الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المفردات:
{مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ} : مِن حلال ما كسبتم وخياره.
{وَمِمَّآ أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الْأَرْضِ} : أي ومن طيبات ما أخرجناه لكم من باطن الأَرض من النبات والحبوب والثمار والمعادن وغيرها.
{وَلَا تَيَمِّمُوا الْخَبِيثَ} : لا تقصدوا - بما تنفقون - الرديءَ والحرام.
والتيمم في اللغة: القصد.
{أَن تُغْمِضُوا فِيهِ} : الإغماض في اللغة، غض البصر. مأْخوذ من الغموض، وهو الخفاءُ. والمراد هنا: أن تتسامحوا في أخذه وتترخصوا فيه.
{حَمِيدٌ} : محمود على نعمه، أو حامد أي مكافيءٌ لمن أنفق في سبيله من الطيبات.
التفسير
267 -
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ
…
} الآية.
سبب النزول:
روى الحاكم في المستدرك - وقال هذا حديث صحيح على شرط مسلم - أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بزكاة الفطر، فجاءَ رجل بتمر رديءٍ، فنزلت الآية.
وروى ابن أبي حاتم والترمذي، عن البراء بن عازب - في الآية - قال:
"نزلت فينا معشرَ الأنصار: كنا أصحاب نخل، فكان الرجل يأْتي من نخله على
قدر كثرته وقلته. وكان الرجل يأتي بالقنو والقنوين (1)، فيعلقه بالمسجد. وكان أهل الصُّفَّة ليس لهم طعام، فكان أحدهم إذا جاع أتى القنو، فضربه بعصاه، فيسقط البسر والتمر فيأْكل. وكان ناس ممكن لا يرغب في الخير، يأتي الرجل بالقنو فيه الشيص والحشف - والشيص: رديُّ التمر. والحسف: أَردأُ التمر - وبالقنو قد انكسر فيعلقه، فأنزل الله تبارك وتعالى:
قال: لو أن أحدكم أُهدي إليه مثل ما أَعْطَى، لم ياخُذْه إلا على إغماض أو حياءٍ، قال: فكنا بعد ذلك، يأتي أحدنا بصالح ما عنده".
قال الترمذي: حديث حسن صحيح.
والمعنى: يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من جيِّد ما كسبتم وحلاله، وأنفقوا من طيبات ما أخرجه الله لكم من جوف الأرض، سواء كان من النبات، أم المعادن، أم غير ذلك. ولا تقصدوا بالرديء من أموالكم، أو الحرام منها لتُنْفِقُوا منه.
{وَلَسْتُم بِآخِذِيهِ إِلَّا أَن تُغْمِضُوا فِيهِ} :
أي أنكم لو أعطاكم أحد من هذا الصنف، ما قبلتموه ولا أخذتموه إلا تساهلا في بعض حقكم. فأعطوا الناس مثل ما تحبون أن تأخذوه.
{وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ} :
فلا يدعوكم إلى الإنفاق في سبيله لحاجة أو عوز، ولكنه يأمركم به لمنفعتكم. وأنه مستحق للحمد لأنه هو الذي يرزقكم هذه الأموال، ويثيبكم على ما أنفقتموه منها.
المفردات:
{الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الفَقْرَ} : يخوفكم من الفقر إذا أنفقتم شيئا من الأموال أو الثمرات.
(1) القنو في التمر، بمنزلة العنقود في العنب.
والوعد: يستعمل في الخير أكثر من الشر، وهو هنا، مستعمل في الشر، كما في قوله تعالى:{النَّارُ وَعَدَهَا اللهُ الَّذِينَ كَفَرُوا} (1).
{وَيَامُرُكُم بِالْفَحْشَآءِ} : أي ويحضكم على البخل بالصدقات. فالمراد بالفحشاء هنا: البخل. والعرب تطلق كلمة الفاحش: على البخيل. ومنه قول طرفة بن العبد:
أرى الموتَ يعتام الكرام ويصطفي
…
عقيلة مال الفاحش المتشدد (2)
وقيل: المراد بالفحشاء، جميع المعاصي.
{وَفَضْلًا} : أي زيادة في الرزق، أو ثوابا في الآخرة، أو الأمرين جميعا.
{وَاسعٌ} : أي صاحب سعة. والمراد بها هنا: سعة النعمة والمغفرة.
التفسير
268 -
{الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ
…
} الآية.
لما رغَّب الله تعالى عباده في الإنفاق من أجود ما يملكون، حذَّرهم بعد ذلك من وسوسة الشيطان فقال:
{الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ} : أي يقول لكم إن تصدقتم افتقرتم.
{وَيَامُرُ كُم بِالْفَحْشَاءِ} : أي يحضكم على البخل بأموالكم وحبسها عن وجوه البر، لتبقى لكم، فتظلوا أغنياء، ويعرضكم بوساوسه هذه للبعد عن رضا الله ورحمته.
{وَاللهُ يَعِدُكُمْ} : على الإنفاق في سبيله.
{مَغْفِرَةً مِّنْهُ} : لذنوبكم.
{وَفَضْلًا} : أي زيادة في الخير لكم بالبركة في المال، والسعة في الرزق، والثواب في الآخرة. فلا تثقوا بوعد الشيطان، ولا يغرنكم بالله الغرور، فإنه عدوٌّ لكم، وثقوا بوعد الله فإنه ربكم وهو أرحم بكم، وأعلم بما فيه صلاحكم.
{وَاللهُ وَاسِعٌ} : يسع بمغفرته وفضله من أطاعوه فيما أمر، وانتهوا عما حذر منه وأنذر.
{عَلِيمٌ} : بكل شيءٍ، فلا يخفى عليه من أطاع شيطانه وهواه، ومن امتثل أوامر مولاه.
(1) الحج: من الآية 72
(2)
يمتام: بمعنى يختار. عقيلة مال: أي خيره. المتشدد: الشديد البخل.
المفردات:
{الْحِكْمَةَ} : هي إصابة الحق، في قول أو فعل أو راي. وهي من الملكات النفسية العليا، التي يمنحها الله من هو أهل لها.
التفسير
269 -
{يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ
…
} الآية.
أي: يعطي الله فضل التمييز بين الحق والباطل، من يشاء من عباده الأخيار، فيختار الحق ويعمل بمقتضاه، ويذر الباطل ويبعد عن طريقه.
{وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا} :
ومن يعطه الله نعمة التمييز بين الحق والباطل، والخير والشر، والصواب والخطإ يبعده عن المعاطب، ويصل به إلى السلامة والنجاة.
{وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} :
وما يتفكر كما يتفكر أهل الحكمة، أو يتعظ اتعاظهم، إلا أصحاب العقول الخالصة، مِن شوائب الغباء والجهل، ومتابعة الهوى، ووساوس الشيطان.
المفردات:
{مِن نَّفَقَةٍ} : النفقة، ما ينفقه الإِنسان من المال في خير أو شر.
{مِن نَّذْرٍ} : النذر، هو ما يوجبه الإنسان على نفسه، من غير أن يلزمه الله به قبل نذره، ثم يصير - بالنذر - واجب الأداءِ شرعًا.
التفسير
270 -
{وَمَا أَنفَقْتُم مِّن نَّفَقَةٍ أَوْنَذَرْتُم مِّن نَّذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ
…
} الآية.
هذه الآية مسوقة للحث على تنقية النفقات والنذور، وتخليصهما من شوائب الشر.
ومعناها: وما أنفقتم - أيها المكلفون - من نَفَقَةٍ قليلة أو كثيرة، أو نذرتم من نذر هَانَ أو عظُم، فإن الله يعلمه بجميع أحواله وأوصافه، من طيِّب أو خبيث، قلّة أو كثرة، ابتغاءَ وجه الله به، أو ابتغاء وجه سواه، وتوجيهه إلى ما يرضى الله أو ما يغضبه، ويجازيكم عليه.
{وَمَا لِلظَّالِمِينَ} :
الذين يضعون الأُمور في غير مواضعها، ويبذلون المال في غير وجوهه المشروعة، ويضنون به على مستحقيه.
{مِنْ أَنصَارٍ} :
يمنعونهم من عذاب الله على ظلمهم.
المفردات:
{إن تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ} : إن تظهروها بحيث يراهم الناس لقتدوا بكم.
{فَنِعِمَّا هِيَ} : فنعم شيئا هذه الصدقات التي أبديتموها.
وفي الكلام مضاف مقدر، أي: فنعما إظهارُها.
التفسير
271 -
{إِن تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ
…
} الآية.
أي إن تظهروا الصدقات المفروضة أو المقطوع بها - وأنتم تدفعونها لمستحقيها من المحتاجين - فنعم شيئًا إظهارها، لما فيه من نفي تهمة البخل عنكم، وحمل الغير على الاقتداء في التصدق بكم.
{وَإِن تُخْفُوهَا} :
أي تسترونها عن أعين الناس، ابتعادًا عن مظنّة الرياء والنفاق، وحماية لآخذيها من موقف الذلّ والهوان أمام الناس.
{وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ} :
أي تعطوها من يستحقها من الفقراء، بعد التأكد من فقرهم بالتحري عنهم، لتقع الموقع الشرعي المطلوب.
فالإخفاء خير لكم وأفضل عند الله من الإظهار.
{وَيُكَفِّرُ عَنكُم مِّن سَيِّئَاتِكُمْ} :
{مِنْ} : بمعنى بعض.
أي والله يكفر عنكم بعض ذنوبكم، فإن الصدقات يُكفِّرُ بها بعض السيئات، لا جميعها.
وقد دلت هذه الآية، على أن الصدقة سرًا، أفضل من الصدقة علَنًا.
قال الآلوسي: والأكثرون على أن هذه الأفضلية فيما إذا كان - كل من صدقني السر والعلانية - تطوعًا مِمَّنْ لم يعرف بمال "أي لم يعرف بغنى" وإلا فإبداءُ الفرض لغيره "أي لغير المتطوع المذكور" أفضل لنفي التهمة، وكذا الإظهار أفضل لمن يقتدي به وَأَمِنَ نَفْسَه. انتهى.
وعن ابن عباس رضي الله عنه "صدقةُ السِّر في التطوع تفضل على علانيتها سبعين ضعفًا، وصدقة الفريضة علانيتها أفضل من سرها بخمسة وعشرين ضعفًا، وكذلك جميع الفرائض والنوافل في الأشياء كلها" انتهى.
وفضل صدقة السر على صدقة العلانية، يؤيدها ما رواه الشيخان مرفوعًا أنه صلى الله عليه وسلم قال:"سبعة يُظِلُّهم الله تعالى في ظلِّهِ يوم لا ظلَّ إلا ظله: إمام عَدْل، وشابٌّ نشأ في عبادة الله، ورجلٌ قلبه معلَّق في المساجد، ورجلان تحابَّا في الله: اجتمعا عليه وتفرّقا عليه، ورجلٌ دَعَتْهُ امرأةٌ ذاتُ منصب وجمال فقال: إني أَخافُ الله، ورجلٌ تَصدَّق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلمَ شِمَالُه ما تنفقُ يمينهُ، ورجلٌ ذكر اللهَ خاليا ففاضَتْ عَيْناه"(1).
وأخرج الطبراني مرفوعًا: "إنَّ صدقَةَ السِّرِّ تُطفِيءُ غَضَبَ الرَّبّ".
{وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} :
فهو يعلم جميع أعمالكم سرها وجهرها، ويعلم صدقاتكم ودوافعها.
المفردات:
{هُدَاهُمْ} : الهدى لغة: الدلالة والإرشاد، وقد يطلق على الاهتداءِ والرشاد، وهو المراد هنا. تقول: هديته فهدى واهتدى أَي أرشدته ودللته فرشد واهتدى.
{ابْتِغَآءَ وَجْهِ اللهِ} : طلبا لوجهه سبحانه، والمراد بوجه الله: ذاته، أو جهته.
التفسير
272 -
{لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ
…
} الآية.
كان النبي صلى الله عليه وسلم حريصًا على أن يهتدي الناس لما هداهم إليه. وكان يبذل في ذلك أشد الجهد، ويتحمل في سبيله عبئا نفسيًا شديدًا.
(1) النص للبخاري في باب الصدقة باليمين.
فأنزل الله عليه هذه الآية، ليخفف عنه أعباءَه النفسية، ببيان أنه ليس عليه سوى التبليغ. وأَما الاهتداءُ، فمن الله. وأن من أحسن فلنفسه.
والآية متوسطة بين آيات الحث على الإنفاق، مبالغة في حمل المخاطبين على الامتثال. وإلى هذا ذهب الحسن وأبو على الجبائي.
والمعنى: ليس واجبًا عليك يا محمد، أن تجعل هؤلاء المأمورين بتلك المحاسن، المنهيين عن أضدادها - مهتدين إليها عاملين بها فعلًا، فذلك ليس من شأْنك، ولست مكلفًا به، ولكنه شأْن الله الذي يهدي من يشاءُ إلى الخير، وهم أُولئك الذين اتجهوا باختيارهم إليه، فيعينهم ويوفقهم ويهديهم.
واتجه بعض المفسرين إلى أن الضمير في {هُدَاهُمْ} لا يرجع إلى من أُمروا بالنفقة في الآيات السابقة واللاحقة، بل يرجع إلى الكفار، وإن لم يُذْكَروا، مراعاة لسبب النزول.
فقد أخرج ابن أبي حاتم وغيره، عن ابن عباس رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم، كان يأمرنا أَلَّا نتصدق إلى على أهل الإسلام، حتى نزلت هذه الآية.
وأخرج ابن جرير عنه قال: {كان أُناس من الأنصار لهم أنسباء وقرابة. وكانوا يتقون أن يتصدقوا عليهم، ويريدونهم أن يسلموا .. فنزلت} .
وأخرج ابن أبي شيبة، عن سعيد بن جبير قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تَصَدَّقُوا إلَّا على أَهْلِ دِينِكم" فأنزل الله تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ} .
والمعنى على هذا الرأي: ليس واجبًا عليك أن تُلْجِيءَ هؤُلاء الكافرين إلى الإسلام، إن عليك إلا البلاغ، وقد فعلت، فلا تجعل التصدق عليهم منوطًا بإسلامهم.
والآية على هذا، لا تعتبر بعيدة عما قبلها وما بعدها من آيات الإنفاق، إذ هي لإباحة الإنفاق على من خالفنا في الدين.
{وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ} :
أي وما تنفقوا في الوجوه المشروعة من مال طيب.
{فَلِأَنفُسِكُمْ} :
لا يعود نفعه إلا عليكم، فلا تنفقوا من الخبيث، ولا تبطلوه بالمَنِّ والأذى، ومراءَة الناس.
أو، فلا تمنعوه عن الفقراء من الكفار، فإن نفعكم به ديني، ونفع الكافرين به دنيوي، فلا يُصَدُّ عنهم، لأن الإسلام لا يمنع البِرَّ عن الناس، مهما كان دينهم.
{وَمَا تُنفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ} : الجملة معطوفة على ما قبلها، أو حال.
والمعنى: وما تنفقون من الخير - لسبب من الأسباب - إلا ابتغاء وجه الله، وطلبا لرضاه. وإذا كان أمركم كذلك، فلا يضيركم أن تعطوا منه الفقراء الكفار، فلا تمنعوهم إياه، فإن لكم ثوابه.
ويجوز أن يكون النفي فيها بمعنى النهي، أي لا تنفقوا الخير إلا لوجهه تعالى، لا رياءً ولا لغرض من الأغراض الدنيوية. (1).
{وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ} التوفية: إكمال الشيء.
أي وما تنفقوا من خير تُعْطَوْن جزاءَه وافرًا وافيًا، فلا عذر لكم في أن ترغبوا عن إنفاقه، على أن يكون على أحسن الوجوه وأجملها.
وقيل: المعنى: يوف إليكم خلفه في الدنيا، ولا ينقص به من مالكم شيء.
نقول: ولا يمنع هذا الثواب الآخرة.
{وَأَنتُمْ لَا تُظْلَمُونَ} : أي لا تنقصون شيئا مما وُعدتم به من الثواب.
(1) وبما أنه تعالى ليس كمثله شيء، فالمراد بوجه الله: ذاته أو جهته. وعلى كل، فالمقصود من التعبير به في العرف القوي: الإخلاص وعدم الإشراك. أي ما تنفقون إلا ابتغاء الله تعالى، دون أن يكون لكم مأرب آخر سوى رضاه سبحانه. وإذا كانت الجملة خبرية، ففيها شهادة من الله تعالى لأصحاب رسوله، وثناء عليهم بأنهم مخلصون في إنفاقهم، فلا يبتغون به سواه سبحانه.
وفي الآية: دليل على جواز دفع صدقة التطوع للكافر.
أما الصدقة المفروضة في المال والزرع ونحوها -أي الزكاة- فلا يجوز دفعها له.
المفردات:
{أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ} : حبسوا في سبيله تعالى بالجهاد، أو العمل في مرضاته.
{ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ} : سَعيا فيها للتكسب.
{مِنَ التَّعَفُّفِ} : من أجل تعففهم وامتناعهم عن السؤال.
{تَعْرِفُهُم بِسِمَاهُمْ} : أي بعلامتهم كرِقَّةِ الحال، أَو صُفْرَةِ الوجه أَو نحوهما.
{لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا} : لا يسألونهم -ملحين في السؤال- حتى يعطوا.
التفسير
273 -
{لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ
…
} الآية.
سبب النزول: نزلت في أهل الصفة، وكانوا نحو ثلاثمائة من فقراء المهاجرين يسكنون سقيفة مسجد المدينة، يستغرقون أوقاتهم بالتعلم والجهاد، وكانوا يخرجون في كل سرية يبعثها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قاله ابن عباس ومحمد بن كعب القُرَظي.
وعن سعيد بن جبير: هم قوم أصابتهم الجراحات في سبيل الله، فصاروا زَمْنَى، فجعل الله لهم في أموال المسلمين حقًّا.
نقول: والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. فكل من كان على مثل حالهم، يستحق الصدقة. وكذا. كل من كان كسبه لا يكفيه.
{لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ} :
أي اجعلوا صدقاتكم للفقراء الذين حبسهم عن التكسب العملُ في سبيل الله، كالجهاد وطلب العلم؛ لأنهم بسبب ذلك - لا يستطيعون سعيًا في الأرض للتكسب وجلب الرزق.
{يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ} :
أي يظنهم من لا يعرف حالهم - أغنياء: لا يستحقون الصدقة من أجل تعففهم، وامتناعهم عن السؤال.
{تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ} :
أي تعرف فقرهم بعلامتهم الملازمة لهم، المنبهة لفقرهم. وهي صفرة الوجوه، والجهد والانكسار ونحو ذلك.
والخطاب في {تَعْرِفُهُمْ} عام للرسول صلى الله عليه وسلم وغيره ممن يَنْظُر حالهم.
{لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا} : أي لا يسألون الناس مُلِحِّين في السؤَال، كعادة الفقراء.
والمراد: أنهم لا يسألون الناس أصلا، كما قاله ابن عباس.
ومن أجل ذلك جُهِل حالهم، ولم يُعْرَفوا إلا استنباطا من علاماتهم.
فالنفي هنا موجه، للأمرين جميعًا: السؤال، والإلحاح.
وإلى هذا ذهب الفراءُ، والزجاج، وأكثر المفسرين.
وقيل المراد، أنهم لا يسألون، وإن سألوا عن ضرورة - لم يلحوا.
والأول هو الراجح.
{وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ} :
فيجازيكم عليه؛ لأنه لا تخفى عليه خافية، وهو ترغيب في الإنفاق عمومًا، وعلى هؤلاء خصوصًا.
أخرج البخاري ومسلم، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لَيْسَ المسكين الَّذي تردُّهُ التمرةُ والتَّمرتان، واللُّقمةُ واللُّقمتان، إنما المسكين الذي يَتعفَّفُ، واقرءوا إن شئتم قوله تعالى:
{لَا يَسْأَلُون النَّاسَ إِلْحَافًا} .
…
التفسير
274 -
{الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً
…
} الآية.
لما بين الله في الآية السابقة أَوْلَى الناس بالصدقة، بيَّن في هذه أَكْملَ وجوه الإنفاق.
سبب النزول:
أخرج ابن المنذر، عن ابن المسيب: أن الآية نزلت في عثمان بن عفان، وعبد الرحمن بن عوف، في نفقتهم في جيش العسرة.
وَرُوِيَ غَيْرُ ذلك.
والآية عامة الحكم، وإن نزلت بسبب خاص.
(الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ):
أي في جميع الأوقات، فلا يخصون وقتا دون وقت.
(سِرًّا وَعَلَانِيَةً): أي في جميع الأحوال، فلا يلتزمون حالا معيَّنَةً.
(فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ): اللائق بهم.
(عِندَ رَبِّهِمْ): في دار كرامته.
(وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ): من لحوق مكروه بهم.
(وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ): على فوت شيءٍ من مطالبهم.
وفي تقديم: الليل على النهار، والسر على العلانية، إشعار بأن إخفاء الصدقة أولى من إظهارها.
وفي الآية: حثٌّ لأهل الغني واليسار، على الإنفاق في جميع الأوقات والأحوال، وترغيبٌ لهم -في ذلك- بما وعدهم الله من الأجر العظيم عنده في دار كرامته. كما أن فيها إشعارا -عن طريق المفهوم- بأن البخلاء محرومون من هذا الأجر الجزيل، وأنهم عرضة للخوف والحزن.
روى أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، لما استُخْلِفَ - خطب الناس فَحمِدَ اللهَ وأثنى عليه بما هو أهله، ثم قال:
أيها الناس: إن بعضَ الطمعِ فقرٌ، وإن بعضَ اليأسِ غنى، وإنكم تَجمعونَ ما لَا تأكلونَ، وتُؤمِّلُونَ ما لا تُدرِكونَ، واعلموا أَنَّ بعضا من الشح شعبة من النفاق، فأنفقوا خيرًا لأنفسكم، فأين أصحاب هذه الآية؟ وقرأ هذه الآية الكريمة التي نحن بصدد تفسيرها.
المفردات:
(الَّذِينَ يَأكُلُونَ الرِّبَا): المراد بأكله، الانتفاع به، عبر به عنه لأنه أهم ما قصد به.
والربا لغة: الزيادة. وشرعا: مال زائد في معاوضة -مبادلة- مالية ليس له ما يقابله.
(يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ): يمسه بالأذى -قاله صاحب القاموس- وهو كما قال الآلوسي: ضربات متوالية على أنحاء مختلفة. ثم تُجَوِّزَ به عن كل ضرب غير محمود.
(فَانتَهَى): أي كَفَّ عن الربا.
(يَمْحَقُ اللهُ الرِّبَا): يذهبه ويهلكه - أو المعنى يهلك المال والربح الحرام.
(وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ): أي يزيد ثوابها، أو يزيد المال الذي أُخرجت عنه.
(كُلَّ كَفَّارٍ): كل مبالغ في الكفر بإقامته عليه.
(أَثِيمٍ): منهمك في ارتكابه الإثم.
التفسير
275 -
{الَّذِينَ يَاكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ
…
} الآية.
بعد أن بين الله فضل الإنفاق، ومدِّ يد المعونة إلى الفقراء والمحرومين - أتبعه ذم أهل الربا: الذين يمتصون دماء الناس بدلاً من معاونتهم والإشفاق عليهم.
والمعنى: الذين يأخذون الربا ويتصرفون فيه: بأي وجه من وجوه التصرف: أكلاً أو غيره مثلهم - في جشعهم وحرصهم على تشمير أموالهم، وشدة تفكيرهم فيها وتحركهم في اكتسابها، والكَلَبِ عليها - كمثل الذي يتخبطه الشيطان، ويصرعه بسبب مَسِّهِ له، فهو دائم الحركة كالمسعور والمجنون.
وتأويل الآية بهذا الوجه، هو رأي ابن عطية. وعلى هذا النحو. يقول الناس فيمن يسرع بحركات مختلفة: فلان كالمجنون.
ويرى غير ابن عطية أن الآية على معنى: أن من يأكلون الربا لا يقومون من قبورهم -يوم القيامة- إلى كالمجانين الذين يتخبطهم الشيطان من المس. مُستدلين بنحو ما أخرجه الطبراني عن عوف بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إياك والذنوب التي لا تُغفَر: الغُلولَ .. فَمَن غلَّ شيئا أتَى به يوم القيامة، وأَكْلَ الربا، فمن أَكَلَ الربا بُعِثَ يوم القيامة مجنونا يتخبط" ثم قرأ الآية، قالوا: ولعل ذلك جعل علامة له يعرف بها في ذلك اليوم الرهيب.
وممن نسب إليه القول بذلك ابن عباس، وابن مسعود وقتادة، واختاره الزجاج.
ومس الشيطان الذي يحدث به التخبط يحتمل أن يكون الوسوسة الدائمة، فإنها تنتهي إلى الجنون، ومن إطلاقه على الوسوسة قوله تعالى: "
…
إذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ" (1) أو أن يكون ضربًا من اللقاء الجسدي بينه وبين من يمسه من الإنس، يحدث به الاختلاط والجنون، كما يقوله المعنيون بهذا الضرب من العلم.
والمعنى الأخير، هو المعروف عند العرب، ومن ذلك ما قالته قريش فيما عرضوه على النبي صلى الله عليه وسلم ليكف عن التعرض لآلهتهم وتسفيه أحلامهم "وإن كان الذي يأتيك رئيًّا أي -جنيًّا- قد غلب عليك، بَذَلنا أموالنا في طلب الطب لك، حتى نُبْرئَكَ أَو نُعْذَرَ فيك".
(ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا):
الإشارة في (ذَلِكَ) راجعة إلى أكلهم الربا، يعني أنهم استحلوا الربا وأكلوا وانتفعوا به، بسبب أنهم جعلوه مثل البيع في الحل؛ لاتفاقها في المعارضة والزيادة من أحد الجانبين. فكما أنه يحل ببيع ما قيمته أربعة دراهم بخمسة، فكذلك يحل ببيع أربعة
(1) الأعراف: من الآية 201.
دراهم بخمسة، وقد أخطأوا في الحكم تبعًا لخطئهم في القياس، على ما سنبينه. وإنما قالوا:(إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا) ولم يقولوا: إنما الربا مثل البيع، لإرادة المبالغة، كأنهم جعلوا الربا أَصْلا للحِل، وشبَّهُوا البيع به في الحكم كما في قول الشاعر:
ومَهمَه مُغبَّرةٍ أرجاؤه
…
كأن لونَ أَرضه سماؤه
(وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا):
هذه جملة مستأنفة للرد عليهم، والمعنى: وأحل اللهُ البيع وحرم الربا بالنص، ولا يصح القياس مع وجود النص ممن له حق التشريع. وهو الله سبحانه وتعالى.
والفرق بينهما في الحكم، تابع للفرق بينهما في المقتضى للحكم، فإن من باع ثوبًا قيمته أربعة دراهم بخمسة، فقد جعل الثوب كله في مقابل هذه الخمسة، فلا شيءَ منه إلا وهو مقابل لجزءٍ من الدراهم الخمسة، أما من باع أربعة دراهم بخمسة، فقد أخذ الدرهم الزائد بغير عوض ولا يمكن جعل الإمهال في مقابلته، لأن الإمهال ليس بِمَال حتى يكون في مقابلة المال. فضلاً عن أن الربا يمنع أصحابه عن الاشتغال بالتجارة والصناعة ذات المنافع العامة، ويفضي إلى انقطاع المعروف بين الناس، فتضيق الحياة عليهم. فلو أن اللهَ أحلَّه كالبيع، لاستَغَلَّ المرابي حاجةَ الناس، وأَكَلَ أموالهم بالباطل، وسدَّ عليهم أبواب الفرج والرحمة.
فلذا كان من رحمة الله بأصحاب الحاجات، أن حَرَّم الربا على أصحاب الأموال، حتى يسود التراحم بين الناس
…
وتلك سنة الإسلام في التشريع.
(فَمَن جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَانتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ):
أي فمن بلغه موعظة وتذكير في شأن الربا من ربه ومالك أمره، فانتهى عنه، وامتنع من الاستمرار في التعامل به، فله ما تقدم من المال الربوي لا يُسْتَرَدُّ منه، ولا يُقْهرُ على رده.
وهذا مذهب الباقر وسعيد بن جبير، في فهم الآية.
وقال السدي وغيره، معناها: لا مؤَاخذة على ما أخذه (1)، لا في الدنيا، ولا في الآخرة.
وقال القرطبي: هذا حكم من الله لمن أسلم من كفار قريش وثقيف، ومن كان يَتَّجِر هنالك.
(1) أي ما أخذه قبل أن يبلغه التحريم.
ونقول: إن غيرهم ممن أسلم، وكان في كفره مرابيًا، له هذا الحكم أيضًا.
(وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ):
أي وأمر المنتهي عن الربا إلى الله تعالى: إن شاء ثبَّته على الانتهاء عن الربا لصدق نيته، وإن شاء خذله لعدم الجِدِّ في انتهائه وخور عزيمته.
ويجوز أن يكون المعنى: وأمره متجه إلى طاعة الله، كما تقول: وأمره في نُمُوٍّ وإقبال إلى الله وطاعته.
وأجاز بعضهم عود الضمير على الربا، أي وأمر الربا إلى الله تعالى في العفو عنه، وإسقاط التَّبِعَة عليه.
(وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ):
أي ومن عاد إلى الربا مستحلاً له، قائلاً: إن الربا مثل البيع في الحل، لأنه عَمَلٌ تجاري مثله، فأُولئك العائدون المستحلون أصحاب النار، الملازمون لها، هم فيها خالدون لا يخرجون منها أبدًا؛ لأن من استحل ما حرمه الله نَصًّا ومدلولاً. فهو كافر بالإجماع. والكافر خالد في النار أبدًا.
وإن جعلنا الآية في مسلم يقول بحرمة الربا، ولكنه يعصي ربه باستدامة التعامل به بعد التوبة -فالمراد بالخلود هنا: المكث الطويل، كما تقول العرب "خَلَّد اللهُ ملكك" أي أبقاك أمدًا طويلًا.
276 -
{يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ
…
}:
أراد الله أن يوقف سيل الطمع في نُمُوِّ المال عن طريق الربا، وأن يفتح القلوب على الصدقات، فبين عاقبة كليهما، فقال ما معناه: ينقص الله الربا، فَيُذهِب البركةَ من ماله في الدنيا وإن كان كثيرًا، ويجعل عاقبته في الآخرة خسرانًا وعقابًا، ويزيد الصدقات، وينميها في الدنيا بالبركة في مالها، وفي الآخرة بمضاعة الأجر عليها.
روى ابن مسعود أنه صلى الله عليه وسلم قال: "إنَّ الربا وإن كَثُرَ فعاقِبَتُهُ إلى قُلٍّ (1) ".
وروى البخاري، ومسلم، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
(1) أخرجه أحمد، وابن جرير، والحاكم وصححه.
"من تَصدَّق بِعِدْل تَمْرة من كسب طيب -ولا يقبل الله تعالى إلا طيبًا- فإن الله تعالى يقبلها بيمينه، ثم يُرْبيها لصاحبها كما يربي أحدكم فُلُوَه (1) حتى تكون مثل الجبل".
وفي الآية لطيفة فائقة، وخلاصتها: أن المرابي إنما يطلب في الربا زيادة المال، ومانع الصدقة إنما يمنعها طلبًا لزيادة المال أيضًا، فبين الله تعالى أن الربا سبب لنقصانه، وأن الصدقة سبب لنمائه، فلذا عقبت آيات الإنفاق بآيات النهي عن الربا وبيان ضرره.
(وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ):
أي والله لا يرضى عن كل مقيم على الكفر، بليغ الإثم، بِجَعْلِه البيع مثل الربا في الحل، أو بغير ذلك من ألوان الكفر.
وإنما حرم الربا لما فيه من التضييق على الناس وتخريب البيوت، كما هو مشاهد فيمن يتعاملون به بخلاف التجارة، فإنها مورد للأرزاق سائغ، ولا ضرر فيه على الناس، فلذا أحلها الله تعالى ما دامت في الحدود المشروعة.
التفسير
277 -
لما بين الله تعالى ضرر الربا، وفضل الصدقة في الدنيا والآخرة، عقب ذلك ببيان فضل الإيمان والعمل الصالح بصفة عامة.
فقال الآية.
(1) أي مُهره.
والمعنى: إن الذين صدقوا بالله ورسله واليوم الآخر، وعملوا الصالحات التي اشتمل عليها كتاب الله وسنة رسوله، وخصُّوا الصلاة والزكاة بعناية خاصة، فأدَّوُا الصلاة في أوقاتها: بأركانها وشروطها، والخشوع اللائق بها، وأَعطَوا الزكاة لمستحقيها. وداوموا على ذلك - لهم أجرهم الموعود في الكتاب والسنة عند ربهم في الآخرة، إذ ينعمون بجنة فيها ما لا عين رأت، ولا أُذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، ولا خوف عليهم من مكروه يصيبهم، ولا هم يحزنون على فوت مرغوب لهم، فهم في طمأنينة دائمة ونعيم مقيم.
وخص الصلاة والزكاة بالذكر -مع دخولهما في العمل الصالح- تنبيهًا على فضلهما على غيرهما من العبادات. فالصلاة رأس الأعمال البدنية والروحية. والزكاة رأس الأعمال المالية. فلذا ينبغي أن يخصا بعناية خاصة. كما خصهما الله بالذكر من بين الأعمال الصالحة التي ذكرها عامة.
المفردات:
(وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا): واتركوا ما بقي لكم منه عند الناس.
(فَائْذَنُوا بِحَرْبٍ مِّنَ اللهِ وَرَسُولِهِ): فأيقنوا بحرب من الله ورسوله، وبذلك قرأ الحسن.
التفسير
278 -
سبب النزول:
قال السدي: نزلت هذه الآية في العباس بن عبد المطلب، ورجل من بني المغيرة، كانا شريكين في الجاهلية، وكانا يتعاملان بالربا مع ناس من ثقيف، فجاء الإسلام، ولهما أموال عظيمة عندهم، فتركوها حين نزلت.
وأخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل قال: نزلت هذه الآية في بني عمرو بن عمير، وهم الطالبون، والمطلوبون بنو المغيرة من بني مخزوم، وكانوا يداينون بني المغيرة في الجاهلية بالربا. وكان النبي صلى الله عليه وسلم صالَحَ ثقيفًا، فطلبوا رباهم إلى بني المغيرة، وكان مالاً عظيمًا. فقال بنوا المغيرة: والله لا يعطي الربا في الإسلام، وقد وضعه الله تعالى ورسوله عن المسلمين، فعرَّفوا شأنهم معاذ بن جبل، يقال عَتّاب بن أسيد، فكتب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم إن بني عمرو يطلبون رباهم عند بني المغيرة، فأنزل الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
…
) الخ فكتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى معاذ ابن جبل "أن اعرض عليهم هذه الآية، فإن فعلوا فلهم رءوس أموالهم، وإن أَبَوْا فآذِنْهُم بحرب الله ورسوله" ذكره الآلوسي.
والمعنى: يا أيها الذين آمنوا، قوا أنفسكم واحفظوها من عقاب الله، واتركوا ما بقي لكم على الناس من مال الربا إن كنتم مؤمنين صادقين، فإن من شأن الإيمان الحقيقي، أن يكف أصحابه عن عصيان أوامر الله تعالى، وبخاصة ما كان متعلقًا بحقوق الآدميين.
279 -
{فَإِن لَّمْ تَفْعَلُوا فَأذَنُوا بِحَرْبٍ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ
…
} الآية.
أي فإن لم تفعلوا ما أُمرتم به، فأيقنوا بحرب من اللهِ ورسولِه، وإن تبتم عن الربا، فلكم رءوس أموالكم لا تظلمون غرماءِكم بأخذ مال الربا عليها، ولا تُظلمون منهم بالنقص منها، أو المطل في أدائها، فإن النقص منها حرام وظلم، وكذا المطل والتأخير في أدائها مع الغنى والسعة.
والمراد بحرب الله ورسوله: إهدار دم المرابي. كما قال ابن عباس. فقد ورد عنه أنه
قال: من كان مقيمًا على الربا لا يَنْزِع عنه، فحق على إمام المسلمين أن يستتيبه، فإن نَزَع (1) وإلَّا ضرب عُنُقَه.
وقال قتادة: أوعد الله أهل الربا بالقتل، فجعلهم بَهْرَجًا -أي شيئًا مباحًا- أينما ثقفوا.
وقيل: المعنى: إن لم تنتهوا فأنتم حرب لله ولرسوله، أي أعداء. وقال ابن خُوَيْبِزِمنْداد: وَلَوْ أَن أهل بلد اصطلحوا على الربا استحلالًا كانوا مرتدين، والحكم فيهم كالحكم في أهل الرِّدة، وإن لم يكن ذلك منهم استحلالًا، جاز للإمام محاربتهم.
وكما شدد القرآن في تحريم الربا شددت السنة.
روى البخاري عن أبي جحيفة قال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ثمن الدم (أي أجر الحجامة) وثمن الكلب، وكسب البَغِيِّ، ولعن آكل الربا وموكله، والواشمة، والمستوشمة (2) والمصوِّر".
وروى مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
"اجتنبوا السبع الموبقات" وذكر فيها آكل الربا.
وروى أبو داود عن ابن مسعود قال:
"لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم آكل الربا، وموكله وكاتبه وشاهده".
وقد تنبأ النبي صلى الله عليه وسلم بانتشاره، فقال:"يأتي على الناس زمان لا يبقى أحد إلا أكل الربا. ومن لم يأكل الربا أصابه غباره" صدق رسول الله.
فهذا ما نشاهده في جيلنا
…
يرحمنا الله.
قال القرطبي: قال علماؤنا: وكيف يتوب المرءُ عن المال الحرام؟. إن سبيل التوبة مما بيده من الأموال الحرام - إن كانت من ربا فليردها على من أربى عليه، ويطلبه
(1) أي أقلع عن الربا وتركه.
(2)
الواشمة: التي تفعل الوشم، وهو غرز بالإبرة في البدن، ووضع مادة زرقاء في مكان الوشم واسمها (النيلج) وتسميها العامة النيلة، والمستوشمة هي طالبة الوشم.
إن لم يكن حاضرًا، فإن آيس من وجوده فليتصدق بذلك عنه، وإن أخذه بظلم، فليفعل كذلك في أمر من ظلمه، فإن التبس عليه الأمر، ولم يَدْرِ كَمَّ (1) الحرام من الحلال مما بيده، فإنه يتحرى قدر ما بيده، مما يجب عليه رده، حتى لا يشك في أن ما يبقى قد خلص له، فيرد مِنْ ذلك الذي أزال عن يده، إلى من عرف ممن ظلمه، أو أربى عليه. فإن آيس من وجوده، تصدق به عنه، فإن أحاطت المظالم بذمته، وعلم أنه وجب عليه من ذلك ما لا يطيق أداءَه أبدًا لكثرته، فتوبته: أن يزيل ما بيده أجمع: إما إلى المساكين، وإما إلى ما فيه صلاح المسلمين، حتى لا يبقى في يده إلا أقل ما يجزئه في الصلاة من اللباس -وهو ما يستر العورة، وهو من سرته إلى ركبته- وقوت يومه، لأنه هو الذي يجب له أن يأخذه من مال غيره إن اضطر إليه، وإن كره ذلك من يأخذه منه - الخ ما قال:
راجع القرطبي في الآية ففيها معلومات نفيسة.
المفردات:
(وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ): العسرة: ضيق الحال، وقلة المال: أي وإن كان ذو ضيق وعسر مال مدينًا لكم.
(فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ): أي فيجب إنظاره وإمهاله إلى ميسرة، وسعة في المال.
التفسير
280 -
لما حكم الله - تعالى - لأرباب الربا برءوس أموالهم عند ذوي اليسار، حكم في ذوي العسرة مع ذلك، بوجوب إمهالهم إلى حال اليسار والسعة.
(1) الكم: المقدار.
سبب النزول:
روى أن ثقيفًا لما طلبوا أموالهم من بني المغيرة، شكا بنو المغيرة العسرة. وقالوا: ليس لدينا مال ندفعه لكم، فأمهلونا إلى وقت طيب الثمار، فأبوا أن يمهلوهم، فنزلت الآية بوجوب إنظار المعسر.
المعنى: وإن كان ذو ضيق وعسر مالي مدينًا لكم، فيجب عليكم إنظاره وإمهاله إلى ميسرة بحقكم فلا تضيقوا عليه بالمطالبة في عسرته، وانتظروا وقت الفرج فطالبوه.
ما يستنبط من الأحكام:
استنبط العلماءُ من هذه الآية: وجوب إنظار المعسر حتى ييسر الله عليه، سواء أكان مدينًا في دين ربا أو غيره، لأن الآية برفع (ذُو عُسْرَةٍ) معناها: وإن وقع وحدث ذو عسرة من الناس أجمعين. ولو كان في الربا خاصة، لقيل في الآية: وإن كان ذا عسرَةَ بالنصب، إذ يكون المعنى حينئذ، وإن كان الذي عليه الربا ذا عسرة. وبهذا الرأي أخذ عطاءٌ والضحاك، والربيع بن خيثم، والحسن، وابن عباس في رواية عنه.
وقيل: لا يجب إنظار المعسر إلا في دين الربا خاصة، واستدلوا بقراءة النصب؛ (وَإِنْ كَانَ ذَا عُسْرَةٍ) وحملوا عليها قراءة الرفع، وتقدير الكلام على هذا الوجه في قراءة الرفع: وإن كان ذو عسرة مدينًا لكم يا أصحاب الربا. وفي قراءة النصب: وإن كان المدين لكم أيها المرابون ذا عسرة فأمهلوه إلى ميسرة: وعلى هذا الرأي شريح وإبراهيم النخعي، وابن عباس في رواية أخرى عنه، ومما احتجوا به قوله تعالى:"إِنَّ اللَّهَ يَأمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا"(1).
ويقول أصحاب هذا الرأي: إن المدين في غير دين الربا، لا يقبل منه القول بالإعسار بل يحبس حتى يؤَديَ ما عليه، قال ابن عطية: ومحل هذا: إذا لم يكن فقر مدقع. وأما مع العُدْم والفقر الصريح، فالحكم هو النَّظِرَةُ ضرورة (2).
(1) النساء من الآية: 58.
(2)
أي فالحكم هو الإمهال بحكم الضرورة، أي أنه واجب لعدم الاستطاعة.
والراجح أن لا يحبس المعسر، لما رواه أهل الحديث واللفظ لمسلم، عن أبي سعيد الخدري: أنه قال: "أُصيب رجلٌ في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثمار ابتاعها، فكثر دينه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تصدقوا عليه". فتصدق الناس عليه، فلم يبلغ ذلك وفاءَ دينِه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لغرمائه: "خذوا ما وجدتم وليس لكم إلا ذلك".
وعند أبي داود: "فلم يزد رسول الله صلى الله عليه وسلم غرماءَه على أن خلع لهم ماله". أي أعطاهم ما عنده.
فقد دل هذا الحديث على أن الرسول لم يأمر بحبس هذا المدين المعسر، وهو معاذ بن جبل، كما قال شريح، إذ الحبس لا فائدة منه للدائن، كما لم يأمره أن يكتسب ليسد دينه.
ومن لم يتبين عسره وشُك في يسره، يحبسه القاضي حتى يتبين عُدمه وفقره، قال بذلك: مالك، والشافعي، وأبو حنيفة، فإن صح عسرهُ، فلا يحبس.
وقد استفيد من هذا الحديث: أن من كثرت ديونه وطلب غرماؤُه مالهم، فللحاكم أن يخلعه من كل ماله، ولكن يترك له ما كان ضروريًا له، روى نافع عن مالك: أنه لا يترك له إلا ما يواريه.
والمشهور -كما قال القرطبي- أن يترك له كسوته المعتادة، ما لم يكن له فيها فضل، ولا ينزع عنه رِدَاؤُه إن كان ذلك مُزْرِيًا به، ولا يترك له مسكن ولا خادم، ولا ثوب جمعة، ما لم تقل قيمتها، وعند هذا يحرم حبسه (1).
(وَأَن تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ):
المعنى: وأن تتصدقوا على المعسر بكل مالكم عليه أو يبغضه، خير وأكثر ثوابًا لكم من إنظاره، إن كنتم تعلمون ذلك فافعلوه، فإن المعسر بحاجة إلى البر والمعونة أكثر من الإمهال، ليسد عوزه ويطعم أهله من جوع، ويكسوهم من عُرْي.
وفي قوله تعالى: (إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ) حض لهم على الصدقة بعظم أثرها.
(1)(قرطبي جـ 3 ص 1180 طبع بمطبعة الشعب) في شرح قوله تعالى: (وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة).
روى مسلم في ذلك عن أبي مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "حُوسِبَ رجلٌ مِمَّن كانَ قَبلكم، فلم يُوجَدْ لهُ مِن الخَيرِ شَيءٌ، إلا أنه كانَ يُخَالِطُ الناسَ وكان موسرًا، فكان يأمر غلمانَهُ أن يَتَجاوزُوا عَنِ المعسِرِ، قال: قال اللهُ عز وجل: "نَحن أَحَقُّ بذلك منهُ .. تَجَاوزُوا عنْهُ".
وروى مسلم عن أبي قتادة "أنه طلب غريمًا له، فتوارى عنه، ثم وجده فقال: إني معسر. فقال: الله (1). قال: الله، قال: فإني سمعت رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من سرَّه أن ينجيَهُ اللهُ من كرْبِ يومِ القيامةِ، فَلْيُنَفِّسْ عن مُعْسِرٍ، أَو يَضَع عنْهُ".
وجاءَ في حديث أبي اليسر -كعب بن عُمْرو- عن مسلم "أنه محا عن غريمه الصحيفة، وقال له: إن وجدتَ قضاءً فاقْضِ، وإلَّا فأَنتَ فِي حِلّ"(2).
التفسير
281 -
خاطب الله في هذه الآية جميع المكلفين -وفيهم المرابون السابقون- بأن يتقوا يوم القيامة: الذي يرجعون فيه بالبعث إلى حكم الله وجزائه، ثم تعطَى فيه كل نفس جزاءَ ما كسبته - وافيًا كاملًا - وهم لا يظلمون بنقص ثواب، أو زيادة عقاب على ما اكتسبوه. واتقاءُ هذا اليوم، هو اتخاذ الوقاية من عذابه بفعل الواجبات، وترك المنهيات.
وفي الآية، رد على الجبرية الذين ينكرون كسب العبد. ويعتقدون أنه مجبور على ما يفعل من خير أو شر، وأنه كالريشة في مهب الريح، فقد أثبتت للعبد كسبًا، وأنه مجزيٌّ خيرًا كان أو شرًا.
(1) مجرور بحرف قسم مقدار، أي والله.
(2)
راجع صحيح مسلم ص 2 ص 394 طبعة بولاق.
المفردات:
(كَاتِبٌ بالْعَدْلِ): كاتب أمين فقيه.
(وَلَا يَابَ كَاتِبٌ أَن يَكْتُبَ): أي ولا يمتنع كاتب عن الكتابة.
(وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقٌّ): وليكن المدين الذي عليه الحق: هو الْمُلَقِّن والمُمْلي على الكاتب ما يكتبه، فإن الدَّيْن عليه، وهو المسئول عنه.
(وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا): ولا ينقص مَنْ عليه الحق شيئًا مما عليه من الدَّين، وإن كان صغيرًا.
(سَفِيهًا): أي مُبَذِّرًا لماله.
(أَوْ ضَعِيفًا): بأن كان صبيًا أو شيخًا خَرِفا.
(أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ): أو لا يقدر على التلقين، لخرس أو غيره من العوارض.
(فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ): فليلقن الكاتِبَ المتولَّي لأمر المدين بالعدل بينه وبين دائنه.
(أَن تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى): أي شرع لكم شهادة المرأتين، بدلاً من الرجل الواحد في الدَّيْن؛ إرادة أن تُذكِّر إحداهما الأُخرى إن غاب عنها شيء مما تشهد عليه.
(وَلَا يَابَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا): ولا يمتنع الشهود عن الشهادة إذا دعوا إليها، و (ما) للتوكيد، وليست للنفي. وكثيرًا ما ترد بعد إذا.
(وَلَا تَسْأَمُوا أَن تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ): ولا تملوا وتضجروا من كتابة الدَّيْن إلى وقت حلوله، صغيرًا كان الدَّيْن أو كبيرًا.
(ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ): أي أعدل عنده تعالى.
(وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ): وأعون على أدائها.
(وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا): وأقرب إلى انتفاء رَيبكم وَشَكِّكُم.
(تِجَارةً حَاضِرَةً): أي لا أَجَلَ فيها. والتجارة: تَصرُّفٌ في المال بِعَوَضٍ لقصد الربح، سواءٌ أكان المال حاضرًا أم في الذمة.
(تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ): تتصرفون فيها يَدًا بيد، بلا تأجيل.
(فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا): أي لا حرج ولا إثم عليكم، أو لا مضرة في عدم كتابتها.
(وإِن تَفْعَلُوا): ما نهيتم عنه.
(فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ): أي فإنه خروج عن الطاعة متلبس بكم.
التفسير
282 -
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ
…
} الآية.
لما أمر الله سبحانه، بإنظار المعسر وتأجيله، أتبعه بيان الحقوق المؤَجلة، وعقود المداينة. فذكر هذه الآية الكريمة.
المعنى والأحكام:
الدَّيْن - كما قال القرطبي -: كل معاملة كان أحد العوضين فيها نَقْدًا، والآخر في الذمة، نسيئة أي مؤَجلاً، فإن الْعَيْنَ عند العرب ما كان حاضرًا، والدَّينَ ما كان غائبًا.
وقد بين الله هذا المعنى بقوله (إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى).
وهذه الآية نزلت في بيع السَّلم خاصة، كما قال ابن عباس، فقد أخرج البخاري، عن ابن عباس أنه قال:
"أشهد أن السلفَ المضمونَ إلى أجل مسمى - أن الله تعالى أحلَّه وأَذِنَ فيه. ثم قرأ الآية" اهـ.
والسلف المضمون هو السلَم، فإنه مضمون بالثمار والحبوب المؤَجلَّة المتعاقد عليها. ومع ذلك، فالآية عامة في كل دين.
والسلم بيع من البيوع الجائزة باتفاق، وهو أن يسلم رجل إلى آخر عِوَضًا كالدراهم والدنانير ونحوها، في مقابل حبوب، أو ثمار غير موجودة عنده، في وقت البيع ولكنها مؤَجلة إلى أجل معلوم، ومحددة الأوصاف والمقادير ومكان التسليم.
والشارع وإن كان نهى عن بيع ما ليس عندك لأنه غير مقدور عليه؛ ولأنه يفضي إلى الشقاق -فقد رخص مع ذلك في بيع السَّلَم رَفْعًا للحرج بين الناس- فإن صاحب رأس المال محتاج إلى أن يشتري الثمرة، وصاحب الثمرة محتاج إلى ثمنها قبل ظهورها، لينفقه عليها. ولذا سماه الفقهاءُ: بيع المحاديج (1). ولما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، ورأى أهلها يستلفون في الثمار السنتين والثلاث، أقرهم على ذلك، بعد أن شرع لهم قواعده،
(1) وهي التي فيها الحدجُ، أي الغبن في البيع، ورخص فيه للحاجة إليه.
وصحَّح أوضاعه، فقال:"من أَسْلَفَ في تَمْرٍ فَلْيُسْلِفْ في كَيْلٍ مَعْلوم، وَوَزْنٍ مَعْلومٍ، إلى أَجَلٍ مَعْلوم". رواه ابن عباس، وأخرجه البخاري ومسلم، وغيرهما.
وعَرَّف علماءُ المالكية السَّلم بقولهم: "هو بيع معلوم في الذمة، محصور بالصفة بعين حاضرة، أو ما هو في حكمها إلى أجل معلوم".
والمقصود بالمعلوم في الذمة: أن يكون البيع محدودًا بأوصاف معينة، ترفع الخلاف عليه عند التسليم.
والمقصود من حصره بالصفة: ألا يحصره بعينه .. مثل: الذين كانوا يستلفون في المدينة على ثمار نَخْل بأعيانها، حين قدم رسول الله إليها فقد نهوا عند ذلك لما فيه من الغرر -أي الخطر- إذ قد تُخْلف تلك الأشجار فلا تثمر شيئًا.
وقوله: أو ما في حكمها، ليدخل رأس المال المؤَجل يومين أو ثلاثة، فإن السلم به جائز عند المالكية. إذ هو معتبر في حكم العين الحاضرة عندهم.
ولا يجيز ذلك الشافعي، الكوفيون، فرأس المال عندهم لابد من دفعه قبل الافتراق من المجلس.
والأجل المسمى: هو المعين بالأيام أو الأشهر أو نحوهما، مما يميز وقت التسليم تمييزًا دقيقًا، لا مجال للخلاف فيه.
أما التأجيل لنحو الحصاد والجذاذ، ففيه خلاف:
فالمالكية: يجيزونه، فهو عندهم في حكم محدود الأجل.
وغيرهم لا يعتبره كذلك، فيمنع حل السلم به، لأنه يورث الخلاف.
وخلاصة المعنى: يأيها الذين صدقوا بالله ورسوله إذا دَاين بعضُكم بعضا بدين، إلى أجل معين، تعيينًا لا يستتبع خلافًا، فاكتبوه بأجله.
وسيأتي الأمر بالإشهاد على الدَّيْن المكتوب.
والأمر في قوله: (فَاكْتُبُوهُ) لإيجاب كتابة الدَّيْن مطلقًا، سواءٌ أكان في بيع أم غيره، لئلا يقع فيه نسيان أو جحود أو خلاف. واختار هذا الرأي جماعة منهم: الطبري. ومقتضاه: إثم من لم يكتب الدَّيْن.
وقال الجمهور: كتابة الدَّيْن ليست واجبة، بل مندوبة.
وقد صَرَف الأَمرَ هنا عن الوجوب: أن الله أجاز لصاحب المال أن يهب ماله، فإذا كان ذلك جائزًا له، فإنه يجوز له أن يترك الكتابة ائتمانًا للمدين، ولا يعتبر آثمًا في ذلك. ولهذا قال الله تعالى:
(فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ):
وسواءٌ قلنا بالوجوب أو الندب فكتابة الدَّيْن من باب الحزم؛ خوفًا من حدوث إنكار من المدين. وحاجة الدائن إلى ماله تمنعه من التنازل عن دينه عند الجحود.
(وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ):
بعد أن أمر الله سبحانه بكتابة الدَّيْن منعًا للجحود، عَيَّن هنا من يتولى الكتابة، إذ طلب من المتداينين أن يتولاها بينهم كاتب عدل، متمسك بالدِّين، فقيه، حتى يكون ما يكتبه جاريًا على مقتضى الشريعة والعدل، فإِنَّ غير الفقيه لا يستطيع أن يقيم العدل الشرعي بينهما.
وقد أفاد الأمر في قوله تعالى: (فَلْيَكْتُبْ) وجوب الكتابة على من يُدْعَى لها من الكُتاب، كما قاله عطاءُ وغيره.
وقال السدي بوجوبها عليه مع الفراغ لها، وقيل بوجوبها إذا لم يوجد غيره. وبه قال الحسن.
واستبعد القرطبي أن يكون الأمر بالكتابة للوجوب على الكاتب، وقال: لو كانت الكتابة واجبة لما صح الاستئجار بها، لأن الإجارة على فعل الفروض باطلة، ولم يختلف العلماءُ في جواز أخذ الأُجرة على كَتْب الوثيقة. والصحيح أنه أمر إرشاد فلا يكتب حتى يأخذَ حقَّه. اهـ.
والتعبير بقوله: (بَيْنَكُمْ) بدل (أحدكم) للإيذان بأنه ينبغي أن يكون الكاتب غير المتعاقدين، ليكون عدلا بينهما، وشاهدًا عليهما، فإن المدين لا يطمئن لكتابة الدائن،
ولا الدائن يطمئن لكتابة المدين. وقد أُمر الكاتب أن يحقق المقصود من كونه بينهما، بأن يكتب بالْعَدْلِ، فلا يميل إلى أحدهما فيما يكتبه، بل يكون بينهما قَوامًا.
وإذا علقنا الباء في قوله: (بِالْعَدْلِ) بقوله: (فَلْيَكْتُبْ) صح أن يكتب الوثيقة صَبِيٌّ أو عبد أو متحوط غير عادل إذا أقام فقهها وضبطها نحو العدل الإلهي.
وبذلك أخذ بعض الفقهاء.
أما الإمام مالك، فقد جعل (بِالْعَدْلِ) متعلقًا بكاتب. ولذلك اشترط في كاتب الوثائق أن يكون عادلًا، عارفًا بها دارسًا لأساليبها، إذ قال رحمه الله:"لا يكتب الوثائق بين الناس إلا عارف بها، عدل في نفسه مأمون، لقوله تعالى: (وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ) نقله القرطبي. وقال الآلوسي: "ومن لم يكتب كذلك يجب على الإمام، أو نائبه منعه؛ لئلا يقع الفساد، أو يكثر النزاع".
(وَلَا يَابَ كَاتِبٌ أَن يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ):
المعنى: ولا يمتنع كاتب من أن يكتب للناس وثائقهم وعقودهم لأجل تعليم الله له وتميزه بالكتابة، فإنَّ تفضُّل الله عليه بعلم الكتابة، يبعثه ويدعوه إلى أن يتفضل بها على الناس؛ ليؤَديَ حق الله عليه، على حد قوله تعالى:"وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ"(1) أي لأجل إحسان الله إليك وذلك حسب القاعدة التي قررها قوله تعالى "هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ"(2).
ويصح أن يكون المعنى: ولا يمتنع كاتب أن يكتب بالعدل، كما علمه الله بقوله:(وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ) والكاف على هذا بمعنى مثل، نعت لمصدر مقدر. والتقدير: أن يكتب كَتْبًا مثل الذي علمه الله إياه.
(فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ):
لم يكتف الله بنهي الكاتب العدل الفقيه عن الامتناع عن الكتابة، بل أمره بها أمرًا صريحًا، بقوله تعالى:(فَلْيَكْتُبْ) وذلك مؤذن بأن كتابته للوثائق حق عليه للمجتمع، لا يحق له أن يتخلى عنها، ولهذا ذهب بعض الفقهاء إلى أنها من فروض الكفايات (3). إن وجد عدد من الكتاب، وإلا فهي فرض عين عليه، وقد أعطى الله الحق في إملاء الكاتب
(1) القصص: من الآية 77.
(2)
الرحمن: الآية 60.
(3)
وهي التي يسقط فيها الطلب إن أداها بعض من وجبت عليهم.
للمدين، الذي عليه الحق بقوله:
(وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ):
والإملال والإملاء بمعنى واحد، وهو التلقين. وإنما أعطى حق الإملاء للمدين، لأنه هو المشهور. وعليه، فلابد من أن يكون هو المقر لا غيره، حتى لا يقع عليه غبن.
(وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا):
هذا يصلح أن يكون أمرًا للمدين الذي عليه الحق، وهو ما ذهب إليه سعيد بن جبير، وأن يكون أمرًا للكاتب.
فعلى الأول، يكون المعنى: وليتق اللهَ المدينُ، الذي عليه الحق، ولا ينقص من الدين حين الإملاء شيئًا، ولم كان حقيرًا، بل يعترف به، كما اتفق عليه مع الدائن؛ منعًا للنزاع بينهما.
وعلى الثاني، يكون المعنى: وليتق الله الكاتب، ولا ينقص من حق كل من الدائن والمدين شيئًا، بل يثبت لكل منهما حقَّهُ كاملاً، فلا ينحاز إلى أحدهما، ولا يضيع شيئًا على أي منهما. كما هو الشأن في العدل بين الناس.
وقد علمت مما مضى: أن الله جعل للمدين الحق في إملاء الكاتب، ليكون مُقِرًا بدينه؛ حتى تأتي الشهادة صحيحة على إقراره. وبما أن المدين قد لا يحسن الإملاء على الكاتب، فلذلك أعطى الله حق الإملاء لوليه، فقال سبحانه:
(فَإِن كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَن يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ):
والسفيه هو: المبذر لماله، المفسد لِدَيْنِهِ كما قال الشافعي.
وفسره القرطبي بأنه: "المهلهل الرأي في المال (1)، الذي لا يحسن الأخذ لنفسه، ولا الإعطاء منها" راجع جـ 3 في الآية.
(1) تشبيهًا بالثوب السفيه، وهو الخفيف النسج.
والضعيف لا يقدر على الإملاء؛ لكونه صبيًا، أو شيخًا خرفًا، أو مريضًا، ومن لا يستطيع الإملاء نحو الأخرس. فهؤلاء أربعة أصناف: لا يملي على الكاتب سوى أولهم.
أما الباقون، فيملي على الكاتب، عنهم أولياؤهم بالعدل.
والمقصود بالولي: من يتولى أُموره، وإن لم يكن وليه الشرعي. فيدخل فيه: القيم، والوكيل، والمترجم.
والمرادُ من عدالة الولي في الإملاء: أن لا يزيد ولا ينقص عن الحق شيئًا.
واستُدِلّ بوصف العدالة في الولي - على أنه لا يصح أن يكون ذميًا ولا فاسقًا؛ لأنه لا عدالة فيهما. كما استدل بالآية. على أن إقرار الولي العادل على يتيمه، صحيح.
(وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِن رِّجَالِكُمْ):
لم يكتف الله تعالى في توثيق الدين بكتابته، بل أمر المسلمين أن يطلبوا -من رجالهم المؤمنين- شهيدين يَشهدان على ما يجري عند التعاقد؛ تثبيتًا للحق ومنعًا لإنكاره أو سوء تأويل النص.
وعبر عن الشاهدين بصيغة المبالغة (شَهِيدَيْنِ) للإشارة إلى أنه ينبغي طلب من تكررت منه الشهادة، فهو عالم بمنزلتها، دقيق في أدائها، قادر على القيام بها. كما أن فيه رَمْزًا إلى عدالتهما، لأنهما لا تتكرر شهادتهما عند الحكام، إلا إذا كانا مقبولين عندهم. كما أنه لم يقل: رجلين، بل قال:(مِن رِّجَالِكُمْ) للإيذان بأن الشاهدين من رجال المؤمنين المعروفين بالكمال والعدل.
والأمر بالاستشهاد المذكور، قيل: للندب. وقيل: للوجوب.
وفي إضافة الرجال إلى ضمير المؤمنين المخاطبين، دلالة على اشتراط الإسلام والبلوغ، مع الذكورة في الشهود، وكذا الحرية، لأن المقصود من الرجال: الكاملون في التصرف.
ويدل لذلك، قوله تعالى:(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ). وساق الخطاب إلى قوله (مِن رِّجَالِكُمْ) فظاهر الخطاب يتناول الذين يتداينون، والعبيد لا يملكون التداين بدون إذن السادة. وهذا هو رأي الجمهور.
وقال شريح، وعثمان العُتْبي، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور: شهادة العبد جائزة، إذا كان مسلمًا عادلًا. وأجازها الشعبي، والنخعي في الشيء اليسير، ورأي الجمهور هو الصحيح، كما قاله القرطبي؛ لما ذكرناه. ولم تتعرض الآية لشهادة الكفار بعضهم على بعض. وأجازه -قياسًا- الإمامُ أبو حنيفة، وإن اختلفت مللهم. واستدل بعض العلماء بعموم (رجَالِكُمْ) على قبول شهادة الأعمى، بشرط أن يعلم - يقينًا - ما يشهد عليه.
فقد سُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الشهادة، فقال:"ترى هذه الشمس .. فاشهد على مثلها أَوْ دَعْ".
ومنهم من قبل شهادته على الصوت إذا تحقق منه، وبذلك أفتى مالك.
قال ابن القاسم: قلت لمالك: فالرجل يسمع جاره من وراء الحائظ ولا يراه، يسمعه يطلق امرأته فيشهد عليه وقد عرف صوته؟ قال مالك: شهادته جائزة.
(فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ):
أي فإن لم يشهد رجلان، لعذر أو لعدم الرغبة فيهما، فليشهد رجل وامرأتان. وشهادتهما مع الرجل تصح -عند الشافعية- في الأموال الخاصة. وعند الحنفية، فيما عدا الحدود والقصاص.
وقال مالك: لا تجوز شهادة أولئك -أي الرجل مع المرأتين- في الحدود، ولا القصاص، ولا الولاء، ولا الإحصان. وتجوز في الوكالة والوصية، إذا لم يكن فيها عتق وسائر شئون الأموال.
قال القرطبي: قال مالك في الموطإ: وإنما يكون ذلك في الأموال الخاصة.
واعلم أن الآية نصت على جواز قبول شهادة المرأتين مع الرجل في الدين خاصة، وذلك موضع اتفاق بين العلماء، ولا يشمل ذلك الشهادة على دين المهر، والصلح على دم العمد. فالشهادة عليهما، ليست شهادة على دين، بل على نكاح في الأولى، وعلى دم في الثانية، والنساء لا يشهدن في ذلك.
وأجاز العلماء شهادة النساء منفردات فيما لا يطلع عليه غيرهن، للضرورة: كالشهادة في الولادة والبكارة، وحياة الصبي عند الولادة. وما يجري مجرى ذلك، مما بُيِّن في كتب الفقه.
(مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ):
أي فرجل وامرأتان موصوفون جميعًا، بأنهم مرتضون عندكم أيها المسلمون أو الحكام. أي صالحون للشهادة، لعدالتهم وأمانتهم.
وَعُلِمَ من وصف الرجل والمرأتين بذلك، وجوب أن يكون الرجلان إذا شهدا متصفين بهذا الوصف. وإنما لم يُذكر هناك، اكتفاء بذكره في أحد النظيرين هنا، ليعلم منه حكم النظير الآخر.
وقال أبو حيان: إن قوله: (مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ) متعلق باستشهدوا؛ ليكون قيدًا في الجميع.
(أَن تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى):
الضلال هنا: مجاز عن النسيان.
وخلاصة المعنى: شرع الله لكم شهادة المرأتين مع رجل، بدلاً من الرجل الثاني، لإرادة أن تذكر إحداهما الأخرى إن نسيت.
وأصلى المعنى -حسب النص- شرع لكم شهادة المرأتين بدل رجل، خشية أن تضل إحداهما فتذكرها الأخرى. نقول: وذلك لأن النسيان غالب على طبع النساء فيما ليس من شأنهن ممارسته:
(وَلَا يَابَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا):
أي ولا يمتنع الشهداء عن أداء الشهادة أمام الحاكم إذا دعوا إليها. وهذا تفسير مجاهد، وابن جبير.
وقيل: إن الآية نزلت في تحميل الشهادة وأدائها، وتسمية من يدعي لتحمل الشهادة شاهدًا -وهو لم يشهد بعد- على سبيل المجاز؛ لأنه مشارف لتحملها، وعلى هذا الرأي ابن عباس والحسن. قال الحسن: جمعت الآية أمرين على جهة الندب، فالمسلمون مندوبون إلى معونة إخوانهم، فإن كانت الفُسْحَةُ لكثرة الشهود والأمن من تعطيل الحق، فالمدعو مندوب، وله أن يتخلف لأدنى عذر، وإن تخلف لغير عذر فلا إثم عليه، ولا ثواب له. وإذا كانت الضرورة -وخيف من تعطيل الحق أدنى خوف - قَوِيَ الندب، وقرب من الوجوب. وإذا علم أن الحق يذهب، فقد وجب عليه أن يشهد، لأنها أمانة تقتضي الأداء .. انتهى باختصار.
روى عن الربيع: أن الآية نزلت، حين كان الرجل يطوف في القوم الكثير، فيدعوهم إلى الشهادة فلا يتبعه أحد منهم - أن نزلت للحث على تحمل الشهادة.
(وَلَا تَسْأَمُوا أَن تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ):
أي ولا تملوا -لكثرة مدايناتكم أو غيرها- أن تكتبوا الدين أو الحق، صغيرًا أو كبيرًا، قليلاً أو كثيرًا، مجملًا أو مفصلاً، مستقرًا في ذمة الذي عليه الحق، إلى وقت حلوله الذي أقر به.
(ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا):
أي ذلكم الذي تقدم من الكتابة والإشهاد على الحق، أعدل في حكم الله، وأعون في أداء الشهادة على وجهها، وأقرب إلى انتفاء ريبكم وشككم في جنس الدين وقدره وأجله ونحو ذلك.
(إِلَّا أَن تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا):
استثناء من الأمر بالكتابة، فقوله تعالى:(وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ) إلى هنا أحكام متوسطة بين المستثنى والمستثنى منه. متعلقة بالأمر بكتابة الدين، ولبعد ما بينهما نص على المطلوب بقوله:(فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا). وتقدير الارتباط بين المستثنى والمستثنى منه هكذا:
يا أيها الذين آمنوا، إذا تداينتم بدين فاكتبوه، لكن وقت كون المعاملة تجارة حاضرة بحضور الثمن والمثمن تديرونها بينكم بتعاطي الثمن والْمُثْمَن يدًا بيد - فليس عليكم ضرر أو إثم في عدم كتابتكم لها، لِبُعْد ذلك عن التنازع والنسيان.
وعدم الكتابة في التجارة الحاضرة مقصور على القليل، كما قال القرطبي، كالمطعوم ونحوه، دون الكثير كالأملاك ونحوها. وقال السدي والضحاك: هذا فيما كان يدًا بيد. اهـ. وذلك حق، فإن الكثير الحاضر، عرضه للإنكار والجحود والمنازعات. فكتابته والإشهاد عليه، مطلوبان، منعًا للتنازع بين الناس.
(وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ):
أي وأشهدوا على تجارتكم الحاضرة إذا تبايعتم، أو أشهدوا على كل بيع تجارة حاضرة أو غيرها، لأنه أحوط.
ورأى بعض الفقهاء: وجوب الإشهاد على البيع، ولو كان المبيع حزمة بقل.
وممن ذهب إلى ذلك الطبري، إذ قال: لا يحل لمسلم إذا باع واشترى، إلا أن يشهد، وإلا كان مخالفًا لكتاب الله عز وجل.
وذهب الشعبي والحسن: إلى أن ذلك مندوب. وهذا قول مالك، والشافعي، وأصحاب الرأي.
وذكر القرطبي أن النبي - صالى الله عليه وسلم - باع واشترى، ورهن ولم يشهد.
ولو كان الإشهاد واجبًا لوجب مع الرهن لخوف المنازعة. ونحن نقول: إن الناس تغيرت أخلاقهم، فالإشهاد - في هذا الزمان - واجب، لمنع الخلاف والنزاع.
(وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ):
نهي عن المضارة، والفعل يحتمل البناء للفاعل. والدليل عليه قراءة عمر رضي الله عنه (وَلَا يُضَارِرْ) بفك الإدغام، وكسر الراء الأولى، ويحتمل البناء للمفعول، والدليل عليه قراءة ابن عباس:(وَلَا يُضَارَرْ) بفتح الراء الأولى.
والمعنى على الأول: نهي الكاتب والشاهد عن ترك الإجابة إلى ما يطلب منهما، وعن التحريف والزيادة والنقصان. فإن ذلك كله مضارة للمتداينين.
والمعنى على الثاني: نهي المتعاملين من الضرار بالكاتب والشهيد: بأن يعطلاهما عن مهم لهما، أو لا يعطيا الكاتب أجره على الكتابة، أو يحمل الشاهد مؤونة المجيء من بلده.
ويؤيد هذا المعنى، ما أخرجه ابن جرير، عن الربيع، قال: لما نزلت هذه الآية: (وَلَا يَابَ كَاتِبٌ
…
) الخ كان أحدهم يجيء إلى الكاتب فيقول: اكتب لي، فيقول: إني مشغول أو لي حاجة، فانطلق إلى غيري، فيلزمه ويقول: إنك قد أُمِرْتَ أن تكتب لي، فلا يدعه ويضاره بذلك وهو يجد غيره. فأنزل الله تعالى:(وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ).
(وَإِن تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ):
أي وإن تفعلوا ما نهيتم عنه من المضارة، فإن فعلكم هذا فسوق وخروج عن طاعة الله متلبس بكم.
(وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ):
واجعلوا أنفسكم في وقاية وحرز من عقاب الله: بامتثالكم ما أمركم به أو نهاكم عنه. ويعلمكم الله أحكامه المتضمنة لمصالحكم.
(وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ):
فلا يخفى عليه حالكم، فيجازيكم حسب استحقاقكم.
وتكرير لفظ الجلالة في الجمل الثلاث، لقصد التعظيم، وتربيه المهابة، وتعليل الحكم.
وفي الآية توجيه لتعليم القراءة والكتابة، لحاجة المسلمين إليها في وثائقهم.
المفردات:
(وَإِن كُنتُمْ عَلَى سَفَرٍ): أي مسافرين فعلا، ولذا عَبَّر بقوله:(عَلَى سَفَرٍ) إشعاراً بمباشرتهم له، وتمكنهم منه تمكن الراكب مما يركبه.
(فَرِهَانٌ مَّقْبُوضَةٌ): الرهان جمع رهن، وهو ما يأخذه الدائن من الأعيان ذات القيمة ضمانًا لدينه، وهو في الأصل مصدر، وشاع استعماله في العين المرهونة، حتى أصبح فيها حقيقة عرفية.
التفسير
283 -
{وَإِن كُنتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَّقْبُوضَةٌ
…
} الآية.
بين الله تعالى في الآية السابقة: أن على من تداينوا أن يكتبوا الدَّيْنَ، وأن يقوم بكتابته بينهم كاتب بالعدل، لتكون الوثيقة حرزًا من النسيان أو الإنكار. وذكر من أحكام ذلك ما شرحناه.
وفي هذه الآية، يبين لنا ما ينبغي عمله عند فقد الكاتب في حالة السفر لأجل الاستيثاق من الدين، فيقول ما معناه:
وإن كنتم - أيها المتداينون - مسافرين، ولم تجدوا كاتبًا يكتب بينكم الدين، فالذي يستوثق به حينئذ، رهان يقبضها الدائنون، وتبقى عندهم حتى أداء الدين، فترد إلى المدينين.
وأخذ مجاهد بظاهر الآية، فلم يجز الرهن إلا في السفر. وقيده الضحاك في السفر بفقدان الكاتب. ولكن الراجح: جواز الرهن سفرًا وحاضرًا.
فقد روى البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم "رهن درعه في المدينة عند يهودي على ثلاثين صاعًا من شعير"(1) ولم تتعرض الآية للشاهد، لأن حكم الكاتب يسري عليه وجودًا وفقدانًا.
وفي التعبير بقوله: (مَقْبُوضَةٌ) دون تقبضونها، إشارة إلى الاكتفاء بقبض الوكيل.
(فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ):
بعد أن بين الله - فيما مضى - طريقي الاستيثاق من الدَّيْنِ - وهما الكتابة والإشهاد أو الرهن - ذكر أُسلوبًا آخر في التعامل، هو أسلوب الاستئمان والثقة، فقال ما معناه:
فإن أمن بعض الدائنين بعض المدينين - في حضر أو سفر بسبب حسن الظن والثقة، فلم يتوثق بالكتابة والشهود والرهن - فليؤَد المدين الذي ائتمنه الدائن أمانة صاحب الدين، أي دينه الذي له عليه.
(1) هكذا يتعامل اليهود دائمًا. فلا يقبلون أن يكون لهم دين على أحد إلا برهن، ولو كان أشرف الشرفاء. فالمال معبودهم الأول. وإنزال الناس منازلهم، ليس من القيم المعتبرة عندهم.
(وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ):
فلا يخونه بإنكار كل حقه أو بعضه، فإنه تعالى رقيب حسيب، شديد العقاب للخائنين.
وبهذا تضمنت الآية الكريمة ثلاثة أصناف من البيع: أحدها يبيع بكتاب وشهود، وثانيها بيع برهن، وثالثها بيع بأمانة.
(وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ):
هذا خطاب للشهود المؤمنين، كما قاله سعيد بن جبير وغيره.
والمعنى عليه: ولا تخفوا الشهادة بما علمتم إذا دعيتم إلى لأدائها.
والآية وإن نزلت في الدَّيْنِ إلا أنها عامة - توجب أداء الشهادة على وجهها في كل حال.
وقيل: هو خطاب للمدينين على معنى: ولا تكتموا شهادتكم على أنفسكم، بل أقروا بالحق، ولا تحتالوا بإبطال شهادة الشهود عليكم بالجرح ونحوه أمام القضاء.
(وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ):
أي ومن يكتم الشهادة بالحق، فإنه آثم قلبه. وإسناد الإثم إلى القلب، لأن الكلام فيمن كتم ما يعلمه، وهو بذلك يكون قاصدًا إخفاء الحق. وذلك من عمل القلب، فلذا أسند الإثم إليه. وإذا أثم القلب أثم صاحبه، لأن العبرة بأفعال القلوب. ولذا رفعت المؤاخذة عمن يفعل المعصية ناسيًا، لأنه لا قصد له فيها.
كما أن الآية تشير بذلك، إلى أن أثر المعصية بالكتمان يبقى في قلبه، إذ يستتبع فيه سوادًا.
روى الترمذي والنسائي وابن ماجة وأحمد والحاكم، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"إن العبد إذا أخطأ خطيئة نُكِتَتْ في قلبه نكتة سوداء، فإن هو نزع واستغفر وتاب صقل قلبه، وإن عاد زيد فيها، حتى تعلو على قلبه، وهو الران الذي ذكر الله تعالى: "كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ" (1).
وجاء في الحديث الصحيح "ألا وإنَّ في الجسد مضغةً، إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب" رواه الشيخان.
(1) المطففين: الآية 14.
(وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ):
ختم الله الآية بذلك، تحذيرًا للكاتمين، وتنبيهًا للغافلين، وإنذارًا للجاحدين، وتبشيرًا لأهل الأمانة والوفاء. أي والله بما تعملون من خير وشر، بليغ العلم، فيجازي كلًا على حسب عمله: إن خيرًا فخير، وإن شرًا فشر.
المفردات:
(تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمْ): تظهروه.
(يُحَاسِبْكُم بِهِ): أي يبينه لكم، ويجازيكم عليه.
التفسير
284 -
{لِّلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ
…
} الآية.
حذر الله - سبحانه - في الآية السابقة من كتمان الشهادة، وجعل من يكتمها آثمًا عاصيًا، وبين هنا، أنه سبحانه وتعالى بكل ما يعملون عليم، فلا يخفى عليه ما كتموه، وما يظهرون، فيغفر لمن يشاءُ، ويعذب من يشاءُ.
(وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ):
وبذلك استكملت صورة التحذير من مخالفة ما أمرهم به جَلَّ وعلا.
والمعنى: لله ما في السموات وما في الأرض من أجزائهما، وما استقر فيهما، لا يشاركه في خلقها أو ملكها، أو التصرف فيها شريك، فله أن يلزمكم أيها العباد بما يشاءُ من التكاليف،