الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سورة البقرة
مقاصدها: تشتمل هذه السورة على مقاصد عظيمة، منها ما يأتى:
1 -
التنويه بشأن الكتاب العزيز، الذكرهو أصل التشريع السماوى، وأساس القانون الإسلامى.
{ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (3)} .
2 -
بيان أحوال الناس من الدعوة الإسلامية، وهم فرق ثلاث:
(1)
(ب) فرقة الكافرين المشركبن: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (6)} .
(ج) فرقة المنافقين، وهم أضر أعداء الدِّين:{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (8)}
وقد عني القرآن بأوصافهم وأحوالهم في ثلاث عشرة آية.
3 -
تذكير الطوائف الثلاث، بنعمة الخلق لعلهم بعتبرون، فيستمسكوا بالعروة الوثقى:
4 -
توجيه التحدي لمن أنكر معجزة القرآن: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (23)} .
5 -
بيان الدلايل الكونية المقرونة بالنعم الإلَهية، لإقناع الخلق بالبعث والمعاد:{هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (29)} .
6 -
عناية الله تعالى بخلافة البشر في الأرض، إذ جعل أول خليفة فيها آدم عليه السلام وخلقه وأبناءه ليعبده، ويعمروا إلأرض، كما قال جل شأنه: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا
…
} الآيات (30) وما بعدها.
7 -
القصص القرآن في فيما يتصل بنفع الإيمان، وضرر الكفر، وخداع المنافقين، وأثر ذلك في المجتمعات الق بعث الأنبياء لإصلاحها.
8 -
عنايا القرآن بذكر قصص بني إسرائيل، لأنهم أَكثر الأُمم نعمًا، وأشدهم عصيانًا وكفرًا:{يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} . (40)
9 -
قصة موسى عليه السلام مع بني إسرانيل في شأن البقرة الق سميت السورة باسمها:
{وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً
…
} الآية (67).
10 -
قصص الرسل مع أممهم من بعد موسى، لبيان ما تحملوه في سبيل الدعوة إلى الله:
{وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ
…
} الآية (87).
11 -
تبيين موقف أهل لكتاب الكفار - من المؤمنين حتى لا يتخذوهم أَولياءَ: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ
…
} الآية (109).
12 -
العناية بقصة إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام في بناء الكعبة بمكة؛ لأنها أول بيت وضع للناس في الأرض، وقدجعله الله مثابة للناس وأمنا.
13 -
اختبار الناس بتحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة المشرفة: {
…
وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ
…
} الآية (143).
14 -
تصوير حال أهل الكفر والضلال، حين يتبرأ بعضهم من بعض يوم القيامة:{إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ (166) وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} . (167)
15 -
بيان ما أحل الله للمؤْمنين، وما حرم عليهم في الأطعمة، ليقفوا عند حدود الله تعالى في مطاعمهم {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (172) إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (173)} .
16 -
بيان عبادة الصوم التي بها طهارة القلوب، وزكاة النفوس: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ
…
(183)}، {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ
…
} الآية (185).
17 -
الأمر بالجهاد، دفاعًا لا اعتداءً، مع مايراعي من الآداب عند القتال: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا
…
} الآية (190)، {
…
وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ الآية (191)، {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ
…
الآية} (193)
18 -
تطهير ذرية المؤمنين من الانتماء إلى الأمهات أو الآباء المشركين، {وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ
…
الآية} (221)
19 -
وضع حد للشقاق بين الزوجين والمحافظة على طهارة الأنساب، ببيان أَحكام الطلاق، والعدة للمطلقة، والمتوفى عنها زوجها {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ
…
} الآية (239) {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ
…
} الآية (228)، {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا
…
} الآية (234).
20 -
بيان التفاضل بين الرسل على حسب درجاتهم عند الله تعالى: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ
…
} الآية (253)
21 -
الحث على الإنفاق في سبيل الله: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (261)} .
22 -
النهى عن الربا؛ لأنه من المعاملات التي لاتتفق مع المروءة الإسلامية، ولا الأُخوة الدينية ولا مع النظام المالى الإسلامي، الذي يحرم أكل أموال الناس بالباطل: {وَأحَل اللهُ البَبعَ وَحَرمَ
الرِّبَا .. } الآية (275)، {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ .. } الآية (276)؛ {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ} الآية (279).
23 -
الأمر بقيد الديون وتسجيلها في وثائق، حى لاتقع المشكلات في المعاملات المالية {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ
…
} (282).
24 -
الإيمان بالله، وجميع الرسل والملائكة، والكتب دون تفرقة بينهم {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ
…
} الآية (285).
هذه بعض المقاصد والأهداف من سورة البقرة. وهي مدنية. وآياتها ست وثمانون ومائتان.
والمدني: ما نزل بعد الهجرة.
المفردات:
{الم} يقول السلف: إنها وأمثالها في فواتح السور من المتشابه، الذي استأثر الله بعلمه.
ويقول غيرهم: إنها للتنبيه. وقيل غير ذلك. وسيأتى بيان مافيه.
{لَا رَيْبَ فِيهِ} : لا ينبغى أن يشك في صحته.
{هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} :إرشاد لهم
{يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} : يصدقرن بما غاب عن حسِّهم، مما أخبر عنه الكتاب الذي لاربب فيه.
{وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ} يؤَدونها في أوقاتها، كاملة الأركان والشروط.
{وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} : ومما انعمنا عليهم يبذلون في سبيل الخير.
{أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ} : أي أولئك الموصوفون بما تقدم، متمكنون من هدى ربهم.
{وأولئك هم المُفْلِحُونَ} :أى بما يرجون، الناجون مما يكرهون.
التفسير
1 -
{الم} : افتتح الله بعض سور القرآن، بأَسماء بعض الحروف، وعددها ثمانيه وسبعون حرفا فى جملة السور. وهي تكرار لأربعة عشر حرفا في أوائل تسع وعشرين سورة، منها سورة البقرة هذه، وأولها:{الم} .
وقد ذهب كثير من السلف، إلى أن معافى هذه الحروف وأغراضها، سر من الاسرار التي استأثر الله تعالى بعلمها، فتكون من المتشابه الذي لا يعلم تأويل إِلا الله عز وجل.
أما علماء الخلف، فقدحاولوا ببان المقصودمنها لأن القرآن جاء بلغة العرب ليفهموه، ومن أَحسن ما قيل في ذلك: إنها تشير إلى أَن القرآن، مكوَّن من كلمات أساسها هذه الحروف التي تنظمون منهَا -أيها العرب- كلامكم، ومع ذلك عجزتم عن أتأتوا بمثله، وفيكم الفصحاء والبلغاء. فإذا جاء به النبي الأُمى، فالله تعالى هو الذي أنزله إليه، ولم يأت به من عند نفسه، لأنه مثلكم في البلاغة وفي الفصاحة. فإذا كنتم عاجزين عن الإتيان بمثله، - وأَنتم أَئمة البلاغة، فهو مثلكم في ذلك العجز.
فالقرآن فوق مقدرة البشر جميعًا. ومن أَحسن ماقيل أيضًا: إن المشركين كانو اتضافروا، على ألا يسمعوا القرآن:{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ .. } (1) فكان النبي صلى الله عليه وسلم يبدأ التلاوة بهذه الاحرف المنزلة، جاهرا بقراءته ليستمعوا إِلى القرآن الذي أعرضوا عنه. فهي- لغرابتها- أقوى في تنبيههم إلى استماعه من أن يقول لهم: استمعوا إليه.
(1) فصلت: 26
2 -
{ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ}
{ذَلِك} إشارة للبعيد الحسِّي. وقد يستعمل للبعبد المعنوىٌ للتعظيم، كما فى قوله تعالى:{ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (1)} .
وهي هنا إشارة إلى الكتاب؛ للإيذان ببعد منزلته علوًّا، أي ذلك الكتاب البعيد المدى في منزلته الرفيعة.
{الكِتَابُ} : بمعنى المكتوب، وهو القرآن الذي نتلوه، الموعود به صلى الله عليه وسلم في قوله جل شأنه:{إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا (2)} فأل فيه للعهد، أي ذلك الكتاب الذي وعدنا بإلقائه عليك، ويجوز أَن تكون للكمال، والمعنى: ذلك الكتاب: الكامل، في بلاغته وإِعجازه وتشريعه. أو ذلك الكتاب، أما غيره فلا.
{لَا رَيْبَ فِيهِ} : لا شك فيه، أَى أنه ليس من شأنه أن يشك فيه، لنصوع حقائقه.
وإلا فهناك من المنكرين المعارضين من شك وشكَّك، وارتاب وأراب، فلم يعتبر ريبهم فيه ريبا. لأنه نشأَ عن الرين والحجاب الذي ختم الله به على قلو بهم.
قد تنكر العين ضوء الشمس من رمدٍ
…
وينكر الفم طعم الماء من سقم
{هُدًى لِّلْمُتقينَ} أي بيان وإرشاد لهم إلى ماينفعهما في دنياهم وأُخراهم، لما تضمنه القرآن من العقائد والَأحكام، والأخلاق التي لا غاية وراءَها.
والمتقي: من يتقي عذاب الله ويصون نفسه منه، بترك السيئات وعمل الصالحات.
وخص بهذا، لأنهم هم الذين ينتفعون بما في الكتاب من هداية إلى الصراط المستقيم، على حد قوله تعالى:{إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا} (3). وأيضًا قوله جل شأنه: {فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ} (4)
ربما أنه مذكر للجميع وهاديهم ومنذرهم، فالتقييد بما ذكر، مراعاة لمحل الثمرة والفائدة أما غيرهم، فلم ينتفعون بالقرآن؛ لسُوء اختيارهم.
3 -
(1) السجدة: 6
(2)
المزمل: 5
(3)
النازعات: 45
(4)
آخر: ق
تَضَمَّنَتْ هذه الآية الصفة إلاُولى للمتَّقين الذين نزل القرآن هدى لهم.
واعلم ان التكاليف الشرعية: اما ترك، واما فعل. وما يطلب تركه يدخل تحت عنوان المتقين. والفعل: اما قلبى: ويدخل تحت قوله: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} . وإِما من عمل الجوارح.
وقد أَشار إلى البدني منها بقوله: {وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ} ، وتخصيصها بالذكر؛ لأنها رأس العبادة البدنية، ولأنهاتنهى عن الفحشاء والمنكر، لقوله تعالى: {
…
إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ
…
(1)}.
وأَشار إلى المالي منها بقوله: {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} .
ووجه الترتيب في الآيتين: أن الترك من قبيل التخلية، وأن الأفعال من قبيل التحلية، والأولَى تسبق الثانية، ولهذا قدم وصفهم بالمتقين على غيره من الأوصاف، لأن التقوى من قبيل التحلية، فهي أشبه بإزالة الأدران والأوساخ قبل التحلية باللباس النظيف الجديد الذي تشبهه سائر صفات المتقين. ويلي هذا ما كان عن عمل القلوب، وهو الإيمان بالغيب، إذ هو أساس قبول العمل الصالح، ولهذا لم يقبل من الكفار عمل مهما كانت صورته طيبة، لأنه لم يقم على عقيدة صحيحة قال تعالى:{وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا (2)} :ويلي ذلك العبادة البدنية التى ترجع فائدتها إلى فاعلها، وقد أشير إليها بقوله:
{وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ} ثم العبادة المالية المتعلقة بغير فاعلها المشار إليها بقوله: {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} ، أي على جهات البر.
والإيمان بالغبب هو التصديق والإذعان القلبى به، والمراد بالغيب ما غاب عن الحس من شئون الدين وقام الدليل على ثبوته، فافه تعالى لا تدركه الأبصار، وما يتعلق بالملإِ الأعلى أو بأحوال يوم القيامة، من بعث وحثر وحساب، غيب - فالإيمان بذلك كله ايمان بالغيب، ولا يتحقق الإيمان بدونه، وهو أساس لفروع الإيمان، ولهذا قدمه عليها.
جاء في تفسير ابن كثير جـ1ص 41 قال سعيد بن منصور، حدثنا أبر معاوية، عن الأعمش، عن عمارة بت عمير، عن عبد الرحمن بت يزيد، قال: كنا عند عبدالله
(1) العنكبوت: 45
(2)
الفرقان: 23
ابن سعود جلوسا فذكرنا اصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وما سبقونا به، فقال عبدالله: إِن أمر محمد صلى الله عليه وسلم كان بَيِّنًا لمن رآه، والذي لا إله غيره ما آمن أحد. قط إيمانا أفضل من إيمان بغيب. ثم قرأ {الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ
…
} إلى قوله: {
…
الْمُفْلِحُونَ}.
وهكذا رواه ابن أبى حاتم وابن مردويه والحاكم في مستدركه، من طرق عن الأعمش بهذا الإسناد. وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين، ولها يخرجاه.
وكلام ابن مسعود رضي الله عنه في هذا الأثر يشعر بان من لم يروا النبي -صلى إليه عليه وسلم- وآمنوا به، يعتبر إيمانهم برسالتِهِ إيمانا بالغيب، وأَن ذلك منقذ لهم.
ومعنى {وَيُقِيمُونَ الصلَاةَ} : يؤَدُّونها في أوقاتها، كاملة الأَركان والسنن.
ومن كلام أمير المومنين عمر- رضي الله عنه: من حفظها- اى الصلاة- وحافظ عليها حفظ دينه، ومن ضيعها كان لما سواها أضيع.
ومعنى قوله: {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} : ومما أعطيناهم من فضلنا ينفقون.
وإسناد الفعل {رَزَقْنَاهُمْ} إلى ضمير الله تعاك، إشارة إلى أن الله تعالى، جعلنا مستخلفين عنه فيما ننفق من الرزق الممنوح لنا، ولم تبين جهة الصرف لغرض التعميم، فينبغى ألا نبخل بمال الله على خلق الله المحتاجين، وألا نشح على كل عمل معد لمصلحة الإسلام والمسلمين.
4 -
{وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ
…
} الآية.
هذه هي الصفة الثانية للمتقين، وفي وصفهم بالايمان بما أنزل على النبي وهو القرآن، وما أنزل من سائر الكتب على من قبله من الرسل- بيان أن الإسلام يقر الرسالات السماويِّة في حينها، ولا ينكرها، وانه لا يفرِّق بين أحدٍ من رسل الله، على عكس اليهود والنصارى.
فاليهود ينكرون المسيحية والإسلام وكتابيهما، والمسيحيون ينكرون الإسلام وكتابه.
وقوله تعالى: {وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} : أي ويؤْمنون كذلك بالدار الآخرة، وما فيها من بعث وحشر وثواب وعقاب، والعبارة فيها قصر اليقين بالآخرة على المؤْمنين، وفي
ذلك تعريض بإيمان أَهل الكتاب بها، فإنه غير مطابق، ولا صادر عن يقين، فاليقين: إنما يكون عن علم لا يعتريه شك قال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا} (1) وأهل الكتاب ليسوا كذلك.
وسميت الدار الثانية بالآخرة؛ لتأخرها عن دار الدنيا.
5 -
{أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ
…
} الآية.
اسم الإشارة في {أولئك} عائد على المتقين الموصوفين بالصفات السابقة، فتكون تلك الصفات كلها ملحوظة مع المشار إِليه، والتعببر بقوله:{عَلى هُدىً} : فيه إشارة إلى تمكن المتقين من الهدى، فكأنهم مستقرون عليه، وتنكير هدى لتعظيمه، وأكد هذا التعظيم بأنه صادر {مِّن رَّبِّهِمْ}: أي بتوفيقه: {قُلْ إنَّ هُدَى اللهِ هُوَ الْهُدَى (2)} {وَأولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} :
أي وأولئك الموصوفون بما تقدم هم -لا غيرهم- الفائزون عند الله بالسعادة الدائمة.
وأصل الفلح: الشق في الأرض، وهو عمل الفلاح، والمؤمنون قد شقوا طريقهم إلى الله، فوصلوا وفازوا يمرضاة ربهم، وعظيم ثوابه.
وتكرار اسم الإِشارة: {أوَلئكَ} ، للتنويه بشأْن المتقين المتصفين بهذه الصفات.
المفردات:
{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا} المراد بهم الذين جحدوا ما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم، وأَصروا على ذلك.
(1) الحجرات: 15
(2)
البقرة: 120
{خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ} : أي أغلقها ومنعها عن قبول الهدى، بسبب إصرارهم على الكفر. والمقصود أنه تعالى لم يوفقهم إلى الإيمان بسبب عنادهم.
{وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ} : أي غطاء، وهذا كناية عن عدم انتفاعهم بالآيات الكونية المرئية: الدالة على وحدانية الله تعالى، كما لا ينتفع الأعمى بالمرئيات لغيره.
التفسير
6 -
بعد أن وصف الله المؤمنين الصادقين، في أربع آيات، صدرت بهن السورة، أتبعها وصف الكافرين، فخصهم بآيتين، لبيان حالهم ومآلهم.
فهنا في هذه الآية: إخبار من الله تعالى عن قوم، علم الله أَزلا: أنهم لا يؤْمنون، وأن الإنذار وعدمه سواء عندهم، لأن ظلمة الكفر حجبتهم وتحجبهم عن نور الإيمان.
وقد يقال: إذا علم الله أزلًا كفرهم باختيارهم السَّيِّىء، وأَخبر عنهم بأنهم لا يؤْمنون فما فائدة الإنذار، وتوجيه الدعوة إليهم؟
والجواب: أن الإنذار لإقامة الحجة عليهم، حتى لا يقولوا: ما جاءنا من بشير ولا نذير، ولتحقيق عموم الرسالة، وليثاب الرسول على توجيه الدعوة إليهم، وإن لم يستجيبوا.
هذا والكفر نوعان: كفر إنكار لله قلبا ولسانا، ككفر فرعون. وكفر إباء وامتناع: وهو أن يعرف الله بقلبه ولا يقر بلسانه، أَو يغر بلسانه ويكفر بحقوقه ويأباها، ككفر إبليس، ومن على شاكلته من البشر، وكلاهما يؤَدئ إلى الخلود في النار.
7 -
{خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ
…
} الآية.
الختم لغة: الاستيثاق على الشيءِ بوضع مادة تغطيه، حتى لا يخرج منه ما هو فيه، ولا يدخله ما هو خارخ عنه.
والمادة التي يختم بها اسمها الختام بكسو الخاء، كما في قوله تعالى:{خِتَامُهُ مِسْكٌ} (1) والألة التي تستعمل في الختم اسمها الخاتَم بفتح التاء.
(1) المطففين: 26
والمقصود من قوله تعالى: {خَتَمَ اللهُ عَلَى قُلُوبِهمْ .... } إلخ بيان السبب في إضرارهم على الكفر، وعدم اننفاعهم بإنذار الرسول صلى الله عليه وسلم.
وليس المرادمن الختم على القلوب، والغشاوة على الأسماع والأبصار، المعنى الحقيقى لهما، إذ لا ختم في الحقيقة ولا غشاوة، بل المراد إنه تعالى تركهم وشانهم الذي اختاروه لأنفسهم من إِصرارهم على الكفر، وتركهم التذكر بقلوبهم وعقولهم، وصرفهم اشماعهم عن المواعظ وابصارهم عن آيات الله تعالى، فلم يلطف بهم ولم يهدهم، جزاءَ إصرارهم وسوء اختيارهم، كما يشير إليه قو له تعالى:{ .. بَل طَبَع اللهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ (1) .. } وقوله: {
…
كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ (2)}. وقوله: {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (3)}
ونقل ابن كثير عن ابن جرير الطبرى في تفسير الآية أنه قال: والحق عندي في ذلك ما صح في نظيره الخبرُ عن رسوال الله صلى الله عليه وسلم وساق ابن جريرهذا الخبر بسنده عن ابى هريرة قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم: "إن المؤمن إذا أذنب ذنبا كانت نكتةٌ سوداءُ في قلبه، فإن تاب ونَزَع واسْتَعْتَبَ (4) صُقِل قلبُه (5) وإن زاد زادت حتى تعلُوَ قلبه، فذلك الرانُ الذي قال الله تعالى:{كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (6)} .
قال ابن كثير: ثم قال ابن جرير: فأخبر رسول الله- صلى الله عليه وسلم، أن الذنوب إذا تتابعت على القلوب اغلقتها، وإذا أغلقتها أتاها حينئذالختم والطبع من قبل الله، فلا يكون للإيمان إليها مسلك؛ ولاللكفر عنها مخلص، فذلك هو الختم في قوله تعالى: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ
…
} الآية: انتهى باختصار.
وخلاصة كلامه وكلامنا أن الكافر هو الذى تسبب في إظلام قلبه حتى انصرف عن الإيمان، وأن الرين هو ذلك الظلام المعنوي الذي حَجَبَ قلبه، بسبب انصر افه عن دواعى الإيمان، وان نسبة الختم إلى الله كناية عن تركه لهذا الظلام دون أَن يكشفه حتى يدخل الهدى في قلبه، بسبب إصراره.
(1) النساء - من الآية: 155
(2)
الأعراف - من الآية:101
(3)
المطففين:14
(4)
أى رجع عن ذنبه، وطلب رضا ربه.
(5)
أى جُلى قلبه وأصبح نظيفا من أثر الذنب.
(6)
روه ابن جرير والنسائى والترمذى وقال حسن صحيح.
ولو أنه صرف قواه الفكرية والحية إلى معرفة الحق لكشف الله عنه هذا الظلام، ولهدا. إلى الحق المبين.
{وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ} :
جملة مستأنفة لاتدخل في حكم الختم السابق.
والغشاوة: هي الغطاء. والجملة: كناية عن عدم انتفاعهم بالَايات الكونية المرئية.
وبذلك اجتمع على الكفار عمى البصيرة، الق هي نور القلوب، وعمى البصر الذى هو نور الابصار، وانسداد السمع.
ويشمل ما أعد للكافرين من عذاب الآخرة الدائم، وما يصيبهم في الدنيا على أيدى المؤمنين من الأسر والقتل. والعظيم ضد الحقير، كما أَن الكبير ضد الصغير.
وقد وصف العذاب بلفظ (عظيم) منكرا، تهويلالما يصيبهم من أليم العذاب.
المفردات
{يُخَادِعُونَ اللَّهَ} : الخداع: أَن تظهر لغيرك خلاف ما تخفيه له من الشر ليحسن الظن بك، ولما كان المولى سبحانه، لا يخفى عليه سرهم ونجواهم، فلذا يكون الخداع هنا بحسب زعمهم؛ جهلًا منهم.
{وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ} : أي وما يعو د ضرر خداعهم إلا عليهم.
{وَمَا يَشْعُرُونَ} : أَى وما يدرون أن ضرره عائد عليهم.
{فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} المراد منه هنا الشك والارتياب الذي نشأَ عنه النفاق.
{فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا} : شكًا وارتيابا. والمراد: أنه خلّاهم وريبهم، فلم يسعفهم بالتوفيق، لسوء نيّاتهم، فتضاعف الريب في قلو بهم، وتعاظم أثرد من الننفاق.
التفسير
8 -
{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ} ْ:
هذا شروع فى بيان صفات الطائفة الثالثة، وهم المنافقون، الذين يظهرون خلاف ما يبطنون.
وهم أسوأ واخبث من الكافرين الصرحاء.
وقد ابتلى الله بهم كل مجتمع: في كل زمان ومكان. وفي الاحتراز عنهم وعن مكرهم صعوبة
ومشقة؛ لأن مظهرهم لا يتفق مع مخبرهم.
وقد ذكر القرآن فى شانهم هنا ثلاث عشرة آية متتالية - تبدا من هذه الآية - ليحدد أوصافهم وخداعهم، وضرب فيهم الأمثال التي تكشف عن حالهم، وعاقبة أَمرهم. وقد ظهر النفاق بالمدينة بعد غزوة بدر الكبرى، وسببه -كما قال ابن كثير- أن عبد الله ابن أبي سلول، كان سيد اللخزرج، ركان رئيسا لهم وللأوس قبل الإسلام، ثم رأَوا أن يجعلوه ملكا عليهم، فلما جاءَ الخبر اشلموا واشتغلوا عنه، فبقى في نفسه من الإسلام واهله شىء، فلما كانت وقعة بدر وظهرت شوكة المسلمين قال: هذا أمْرٌ قد تَوَجَّه، يريد بالامر: الملك، ويريد بتوجهه: زواله عنه وقد دفعه يأسه من تحقيق أمنيته، أن يدخل في الأسلام كما دخل قومه، ولكنه دخله مرائيا غير مخلص، ودخل معه آخرون من قومه وغيرهم على مشاكلته، كما حدث مثل ذلك من طائفة من أهل الكتاب، فمن ثمَّ وُجِدَ النفاق فئ أهل المدينة ومن حولهم من الأعراب، والنفاق مرض اجتماعى ينشأ عن الحقدوالضعف النفسى والطمع.
{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ} :
أي وبعض الناس جماعةٌ منافقون: يظهرون للمؤمنين أخهم جمعوا بين طرفين من الإيمان،
أولهما الإيمان باللهِ، وثانيهما الإيمان باليوم الآخر: خداعا للمؤمنين، حتى يأمنوا جانبهم،
{وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ} : أي وليسوا في الحقيقة مؤمنين؛ لعدم إيمانهم بالنبى صلى الله عليه وسلم؛
ولأن إيمانهم باللهِ واليوم الآخر غير صادق.
وقد روعي لفظ (مَن)، مفردا في ضمير يقول. وروعى معناه جمعا في ضمائر {ءَامنَّا} ، {وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ} .
ونفي إيمانهم الذي ادعوه بالجملة الاسمية في قوله تعالى: {وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ} أَقوى، لأَنها تقتضى دوام النفي واستمراره، كما علم الله فيهم.
9 -
: {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا
…
}: الآية.
هذه الآية كالتعليل لنفي الإِيمان عنهم، أي وما هم بمؤْمنين حقا؛ لأنهم يخادعون الله والمؤْمنين
بما يقولون.
والخدْع: ان توهم غيرك خلاف ما تخفيه من المكرره. أَما الخادعة فإنها في أصل معناها
تقتضى أن يكون من الجانبين، ولكن قد يراد منها المبالغة في الخدع من جانب واحد، وهو
المقصود هنا. ولذا قريءَ {يَخْدَعُون} على الأصل.
وخداعهم الله -بحسب زعمهم- جهل منهم بالله، إذ لو عرفوه لعلموا أنه لايُخْدَعُ، لأن الخداع إنما يكون مع من لا يعرف البواطن. وخداعهم للمؤْمنين غفلة منهم، فنفاقهم غير خاف على أحد منهم فقد فضحهم الله، وأظهر رسوله على نفاقهم، وفضحوا أنفسهم في غزوة أحد، {وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ} (1)، ولذا قال الله تعالى:{وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ} . فإن من خادع من لا يُخْدَع فقد خدع نفسه، لانه يظهر لها بفعله انه يحقق لها أمنيتها من التقية والسلامة، مع أَنه يوردها به موارد العطب، ويجرعها كأس العذاب وأليم العقاب والحرمان من دار الثواب.
ويجوز أن يكون المعنى: وما يعود ضرر خداعهم إلا على أنفسهم، فإنهم سيعذبون به في أخراهم، وسيفضحهم الله في الدنيا باطلاع نبيه على ما أضمروه.
{وَمَا يَشْعُرُونَ} : أي وما يفطنون لهذه العاقبة، لتمادي غفلتهم، كالذي لا حس له ولا شعور.
(1) محمد:30.
10 -
{في قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ الله مَرَضًا
…
}: الآية.
المرض في الأصل: خرو البدن عن اعتدال مزاجه وصحة أعضائه، فيتعرض البدن للآلام.
ويطلق مجازا على شك القلوب رارتيابها. فمرض القلوب هنا، مراد به نرددها في العقيدة، وعدم وصولها إلى الحق، مع قيام الأدلة عليه، فلما عموا عن النور، زادهم الله مرضا. فالنفاقُ عرض ظاهرى لمرض قلبى هو: الشك والجبن.
والمراد من زيادة المرض: نمو حال النفاق عندهم. ذلك ان المنافق يبتدىءُ فيكذب على الناس ويرائيهم، فإن استمر على ذلك، صار النفاق من أحواله الملازمة، على حد قوله تعالى: {
…
مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ (1)
…
}.
{وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} :
أي ولهم عقاب مؤْلم في الدنيا، بسبب ما يجره عليهم النفاق من مهانة واحتقار، وعذاب شديد عند الله في الآخرة. بكذبهم على الله والناس بقولهم:{آمَنَّا} .
وقد يقال: إذا كان المنافقون أشد خبثا من الكفار، فلم لم يستحل النبي قتلهم؟
والجواب: انهم لما اظهرو االاسلام، عاملتهم الشريعة بهذا الظاهر، والله يتولى السرائر.
التفسير
11 -
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11)}
قِى الآية بيان لعناد المنافقين، وإصرارهم على الفساد، كلما وجه إليهم الإرشاد من أيَ
ناصح، ولهذا بق القول للمجهول، فقبل:{وإذا قِيلَ لَهُمْ لاتُفْسِدُوا في الْأرْضِ} . وإفسادهم
(1) التوبة - من الآية: 101
في الأرض كان: باثارة الفتن بين المسلمين، وإفشائهم أسرار المسلمين للكفار ة وتحريض
الجميع -مسلمين وكفارا- على الحروب.
وقد كانت الأرض قبل مبعث النبي مليئة بالفساد وبالمعاصي، فلما بعث النبي صلى الله عليه وسلم عمل على إزالة هذا الفساد، والقضاء على العصبيات الجاهلية. وبذلك تهيأت
الأرض للصلاح باستقامة المجتمعات الصالحة عليها، فلما جاءَ المنافقون، وكان من آثارهم
إحياء الفتن بين الناس- قيل لهم: {لَا تُفْسِدُوا في الأرْضِ} ، أى بعد إصلاحها بالتعاليم
الإسلامية، فكان جواب النافقين مبنيا على مغالطة كاذبة. إذ قالوا:{إنمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ} :
أَى: نحن مقصورون على الأصلاح، ولا نعرف الإفساد، فكيف ننهى عنه مع أننا لم نفعله؟.
وإنما قالوا ذلك، لأنهم صوروا الإفساد إصلاحا، لمرض قلوبهم، على حد قوله تعالى:{أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا} (1).
12 -
{أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ} :
هذا هو الرد على دعواهم. وهو أَبلغ رد لما فيه من {ألَا} ، المنبهة و {إنَّ} المؤَكدة، وتعريف الخبر {الْمُفْسِدُونَ} . وتوسيط ضمير الفصل {هُم} . ونفى اليشعور والادراك عنهم لفساد عقولهم، فصاروا لا يميزون بين الخبيث والطيب، ولا يشعرون بالفروق ببن الفاسد والصالح.
التفسير
13 -
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ
…
}: الآية.
نُصِحُوا في الآية السابقة بترك الإفساد، وهنا، نصحوا بتحقيق إيمان سليم من النفاق.
(1) فاطر: 8
والمعنى: وإذا أُرشدوا، فقيل لهم: آمنوا باللهِ ورسوله- بقلوبكم- كما آمن الناس
الكاملون المستجمعون لخصائص جنسهم ومزاياه، بحيث لايقترن إيمانكم بشىءً من شوائب
النفاق. {قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ} ؟ والاستفهام في كلامهم للإنكاروالنفى.
والسفهاءُ: ناقصو العقل والرأي، أي لانؤمن كإِيمان المؤْمنين السفهاء، الذين لا عقل عندهم ولارأى. وهذا الرد قالوه فيما بينهم، لأنه كفر صريح، وهم يتظاهرون بالإيمان، وقد فضح الله سرهم هذا وأَظهره، ثم رد عليهم السفه كما سيأتى.
وقال أبو السعود في قولهم: {كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ} إنه رد في متهابلة الناصحين من
المؤْمنين، فيه ضرب من النفاق، لأنه يحتمل الشر والخير - فهو في ظاهره- على معنى: نحن
لا نؤْمن كما آمن السفهاء، بل نؤْمن كما آمن الناس كما أَمرتمونا أنتم، فلا تتهمونا بفساد
الإِيمان، ولكنهم يقصدون في أنفسهم أن المسلمين سفهاء، وأنهم لذلك لايؤْمنون كما آمنوا.
{أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ} :
رد الله عليهم السفه الذى اتهموا به المسلمين أُبلغ رد، واكد اتصافهم به، وأَنه مقصور عليهم، فصدر بلفظ {أَلَا} التي هي للتنبيه، وأكده بلفظ {إنَّ} ، وبالجملة الاسمية، وبضمير الفصل، أَى إِنهم هم السفهاءُ، لاغيرهم ممن أرادوا وصفهم يالسفه من المؤْمنين. {وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ} أنهم هم السفهاء وحدهها، أَما المؤْمنون فهم العقلاء العلماء.
المفردات:
{وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ} : أي انفردوا بمن بقى منهم على الكفر، أو برؤَساءِ- المنافقيق والقائلون: صغارهم.
{إِنَّا مَعَكُمْ} أي كافرون مثلكم بمحمد.
{إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} : أَى مستخفون بالمؤمنين، حينما تظهر الإيمان لهم.
{اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} : أي يجازيهم على استهزائهم.
{وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ} : أي يمهلهم في ضلالهم.
{يَعْمَهُونَ} : يتحيرونَ.
التفسير
14 -
في هذه الآية تصوير لأحوال المنافقين في معاملتهم المؤْمنين والكفار، فإذا لقوا المؤْمنين قالوا آمنا؛ ليظهروا موافقتهم لهم، وإذا خلوا إلى شياطينهم الذين يلقنونهم الباطل - وهم من بقى منهم على الكفر، أو كبار المنافقين، والقائلون صغارهم- قالوا مطمئنين لهم: إنا معكم في الكفر باطنا، وتعللوالإظهار الإيمان للمؤْمنين بقولهم:{إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} أي مستخفون بهم، إذ نعمل على خلاف ما نقول لهم.
وقد صور الله نفاقهم في الآية أبدع تصوير، فعبّر عن ملاقاتهم للمؤْمنين بكلمة {لَقُوا} لأن لقاءَهم للمؤْمنين كانه مصادفة لا يحرصون عليه. وعبر عن ملاقاتهم لشياطينهم بكلمة {خَلَوْا} لأن الخلوة تطلب قصدا للادلاء بالأسرار، وذكر انهم كانوا عند لقاء المؤْمنين يقولون (آمنَّا) فعبروا بالفعل الماضي ليظهروا للمؤْمنين انهم معهم من زمان مضى، وعند لقائهم لشياطينهم يقولون:{إنَّا مَعَكُم} بالجملة الاسمية المفيدة للدوام، ويؤَكدونها بإنَّ، ويعللون إظهار إيمانهم بالاستهزاء بالمؤْمنين. فرد القرآن عليهم بقوله تعالى:
15 -
{اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} :
ومعنى {اللهُ يَسْتَهْزِىٌ بِهِمْ} : ينتقم منهم ويجازيهم على استهزائهم، لاستحالة المعنى الحقيقى على الله تعالى. سميت عقوبتهم باسم الذنب الذي صدر عنهم، للمشاكلة اللفظية، وهي ذكر الشئ بلفمل غيره لوقوعه في صحبته. ومما جاءَ على هذا النمط قوله تعالى: {وجَزَاء، سيِّئَةٍ سَيِّئَة مثْلُهَا
…
} (1).
(1) الشورى - من الآية: 40
فالجزاء ليس. سيئة، وإِنما عبر بها عنه للمشاكلة اللفظية، والمعنى مختلف.
وقوله تعالى: {وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} المدّ يأتى قى بمعنى الزيادة، ومنه قوله تعالى: {
…
وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ
…
} (1) أو الإمهال والأملاء. والطغيان هنا، مجاوزة الحد في الضلال، والعَمَه: عمى القلب. ومن لوازمه: الحيرة والتردد. والعنى: ويزيدهم الله فى ضلالهم الشديد، أو يمهلهم فيه: يتحيرون ويتخبطون، لا يدرون أين يتوجهون بسبب طغيانهم المستمر.
والمراد أنهم -بسبب كفرهم وعنادهم- سد الله عليهم طرق التوفيق، فازداوا رَينًا
على قلوبهم، وطغيانا في تصرفاتهم.
المفرداتَ:
{اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى} : المراد به، استحبو االكفر على الإيمان.
{فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ} : فما نالوا خيرًا من الكفر الذى جعلوه بدلامن الإيمان، فكانوا أشبه بالتجار الذين جهلوا أساليب التجارة، فجروا على أنفسهم الخسارة.
{وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ} : إلى ما يوصلهم إلى الربح، لجهلهم.
التفسير
16 -
{ولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى
…
} الآية.
اسم الإشارة يعود على المنافقين، مع ملاحظة صفاتهم المتقدمة.
والأصل في الاشتراء: أن يكون في المبادلات الحسية، كاشتراء السلعة بثمنها، ثم استعملته العرب في المعاق، كاشتراء الضلالة بالهدى.
(1) لقمان - من الآية: 27
والمراد: انهم استحبوا الكفر على الإيمان فليس الاستبدال حقيقة حتى يكون معاوضة، لأنهم لم يسبق لهم الإيمان حتى يبذلوه في مقابلة الكفر.
والتعبير بلفظ {اشْتَرَوا} يؤْذن بأنهم قادرون على الإيمان بالفطرة، لو نظروا واعتبروا.
والباء في قوله: {بِالْهُدَى} داخلة على المتروك. لأنهم اخذوا الضلالة وتركوا الهدى الذى كان فيهم بالفطرة، وتمكنوا منه بالأدلة الواضحة. {فَمَا رَبِحَت تَجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ} ترشيح وتقوية للمعنى المجازى؛ فإِنه لما استعمل لفظ. اشترىَ مجازا عن استبدل، أتبعه ما يشاكله تقوية له، وتمثيلا لما فاتهم من فوائد الهدى. بصورة خسران التجارة، الذي يتحاشاه كل أحد، للإشباع في التخسير والتحسير أىَ: فلم يربحوا، ولكن خسروا، وما كانوا مهتدين إلى الربح اجهلهم بطرق التجارة الرابحة، وعدم اهتدائهم إلى أساليبها وأسبابها.
وكذلك هؤلاءِ المنافقون: كان رأْس مالهم الهدى، فاستبدلوا به الضلالة، فخسروا بذلك رأْس المال: وهو الهدى، وربحه وهو النجاة والفوز، {وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ} إلى طرق التجارة الرابحة في الدين.
التفسير
17 -
بعد أن بين الله في الآيات السابقة صفات المنافقين، عقبها بتمثيلهم فيها، زيادة في توضيحها
وتقريرها.
ففى التمثيل إبراز المعنى الخفى في صووة الظاهر. وهو نوع من أساليب البلاغة تصور فيه المعقولات والمحسات، والمَثَلُ في أصل اللغة بمعنى الشبيه والنظير، كالمِثل والمثِيل، وقد يستعار للحال التي فيها غرابة كما في هذه الآية (1).
والمراد من قوله: {الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا} مَنْ سعى في تحصيل وقدِها- أَى لهبها وضوئها لتضيء له في الليلة المظْلمة.
والأصل في كلمة {الَّذِى} أن من تستعمل في المفرد، وقد تستعمل في الجمع كما هنا، فهي بمعنى جماعة المستوقدين، ولذا قال سبحانه:{ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ} بضمير الجمع، ومن أمثلته قوله تعالى: {
…
وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا
…
} (2)، أي كجماعة الخائضين. ويجوز أن يراعي لفظه المفرد، فيعاد الضمير عليه مفردا كما في قوله تعالى {اسْتَوْقدَ} و {حَوْلَهُ} كما يجوز أن يراعي معناه، فيعاد الضمير عليه جمعا، كما في قوله تعالى:{ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ} .
وخلاصة المعنى: أن الله شبه حال هؤلاءِ المنافقين - وقد آتاهم ضربا من الهدى باستعداد الفطرة، ونطقوا بالشهادتين بألسنتهم، ثم أضاعوا ذلك ولم يتوصلوا به إلى نعيم الآخرة وسعادة الأبد فبقوا في حيرة واضطراب لإعراضهم عن الحق واستبطانهم للكفر:- شبه حالهم هذا- بمن أَوقد نارا لينتفع بنورها في الظلمة ليلا، فلما أضاءَت ما حيوله عن الامكنة، سرعان ما انطفات، وذهب الله بنورهم، قبقوا في مكانهم حائرين: لا يرون شيئًا فيما حولهم؛ لشدة الظلمة التي تحبط بهم من كل جانب.
والتعبير بلفظ {أَضَاءَتْ} أبلغ من التعبير بأنارت، لأن الضوء مصدر النور، كما يعلم من قوله تعالى: هو {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا
…
} (3)، ومعلوم أن نور القمر مستمد من ضياء الشمس.
وقوله: {ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ} ، معنا.: لم يُبق منه شيئًا. وإنما لم يقل: بضو ئهم كما يقتضيه الظاهر من كلمة {أضَاَءتْ} لئلا يتوهم أن الذي ذهب هو زيادة الضوء، مع بقاء أصل النور
(1) وقد يراد منه القول السائرالمثل مضربه بمورده فى الغرابة، كما فى قواهم:"الصَّيف ضيَّعت اللبن" وما في الآية ليس، لا جماع المشبه والمشبه به، والمثل السائر ليس كذلك.
(2)
التوبة من الآية: 69
(3)
يونس من الآية: 5
ولذا قال عقبه: {وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ} ، أي تركهم في ظلمات لايرى فيهاشئ. وإسناد إذهاب النور إلى الله، للإيذان بأنه إنما ذهب بأمر سماوى. كالمطر والهواء أو المبالغة في إذهابه.
18 -
{صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ} :
ليس المراد: الاخبار بأنهم أُصيبوا بحقيقة الصمم والبكم والعمى، فقد كان لهم آذان تسمع، وألسنة تنطق، وأبصار تنظر. ولكنهم- لما حجبوا أسماعهم عن معرفة الحقائق كانوا بمثابة الصم الذين لا يسمعون. ولمّا لم ينطقوا بالحق مخلصين، كانوا بمثابة البكم الذين لا يتكلمون. ولمَّا لم يتعرَّفوا الحقائق ببصائرهم، كانوا كالعمى الذين لا يبصرون. ولا سبيل لعودتهم إلى الحق؛ لإعراضهم عن استعمال هذه الحواس فيما خلقت لأجله. ولهذا قال سبحانه:{فَهُمْ لَا يَرْجِعونَ} أَي لا يعودون إِلى الهدى، فقد أضاعوه، كما لا يعود إلى مقصده من بقى في ظلام لا يهتدى فيه إلى سبيل يوصله إليه.
ومن هذا البيان اتضح أن في الكلام تمثيل حالهم - في تعطيلهم لفطرتهم المتمكنة من من الهدى، وعدم انتفاعهم بالَايات والنذر، وعدم قطعهم بالحق - بحال. من فقد السمع والنطق والبصر، لتعطل مصادر النفع وعدم الانتفاع نى كل منهما.
المفردات:
{أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ} : الصيب: (1) بطلق على المطر المنهمر، وعل السحاب الكثيف،
والسماء: كل ما علاك والمراد منها هنا: السحاب، فهو من معانيها.
(1) بوزن فيعل، مأخوذ من الصوب، وهو النزول والانصباب.
{فِيهِ ظُلُمَاتٌ} : المراد بها الظلمات الناشئة من كثافة المطر وتتابعه وغمامه وظلمة الليل
{وَرَعْدٌ} : الرعد، صوت مدوٍّ في الهواءِ، سببه التقاء سحابة كهرباؤها موجبة، بسحابة أخرى كهرباؤها سالبة، فتتحد الكهرباءُ فيهما، وعندها يسخن الهواءُ فيتمدد تمددا فجائيا، ينشأ عنه ضغط قوي، يعقبه تخلخل سريع فيجذب إليه تيارات هوائية أُخرى تحدث صوتا قويا هو الرعد، ويتم هذا في سرعة عجيبة.
{وَبَرْقٌ} : البرق، لمعان ضوئي شديد، يظهر ويختفى سريعا. وسببه حدوث شرارة كهربائية ناشئة عن اتصال الكهرباء في سحابتين: إحداهما كهرباؤها سالبة، والأخرى كهرباؤها موجبة.
والبرق والرعد متلازمان غالبا، ولكننا نرى البرق ثم نسمع بعده الرعد؛ لأن سرعة الضوء تفوق سرعة الصوت أضعافا مضاعفة.
{الصَّوَاعِق} : جمع صاعقة، وهي حرارة هائلة تصحب البرق والرعد أحيانا. وسببها اتصال كهربائيّ ناجم عن التفريغ الكهربائى الذئ يحدث بين الأرض والسحب المكهربة، فتحدث حرارة بالغة سريعة: تصهر ما بينهما، أو تحرقه اوتفتته ة تبعا لاختلاف مادته.
وظواهر الرعد والبرق والصواعق، تحدث عند تكاثف السحب، واختلاف درجات الحرارة بين طبقات الهواء.
{وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ} : أى لايفوتونه ولا ينجون من بطشه، كما لا ينجو الشخص مِمنْ أحاط به.
{وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا} : أَي وإذا أظلم البرق عليهم ولم يضئ لهم، رقفوا ولم يمشوا.
التفسير
19 -
{أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ
…
} الآية.
في هذه الآية تمثيل آخر لحالة المنافقين؛ إذ مثلها بحال مطر غزير منهمر من السحاب، اشتمل على ظلمات كثيرة، كما اشتمل على رعد ربرق.
وقد كرر التمثيل، رعاية لتفننهم في فنون النفاق، وتنقلهم فيه من حال، إلى حال، وذلك جدير بأَن تعدد فيه الأمثال، وقد جىء بحرف العطف {أوْ} بين التمثيلين، لإفادة تساوى القصتين في ان يكونا مئلا لحالهم انفرادا أو اجتماعا، فـ {أوْ} هنا، مثلها في قولك: جالس الحسن أو ابن سيرين. أي جالس أحدهما أوكليهما، فهما سواء في الإفادة.
وكأن سائلا قال: كيف حالهم عند سماع الرعد؟. فأُجيب {يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ} . والأَصابع مجاز عن الأنامل. فهو من باب التعبير عن الجزء باسم الكل، مبالغة، في إعراضهم عن قبول ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، فهم يحذرونه كما يحذر الخائف من الصواعق، فيسد أذنيه بأنامله حتى لا يسمعها؛ خشية أن يموت من شدة الصوت الذي يصحبها.
{وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ} : انذار لهم بأنهم لن يفلتوا من عذابه، أي لا يفونونه، كما لا يفوت الشخص من أحاط به من جميع جهاته.
20 -
{يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا
…
} الآية.
هذا كلام مستأنف لبيان حالهم عندما يرون البرق، كأن سائلا قال: وما حالهم عند البرقَ فأجيب: {يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ} أَي بذهبها {كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ} أَي مشوا فى ضوئه. وسرعان ما يزول الضوء، فيقولون في حيرتهم، وهذا معنى قوله:
{وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا} : أي وقفوا حائرين. {وَلَو شَاء اللهُ لَذَهَبَ بِسَمعِهِم} عند قصف الرعد {وَأبْصَارِهِمْ} عند وميض البرق، وإنما وحد السمع وجمع الابصار، لأن السمع في الأصل مصدر، والمصادر لا تثنى ولا تجمع، كما قاله صاحب الإرشاد:{إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} ، فهو الفاعل المختار، يقول للشىء كن فيكون.
الغرض من الَابتين: {أَوْ كَصَيِّبٍ} إلى {قَدِيرٌ} ، تمثيل حال المنافقين من الحيرة والتردد، بين مُضِيٍّ في الإسلام وإِحجام عنه، بحال من أمطرته السماء في ليلة مظلمة مع رعد قاصف وبرق خاطف فتحير بين إقدام حين يلمع البرق، وبيق إحجام حين يسمع الرعد ويشتد علبه الظلام، والمطر في كلتا الحالتين فوق رأسه ينهمر، فما أَروع هذا التمثيل.
ويمكن جعله من باب التشيه المفرق فيشبه القرآن- الذي تعبدهم الله به وسائر ما آتاهم من المعارف التي هي سبب الحياة الأبدية - بالصيب أي المطر الذي به حياة الأرض. ويشبه ما أحاط بهم من التردد والحيرة والشكوك بالظلمات، ويشبه وعد القرآن ووعيده بالرعد، وما فيه من الآيات الباهرة بالبرق، وتَصَامُّهم عما يسمعون من الوعيد بحال من يهوله الرعد فيخاف صواعقه فيسد أُذنيه عنها مع أنهم لاخلاص لهم منها، وهو معنى قوله تعالى:{وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ} و. اهتزازهم لما يلمع لهم من رُشدٍ يُدركونه، أو رفد تطمح إليه أَبصارهم بمشيهم في مكان ضوء البرق حين يضيءُ، وتحيرهم في الأمر وتوقفهم فيه حين تعرض لهم شبهة أو مصيبة - بتوقفهم إذا أظلم عليهم البرق.
ونبه سبحانه وتعالى بقوله: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ} على أنه تعالى جعل لهم السمع والأبصاو ليتوسلوا بها إِلى الهدى والفلاح. ولكنهم صرفوها إلى الحظوظ العاجلة وأوْصدوها عن الفوائد ولآجلة، ولو شاء الله لجعلهم بالحالة التي آثروها لأنفسهم، وهي اضاعة فائدة السمع والبصر فإنه على ما يشاء قدير، ولكنه لم يفعل، لعلهم يعتبرون فيدركوا.
المفردات:
{لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} : لكي تَقُوا أنفسكم وتحفظوها بعبادته من عقابه.
{جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا} : مبسوطة ممهدة كالفراش.
{وَالسَّمَاءَ بِنَاءً} : البناء هو المينى، بيتا كان أو قبة أوخباء. ومنه قولهم: بني الرجل على زوجته، إذا ضرب فوقها قبة. والمراد: أنه جعل السماءَ فوقهم كالقبة.
{وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً} أَي وأنزل من السحاب ماء، فكل ما علاك، سماءٌ.
{فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا} : أَي فلا تجعلوا لله شركاء لشبهونه في الاُلوهية. والند: الشبيه والنظير.
{وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} : أَنهم لا يصلحون للألوهية والمشابهة لله في الخالقية وسواها، من الصفات اللائقة بالمعبود بحق "سُبْحَانَهُ وَتعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوا كَبِيرًا"(1).
التفسير
21 -
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ
…
} الآية.
بعد أَن ذكر الله طوائف المكلفين من المؤْمنين والكافرين والمنافقين - مع بيان صفات كل طائفة - أقبل عليهم جميعًا بالخطاب؛ هَزَّا لمشاعرهم وتنشيطًا لهم، قائلا لهم:
(1) الإسراء:43
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي} ، فكلمة {النَّاسُ} عامة، تشمل أمة الدعوة المكلفين: من آمن منهم ومن لم يؤْمن، من الموجودين في عهد النبي- صلى الله عليه وسلم ومن سيوجد بعدهم إلى يوم القيامة؛ لعموم الرسالة المحمدية.
وقد دخلوا في الخطاب -وهم غير مخلوقين فى وقت الخطاب- تغليبا للموجودين على من سيوجدون، ويكون الأمر بقوله:{اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} بالنسبة للمؤمنين، بمعنى داوِموا على عبادته، وبالنسبة إلى غيرهم، بمعنى حصِّلوا العبادة وأنشئوها.
والعباده المطلوبة؛ هي الطاعة المبنية على حبِّ المعبود، لا يشاركه فيها غيره؛ لأنه المستحق لها وحده؛ لانفراده بالخلق والربربية وكامل الإنعام، مع القدرة الشاملة وعظيم السلطان.
وليست العبادة مقصورة على نحو الصلاة والصوم والزكاة،، بل تشمل كل عمل يعمل لنفع الناس والحيوانات، إذا أريد به وجه الله.
فالعامل الذي يخلص في عمله لأبناءَ وطنه ويرجو به رضا الله يكون عابدا وعملُه عبادة.
وإطعام الحيوانات والعناية بها امتثالا لأمر الله عبادة.
وقد اقترن الأمر بالعبادة بذكر أرصاف المعبود، التي من شأنها أن نحملهم على عبادته،
لتعدى أثرها لهم.
فقوله: {رَبَّكُمُ} يفيد أَنه تعالى مربيهم رمتعهدهم بالتكميل المستمر.
وقوله: {الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} تذكير لهم بأوَّلِ نِعَمه عليهم، وهي الخلق من العدم، لهم ولَابائهم من قبلهم، ونعمة الآباو نعمة للأبناءٌ، إِذ لولا خلق آبائهم لما وجدوا.
{لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} : أي لتتقوا العذاب، الذى هو عاقبة المخالفين لأمر الله تعالى.
22 -
{الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ
…
} الآيه
في هذه الآية، تعداد لنعم الخالق على الناس، وتذكير بأَفضاله عليهم، حيث خلق
لهم الأرض، وصيرها لهم مبسوطة كالفواش، بحيث يقعدون عليها وينامون، ويزرعون
ويحصدون، ويبنون عليها بيوتهم. وجعل {وَالسَّمَاءَ بِنَاءً} أَي تكوينا يشبه القبة فوقهم،
وزينها بالكواكب والنجوم ليهتدوا بها {وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ} أَي من السحاب (مَاَءً)، وهو المطر الذي تحيا به الأرض والزرع والحيوان {فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ} تكرما وتفضلا، وخروج الثمار وأصولها بقدرة الله ومشيئته، ولكنه -تعالى- جعل الماء الممزوج بالتراب سببا في اخراجها. كالنطفة للحيوان، بأن أجرى عادته بإفاضة صورها وكيفياتها، على المادة المستخلصة منهما.
{فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} : الفاء للتعقيب على ما سبق ذكره من النعم
الجزيلة. والأنداد: الشركاء، جمعْ ند بمعنى النظير.
المعنى: يتفرع على هذه النعم ويتسمبب عنها، ألا تتخذوا للمنعم بها شركاءَ تعبدونهم من دونه، وأنتم تعلمون أنهم لا يصلحون للأُلوهية. فهم لا يخلقون شيئا، ولا يملكون لأنفسهم- ولا لغيرهم- ضرًّا ولا نفعا، فلا عذر لمن عطل عقله، فسوى هذه الأصنام العاجزة بالإله القادر، الذي خلقه وأَنعم عليه، دون حجة سوى تقليد الآباء (1).
والترتيب في هذه الآية عجيب، فقد رتب الأَمر بالعبادة، على صفة الربوبية لأَنها السبب في وجوب العبادة، ثم بين الربوبية بآثارها. وهي أنه خلقهم وخلق من قبلهم، وما يحتاجون إليه في معاشهم، من الأرض المقلة والسمَاَء المظلة، والثمرات التي منها المطاعم والملابس.
(1) قد أحسن عمرو بن نفيل، موحد الجاهليين إذ قال:
أرَبا وَاحِدًا أم الفَ رَبِّ
…
أدين إذا تقسمت الأمور
تركت اللات والعزى جميعًا
…
كذلك يفعل الرجل الخبير
المفردات
{وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ} : في شك.
{مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا} : أي من القرآن الذي أنزلناه على صلى الله عليه وسلم.
{فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ} : أي بسورة من مثل القرآن في بلاغنه وأَغراضه، أو بسورة من مثل عبدنا.
{وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ} : مَنْ يشهد لكم علىْ ما جئتم به، إن كان يصلح أن يكون مثلا ْلسورة من القرآن، أو لا يصلح.
{مِنْ دُونِ} : أي من غير الله.
{إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} : في دعواكم، أن محمدا اخترعه، ولم ينزله الله عليه.
{وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} : أي ما توقد به نار جهم؛ هو الناس الكافرون والحجارة التي جعلوها آلهة، وغيرها.
التفسير
23 -
لما أمر الله- في الآيات السابقة- بعبادته وحده، ونهى عن اتخاذ إلأَنداد، أتبع ذلك ما يدل على أن القرآن الذي أنزله على محمد معجزة، وأنه من عند الله، إذ تحداهم أن
يأْتوا بسورة مثله إن كانوا صادقين في أن محمدا افتراه من عنده، فعجزوا أمام هذا التحدى مع أنهم أئمة البلاغة والفصاحة، فإذا عجزوا هُمْ فغيرهم أشد عجزا، وحيث كان محمد صلى الله عليه وسلم مثلهم، وكان، فإنه يستحيل أن يكون القرآن- الذي فاق قدرة البشر من تأْليفه هو، فوجب أن يكرن من عند الله، أنزله الله عليه تأْييدا له، كما أيد المرسلين قبله بالمعجزات. واختصى النبي صلى الله عليه وسم بمعجزة القرآن، لأنه هو المناسب لإعجاز العرب البلغاء الفصحاء، ولأن العالم شَبَّ عن الطرق، ولأن رسالته باقية إلى آخر الزمان، وهذا يقتضى أن تكون شواهد معجزته باقية معها مقارنة لها في جميع الاجيال، فلذا كانت معجزته القرآن الكريم، الذي تقارنه شواهد إعجازه دائمًا.
أما سائر المرسلين، فإن رسالة كل منهم كانت موقوتة بين رسولين، ومحصورة في محيط ضيق، فلهذا كانت معجزة كل منهم، مقصورة على زمان معين ومكان معين، وبين عدد محدود من الشهور.
وإِعجاز القرآن كما يتجلى في بلاغته وفصاحته، يتجلى أيضًا فيما تضمنه من التشريعات الفائقة، والقصص الصادقة للأمم السابقة، والإشارة إلى الكونيات التي كشف العلم بعضها، ولا يزال جاهدا في كشف سواه، وبما اشتمل عليه من قواعد السلوك والأخلاق.
وفي ذلك يقول. النبي صلى الله عليه وسلم "ما من نبي من الأنبياء إلا قد أُعطى من الآيات ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحيا أوحاه الله إليَّ، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة" رواه الشيخان عن أبى هريرة، واللفظ لمسلم.
وله- صلى الله عليه وسلم من المعجزات غير القرآن، ما يفوق الحصر، فلله الحمد
والمنة. وقد تحداهم الله هذا التحدى في مواضع عديدة من القرآن، مكيِّه ومَدَنيِّه،
فمن مَدنيهِ هذه الآية، ومن مَكِّيِّهِ قوله تعالى فى سورة الإِسراء:{قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} (1)
وسبب تحديهم بهذه الآية وأمثالها: أنهم قالوا: "لَوْ نَشَاءُ لَقُلنا مِثلَ هَذَا (2) " ولمَّا
نزل القرآن منجما حسَب الحوادث، لم يعجبهم هذا، وقالوا {لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً} (3) فجعلوا نزوله منجمًا حسب الوقائع، دليلًا على أنه ليس من عند الله.
(1) الإسراء: 88
(2)
الأنفال: 31
(3)
الفرقان: 32
وقال بعضهم في أحاديثهم عنه: إنه اساطير الأَولين. وزعم آخرون: انه. سحر.
تخبُّطٌ منهم ناشئ عن إصرارهم على الكفر. فهم يلتمسون العلل الباطلة لبقائهم على دينهم، ولحمل المؤمنين على ترك الإِسلام. فلا جرم ان تنزل هذه الآية لتحديهم فيما زعموه، حتى إِذا ما عجزوا، وجب اعترافهم بأن القرآن من عند الله، وأَن المنزل عليه هو نبى الله ورسوله. إذ المراد بعبدنا، هو النبي محمد صلى الله عليه وسلم مأخوذ من معنى التعبد، وهو التذلل والخضوع لمالِكِه وخالقه.
وإضافة عبد إلى ضميره تعالى، للتنويه بشأْن هذا النبي. والتعبير بكلمة {نَزَّلْناَ}
المفيدة للتكرار دون {أَنزَلْنا} منظور فيه لحالة نزول القرآن مفرقا حسب الوقائع. وكان
ذلك موضع اعتراضهم كما تقدم. وجواب الشرط قوله: {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ} .
والسورة: اسم لطائفة من آيأت القرآن، مأخوذة من سور الدينة، لأَنها محيطة بطائفة من القرآن إِحاطة سور المدينة بما فيها. والضمير في {مِثْلِهِ} عائد على القرآن.
كما في قوله تعالى: {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ} (1) أَي فأُتوا بسورة مماثلة لسُوَر القرآن فى البلاغة وحسن النظم، وتضمن مصالح الدنيا والآخرة. فإِن رجعنا ضمير (مِثْلِهِ) على النبي صلى الله عليه وسلم فالمعنى فأتوا بسورة صادرة ممن هو على حاله صلى الله عليه وسلم في اللغة، وكونه أُميًّا لم يخالط أَهل الكتاب. وجعل الضمير راجعا إلى القرآن أولى، لتطابق هذه الآية مثيلاتها فى القرآن، كقوله تعالى:{قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ} (2) ولأن الكلام في المنزل، لا فيمن نزل عليه.
ومعنى قوله تعالى: {وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} : أي؛ ادعوا أنصاركم الذين يشهدون أَموركم، ويقدرون الأمر في شئونكم؛ ليكون التحدى - في النهاية- للجميع؛ أو لكي يشهدوا بحال ما جئتم به.
(1) يونس: 38
(2)
الإسراء: 88
أو المراد بالشهداءِ، آلهتهم الذين يعبدونهم من. دون الله، فيكون الكلام للتبكيت لهم على اتخاذهم آلهة لا يفقهونا شيئًا.
{إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} في دعواكم إن القرآن ليس من عند الله، بل من صنع البشر كما زعمتم. وجواب {إن كُنتُمْ} مدلول عليه بقوله:{فَأْتُوا بِسُورَةٍ} .
ومعنى آية التحدى هذه إِجمالا: إن كنتم- أيها الكفرة- صادقين في دعواكم: أَنه من كلام البشر- وأَنتم من البشر- فاتوا بسورة مثل هذا القرآن: في بلاغته وفصاحته، ومعناه وأَحكامه، وقد أُنزل القرآن عربيا، فهو من لغتكم، لا من لغة تجهلونها. والعربية مجال تنافسكم وتسابقكم فى المحافل العربية.
ولو كان مقدورا لهم لفعلوا، ولأذاعوا به، وأَشاعوه، ولم يثبت شىء من ذلك عنهم. وبذلك ثبت عجزهم المطلق. وإذا عجزوا- وهم الفصحاء البلغاء- كان غيرهم أَعجز كما تقدم.
24 -
{فَإِن لَّمْ تَفْعَلُوا وَلَن تَفْعَلُوا
…
} الآية.
إن الشرطية هناءَ مستعملة لليمين، وإن كَان غالب استعمالها للشك، و {لَنْ} في {وَلن تَفْعَلُوا} من الآية إِنما هو لنفي الفعل المستمر فى المستقبل، إِلى الأبد. وذلك من معجزات القرآن، إِذ لم يقع منهم أنهم أتوْا بسورة مثله.
{فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} :
أي فارجعوا إلى الصواب، واتقوا عذاب النار التي اعدت وهيئت للكافرين، بتصديقكم أنه من عند الله.
ووصف النار بأَن وقودها ناس وحجارة، مثل قوله:{إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ} (1)
(1) الأنبياء:98
فالناس الذين هم وقودها، هم الكفار، والحجارة حجارة الأصنام التي كانوا يعبدونها: تجعل وقودا للنار معهم، إهانةً لهم ولِمَا كانوا يعبدون.
والآية تبدى مِنَ التحذير، ما لا يستطيع عاقل تجاهله. وفيها دليل على أن النار مخلوقة
موجوده، من قبل نزولها.
المفردات:
{وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا} : التبشير يطلق غالبا، على الإِخبار بالخبر السار. وقد يُطلق مجازًا يحزن كقوله:{فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (1)} والمراد هنا الأول.
{كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ} : أَي كلما رزق أهل الجنة شيئًا من ثمارها، يقولون: هذا هو الذي وُعِدنا من قبل في الدنيا أن نرزقه في الآخرة، أَو هذا الذي رزقناه في الدنيا، لكونه مشابها له، حتى إذا تذوقوه أدركوا الفرق بين ثمار الدارَين.
{وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا} : أي مُنحوا ثمر الجنة، يشبه بعضه بعضا في الشكل، مع اختلاف الطعم، أو متشابها مع ثمار الدنيا. شكلا ليأْنسوا به، لكنه يفوقه طعما ومذاقا.
{وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ} : أي زوجات مبرأَة من الدنس والعيب.
(1) الانشقاق:24
التفسير
25 -
{وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ
…
} الآية.
هذه الآية بشارة وعِدَة للمؤمنين، مقابلة لما ذكر في الآية السابقة، من تحذير ووعيد للكفرين. وهكذا، يصرف الله الآيات وينوعا بين الترهيب والترغبب.
ومعنى التبشيرة. المفهوم من قوله: {وَبَشِّرِ} : الإخبار بما يسر، وأطلق عليه ذلك، لظهور أثره على البشرة. رقد سيقت البشرى في هذه الآية لمن آمن وعمل صالحا من الناس، أي لمن جمعوا بين عمل القلب، وهو الإيمان والتوحيد الخالص، وعمل الجوارح، وهو الاستقامة والاستدامة للعمل الصالح.
ويستدل بها على أن مفهوم الإِيمان لا يدخل فيه العمل الصالح، ولكنه لا بد منه لحسن الجزاء؛ فإن الإيمان وهو التصديق كالأساس، والعمل الصالح كالبنيان فوقه.
ولا يكفى أساس من كير بنيان، كما لا يعيش بنيان بغير أساس؛ لأنه معرض للانهيار.
وجمع {الصَّالِحَاتِ} للإِشارة إلى الإتيان بها بأَنواعها، دون اكتفاء ببعضها. فأركان الإِسْلام وما يتصل بها، متماسكة كما يفهم من حديث "بُنِىَ الإسلام على خمس: شهادة أَن لا إله إلاالله، وأَن محمدا رسول الله، واقام الصلاة، وإيتاء الزكإة، والحج، وصوم رمضان (1) " مجمع عليه.
أي وبشرهم بأن لهم جنات .... إِلى آخر الآية، والجنات: البساتين التي
تتداخل وتتشابك فروعها، فهي تُجِنُّ أي تستر من دخل تحتها.
وقوله: {تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} أَي من تحت أشجارها.
في هذه الجملة وصف للجنات بان أشجارها تحمل ثمارا متشابهة يستمتع بطعامها أهل الجنة، كلما قطف أَحدهم ثمرة منها وجد مكانها من الغصن ثمرة مثلها، فيعجبون من ذلك
(1) صحيح البخارى وغيره
ويقولون: {هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ} ،وقد بيَّنت السنَّة ذلك. فعن ثوبان قال: قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم: "إن الرجل إذا نزع ثمرة من الجنة عادت مكانها أَخرى (1) ".
وقد يقال في معناها: إن ثمر الجنة متشابه فى الصورة والشكل- مع ما كان في الدنيا، فإِذا رأوه قالوا: هذا الذي رزقناه من قبل في الدنيا-، فإذا ما طعموه، أحسوا فرقا شاسعا - في اللذة والطعم- بينه وبين ثمر الدنيا. وإنما جعل ثمر الجنة مشابها - في الصورة- لثمار الدنيا؛ لتميل النفسى إليه حين تراه، فإن الطباع تميل إلى ما تأْلف، ليتبين لها.- بعد تذوِقه- مزيته على ثمار الدنيا: في الطعم واللذة؛ فيقدروا فضل الله عليهم، وقيل في معناه غير ذلك. ئ
{وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ} : ولأهل الجنة زوجات مطهرة مما يستقذر من نساءَ الدنيا، كالحيض ودنس الطبع، وسوءِ الخلق والأقذار.
والتطهير يستعمل في الأجسام والأخلاق والافعال.
والتعبير بقوله: {مُّطَهَّرَةٌ} يشعر بأَن مُطَهِّرا طَهَّرهن. وهو لا يكون إلا الله-سبحانه وتعالى أذ خلقهن على هذا النمط من الطهر.
والزوج في الأصل: اسم لما له قرين من جنسه يزاوجه ويثانيه. ويطلق أَيضًا، على الذكر وإلانثى. والقرينة هي التي تعين المراد،
{وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} : الخلود في الأص {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا (57)} [النساء: 57] ل؛ البقاء المديد، دام أو لم يدم، فإذا أُريد
الدوام قيد بالتأْبيد نحو قوله تعالى: {خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا (2)}
والمرادُ بالخلد هنا: الدوام قطعا، حملا للمطلق هنا على المقيد بالتأْبيد، فى آيأت أُخرى.
فإن قيل: إن الأبدان مركبة من أجزاء متضادة في الكيفية، معرضة إلى الاستحالات المؤدية إلى الانحلال والتفكك. فكيف يمكن الدوام في الجنة؟
(1) رواه الطبرانى، والبزار، إلا أنه قال: أعيد في مكانها ثلاها، ورجال الطبرانى وأحد اسنادى البزار ثقات: مجمع الزوائد جـ10ص414
(2)
التوبة:22
والجواب: أن ذلك في عالم الدنيا المعرض للفساد، أما الآخرة فالأمر -في تكوين الأجسام فيها- مختلف عنه في الدنيا، فالأجزاء فيها متلازمة لا ينفك بعضها عن بعض، ولا يعتريها التغير والتحلل.
المفردات
{إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا} : أي لا يترك ضرب مثل. وضربالمثل: استعماله فما ضرب له، أي: فيما ذكر له.
{بَعُوضَة} : البعوضة واحدد البعوض، وهو ضرب من الذباب معروف، وهو من البعض، آى القطع. يقال: بعضه البعوض، عضه وآذاه. ولا يقال في غير البعوض.
ذكره صاحب اللسان. {فَمَا فَوْقَهَا} : أي فالذي فوقها. والمراد بالفوقية: الزيادة في الحجم،
كالذباب والعنكبوت، أو الزيادة في المعنى الذي أريد بالتمثيل، أعني: الحقارة والهوان.
{بهذاَ مَثَلًا} : أرادوا بكلمة {هَذَا} : تحقير ما يشيرون يها إِليه، وهو البعوض والذباب ونحوهما، مما يضرب مثلا. {إِلَّا الْفَاسِقِينَ}: أي الخارجين عن طاعة الله. والفسق لغة: الخروج، ومنه: فسقت الرطبة عن قشرها، أي خرجت عنه.
التفسير
26 -
{إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا
…
} الآية.
روى عن ابن عباس وابن مسعود وغيرهما (أنَّ الله تعالى لما ضرب هذين المثلين - يعني
قوله: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا} وقوله: {أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ} الآيات الثلاث.
قال المنافقون: الله أعلى وأجل من أن يضربَ هذه الإمثال، فانزذ الذ تعالى هذه الآية إلى قوله:{هُمُ الْخَاسِرُونَ} (1).
وعن قتادة لا ذكر الله العنكبوت والذباب، قال المشركرن: ما بال العنكبوت
والذباب يذكران، فانزل الله {إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا} .
واذأ تإملنا سبب النزول الأول، عرفنا الرباط القوى بين الكلام السابق في الآيات الماضية، عن تردد المنافقين وحيرتهم وكفرهم القلبى، وبين هذه الآية والتي تليها، أمَّا ما توسط بين قصة المنافقين الماضية وبين هاتين الآيتين: {إنَّ اللهَ لَا يَسْتَحْيِى
…
} إلخ
…
فهو مرتبط بقصتهم، فقد اشتمل على دعوتهم- ومن على شاكلتهم من الكافرين- إلى الإيمان الصادق بربهم، وبيان مقتضيات ربوبيته، كما اشتمل على بيان إعجاز القرآن الذي يدعوهم إلى ذلك، الأمر الذي يشهد بكونه من عند الله، ويستدعي إيمانهم به، كما تضمن الأثر المترتب على الكفر من الخلود في النار، والاثر المترتب على الإيمان من الخلود فى الجنة.
وحقيقة الاستحياء مستحيلة على الة تعالى لأنه: انقباض النفس عن القبح، مخافة الذم ومعناه: وسط بين الجرأة على فعل القبيح من غير مبالاة، وبين الخجل وهو: إبعاد النفس عن الفعل مطلقا، وهذا من صفة الحوادث.
وكل ما ورد من هذا القبيل في الكتاب والسنة، إِنما يراد منه لازمه اللائق بالله تعالى: وهو الترك والامتناع.
ومعنى الآية: أن الله لا يمتنع من أن يضرب الأمثال، كيفما كانت {بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا} أي فوقها في الحجم كالذباب والعنكبوت وغيرهما، أو في المعنى، وإِن دق الممثَّل به
وصغر عن البعوض فإن في ضرب المثل ابرازا للمعقول في صورة المشاهد المحس؛ ليساعد
على الفهم.
وقد شاعت الأمثال في الكتب الإلهيه، وعبارات الحكماء والبلغاء لذلك، فيمثل الحقير بالحقير، كما يمثل العظيم بالعظيم. ولا يقدح هذا التمثيل في عظمة من قاله.
والقرآن الكريم. لم ينفرد بذكر أمثال هذه الحشرات. فقد ورد ذكرها في العهد القديم
(1) الواحدى فى أسباب. الترول: 14، 15
أكثر من مرة. ومن ذلك ما جاءَ فى سفر يشوع إصحاح 24 الفقرة 12 - "وأُرسلت قدامكم
الزنابير وطردتهم من أمامكم"- وتكرر ذلك في سفر الخروج 23 - 18 وسفر التثنية 7 - 30.
ومن كلام العرب: "أَسْمَعُ من قُرادٍ، وأَطيَش من فَراشَةٍ". ولا شك أَن قدرة الله تتجلى في الذرة كما تتجلى في المجرة.
وقد روعى في التعبير بكلمة: بعوضة، المبالغة في الرد على ما نطقوا به في معارضتهم؛ إذ المذكور في تمثيل القرآن. هو الذباب لا البعوض، والبعوض أصغر من الذباب.
ثم بين الله حال المؤمنين والكافرين- إزاء هذا التمثيل- فقال جل شأنه: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا} .
{الحَقٌ} : الأمر الثابت الذي لا يسوغ إنْكارُهُ، أي: فأَما المؤْمنون، فيعلمون أن المثل هو الأمر الثابت {مِن رَّبِّهِمْ} الذي يضرب الأمثالَ بم ليعينهم على فهم المعافى الصحيحة.
{وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا} :
كان الظاهر أن يقال: وأما الذين كفروا فلا يعلمون أنه الحق من ربهمِ، ليطابق
مقابله، وهو قوله سابقا:{فَيَعْلَمُونَ} الخ
…
ولكن عدل عنه إلى: {فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا} لحكاية ما قالوا، وهو مستلزم لجهلهم وعدم علمهم، وذلك أَبلغ؛ لأن قولهم هذا، كالبرهان على كمال جهلهم؛ ففيه نفى العلم مع إثبات دليله.
والإشارة في قولهم: {مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا} لتحقير المشار إليه الذي ضربه الله مثلا، وليس غرضهم بما قالوا الاستفهام عن الحكمة في ضرب الله الأمثال، بنحو العنكبوت والذباب والبغوض، بل غرضهم الأيذان بأَنها -من اللإناءة والحقارة- بحيث لا يليق أن يريد الله شيئًا من التمثيل بها. لهذا يستحيل صدور التمثيل بها عن الله تعالى {
…
كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا} (1).
لهذا رد عليهم بقوله: {يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا} أي يضل بهذا المثل كثيرًا من الناس مثلهم، ممن ساء اختيارهم وأظلمت قلوبهم، ويهدى به كثيرًا منهم، ممن حسن اختيارهم واستنارت قلوبهم.
فلا مانع من أَن يضربه مثلا ويريد ما يترتب على ضربه من الآثار، وهو التفكر والاهتداء، لقوله تعالى: {
…
وَتِلْكَ الأمثاَلُ نَضْربُهاَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُنم يَتَفَكَّرُون} (2)
(1) الكهف من الآية: 5
(2)
الحشر من الآية: 21
والإضلال: خلق الضلال في العبد لسوء اختياره. والهداية: خلق الاهتداءِ فيه لحسن اختياره. والتعبير بصيغتى المضارع {يُضِلُّ} {وَيَهْدِى} لإفادة التجدد المستمر.
وإنما قدم فعل الإضلال على فعل الهداية، ليكون أَول ما يقرع أسماعهم من المجواب أمرا يسوِءهم، ويفت في أعضادهم.
ووصف كل من الفريقين بأَنه كثير، لا ينافى أن أهل الضلال أكثر عددا من أهل الهداية، قال تعالى في المؤمنين: {
…
وَقَلِيلٌ ماهُمْ
…
} (1)، {
…
وَقَلِيلٌ مِّنْ عِباَدِىَ الشكُوُر} (2)
وقوله تعالى: {وَماَ يُضِل بِهِ إلَاّ الْفَاسِقِينَ} من تمام الجوابة على استفهامهم، وهو يفيد إلصاق وصف الفسق بهم. والمراد به هنا: الخروج عن الدين.
وإِضلال الله تعالى للفاسقين، لا يعفيهم من أن يتحملوا تبعته، لأن الإنسان إِذا سلك - باختياره الفاسد- طريق الكفر رالفساد، وسار فيه إلى أَقصى نهايته، غير مكترث بالتحذير منه- يتركه الله في ضلالته؛ لأنه سلك سبيلها وأَوغل فيه مختارا {
…
وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} (3). أَما من اتبع الهدى، ولبس لبوس التقوى، فإن الله تعالى يهديه، ويمكِّن له في هدايته. قال تعالى: {
…
وَمَن يُؤْمِن الله يَهْدِ قَلْبَهُ
…
} (4).
المفردات:
{يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ} النقض: فك التركيب، ويكون في الحسيات، كالحبل والبناء. ويسمتعمل في المعافى مجازا، ومنه: نقض العهد هنا.
(1) ص من الآية: 24
(2)
سبإ من الآية: 13
(3)
فصلت من الآية: 46
(4)
التغابن من الآية: 11
وعهد الله: ما أخذه على العباد من التوحيد والعمل بالشرائع. وميثاقه: توثيقهم العهد وإحكامهم اياه.
التفسير
27 -
{الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ
…
} الآية.
{الَّذِينَ يَنْقُضُونَ} : صفة للفاسقين. وقد وصل {الذين} بثلاث صلات: {يَنقُضُونَ عَهْدَ الله} ، {وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ} ، {وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ} وهي صفات في المعنى للفاسقين، فكأنه قيل: وما يضل به إلا الفاسقين الناقضين لعهد الله، القاطعين لما أمر الله به أن يوصل، الفسدين في الأرض. وقد جىء بها للذم، وتقرير ما هم عليه من الفسق.
والنقض: حَلُّ المركب. وهو فى الأصل، يستعمل في الحسيات، كنقض الحبل مثلا، وهو فك طياته فيضعف من بعد قوة.
واستعماله في إِبطال العهد -وهو أمر معنوي- تشبيها للعهد بالحبل في الارتباوط. لما فيه من ارتباط أحد كلامى المتعاهدين بالآخر. والميثاق: التوثيق والإحكام.
والمعنى الأجمالى: وينقضون ما عاهدوا الله عليه، من بعد ما وثقوه بالقبول والالتزام، أَو من بعد ما وثقه الله بإِنزال الكتاب وإرسال الرسل وعهد الله الموثق عام لكل عهد مشروع، فيدخل تحته العهد المأخوذ بالعقل، وهو الحجة القائمة لله على عباده، الدالة على وجوده ووحدته وصددتى رسله. وبه أوِّل قو له تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى
…
(1)} ويشمل عهد الله أيضًا ميثاقه على النبيين: أن يبلغوا أممهم وجوب الإيمان بالرسول. ونصره إذا بعث مصدقا لما معهم. وهو المشار إليه بقوله: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ
…
} (2) كما يشمل توصية للنبيين بقوله: {شرَعَ لَكم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بهِ نُوحًا
…
} إلى قوله: {
…
أنْ أقِيمُوا الدّينَ ولَا تَتًفَرقُوا فِيهِ
…
} (3).
(1) الأعراف من الآية 173
(2)
آل عمران من الآية:81
(3)
الشورى من الآية:13
وميثاقه على الذين أوتوا الكتاب بمثل ذلك بقوله {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ
…
} (1)
والعهد الذي يأخذه بعض الناس على بعض، المشار إليه بقوله: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ
…
} (2).
وسواء أكان ذلك بين الأفراد، ام الجماعات من إلامة الواحدة، أَو بين الأُمم بعضها مع بعض. فلا يجوز نقض هذه العهود إِلا فيما جاز شرعًا.
وقد أشار القرآن إلى هذا في قوله لنبيه- صلى الله عليه وسلم: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ
…
} (3) وسيأتى شرحها في سورتها.
وقوله: {من بَعدِ مِيثَاقِهِ} :أَي من بعد توثيقه وتمامه بين المتعاهدين.
{وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ} : هذه هي الصفة الثانية من صفات الفاسقين الخارجين على أمر اقه تعالى، أَي ويقطعون ما أَمر اللهُ بوصله من أمور الدين المختلفة.
ويدخل تحت هذا الأمر: صلة الأرحام، وصله الأعمال بالأَقوال، وصلة الإِيمان بجميع الأنبياءَ، بحيث لا ينقطع هذا الإِيمان بواحد منهم بالكفر به. وكذلك صلة الأُخوة بين المؤْمنين، وصلات المؤْمنين بالمجتمع الإِنساني، وَوَصْلُ أُمور الدين بعضها ببعض، إذ التهاون في بعضها، يضعف من قوة الدين. فإِن بناءَ الإِسلام، قائم على أَركانه كلها، كالبيت يقوم على أَعمدته، وهدم ركن منها -أَو جزء من تكوينه- يؤَثر في الهيئة الكلية، كما يتأَثر البيت بهدم ركن من أَركانه أو جزء من تكوينه.
وقوله تعالى: {وَيُفْسِدُونَ في الْأَرْضِ} هو الصفة الثالثة للفاسقين.
والإفساد في الأَرض، ضد إصلاحها، وقد صلحت بنشر دعوة الإِسلام، وضعُفَ ما كان فيها من فساد الجاهلية، فيكون من الإِفساد في - الأَرض: صدٌّ الناس عن الإيمان بالرسول -كما يفعله الكافرون- والعملُ على تهييج الحرب بين المؤمتين رغيرهم، كما يفعله المنافقون.
(1) آل عمران من الآية: 187
(2)
النحل من الآية: 91
(3)
الأنفال من الآية: 58
وقوله تعالى: {أوَلئِكَ هُمُ الخَاسِرُونَ} إشارة إلى الفاسقين المتصفين بهذه الصفات الذميمة: أي: أُولئك المتصفون بهذه الصفات المنكرة، هم الخاسرون الذين خسروا أنفسهم في ميدان الصالحات، إذ استبدلوا: النقض بالوفاء، والقطع بالوصل، والإفساد بالإصلاح والعقاب بالثواب، والشقاوة بالسعادة، كما خسروا منازلهم في الجنات.
التفسير
28 -
{كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ
…
} الآية.
بعد أن عدَّد الله قبائح الكافرين، توجه إليهم مخاطبا بالإنكار، بأُسلوب يقتضى التعجب من كفرهم، مع وجود النعم التى تقتضى الشكر، بدلا من الكفر!
والإنكار على المخاطب، أبلغ من الإنكار على الغائب، لِمَا فيه من إحضاره إلى ساحة التعنيف مشافهة.
والمعنى: على أي أساس قام كفركم باللهِ تعالى؟ والغرض من هذا الاستفهام نفى أن
يكون لهم مستند سليم، يستند إليه كفرهم باللهِ تعالى، فليس لهم حجة سوى قولهم:
{
…
إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ} (1)
فإن آباءهم كانوا لا يعقلون شيئا ولا يهتدون.
وقوله: {وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ} إلخ، تعداد للنعم الرادعة عن الكفر، الباعثة على الإيمان، لتشديد الإنكار والتوبيخ على الكافرين.
ومعنى الآية: كيف تكفرون باللهِ، والحال أَن له شئونا معكم. وشئونا في الكون،
تقتضى اختصاص بالأُلوهية دون سواه، فقد كنتم أمواتا أَي مشبهين لهم، إذ كنتم عناصر
(1) الزخرف: 23
وأغذية، فنطفا ومضغا، فأحياكم بنفخ الأرواح فيكم، ثم بعد احيائكم، هو الذي يميتكم عندانقضاء آجالكم، ثم بحييكم مرة أخرى -عند النفخة الثانية- حياة البعث، ثم إليه وحده تُرْجعُونَ للحساب والجزاء، ومن كان هذا شأْنه فلا يصح الكفر به أو إشراك غيره معه في العبادة!.
وإنما اختلف العاطف في الآية -بالفاء وثم- لأن قوله: {فَأَحْيَاكُمْ} مراد منه الحياة ألأُولى بنفخ الروح، وهي حاصلة عقب كونهم أمواتا. فلذا عطف بالفاء التى هي للترتيب والتعقيب. أَما العطف بثم التي هي للترتيب والتراخى في قوله:{ثُم يمُيتُكُمْ} فلأن المراد بالموت هنا: خروج أَرواحهم بعد إنقضاء آجالهم، وهو متراخ فى الزمن عن بدء حياتهم.
وقوله آخر الآية: {ثمَّ يُحْييكُمْ} المراد به: الإحياءُ للبعث، وهو متراخ فى الزمن كذلك، لأنه بعد إنقضاءِ فترة البرزخ في القبور.
وقد يقال: الامتنان بهذه النعم ظاهر في الإحياء بعد العدم، فما وجه المنة بقوله:{ثُمَّ يمُيتُكُمْ} وهل في الموت امتنان؟
والجواب: أن الموت هو سبيل الحياة الأبدية بعد البعث. وما كان وسيلة للحياة الخالدة، يصح عده بين النعم. أن هم استجابوا إلى دعوة الحق.
وقد يقال أيضًا: أن المخاطبين من الكفار، وهم لا يعترفون بالبعث والرجوع إلى الله، فكيف ينظم ما ينكرونه في سلك ما يعترفون به؟
والجواب: أن الله تعالى نزَّل إِنكارهم للبعث منزلة العدم، لقيام الدليل العقلي والنقلي على إمكانه وحدوثه، وأَن المقصود الأساسى تذكيرهم به ليحذروه، ولذا ختم الآية بقوله:{ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} ، أي: إليه وحده- لا إلى غيره- مرجعكم بعد هذه الأطوار؛ وسيحاسبكم حسابا عسيرا على كفركم به، على الرغم من ظهور آياته البينات.
المفردات:
{ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ} : تعلقت إِرادته تعالى بتسوية السماءٍ، والسماء: هي كل ما سما وعلا فوق سطح الأرض، ويشمل أيضًا الغلاف الهوائي المحيط بالأرض.
{فَسَوَّاهُنَّ} : أي جعلهن سَوِيَّاتٍ لانقص فيهن.
التفسير
29 -
{هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا
…
} الآية.
في الآية السابقة بيان لنعمة الخلق والأحياءَ بعد الموت. وفي هذه الآية: بيان قدرته على ما هو أعظم، وهو خلق الأرض والسماءِ وما فيهما من النعم التي يحتاج إليها العباد بعد خلقهم، لأن نعمة الخلق والإِحياء، لا تتم إلا بخلق ما يتوتف عليه بقاؤهم وعيشهم في الحياة الدنيا. ومن خلال هذه النعم، يكون النظر المفيد المؤَدى إلى توحيد الله -تعالى- وإخلاص العبادة له وحده.
وقد جاءَت هذه الآية مقررة لما أفادته الآية التي قبلها من الإنكار على الكافرين إذ كفروا بمن هذه نعمه.
وقوله: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا في الارضِ جَمِيعًا} معناه هو الذي أَبدع لأجلكم جميع ما فى الأرض لتنتفعوا به في شئون معاشكم استرزاقا، وفي شئون معادكم استدلالا، فكل ما على سطح الأرض من حيواكا وزرعها وأشجارها ومائها وهوائها، ومافيها من أجزائها ومعادنها وعناصرها وقواها المختلفة، ابدعها الله كلها لمنفعتنا دينا ودنيا، فتبارك الله أحسن الخالقين.
وحيث أَبدعها لمنفعتنا، فعلينا أَن نستعملها فيما يرضي الله تعالى، ويحقق النفع لنا، ويدفع الشرَّ عَنا في الدنيا والآخرة.
{ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ} :
المراد من استوائه -تعالى- إلى ألسماء، إقباله عليها بإرادته ليخلقها بغير صارف يصرفه عن ذلك (1)، واستعماله في هذا المعنى معروف في لغة العرب ومنه قولهم: استوى إِليه كالسهم المرسل: يعنون بذلك انه قصده قصدا مستويا، من غير أن يصرفه عنه صارف آخر- وهذا التفسير هو الذي اختاره الفراء، َ وهو الذي نختاره، آما تفسيره بالصعود ونحود، فلا يليق وصف الله به لتنزهه عن صفات الحوادث. والمراد من السماء: الجنس الشامل للسموات السبع، ولذا قال:{فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ} بضمير جمع الأناث.
معنى تسويته -تعالى- للسموات السبع، أنه خلقهن من أول الأمر سَوِيَّات، أي مصونات من النقص والعيب (2). ومثل هذا قولهم: سبحان من كبر الفيل، أي خلقه من أَول الأمر كبيرا، وسيأتى الكلام على اْلسموات السبع.
وظاهر قوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ} أن خلقه -سبحانه- للسموات خالية من العيب، متأَخر عن خلقه مافى الأرض جميعًا لناْ، لأنه عطف عليه بلفظ (ثُمَّ) وهي للترتيب والتراخى.
ولكن هذا الظاهر مخالف لنص آخر يقتضى تقدم خلق السموات على دَحْوِ الأرض، فقد قال تعالى في سورة النازعات:{أَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا (27) رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا (28) {وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا (29) وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا (30) أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا (31) وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا (32) مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ (33)} .
فهذا النص يدل على أن الله بنْى السماء وانشأَها مرفوعة مسوَّاةً، وجعك ليلها مظلما، وأخرج فيها شمسها المضيئة. وبعد ذلك دحا الأرض، ورتب فيها منافعها، فأَخرج منها ماءَها ومرعاها، وأرساها بالجبال حتى لا تميد بنا، وجعل ذلك متاعا لنا ولأنعامنا.
وهذا الذى قرَّرته سورة النازعات، هو الذق يقول به أصحاب النظريات العلمية الحديثة.
(1) هذا المعنى يتفق وما ذكره صاحب القاموس لكلمة استوى فى بعض معانيها، إذا قال أو استوى إلى السماء: صمد أو عمد أو قعد أو أقبل عليها
…
إلخ. والمعانى الثلاثة الأخير ة هي التي تناسب الآية، وقد اخترتا وهو إقباله تعالى بإردته عليها.
(2)
وليس المعنى أنه سبحانه خلقهن أولا غير سويات ثم سواهن.