على هذا الكفر، وأَنها لا تختص بالمخاطبين من قبل، كما أن تحويل الكلام من أُسلوب الخطاب السابق إلى الغيبة هنا، يؤْذن بالإعراض عن خطابهم؛ لعظيم جرمهم.
{وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} : وليس الله بساهٍ عن أعمالهم القبيحة، التي من جملتها
هذا المنكر، بل هوعالم ومحيط بها، ومجازيهم عليها.
قد عاد الاقرآن إلى أسلوب الخطاب ف قوله لليهود: {وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} .
بعد أسلوب الغيبة المؤْذن بالإعراض في قوله: {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ} .
للمبالغة فى التهديد والوعيد.
ثم أكد الله عليهم الوعيد الشديد ، مبينا السبب الذي من اجله استحقوه بقوله:
86 -
{أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ
…
} الآية.
أَي آثروا متا عها من نحو الرياسة والمال ،وكل ما ينتفعون به من حظوظ عاجلة:
آثروه على نعيم الآخرة. فأَعرضوا عنها، وتركرا شرح الله. مع علمهم أن متاع الدنيا قليل. وأَن الآخرة خير للمتقين.
والإِشارة إِلى المذكورين بأَوصافهم، فيها بيان أن تلك الأوصاف هي السبب فيما توعدهم الله به.
وليس فيما صنعوا شراءُ وبيع على الحقيقة ،ولكنهم لما جعلوا حظوظهم من نعيم الآخرة المقيم ،بدلا لما تمتعوابه في الحياة الدنيا الفانية.
شبهت حالهم هذه بحال من يشترى شيئًا هينا، ب بثمن خطير عظيم، من حيث عدم تكافؤ قيمة البدل والمبدل منه فى كل. فإنهم لما كفروا ببعض أحكام التوراة، كان ثمنهم على هذا الكفر مرضاة حلفائهم، وبعض المنافع الدنيوية التافهة- على رأى- أو بقاء رياستهم الدينية فى قومهم - على رأى آخر- وكلا هما متاع الحياة الدنيا الذي لايساوى سيئًا بجانب نعيم الآخرة المقيم.
{فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ} : أىَ كل هؤلاء الذين تقدم ذكرهم- وقد آثروا متاع الدنيا عوضًا عن نعيم الآخرة- لا يخفف عنهم العذاب يوم القيامة، ولا يُقطع عنهم، ثم لا يجدونا نص هيرا يدفع عنهم- بقوته أو بشفاعته- ما وقعوا فيه من أشد العذاب، لأن أعمالهم قد سدت عليهم جميع أبواب الرحمة، فهم في العذاب الشديد خالدون.
المفردات:
{الْكِتَابَ} : التوراة.
{وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ} أي: بعثناهم على أَثره إليهم يقال: قفاه به أي: أَتبهه إياه وأَرسله على أثره
{الْبَيِّنَاتِ} الآيات الواضحة الدالة على نبوته.
{وَأَيَّدْنَاهُ} : قويناه، من آد الرجل إذا اشتد وقوى.
{بِرُوحِ الْقُدُسِ} : القدس: الطهاة. وروح القدس: هو جبربل عليه السلام أَي الروح المطهر.
{غُلْفٌ} : جمع أَغلف أي: مغشاة بأغلفة مانعة من وصول الهدى إليها
{يَسْتَفْتِحُونَ} : يستنصرون من الاستفتاح، وهو طلب الفتح والنصرة.
{فَلَعْنَةُ اللَّهِ} اللعنة: الإبعاد والطرد من مواقع رحمة الله.
التفسير
87 -
{وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ
…
} الآية.
ْهذا تذكير من الله لبنى إسرائيل، بضرب من النعم التي أنعم بها عليهم، فقابلوها
بالكفر والعصيان. وهي أن الله سبحانه وتعالى أَرسل موسى عليه السلام إليهم،
وآتاهم التوراة فيها هدى ونور لهدايتهم.
{وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ} :وأتبعناه بالرسل تترى -ومن هؤلاءِ الرسل: يوشع وداود وسليمان، وعزير وإلياس واليسع، ويونس وزكريا ويحيى- عليهم السلام فلم يكن لبني إسرائيل عذر يعتذرون به عن مخالفة هؤلاء الأنبياء. وكثرة الرسل فيهم ليست لأنهم شعب الله المختار، أو أنهم أَبناء الله واحباؤه كما يزعمون، بل لغلظة قلوبهم، وصعوبة انقيادهم. وليتوالي تفسير التوراة لهم بما تلاها من أسفار رسل بني إسرئيل، ولطول الفترة بين موسى وعيسى عليهما السلام، فقدكانت خمسا وعشرين وتسعمائة وألف سنه. على ماقيل.
{وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ} : وأرسل الله إليهم في أعقاب أولئك الرسل عيسى ابن مريم، وأعطاه الآيات الواضحة الدالة على نبوته. كإبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى بإذن الله. والإخبار ببعض المغيبات. وكذلك آيات الإنجيل، وإضافة عيسى إلى أُمه، للرد على اليهود الذين زعموا أن له والدا. وقالوا فيه فى أُمه ما قالوا، فأساءوا إلى الحق المؤيد بالمعجزات.
{وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ} :أي قواه الله تعالى -بجبريل الأمين الذى يؤيد الله به أنبياءَه. وإطلاق روح القدس على جبريل فى الإسلام شائع. ومن ذلك قوله تعالى:
{قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ} (1) وقوله صلى الله عليه وسلم لحسان:
"قل وروح القدس معك"(2).وقال له مرة أُخرى:"وجبريل معك"(3).وكان
حظه معهم كحظ من سبقه من الرسل. وإنما خص عيسى عليه السلام -بالذكرمن
بين أنبياءِ بني إسرائيل؛ لكونه صاحب كتاب نسخ بعض أَحكام شريعة موسى عليه السلام.
(1) النحل:102.
(2)
قال عمر لحسان: أنشدك الله. أسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
"أجب عنى، اللهم أيده بروح القدس" قال: (اللهم نعم) رواه مسلم عن أبي هريرة.
(3)
عن البراء- رضي الله عنه قال: سمعت ر سول الله صلى الله عليه وسلم يقول لحسان
ابن ثابت "أهجهم أو هاجهم. وجبريل معك" رواه مسلم.
وقوله: {أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ} :من أولئكم الرسل {بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ} :
من الحق المبين {اسْتَكْبَرْتُمْ} : على الاستجابة له {فَفَرِيقًا} :منهم {فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ} : غير مكتفين بتكذيبهم.
والاستفهام للانكار والتوبيخ على موالاة تكذيب الرسل وقتل بعضهم.
وفي الآية التفات من الغيبة في قوله تعالى: {فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ} ،
إلى الخطاب في قوله: {أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ
…
}
والآية لتشديد النكير عليهم، والإِيذان بأن المعاصرين للرسول منهم على نهج أَسلافهم، من التكذيب والفجور.
فقد كذبوا محمدا- صلى الله عليه وسلم وحاولوا قتله.
ولقد ذكرت الآية الكريمة أن السبب في ضلالهم هو: الاستكبار والاستعلاءُ. فهذا الاستكبار جعل هواهم هو المتحكم فيهم، فلا يتبعون إلا ما يناسب هوهم، حتى جعلوه إلهم فأداهم ذلك إلى أن يكذّ بوا النبيين أويقتلوهم، إن تمكثوا من قتلهم.
وعبر فى جانب القتل بالفعل المضارع فقال {تَقْتُلُونَ} ولم يقل: قتلتم، كما قال كذبتم،
استحضار لصورة قتل الأنبياء أمام السامع، وجعله كأنه ينظر إليها بعينه، فيكون إنكاره
لها أَبلغ، واستفظاعه لها أَعظم.
وعقب الله هذه الجنايات بأُخرى: حكاها عنهم بأُسلوب الغيبة -إ عراضًا عنهم -
فقال سبحانه.
88 -
{وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ
…
} الآية.
أَصر اليهود على العناد والكفر ،وعدم الاستماع إلى ما يد عوهم إليه الرسول صلى الله عليه وسلم معللين عدم إيمانهم، بأَن قلوبهم، مغشاة بأَغطية لا ينفذ منها إلى قلوبهم ماجاءَ به - صلوات الله عليه- حتى تفقهه عقولهم، على حد قول ومشركي مكة {قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ} (1) يعنون أَن
(1) فصلت: 5.
قلوبهم ليس فيها استعداد لقبول ماجاءَ به النبى صلى الله عليه وسلم وقد كذبوا، فانه دين الفطرة، فلو تركوا فطرتهم - كما خلقت عليه- لقبلته وآمنت به، ولكنهم أساءُوا الاختيار، ففسدت فطرتهم.
ولهذا رد الله تعالى عليهم بقوله: {بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ} .
و (بل) هنا للإضراب الإبطالى ،ورد ما يقولون ،أَي: ليس الأمر كما زعموا ،بل ابعدهم الله عن رحمته، بأَن خذلهم وتركهم وشأنهم، بسبب إصرارهم على الكفر، لسوءَ اختيارهم الذي أبطلوا به استعدادهم الفطرى لقبول الهدى، فاستحقوا بذلك أن يحرمهم الله من لطفه ورحمته. {وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} (1) ثم ختم الآية بالنتيجة فقال:{فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ} الفاء في {فَقَلِيلًا} افادت ترتب ما بعدها- وهو قلة إِيمانهم- على ما قبلها، وهو لعن الله لهم. وقليلا صفة لمحذوف، و (ما)؛ صلة لتأْكيد القلة، وليست نافية. أَي: فإيمانا قليلًا يؤْمنون. والمقصود من القلة العدم، أَي. لا يؤْمنون أصلا، لأَن الإيمان الشرعى لا يتجزأُ فإيمانهم ببعض الكتاب وكفرهم بالبعض الآخر. لا يعتبر إيمان بل كفرا، واستعمال القِلَّة بمعنى العدم معروف في لغة العرب، يقولون: هذا شىء قلما ينفع ، يريدون أَنه لا ينفع أصلا.
89 -
{وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ
…
} الآية.
وهذا نوع آخر من ضلالات اليهود الذين كانوا في عهد النبى صلى الله عليه وسلم وهوأنه لما جاءَهم كتاب منزل من الله- وهو القرآن مصدق للتوراة التى معهم، في التوحيد وأصول الدين، وموافق لها فما يختص ببعث النبي صلى الله عليه وسلم {وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا}:وكانوا - قبل مجيئة - يستنصرون على اعدائهم من الشركين، بالنبي المبعوث فى آخر الزمان، قائلين: اللهم أنصرنا عليهم
(1) آل عمران:117.
بالنبي الذي نجد نعته في التوراة. ويقولون لهم: قد أطل زمان نبى يخرج بتصديق ما قلنا. فنقتلكم به قتل عاد وإرم.
{فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ} : تكرير للشرط الأول فى قوله {وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ}
مع تغيير الأُسلوب ، وذلك لطول العهد بسبب توسط الجملة الحالية:{وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا} -أي: فلما جاءَهم الكتاب الذي عرفوا أنه من عند الله كفروا به. وإيراد الموصول {مَا عَرَفُوا} دون الاكتفاء بالإضمار بأن يقال لهم: فلما جاءَهم أَي الكتاب إنما جاء ليبان كمال مكابرتهم. فإن معرفتهم لما جاءَهم. من دواعي الإيمان لا الكفر. وقوله {كَفَرُوا} جواب {لمَّا} الأْولى عند المبرد. وقال أبو البقاء هو جواب الأولى والثانيه معًا.
وقيل إِن المراد بلفظ {مَا عَرَفُوا} هو النبي صلى الله عليه وسلم واستعمال {ما} فيمن يعلم كثير، كقوله تعالى {والسَّماَءِ وَماَ بَنَاهَا} (1) يعنى ومن بناها. وعلى هذا تكون جملة {كَفَرُوا بِهِ} جوابا عن {فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا} أما جواب {وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ}: فمقَّدرٌ وتقديره: كذبوه. وقد دل عليه جواب الثانية.
والمعنى عليه: فلما جاءَ هم الرسول- صلى الله عليه وسلم-الذي عرفوا صفاته ونبوته من التوراة: معرفة لا يخالجها ريب، حسدوه، لأنه من العرب أولاد إسماعيل، وملأ الحسد قلوبهم غيظا، {فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ}: الفاءُ لترتيب ما بعدها -من اللعن- على ما قبلها من الكفر، أًى: فلعنة الله عليهم وطرده لهم من حمته وتوفيقه، بسبب كفرهم بما عرفرا أنه الحق، وإصرارهم عليه، وإنما، قال {عَلَى الْكَافِرِينَ} ولم يقل عليهم ليشعر بأن سبب حلول اللعنة بهم هو كفرهم {وَعَلَى} تفيد استعلاءَ اللعنة عليهم وشمولها لهم.
(1) الشمس: 5.
المفردات
{بِئْسَمَا اشْتَرَوْا} :بئس فعل يستعمل لإفادة الذم، والمعنى: بئس شيئًا اشتروابه أنفسهم أن يكفروا. واشتروا هنا، تستعمل للشراء والبيع. قال فى الصحاح: شرى الشيء يشريه شرى وشراء إذاباعه وإذا اشتراه أيضا وهو من الأضداد، وهو هنا بمعنى: باعوا.
{بَغْيًا} ،البغي الفساد، من قولهم: بغى الجرح أي فسد. والمراد منه هنا: الحسد، لأنه من فساد النفس.
{فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ} : أي رجعو ابغضب فوق غضب، يقال: باءَ بإثمه يبوء بمعنى: رجع يرجع.
{مُهِينٌ} : مذل من الهوان، وهوالذلة.
التفسير
90 -
{بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ
…
} الآية.
اليهود كانوا ينتظرون بعثة النبي صلى الله عليه وسلم كما تقدم بيانه، فلما جاءَهم حسدوه، واستبدلوا بالإيمان الذي هيأ الله لهم أسبابه ليسعدوا .. استبدلوا به الكفر الذي يؤدى بهم إلى الشفاءِ الدائم، وآثروه عليه، فكان اختيار الكفر على الإيمان، بمنزلة بيع أنفسهم بالكفرإلى النار.
ولما كانت الخسارة في ذلك الاستبدال عظمة. قال سبحانه: {بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ} أي بئسما باعوها به {أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللهُ} .فالكفر هو الثمن الذي باعوا به أنفسهم، والمشترى الشيطان، أوجهنم، وكل ذلك من باب التصوير والتمثيل، لتهويل سوءِ ما اختاروه وتقبيح أمره.
{بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} :بسبب بغيهم وحسدهم أن ينزل الله الوحي على من يختار هـ من عباده، وهو محمَّد صلى الله عليه وسلم فقد حسدوه على النبوة، لما لم يكن من بني إسرائيل، بل كان من ولد إسماعيل أخى جدهم إسحاق. وكان ذلك منهم حبا في الرياسة ، وتعصبا لنبى جدهم إسرئيل، دون نظرإلى الحق، يريدون أن يقصروا فضل الله عليهم ،ولا يرضون عما أعطى الله غيرهم من فضله.
{فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ} :فرجعوا -بسبب حسدهم- بغضب من الله فوق غضب منه، أي استحقوا غضبا عظيما من الله، بكفرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم وحسدهم له على فضل الله عليه.
وقيل الغضب الأول اكفرهم بمحمد. الثاني لكفرهم بعيسى من قبله، فكان غضبا على غضب، بسبب كفر منهم بعد كفر، وقيل غير ذلك.
{وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ} : ولهؤلاءِ الذين عرفوا نبوة محمَّد صلى الله عليه وسلم وكفروا بها، عذاب مهين مذل. جزاء كفرهم واستكبارهم. وهذا العذاب مطلق يشمل عذاب الدنيا وعذب الآخرة، وقال:{وَلِلْكَافِرِينَ} ولم يقل لهم: تعليلا للوعيد بوصف الكفر.
91 -
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا}
…
الآية.
أي وإذا دعوا الإيمان والتصديق بما أَنزل الله على نبيه محمَّد أَنكروا وعارضوا، وقالو مستكبرين: إنهم ى يؤْمنون إ لابما أُنزل على أَنبيائهِم، زاعمين أنه لا حق إلا عندهم.
يريدون بذلك أن يتحكموا في وحي الله وفضله، {اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ} (1)
وصيغة الدعوة في قوله تعالى: {آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللهُ} تحتوى على حكمة في التعبير، إذ لم يقل بما أنزل الله على محمَّد. فإنها تؤذن بوجوب الإيمان بما أنزل الله تعالى، من حيث إنه هوالذي أنزله، فليس لهم، أن يقترحوا الرسول المنزل عليه ،ويختاروه بأنفسهم ،فالأمر ليس لهم ،ولكنهم -للجاجتهم في التعصب- يكفرون بغير ما عندهم ،ولا يؤمنون إلابما يجيءُ عن طريقهم.
{وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ} ، أي: ويكفرون بما عداه، مع أن ما دُعوا إليه هو احق الثابت المويد بالآيات والبراهين، حال كونه مصدقا لما عندهم، ومن كفر بما صدق كتاب فقد كفر بكتابه الذي يدعى الإيمان به.
وقد أفحمهم الله بالحجة التي تدحض قولهما بقوله لرسوله محمَّد- صلى الله عليه وسلم: {قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} أي قل لهم مبكتا مفحما: إن كنتم مؤمنين بما أنزل الله عليكم كما تزعمون، فَلمَ قتلتم أَنبياءَ الله الذين جاءُوا بما أُنزل عليكم؟. وإنما قال {فَلِمَ تَقْتُلُونَ} بدلا من "فلم قتلتم".استحضارا لصورة هذا الجرم الفظيع مبالغة في التقريع والتشنيع.
والخطاب للموجودين في زمن النبي صلى الله عليه وسلم بما فعل آباؤُهم، لرضاهم به، فإن من رضي بالمعصية، فكأَنه فاعل لها. وان كان غائبا عنها.
وقد يقال إن هذا من باب قولك كل جازا لأهل قبيلة: أَنتم قتلتم فلانا إذا كان القاتل آباءهم. والمراد: أن الأمر فيكم من قديم على الكفر بكتابكم، لا على الإيمان به، فدعواكم التمسك بكتابكم، منقوضة: خلفا عن سلف.
(1) الأنعام (124)
المفردات:
{الْعِجْلَ} :هو ما صنعه لهم السامري من الحلى. تمثالا على صورة العجل.
{الطُّورَ} :هو الجبل ،المعروف في شبه جزيرة سيناءَ.
{وَأُشْرِبُوا في قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ} :داخل قلوبهم مخالط بحب عبادة العجل.
التفسير
92 -
ْأي ولقد أرسلنا إليهم موسى بالَايات الواضحة، الدلة على صدقه عليه السلام في دعوته، وهي: العصا واليد، والسنون، ونقص الأموال والأَنفس والثمرات، الطوفان، والجراد والقمل، والضفادع والدم، وفلق البحر، وغير ذلك:(راجع الأعراف 130، 131 والآية 50 من سورة البقرة) وليس منها التوراة. فإن الآية ناطقة بأنهم عبدوا العجل بعد مجيء الآيات. والتوراة جاءَتهم بعد أن عبدوا العجل ،وموسى غائب عنهم لتلقيها من ربه، وقد غلط من عد التوراة منها.
والمعنى لقد أرسلنا إليكم موسى بهذه الآيات البينات، ولكنكم كفرتم بالله وأَشركتم به، فعبدتم تمثالا للعجل صنعه السامري من حليكم، بعد مجىء موسى بهذه الآيات من ربه، وانتهزتم لذلك فرصة غيابه عنكم لتلقى ألواح التورة ،وقد فعلتم ذلك وأنتم ظالمون بالإشراك
بدل التوحيد الذي تقتضيه البينات التي جاءكم بها. وأى ظلم أعظم من هذا {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} (1).
والتعبير بالجملة الاسمية: {وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ} فيه دلالة على ثبات الظلم واستقرار. فيهم، وأنه شأْن من شئونهم.
ولقد سبق التبكيت باتخاذهم العجل في قوله تعالى: {وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ} وأعيد هنا بعبارة أُخرى في سياق آخر، وهو أن الآيات البينات الدالة على النبوة والوحدانية. لم تزدهم إلا إيغالا في الشرك وانهماكما في الوثنية {ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ}: أي ثم اتخذتم العجل من بعد مجيء موسى بالبينات على رسالته. وصحة ما دعاكم إليه من: توحيد الله بالعبادة.
والتعبير بقوله {مِنْ بَعْدِهِ} يفيد أنه لم يكن لهم عذر في ذلك الاتخاذ. فإنه بعد بلوغ الدعوة، قامت الحجة عليهم. وخاطب الحاضرين لأنهم يسيرون على نهج أسلافهم ويعتزون بانتمائهم إليهم فيهم في الكفر جميعًا سواء.
93 -
{وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا
…
} الآية.
واذكروا يا بني إسرائيل إذ أَخذ الله العهد المؤكد عليكم بأن تعبدوه -سبحانه وحده- ولا تشركوا به شيئًا ، وإن تعملوا بشرعه. وكان أخذه الميثاق: عليكم ، في موقف كله رهبة وخشوع: بيان لقدرة الله تعالى. على عقاب من لم يمتثل، إذ رفع فوقكم جبل الطور كأَنه ظلة، تظلكم ،وظننتم أنه سيقع عليكم، وطلب منكم حينئذ، أن تَأْخذوا ما آتاكم الله من الشرع بقوة: بأن تسمعوه سماع تدبر وفهم وقبول. وتعملوا بما جاءَكم فيه من التكاليف بحزم وعزم. ولكنكم لم تلبثوا أن نقضتم العهد. بمجرد أن زال عنكم هذا الموقف
(1) لقمان:13.
{قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْتَا} : أي كانت حالهم في المخالفة مثل حال من قالوا: سمعنا قولك، وعصينا أمرك.
{وَأُشْرِبُوا في قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ}
…
واختلط حب عبادة العجل بقلوبهم، تقليدا لساداتهم من الفراعنة: الذين كانوا يعبدونه ويقدسونه، ولم ينتفعوا بتحرير الله لهم من ذل العبودية والقتل، بشق البحر لهم وإنجائهم.
لهذا انتهزوا فرصة ذهاب موسى عليه السلام -ألواح التوراة، فأرضوا حبهم لمعبودهم القديم، وعبدوا صنما على شكل العجل: صنعه لهم موسى السامري من حليهم، (انظر آية 148 من سورة الأعراف، وآية 18 وما بعدها من سورة ط).
والكلام على تقدير مضافين، أَي: وأشربوا حب عبادة العجل، وجاءَ النظم بدون المضافين للمبالغة، كأن الذكرًاشربوه هو ذات العجلي، والإشراب إفعال من الشراب.
ومن عادة العرب أنهم إِذا عبروا عن مخامرة حب أو بعض، استعاروا لهما اسم الشراب، وآثروه. على الطعام، لأنه يتغلغل في جميع الاعضاه أسرع وأَقوى منه.
{قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} ، قل لهم يا محمَّد: بئس الذي
يأْمركم به إيمان المزعوم بالتوراة: من الأعمال التي تقترفونها، كعبادة العجل، وقتل الأنبياء،
ونقض الميثاق. وقولكم {سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا} ، وإضافة الإيمان إليهم في قوله:{إِيْمَانُكم} .
للإيذان بأنه ليس بإيمان حقيقة، كما ينبئ عنه قوله تعالى:{إنْ كنْتُم مؤْمِنِينَ} فإنه قدح في دعوأحم لإيمان بما أنزلى عليهم عن التوراة. وإبطال لهذه الدعوى. وتقرير الإبطال: إِن كنتمّ -فيما اقترفتموه عن الشرك والمعاصي- مؤمنين بها، عاملين بما فيها كما ادعيتم، بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ إيمانكم المزعوم بها، إذ أن الإيمان الصادق بهلالا يأمركم بما اقترفتموه من الشرك والمعاصى، فليس فيها إباحة شىء من ذلك. وهذا برهان على عدم إِيمانكم بها.
المفردات:
{يُعَمَّرُ} :يطول عمره.
{بِمُزَحْزِحِهِ} :بمبعده.
التفسير
94 -
ما أكثر دعاوى اليهود الكاذبة!: ادعوا الإيمان بما أُنزل عليهم، فبينت الآيات السابقة فساد ادعائهم: بعبادتهم العجل واقترافهم كبائر الإثم. وادعوا دعاوى أخرى منها: أن الجنة لن يدخلها إلا من كان هودا، فهي خالصة لهم دون غيرهم، فأبطل الله دعواهم بهذه الآية. والمعنى: قل لهم يا محمَّد: إن كانت لكم جنة الدار الآخرة عند الله، وفي حكمه وكتابه خالصة لكم، وخاصة بكم من دون الناس جميعًا كما زعمتم:- إذ قلتم لن يدخلها إلامن كان هودا- فتمنوا الموت الدى يروصلكم إلى ذلك النعيم الخالص لكم، الخاص بكم.
إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ في دعواكم. فإن النفس تستعجل خبرها.
95 -
{وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ
…
} الآية
ولن يَتمنوا الموت أَبدا، بسبب ما ارتكبوه من الآثام، لشدة خوفهم من العاقبة، لأنهم
يعرفون أنهم عاصون، مقترفون للذنوب التي يستحقون عيها العقوبة في الدار الآخرة، ولذلك يستأجلون ولا يستعجلون.
وعبر عن أنفسهم بأيديهم؛ لأن معظم الأعمال تتم بالأيدى، ونفى تمنيهم الموت بلن المفيدة لتأكيده، لأَنه ظاهر من حالهم، فإنهم أحرص الناس على الحياة وجمع المال، والانغماس الشهوات والملذات، ومن كَان كذلك، لا يتمنى أن يموت.
وهم في هذا الزعم- بأن الدار الآخرة خالصة لهم- ظالمون، كما، أنهم ظالمون في كل أمورهم، ولهذا هددهم الله وتوعدهم على ظلمهم، فقال:{وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} أي: عليم بهم، وبما صدر عنهم من فنون الظلم، من السفر وسائر المعاصي المفضية إلى أشد العذاب، وعليم بأنهم لن يتمنوا الموت لظلمهم، كما أَنه عليم بسائر أحوالهم.
وكان التعبير {بِالظالِمِينَ} دون {بِهِمْ} . للإِيذان بأن السبب في حرمانهم من الدار الآخرة، أنهم ظالمون في أمرهم كله، وان كل من كان على شاكلتهم في الظلم والمعاصي، فهو مهدد بالعقاب، كما هددوا به.
96 -
{وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ
…
} الآية.
في هذا والذي قبله، إبطال لزعمهم، وبيان لحقيقة حالهم: من الإخلاد إِلى حياة الدنيا، فهم أشد الناس حرصا عليها، وعلى التمسك بأهدابها. ولو كانوا يؤمنون حقيقة بأن الدار الآخرة لهم- كما زعموا بالسنتهم- لتمنوا الموت، وما كانوا أحرص الناس على حياة.
وتنكير (حياة) للإطلاق: أي أحرص الناس على آية حياة، وإن كانت ذليلة، فهي عندهم خبر من الموت، كيفما كانت.
{وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا} : أي وهم أشد حرصا على الحياة من الذين: أشركوا ،ولم
يؤمنوا بالله، ولا باليوم الآخر. وخصوا بالذكر بعد اندراجهم في الناس، لأنهم لا يؤمنون
بحياة أخرى بعد هذه الحياة، ويقولون:{إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ} (1).
فجيءَ بهم لتأكيد حرص اليهود على الحياة الدنيا.
(1) المؤمنين: 37.
وفي هذا توبيخ عنيف لليهود، لأنهم إذا زاد حرصهم على الحياة - وهم أهل كتاب، يؤمنون بالآخرة - على حرص الناس جميعًا، حتى الذين لا يعرفون إِلا الحياة الدنيا، ولا يصدقون ببعث ولا نشور -كانوا- جديرين بأعظم التوبيخ.
وقوله: {وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا} معطوف على ما قبله بحسب المعنى، كأنه قيل: أحرص من الناس ومن الذين أشركوا. فقوله (أحْرَصَ النَّاسِ) فيه كلمة (من) مقدرة بعد أحرص.
وإِلى هذا ذهب عبد القاهر، وأَبوعلى وغيرها، فقد قالوا إن أفعل إذا أُضيف وأُريد منه الزيادة على، ما أُضيف إليه، كانت إِضافته لفظية بتقدير: مِنْ
{يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ} : أَي بلغ من: مدة غلوهم في الحرص على الحياة، أن الواحد منهم، يتمنى أن يعيش السنين الكثيرة، ولو تجاوزت الحد الذي يبلغه الإنسان في العادة. فكلمة (أَلفَ سَنَة) كناية عن المدة الطويلة، التي يود أن يحياها. وليس المراد خصوص العدد؛ لأَن العرب تذكر الأَلف، وتريد الكثرة.
وإنما يودون البقاء في الدنيا، لأنهم يرون أَنها- على ما فيها منغصات - خير من الآخرة لما يتوقعون من سخط الله، وتعذيبه لهم على ما أسلفوا من كفر وعصيان، وذلك خير شاهد على أَنهم لا يعتقدون ما يقولون: من أَن نعيم الدار الآخرة خالص لهم.
{وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ} وما ذلك التعمير لو تم، بنافعه ولامبعده من عذاب الله المحتوم، لأنه لا بد له من الموت والعرض على الله، ليجازى على ما قدم في دنياه.
والتعبير بالجملة الإسمية، للدلالة على دوام بقائهم في النار، وعدم تزحزحهم عنها.
{وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ} أي واعُد عالم بأعمالهم ومحيط بها، علم من ببصر ويرى، ولا تخفى عليه خافية من أمرهم، ومجازيهم عليها، بما أعده لهم من العقاب.
وفي هذا تهديد ووعيد لهم.
وعبر بالمضارع {يَعْمَلُونَ} بدلا من الصدر؛ لتصوير عملهم بأَنه كان يتجدد آنا بعد آن.
المفردات
{عَدُوًّا} : العدو ضد الصديق. ويطلق على الواحد والجمع.
{جِبْرِيلَ} : أمين الوحى بين الله -تعالى- ورسله، وهو روح القدس.
{مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} : أي مؤَيدا ما تقدمه من الكتب السماوية، التي نزلت على من سبق نبينا من الرسل.
التفسير
97 -
{قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ
…
} الآية.
سبب نزولها: أَن اليهود قالوا للنبي -صلى الله طيه وسلم- إنه ليس نبي من الأنبياء؛ إلا ويأتيه ملك من الملائكة من عند ربه بالرسالة والوحي. فمن صاحبك حتى نتابعك؟ فقال: جبريل، قالوا: ذاك الذي ينزل بالحرب وبالقتال، ذاك عدونا: لو قلت: ميكائيل الذي ينزل بالقطر وبالرحمة. تابعناك، فأنزل الله الآية، إلى قوله:{لِلْكَافِرِينَ} أخرجه الترمذي.
رُوىَ أن عمر جلس ألى بعضهم وسألهم عن جيريل عليه السلام فقالوا: ذاك هو عدونا، يطلع محمدًاعلى أسرارنا، وهو صاحب كل خسف وعداب. وميكائيل يجيء بالخصب والسلام ، فرد عليه عمر: بأن من كان عدوا لأحدهما، فهو عدو للآخر، وعن كان عدوا لهما، كان عدوا لله -سبحانه- فلما رجع عمر، وجد جبريل عليه السلام، قد سبقه بالوحي، فقال- صلى الله عليه وسلم "لقد وافقت ربك يا عمر"
المعنى: من قبائح اليهود، قولهم ئ جبريل عليه السلام هو عدونا، وأرادوا من هذا القول: أَنهم لا يؤمنون بوحى يجىء به عدوهم. فهم لا يؤمنون بالنبي- صلى الله عليه وسلم من أَجل أن جبريل هو الذي ينزل عليه بالوحي. فأمر الله نبيه- صلى الله عليه وسلم أن يرد عليه بما معناه: قل لهم يامحمد: من كان عدوًّا لجبريل لأنه جاءك بالقرآن فهو عدو لله، فإن جبريل نزل بالقرآن على قلبك ، بإذن الله مصدقا لما سبقه من الكتب السماوية، وهدى ورحمة، وبشرى للمؤمنين، ولم يأت به إليك من عند نفسه. ومن عادى ملكا جاءك من عند الله بكتاب هذا شأنه، فإنه عدو لله الذي أرسله.
وجعل القلب محل التنزيل، لأنه موضع العلم والعقل وتلقى المعارف ومعنى قوله:{مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} ، أنه مؤيد ماسبقه من الكتب السماوية، ومنها التوراة في أصول العقائد والأحكام والأخلاق، وإِذا كان كذلك، لا يصح أَن يعادى من جاء به، ولا من أنزل عليه {وَهُدى وَبُشرَى للْمُؤمِنِينَ} ، أي وهاديا إلى سبل السعادة والفلاح، وبشرى للمؤمنين بالجنة، والنعيم المقيم.
وفي وصفه بهد وبشرى -وهما مصدران- فيه توكيد لكونه هاديا ومبشرا وقوله {فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ} تعليل لجواب الشرط المقدر. قائم مقامه، والتقدير: من كان عدوا لجبريل، كان عدوا لله، فإنه نزَّله على قلبك.
وخص المؤمنين بالذكر: لأنَّه -بالنسبة إِليهم- هدى وبشرى. أما غيرهم من المصرِّين على الكفر. فهو عليهم عمى، ولهم نذير بأشد العذاب.
98 -
أَي من كان عدوا لله بمخالفة أَمره عنادا، والخروج عن طاعته مكابرة، وءدوا لملائكته برفضه الحق الذي جاءُوا به من عنده -تعالى- لرسله، وعدوا لرسله بتكذيبهم، وعدوا لجبريل وميكائيل خاصة، من كان عدوا لهؤلاء- وعداوتهم كفر- عاداه الله، فإن الله عدو للكفرين- ومن عاداه الله باءَ بالعذب المهين.
وجميع الملائكة، مع أنهم عادوا جبريل -وحده - لأن معاداة أَحدهم معاداة لسائرهم، وَجَمَعَ الرسل، مع أنهم عادوا محمدا، لأن معادة أحد الرسل معاداة للجميع - وميكال هو ميكائيل،
وبالثانية قرأَ حمزة والكسائى وابن عامر وغيرهم، وبالأُولى قرأ أبو عمرو وحفص وهي لغة أهل الحجاز.
وإفراد جبريل وميكائيل بالذكر- مع دخولهما في الملائكة - لإظهار فضلهما، وللتنبيه على أن عداوة جبريل تعتبر عدواة لميكائيل، فلا وجه لادعائهم حب ميكائيل وكراهة جبريل، لأن بغض أي ملك، فى حكم بعض الجميع.
وقال في الآية {عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ}
…
ولم يقل عدوله أَو لهم؛ للإِيذان بأن عداوة من ذكر في الآية كفر، وأن الله عاداهم لكفرهم.
المفردات:
{آيَاتٍ} : المراد بها آيات القرآن.
{بَيِّنَاتٍ} : واضحة الدلالة على معانيها.
{الْفَاسِقُونَ} : الخارجون عن الحق إلى الباطل والفساد.
{نَبَذَهُ} : طرحه وألقاه، من النبذ وهو إلقاء الشىء وطرحه؛ لعدم الاعتداد به.
التفسير
99 -
{وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ
…
} الآية.
ولقد أنزلنا إليك آياَت القرآن حُجَجَاعلى نبوتك، بما اشتملت عليه من وجوه الإعجاز للبشر، واضحات الدلالة على معانيها وكونها من عند الله؛ ولذلك كانت أحق وأولى بالقبول والاذعان.
واسهلال العبارة بقوله: {وَلَقَدْ} لمزيد تحقيق ما اشتملت عليه الاية الكريمة {وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا الْفَاسِقُونَ} : لا يكفر بهذه الآيات البينات إلا الفاسقون، أَي المتمردون في الكفر، الخارجون عن حدوده، فإن من ليس على تلك الصفة من الكفر، لا يجترئُ على الكفر بمثل هذه الآيات الواضحات.
قال الحسن: إذا استعمل الفاسقين نوع من المعاصي؛ وقع على أَعظم أفراده من كفر أوغيره. من أشد هؤُلاءَ الفاسقين فسقا: اليهود، إذ أنهم كفروا بالآيات البينات، مع تأكدهم من صدق من جاء بها، عنادًا لمن ظهر الحق على يديه، وحَسَدًا له، فإنهم يعرفونه ْكما يعرفون أبناءَهم.
100 -
{أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ}
…
الآية.
من عادة اليهود: أن ينقضوا العهود والمواثيق؛ ولا يفون بها.
ومن ذلك: أَنهم كانوا على نية الإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلم إذا بعث. ولهذا كانوا يستفتحون ويستنصرون به إِذا حاربوا المشركين قبل أَن يبعث، فيسألون رَبهم النصر، ببركة النبي المنعوت بصفاته في التوراة، ويقولون لهم: قد أَطل زمان ني سنقتلكم نحن معه قتل عاد وإرم، كما سبق بيانه.
والاستفهام في {أَوَ كلُمَا} : للإِنكار والتوبيخ والتعجيب من شأنهم، و {كُلَّمَا} لإفادة تكرارهم لنبذ العهود، والواو قبلها للعطف على مقدر يستدعيه المقام. والتقدير: أكفروا بهذه الآيات، وكلما عاهدوا عهدا نبذه فريق منهم، ومن جملة ذلك: عهدهم ووعدهم بالإيمان بك يا محمَّد إذا بعثت!
وعبر عن نقضهم للعهد، بالنبذ، ليشير إلى أَنهم تركوه مستهينين به، لأن النبذ يكون للشيء الذي لا يعتد به. وإِسناد النبذ إلى فريق منهم، يؤذن بأن منهم من لم ينبذه.
{بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} ، أَي: بل أَكثر اليهود لا يؤمنون بالتوراة، إِلى جانب أن أَكثرهم ينقضون العهد فايمانهم بالتوراة، لا يجاوز حناجرهم، ولوآمنوا بها حقا، لسارعوا إلى الإيمان بك يا محمد، فأنت منعوت بأوصافكِ فيها.
101 -
{وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ
…
} الآية.
الرسول: هو محمَّد صلى الله عليه وسلم ووصفه بأنه جاءهم من عند الله فيه تعظيم له. فإن عظمة المرسِل تقتضى عظمة رسوله. وفيه إلى- جانب ذلك- مبالغة في استنكار كفرهم به، أي: ولا جاءَهم رسول عظيم من عند الله: مصدق لما معهم من التوراة، من حيث إنه جاءَ على الوصف الذي وصف به فيها، كما أن كتابه الذي جاءَ به موافق لما فيها، من قواعد التوحيد وأصول الدين والأخلاق، وأخبار إلأُمم.
أي ولما جاءَهم محمَّد- صلى الله عليه وسم - مصدقا لما معهم فما تقدم، نبذ فريق من اليهود الذين أوتوا التوراة، كتاب الله وهو القرآن، إذ كفروا بالرسول الذي جاءَ به، وأعرضوا عما جاء في التوراة مبشرابه- صلى الله عليه وسم- كأَنهم لا يعلمون أنه كتاب الله، أو أن محمدا رسول الله، والواقع أنهم يعلمونه علمًا يقينيا، ولكنهم نبذوه مكابرة وعنادا وجريا على سنتهم في نبذ العهود. فإنه قد أخذ عليهم العهد في التوراة أنه: إذا جاءهم هذا الرسول المنعوت، يؤمنون به وينصرونه، فنقضوا هذا العهد بكفرهم به.
وإنما شبههم بمن لا يعلمون، لأَن رفض الحق من شيمة الجهلاء، وهم بنبذهم الحق، مع علمهم به- يشبهون الجهلاء الذين لا علم عندهم.
وفي الآية تصوير بيانى حكيم، حيث شبه حال التاركين للعمل بالكتاب المهملين له، بحال من يرى شيئا وراءَ ظهره، نابذًا له وكارها.
وإضافة كتاب إلى (الله)، فيها إظهارلبشاعة جرمهم، حيث طرحوا أعز كتاب وراء ظهورهم.
وقصرُ نَبد الكتاب - وهو القرآن - على بعضهم، يؤذن بأن بعضا آخر لم ينبذه، كعبد الله بن سلام، وزيد بن سعنة من أحبار اليهود، وغيرهما ممن أكرمهم الله بالإِيمان الصادق برسول الله والقرآن المجيد.
ويرى بعض المفسرين: أن المراد بكتاب الله الذي نبذوه: التوراة.
قال السدي: لما جاءَهم محمَّد- صلى الله عليه وسلم عارضوه بالتوراة، فاتفقت التوراة والقرآن، فنبذوا التوراة وأخلوا بكتاب آصف، وسحر هاروت وماروت، فلم يوافق القرآن.
المفردات:
{وَاتَّبَعُوا} :تخبر وتحدث أَو تقول.
{عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ} : على عهد ملكه وفي زمانه.
{السِّحْرَ} : إخراج الباطل في صورة الحق، وهو- في الأصل- مصدرسحر يسحر- بفتح الحاء فيهما - إِذا أبدى ما يدق ويخفى، ويستعمل فيما لطف وخفى سببه والمراد هنا: أمر غريب يشبه الخارق المعجز وليس بالخارق، إذ يجرى فيه التعلم كالذى حصل من سحرة فرعون، حيث أظهروا لموسى حبالهم وعصيهم أَنهاتسعى، وليس ذلك من باب قلب الحقائق، بل هو تخييل. وسيأتى لذلك مزيد بيان في المعنى.
{بِبَابِلَ} : بلدة قديمة، كانت بالعراق ينسب إليها السحر.
{هَارُوتَ وَمَارُوتَ} : اسمان للملكين اللذين أنزل عليهما علم السحر، وسيأتى بيانِ المراد منهما.
{فِتْنَةٌ} : ابتلاء واختبار
{اشْتَرَاهُ} : استبدل ما تتلوا الشياطين بكتاب الله.
{خَلَاقٍ} : نصيب فى الخير.
{لَمَثُوبَةٌ} : لأجر وثواب.
التفسير
102 -
{وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ
…
} الآية.
أخبر الله سبحانه وتعالى فى الآية السابقة: أَن اليهود الذين أوتوا التوراة: لما جاءهم رسول من عند الله؛ نبذوا كتاب الله وهو لقرآن، وكفروا به- صلى الله عليه وسم- مع أنه مصدق للكتاب الذي معهم. لكونه مطابقا للأوصاف الموجودة فيه.
ثم عطف على هذه الجريمة -وهي نبذهم لكتاب الله- جريمة أُخرى، هي: اتباعهم الشياطين بمزاولة السحر بدل العمل بكتاب الله.
والمعنى: أن اليهود - لما جاءهم الرسول بالقرآن- نبذوه، واشتغلوا بالسحر الذي كان عليه آباؤهم من قبل.
فالمراد مما تتلوه الشاطبن: كتب السحر، التي كانت تقرؤها الشياطين: أي المتمردون من الإنس والجن.
وتتلوا: حكاية للحال الماضية، أَي ما كانت تتلوه الشياطين على عهد ملك سليمان، والمراد باتباعهم إياها: استمرار اتباعهم لها واشتغالهم بها، فقد كانوا متبعين لها قبل مجي الرسول صلى الله عليه وسلم.
وقد كانت الشياطين في عهد سليمان تلقن كهان اليهود، وتتلوا عليهم قواعد السحر، وتخبرهم كذبا: أن ملك سليمان وسلطانه على الإِنس، والجن، والطير والريح، لم يقم إِلا على تلك القواعد، فكافوا يدونونها من الجن في كتب لديهم: توارثها الخلف عن السلف، حتى وصلت إلى اليهود بالمدينة ، فكانوا يشتغلون بما فيها قبل مبعث النبي- صلى الله عليه وسم - ولما بعث، رفضوا كتاب الله الذي جاء به، وفضلوا عليه الاستمرار في مزاولة السحر الذي
يحرمه، مع أَن الديانة اليهودية قامت على إبطال السحر، الذي جاء به سحرة فرعون وحملتهم على الإيمان بالله، وقررت أن الساحر لا يفلح حيث أَتى.
ولما كان السحر يؤدي إلى الكفر. كما سيأتى، وكان اتهام الشياطين واليهود لسليمان بمزاولته يشينه، نفاه الله عنه بقوله:{وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ} : فأكذبهم الله سبحانه وتعالى بهذا، ونزه سليمان عليه السلام عن عمل السحر الذي نسبه إليه أُولئك الشياطين، وتبعهم في ذلك اليهود الذين من شيمتهم تلويث الأنبياء، كما نلمسه في أسفار العهد القديم.
وفي الآية دليل على أَن من يستخدم السحر ويؤمن به؛ يكون من الكافرين؛ لأَن قوله تعال: {وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ} : حجة على أن السحر: ضرب من ضروب الكفر.
وقد أطلق القول بكفر من يزاوله: العلامة التفتازانى.
ْولكن الشيخ أَبا منصور ذهب إِلى أن إطلاق القول بأن السحر كفر خطأ ، وأَنه يجب التفصيل فيه، فإن كان فيه رد ما لزم من شروط الإيمان فهو كفر، وإلا فلا.
وعلى هذا، فالمراد من السحر الذي هوكفر: ما كان بالتقرب إلى الشيطان بالسجود له أَو لصنم أو غيره، أَو بالرُّقَى بعبارات فيها شرك بالله -تعالى- أَو نحو ذلك مما ينافى أصول العقيدة الإِسلامية؛ كاعتقاد الساحر أن ما يستعين به في سحره- مثل الجن والنجوم- لها قدرة ذاتية على النفع والضر.
وعقاب السحر الذي هو كفر: قتل الذكور وحبس الإناث وضربهن ما لم تقع منهم توبة وأما ما ليس بكفر - وفيه إِهلاك النفس- ففيه- حكم قطاع الطريق، ويستوى فيه الذكور والإِناث، وتقبل توبة صاحبه إِذا تاب. هذا رأى بعض الفقهاء.
والمشهور عن أبي حنيفة رضي الله عنه: أن الساحر يقتل مطلقا إذا علم أنه ساحر، سواء أَكان ذكرا أَم أنثى. وتقبل توبته إِذا تاب.
ومذهب مالك رضي الله عنه كما نقله القرطبي: أَن المسلم إِذا سحر بنفسه بكلام يكون كفرا، فإنه يقتل، ولا يستتاب، ولا تقبل توبته.
ومن أَراد معرفة مذاهب العلماء وآرائهم في السحر وأحكامه، فليرجع إلى المطولات.
وأما الشعوذة وما يجرى مجراها، مما فيه إظهار أمور عجيبة باستعمال آلات هندسية أو خفة يد، أو الاستعانة بخواص الأدوية والأحجار، فإنها ليست من السحر، وإطلاق السحر عليهامن قبيل التجوز، أو لما فيها من الدقة كما ذكره الآلوسي.
{وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ} أي: أَتبع اليهود ما كانت تقرؤُه الشياطين على الكهنة من أبواب السحر من عهد ملك سليمان، زاعمين أن سلطانه قام عليه، واتبعوا أيضًا، ما أنزل على الملكين: هاروت وماروت ببابل، وذلك أَن بابل كانت مدينة بالعراق يسكنها الصابئون الذين يعبدون الكواكب، وكان منهم أُناس يزاولون السحر، ويدعون الناس إِلى الكفر؛ وتقديس الكواكب والشياطين، ويسيطرون عليهم بالسحر؛ ليحملوهم عل عبادتها.
ومن رحمة الله - تعالى - أنه جعل من نواميسه ألا يذر الشر وحده يسيطرعلى عباده، فلذا سخر رجلين صالحين - اسمهما هاروت وماروت- لنحذير الناس، فكانا لصلاحهما- يشبهان الملائكة، فلذا أطلق الله عليهما الملكين.
ولما كان لكل شيءٍ آفة من جنسه، فلذا ألقى الله في قلبيهما علم السحر، فكانا يعلمان الناس السحر لكي يتخلصوا بتعلمه من سيطرة السحرة من الصابئة، ويتقوا شرورهم، وكانا يمزجان التعليم بالتحذير، فيقولان لمن يعلمانه: إنما نحن فتنة، أي امتحان من الله -تعالى- لعباده لينظر: أينتفعون بسحرنا في اتقاءِ الشر وجلب الخير، أم يسيئون استخدامه في الإضرار بالناس، وإفساد العقائد؟، فهو سلاح ذو حدين، فكما ينفع، يضر ويفسد العقيدة.
وفي ذلك يقول الله - تعالى -:
{وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ} .
والمقصود من إنزال السحر على هذين الرجلين المشبهين للملائكة: إلقاؤه في قلبيهما وتَعْليمهماَ إياه.
وكل العلوم والمعارف تنزل على القلوب من عند الله - تعالى-:
وقيل: انهما ملكان، وإن السحرة قد كثروا في ذلك العهد، واخترعرا فنونا غريبة من السحر: يموهون على الناس بها، وربما زعموا أَنهم أنبياءَ، فبعث الله - تعالى - هذين الملكين ليعلما الناس وجوه السحر حتى يمكنوهم من التمييز بينه وبين المعجزة، فيحذروا الكذابين، ولا ينخدعوا بسحرهم.
وما قلنا من أن الملكين: رجلان صالحان شبها بالملائكة لصلاحهما، هو الرأى الحق، وتؤيده قراءَة (الملكين) بكسر اللام.
أما من أخذ اللفظ على ظاهره، وقال: إنهما من الملائكة بعثهما الله لتحذير الناس من السحر، فقد جانبه الصواب؛ لأن سنة اقه أن يجعل رسله من البشر لا من الملائكة.
ولهذا لما طلبت قريش أن ينزل الله لهم ملكا، رد عليهم بقوله {وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ (8) وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ} (1).
وقد دلت الآية على: أن تعلم السحر كله غير حظور، وإنما المحظور منه ما يؤَدى بصاحبه إلى الكفر، باعتقاد فاعلية الشيطان، والكواكب، وألوهيتها، أَو السجود لها أو لصنم أو غير ذلك مما ينافى الإيمان. فالمقصود من قوله {فَلَا تكْفُرْ}: أي لا تكفر بما يخالف شروط الإيمان من قول أو عمل أَو اعتقاد.
{فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ}
ذكر الله في هذا الجزء من الآية، لونا من ألوان السحر، الذي كان يعلمه الملكان لأهل بابل، وهو السحر الذي يكون من أثره إزالة الألفة بين الزوجين، واحداث العداوة أو البغضاء بينهما، إلى أن يتفرقا. واختصه بالذكر؛ لأنه من الصور التي تظهر فيها مفسدة السحر بأشد ما يكون. فلهذا آثر إِبرازها ليعلم الناس منها مدى ما يصل إليه السحر من الإضرار بالمجتمع؛ فإن إفساد الأسرة افساد للمجتمع؛ لما فيه من تشريد الأولاد الذين هم أَساسه.
ويتسع الشر إذا أريد بالمرءِ وزوجه: الإنسان ومن يزاوجة وبقارنه، فينضم إلى الإنسان
وزوجته كل قرينين بينهما إلفة كالأخوين والشريكين والصالحين، ومن هذا المعنى.
(1) الأنعام: 8 و 9.
(2)
الصافات: 22.
{وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} : أَي وما يضر السحرة بهذا السحر أَحدا كائنا من كان، إلا بعلم الله وإِرادته؛ فهم إِذن لا يستطيعون أَن يحدثوا بسحرهم ضررا دون ارادة الله، ودفع بهذا توهم أن يكون ضارًّا بذاته، بل بِإذن الله - تعالى - ربطا للمسببات بالأسباب.
{وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ} : ويتعلمون من السحر ما يضرهم ولا ينفعهم لأَنهم يقصدون بتعلمه الشر والإضرار بالناس. وقصدُ المعصية يعتبر معصية يعاقب الله- تعالى- عليها يوم القيامة.
أو لأن العلم يدعو إلى العمل ويجر إليه، ولا سيما الشر الذي هو هوى النفس ومطلبها.
والتصريح بقوله: {وَلَا يَنْفَعُهُمْ} بعد إثبات ضرره؛ للإيذان بأنه ليس من الأمور المشوبة بالنفع والضر، بل هو ضرر محض.
وظاهر هذه الفقرة من الآية يُقَوِّى رأى القائلين بحرمة تعلمه مطلقا.
{وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ} : ولقد علم هؤلاءِ اليهود الذين نبذوا: كتاب الله، واتبعوا السحر: أَن من استبدل السحر بكتاب الله وآثره على شرعه -سبحانه- ليس له أىُّ حظ من الجنة، ولا أي نصيب من الخير يوم القيامة؛ لأنه لم يكن له إيمان ولا عمل صالح يكافأ عليه.
{وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} .
{شَرَوْا} أي باعوا، وهي من الأضداد، ومما جاءت به بمعنى البيع أيضًا قوله تعالى {وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ} (1) أي باعوه بثمن قليل. والعلم هنا منزل منزلة اللازم، غير منظور فيه إلى مفعول، أيَ لوكان عندهم علم وعقل.
والمعنى: ولبئس هذ الذي باعوا به حظ أَنفسهم من الخير، وهو تعلم السحر والعمل به. ولو كان عندهم علم وعقل، لأدركوا أَن هذا السحر ضار، مفسد للنفس والعقل والناس، ولامتنعوا عن تعلمه والعمل به.
وإنما نفي عنهم العلم، لأن العالم إِذا لم يجر على موجب علمه، ينزل منزلة الجاهل وينفي عنه العلم كما ينفي عن الجاهل.
103 -
{وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} أَي: ولو أن هؤلاء الذين يتعلمون السِّحْرَ ويؤثرونه على ما أنزل الله، أو أنهم آمنوا بالنبي - صلى
(1) يوسف: 20.
الله عليه وسم- وبما أنزل عليه من القرآن الذي فيه هدايتهم، واتقوا الله بامتثال أوامره واجتناب نواهيه، لأُثيبوا على ذلك، وثواب الله خير لهم من السحر. ولو كانوا من أولي العلم الذين ينتفعون بما يعلمون، لم يفعلوا ذلك، ولكنهم آثروا الحياة الدنيا على الآخرة، فكفروا وعصوا، فكانوا من الخاسرين.
وفي النظم الكريم: تنكير مثوبة ليبين فضلها باى قدر، فقليل من ثواب الله - تعالى - في الآخرة خير من نعيم الدنيا الفانية. مهما كثروعظم، فكيف وثواب الله - تعالى - كثير دائم:
وفي ذلك: ترغيب في طاعة الله، وترهيب من المخالفة التي تجر إِلى عقابه تعالى.
واستنبط بعض العلمان من الآية: أَن مَنْ تعلم السحر لا ليعمل به، ولكن ليتقى ضرر، أو علمه غيره لهذا الغرض، ة لا حرمة عليه، فإن القرآن الكريم ذكر عن الملكين انهما كانا يعلمان- الناس السحر، ولم يعقب حكاية ما فعلاه بالنهى عنه. وهذا يقتضى إباحة تعلمه، للتمييز بين السحر وببن المعجزة والكرامة. ولاتقاء ضرره.
ولا ننسى ما بيناه من الخلاف في حكم تعلمه وتعليمه.
المفردات:
{رَاعِنَا} : أي انتظرنا وتأَنَّ بنا حتى نفهم كلامك. وأصله من المراعاة، وهي المبالغة في الرعى. وهو الحفظ والتدبير. وتدارك المصالح.
{انْظُرْنَا} : انتظرنا وتأَنَّ بنا.
{مَا يَوَدُّ} : الود: محبة الشىء وتمني وقوعه.
التفسير
104 -
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
…
} الآية.
هذا نداء من الله سبحانه وتعالى للمؤمنين، صدرت به الآية لأهمبة الأدب الذي دعت إلى الأخذ به؛ لأن نداء المؤمنين بوصفهم، يذكرهم بأَن الإيمان يقتضى من صاحبه: أن يتلقي أوامر الله ونواهيه بحسن الطاعة.
{لَا تَقُولُوا رَاعِنَا} : كان المسلمون- إذا ألقى الرسول عليهم شيئاً من العلم- يقولون: راعنا يا رسول الله، يريدون منها: انتظرنا وتأن بنا؛ حتى نفهم كلامك ونحفظه.
وهذه كلمة لا شئ فيهما من سوء الأدب، إلا أن اليهود حينما سمعوهم يقولون ذلك، صاروا يخاطبون الرسول بها، محرفين لها عن معناها الذي أراده المسلمون، إذ أَرادوا سبه بنسبته إلى الرعن، وهو الحمق أو الاستهزاء به باللغة العبرانية. فقد كانوا يتسابون فيما بينهم بكلمة {راعنا} العبرانية فاستعملوها مقلدين - في اللفظ- ما ينطق به المؤمنون مع سوه النية، على دأبهم دائما في تحريف الكلم عن معناه، كما حكى القرآن عنهم ذلك في سورة النساء بقوله:{مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ} (1).
وكان سعد بن عبادة يعرف لغتهم، فلما سمعهم يقولون ذلك، قال لهم: عليكم لعنة الله، لئن سمعتها من رجل منكم يقولها للنبى صلى الله عليه وسلم لأضربن عنقه فقالوا: أو لستم تقولونها؟ فأنزل الله الآية: نهيا للمؤمنين عن مخاطبة الرسول- صلى الله عليه وسلم بهذه اللفظة: لألسنة اليهود، حتى لا يتخذوها ذريعة لسب النبي صل الله عليه وسلم - وإيذائه والاستهزاء به؛ فإن معناها في لغتهم كما قيل: اسمع لا سمعت، وأمرهم أن يقولوا له بدلا عنها {انْظُرْنَا}: انتظرنا وتأنَّ بنا؛ حتى نحفظ
(1) الآية: 46.
وتفهم ما تقول؛ فإنها تؤَدى المعنى الذي يقصدونه بقولهم: {رَاعنِا} ولا يمكن اليهوه أن يحرفوها إلى سبه عليه السلام والاستهزاء به.
وفي هذا تنبيه إلى أدب كريم، وهو: أن الإنسان يتجنب في مخاطبته - صلى الله عليه وسم- الأَلفاظ التى توهم جفاء أوتنقصنا. وإلى جانب ذلك، هو نهج قويم للخلق الإسلامي والإنساني.
{وَاسْمَعُوا} : أيها المؤمنون قوله صلى الله عليه وسلم سماع قبول وامتثال، مع وعى قلبي، حتى تحفظوا ما يلقيه عليكم، ولا يفوتكم منه شئ.
{وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ} : ولهؤلاء اليهود الذين كفروا برسالة محمَّد، وحرفوا الكلام عن مواضعه وآذوا الرسول صلى الله عليه وسلم واسنهزأوا به، عذاب موجع فى نار جهنم.
وفي التعبير بقوله {وَلِلْكَافِرِينَ} : بيان لأن ما صدر عنهم من سوء الأدب في خطاب الرسول- صلى الله علبه وسلم - هو أثر من آثار الكفر، وأنهم استحقوا هذا العذاب المقصور عليهم بسبب كفرهم.
105 -
{مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ
…
} لآية.
لا يحب الكافرون من اليهود والنصارى، ولا المشركرن: أن ينزل الله عليكم -أيها المؤمنون-: شيئًا من الخير، وذلك لعداوتهم وحسدهم لكم، فهم لا يحبون لكم الخير.
وأَعظم الخيرات هو القرآن الكريم؛ لأنه الهداية العظمى إلى الصراط المستقيم.
وقد جمع. الله به شملكم، وأخرجكم به من الظلمات إلى النور، فكيف لا يحرق الحسد أكبادهم على إنعام الله عليكم بهده النعمة: وكذلك المشركون: يرون قى نتابع نزول القرآن، قوة للإسلام وتثبيتا: لدعائمه وأركانه. وهم يكرهون ذلك ويودون أن تدور الدائرة على المسلمين ، ويستكثرون أَن يكون نزول القرآن على محمد -صلى
الله عليه وسلم- من بينهم {وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (31) أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ} : (1)
وخص بعض العلماء الخير هنا، بالوحي. مراعاة للمقام. فهو الذي من أَجله كره أَهل الكتب والمشركون النبي والمؤمنين. وَيَسْتَدلون لذلك بقوله تعالى:{وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ} أَي: والله يختص بنبوته من يشاء ممن أعدهم وهيأهم لها. فكانوا جديرين بها. ولهذا اختص بها محمد صلى الله عليه وسلم من بين الناس؛ لتمام أهليته لذلك.
وصدق الله تعالى إذ يقول: {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} (2).
وقد فسرها عَلي رضي الله عنه بذلك، فهي الخير الذي بكرهه هؤلاء للنبى صلى الله عليه وسلم، {وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيم}: فلا حرج على فضله تعالى، أَن يمنح النبوة من يشاء ممن هو أهل لها، فكيف يسحدون الناس على ما آتاهم الله من فضله، ومن حسد أحدًا على فضل الله، فهو ساخط على حكم الله: معترض على قضائه، ولا يضر الحاسد بحسده إلا نفسه.
وفي إِسناد الرحمة والفضل إِلى اسم الذات. بيان أنهما حقه - تعالى - لذاته، فليس لأحد من عبيده، أدنى تأثير في منحهما ولا في منعهما.
المفردات:
{مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ} : النسخ لغة: المحو والإبطال، والمراد هنا بالآية: الجملة القرآنية ذات الحكم الكامل. والمراد بنسخها: بيان انتهاءِ التعبد بها. وقيل المراد بها: الشريعة، على حد قوله تعالى:{أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ} . (3)
(1) الزخرف: 32،31
(2)
الأنعام: 124.
(3)
الزمر: 71.