المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

{وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ - التفسير الوسيط - مجمع البحوث - جـ ١

[مجموعة من المؤلفين]

الفصل: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ

{وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (190) وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ (191) فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (192) وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ (193)}

المفردات:

{فِي سَبِيلِ اللَّهِ} : سبيل الله: دينه.

{ثَقِفْتُمُوهُمْ} : وجدتموهم.

{الْفِتْنَةُ} : الابتلاء.

التفسير

190 -

{وقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} .

الربط: هذه الآية وما تلاها من الآيات، تشتمل على أحكام القتال في الحج في البلد والشهر الحرام، فكانت مناسبة للآية السابقة التي تحدثت عن مواقيت الحج.

ولقد اعتزم المسلمون أن يحجوا في العام التالي لصلح الحديبية، وفقًا لما حدث الاتفاق عليه فيه، فأَنزل الله - تعالى - هذه الآية، يعلمهم فيها ما يصنعون، إذا قاتلهم المشركون في البلد الحرام والشهر الحرام.

‌سبب النزول:

أخرج أبو صالح عن ابن عباس - رضى الله عنهما -: أن المشركين صدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الحديبية، وصالحوه على أن يرجع عَامَهُ القابل،

ص: 300

ويخلوا له مكة ثلاثة أيام، فيطوف بالبيت ويفعل ما شاء، فلما كان العام المقبل تجهز رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه لعمرة القضاء، وخافوا ألا تفي لهم قريش بذلك وأن يصدّوهم عن المسجد الحرام ويقاتلوهم، وكره أصحابه قتالهم في الشهر الحرام، فأنزل الله الآية

والمعنى: وقاتلوا في سبيل الله - أي لغرض إعلاء كلمة الله - الذين يبدءُونكم بالقتال دفاعًا عن أنفسكم وحريتكم في أداء العبادة، ولا تعتدوا بقتل النساء والصبيان، والشيوخ المسنين، ومن ألقى إليكم السَّلام، وكف يده عنكم، فإن قتلتموهم فقد اعتديتم وتجاوزتم ما يحل لكم، إن الله لا يحب المعتدين، بل يبغضهم ويعاقبهم.

191 -

{وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِ جُوهُم مِّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ

} الآية.

المعنى: واقتلوهم - غير معتدين حيث وجدتموهم: في حل أو حرم، وأخرجوهم من ديارهم، كما سبق أن فعلوا ذلك بكم، حيث أخرجوكم من دياركم، ولم يكتفوا بهذا، بل تناولوا من بقى منكم من المسلمين في مكة: بالتعذيب والتنكيل، ليرتدوا عن الإسلام.

{وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ} : أي بقاؤهم على الشرك، أشد قبحًا من قتلهم في الحرم والشهر الحرام، فلا تبالوا بقتالهم فيه. أو المعنى: والمحنة التي يفتن بها الإنسان: بالإخراج من الوطن والحرمان من المال، والتعرض لألوان القسوة والعذاب - للتأثير في العقيدة - أشد من القتل لاتصال تعذيبها، وتألم النفس بها.

ومن هنا قيل:

لَقَتْلٌ بحَدِّ السيْفِ أَهْوَنُ مَوْقِعًا

عَلَى النَّفْسِ مِن قَتْلٍ بِحَدِّ فِرَاقٍ

ومن فتن بمثل هذه الفتنة، فمن حقه المشروع: أن يقابل العدوان بالعدوان.

{وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ} : على المسلمين أن يؤدوا مناسك دينهم ولا يقاتلونهم عند المسجد الحرام، فإذا اعتدى عليهم المشركون، واستباحوا البلد الحرام والشهر الحرام، فللمسلمين أن يصدوا هذا العدوان: بالدفاع عن حياتهم وعن عقيدتهم. والشر بالشر والباديء أَظلم. وليتحمل المشركون وِزْرَ ما انتهكوه من حرمات.

ص: 301

{فَإِن قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ} :

فإن ابتدأ المشركون بقتال المسلمين، فعلى المسلمين أن يقتلوهم، وعبر بقوله:{فَاقتُلُوهُمْ} بدل: فقاتلوهم، للإيذان بأن على المسلمين ألا يمكنوهم من المغالبة، وأن يسارعوا بقتلهم.

192 -

{فَإِنِ انتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} : أي فإن كفوا عن قتالكم، أو عن الشرك، فكفوا عن قتالهم، غافرين لهم اعتداءَهم، راحمين لهم: تخلقًا بصفتي الله - تعالى - وهما: المغفرة والرحمة، لعل الله يهديهم إلى التوحيد، أو يخرج من أصلابهم من يعبده ويجاهد في سبيله.

أو أن المعنى: فإن الله يغفر لهم ما قدموا، ويرحمهم إن آمنوا، وذلك فتح لباب التوبة، وإنهاء العداوة والعدوان.

193 -

{وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ

} (1) الآية.

والفتنة هنا: الشرك، أي قاتلوهم حتى لا يكون شرك، ليتحقق للمسلمين حرية العقيدة، وحرية أَدائهم لشعائرهم الدينية. فمشركو العرب لا يقبل منهم إلا الإسلام أو السيف لقوله تعالى:{تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ} .

فإذا حاول المشركون أن يفتنوا المسلمين في عقيدتهم، أو أن يصدوهم عن أداء شعائرهم فعلى المسلمين أن يقاتلوهم، حتى يقضوا على هذه الفتنة، بالقضاء عليهم، ليكون الدين في الجزيرة العربية خالصًا لله، حتى يأمن الإسلام في معقله من معوقات انطلاقه، وليكون الدين خالصًا لله، ولتحقيق هذا: لابد من القضاء على الفتنة القضاء التام.

{فَإِنِ انتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ} : أي فإن انتهوا عن الشرك، وقتال المؤمنين، ودخلوا في الإسلام صادقين مخلصين، فلا تقاتلوهم، لأن الإسلام يحرم قتال غير الظالمين لأنفسهم بالكفر والإشراك بالله. والمراد بالعدوان: مقاتلة المشركين. وسماه عدوانًا لأن مقاتلة المشركين للمؤمنين تعد عدوانًا منهم. فهو على حد قوله {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} .

(1) عطف على: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ} والأمر الأول: لوجوب أصل القتال، ردًا للاعتداء، وبيان آدابه. والثاني لبيان غايته.

ص: 302

{الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (194)}

المفردات:

{الْحُرُمَاتُ} جمع حرمة وهي: ما ينبغي صيانته: من عرض أو مال أو كرامة.

{قِصَاص} القصاص: العقاب على جريمة بمثلها.

التفسير

194 -

{الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ

} الآية.

إذا استباح المشركون الشهر الحرام الذي لا يحل فيه القتال وقاتلوكم فيه، فقابلوا عدوانهم بمثله، واستبيحوا الحرب فيه كما استباحوا، فلا تبالوا بقتالهم لكم فيه، صدًا لعدوانهم، فإن الحرمات فيها القصاص.

وفي هذا المعنى: يقول الله - تعالى -: {وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ} (1).

وروى الإمام أحمد بإسناد صحيح، عن جابر رضي الله عنهما قال:"لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يَغْزُو في الشهر الحرام إلا أن يُغْزَى".

والأشهر الحرم هي: ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، ورجب.

{فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} : هذه الجملة هي النتيجة المتفرعة على قوله تعالى: {الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُ مَاتُ قِصَاصٌ} .

(1) الشورى: 41.

ص: 303

يعني: أنه إذا كانت الحرمات، أي الأُمور التي تجب المحافظة عليها، يجري فيها القصاص، بحكم الشرائع والعقول، فإن لكم الحق في أن تدفعوا اعتداء من اعتدى عليكم بمثل عدوانه.

والأمر في قوله: {فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ} . للإباحة. إذ العفو الذي لا يضر المسلمين جائز.

وقد استدل الشافعي رضي الله عنه بهذه الآية، على وجوب القصاص بمثل ما ارتكبه الجاني من ذبح وحرق وتجويع وإغراق، حتى لو ألقاه العدو في ماءٍ عذب، ألقاه في ماءٍ عذب مثله، ولم يلقه في ماءٍ مالح.

واستدل به أيضًا على أن من غصب شيئًا وأتلفه يلزم برد مثله: ثم إن المثل قد يكون بالصورة في ذوات الأمثال، وقد يكون بالقيمة فيما لا مثل له.

وبما أن الآية وردت في القتال، وشرعت المماثلة في الاعتداءِ، فلهذا يكون مشروعًا: أن الأعداء استعملوا الغارات الجوية، أو حرب الجراثيم، أو المتفجرات النووية، على المدن المفتوحة، فالمقابلة بالمثل واجبة شرعًا.

{وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} (1).

وسمّى صَدّ العدوان عدوانًا، من باب المشاكلة، مثل قوله تعالى:{نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ} (2).

وقوله: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} (3).

{وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} : انتهت الآية بطلب التقوى من المؤمنين، كما هو الشأن في آيات الأحكام، وطلب التقوى منهم في القتال أشد وآكد منه في سواه، لتعلقه بالأرواح وَبِمَنْ وراءَ المقاتلين من أهليهم وأموالهم.

فهي من آداب القتال الهامة في الإسلام.

والله مع المتقين بالنصر والتأييد ودفع كيد الأعداء.

(1) سورة النحل: 33.

(2)

التوبة: 67.

(3)

الشورى: 40.

ص: 304

{وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (195)}

التفسير

195 -

{وَأَنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ

} الآية.

الاستعداد للقتال، يقتضي أموالًا طائلة لتسليح الجنود برًّا وبحرًا وجوًا، ولتنظيم الإمدادات، وشق طرق للمواصلات، وإعداد المستشفيات، وما إلى ذلك، فيجب تدبيرها وإحكامها، بحيث تستطيع مواجهة حدة المباغتة.

ولهذا أوجب الإسلام على كل مسلم أَن ينفق في سبيل الله، وأوجب للحاكم شرعًا: أن يفرض من الضرائب ما يكفي، ويبقى رصيدًا احتياطيًا للطواريء.

والتأهب - في زمننا - واجب على الأُمم الإسلامية، لأن ظروفها تستوجب ذلك.

وكما أن الإنفاق في سبيل الله يكون في الجهاد، فإنه يكنو أيضًا في وجوه البر، والخير.

{وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} : تحذير للمسلمين من التقصير في الإعداد للقاء الأعداء، حتى لا يصيبهم بغتة مكروه يهلكون فيه.

والمعنى: ولا تتسببوا - بتهاونكم وغفلتكم - في إلقاء أنفسكم بأيديكم إلى الهلاك.

ومن ذلك ترك الغزو، والتقصير في إعداد الجنود والقادة عسكريًا، وإهمال التحصين والتهاون في الإنفاق، وغير ذلك مما لابد منه.

وقد نزلت هذه الآية فيمن فكروا في الإقامة بين أهليهم بعد انتشار الإسلام.

ص: 305

روى أبو داود والترمذي وغيرهما، عن أسلم بن أبي عمرا، قال: "حَمَلَ رجل من المهاجرين بالقسطنطينية على صف العدو حتى خرقه، ومَعَنا أبو أَيوب الأنصاري، فقال: ناس: ألقى بيده إلى التهلكة، فقال أبو ايوب: نحن أعلم بهذه الآية، إنما نزلت فينا، صَحِبْنَا رسول الله صلى الله عليه وسلم وشهدنا معه المشاهد، ونصرناه، فلما فشا الإسلام وظهر، اجتمعنا معشر الأنصار نَجِيًّا، فَقُلْنا قد أكرمنا الله بصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم ونصره، حتى فشا الإسلام، وكثر أهله، وكنا قد آثرناه على الأهلين والأموال والأولاد، وقد وضعت الحرب أوزارها، فنرجع إلى أهلينا وأولادنا فنقم فيهم فنزل فينا:

{وَأَنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} .

فكانت التهلكة - الإقامة في الأهل والمال، وترك الجهاد. وخصوص السبب لا يمنع من أن تكنو الآية قانونًا عامًا، في القتال وغيره.

{وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} الإحسان في كل صوره واجب على المسلم في القتل وفي الذبح، وفي إغاثة الملهوف، وفي مباشرة القتال، وغير ذلك. ولكلٍّ من الحالات إحسان يناسبها، فإذا قتل فليحسن القتل، بألا يعذب فيه، وإذا ذبح فكذلك، بأن يحد الشفرة، ويريح الذبيحة، ويسرع في الذبح.

وفي إغاثة الملهوف: لا يتركه يتضرع ويتذلل، بل يغيثه سريعًا في الخفاء، بحيث لا تدري شماله ما تفعل يمينه.

والإحسان في الحرب: يتناول معاملة الأسرى، وعدم المثلة وتجنب قتل النساء والشيوخ والأطفال.

والإحسان في العبادة: أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فهو يراك.

بهذا وأمثاله - مما يدخل في نطاق التقوى، يوصي الله المسلمين. {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوا وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ} (1).

(1) النحل: 128.

ص: 306

{وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (196)}

المفردات:

{أُحْصِرْتُمْ} : حُوصرتم، وحُبستم.

{اسْتَيْسَرَ} : سهل.

{الْهَدْي} : ما أُهدى من الأنعام، ليذبح بمكة في موسم الحج، ويوزع على الفقراء تقربًا إلى الله.

التفسير

196 -

{وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَ ةَ لِلَّهِ

} الآية.

الربط: أشارت آية البِرِّ إلى ثلاثة من أركان الإسلام: الإيمان بالله ورسله وملائكته واليوم الآخرن، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وأشارت آيات الصيام إلى الركن الرابع، وأشارت هذه الآية وما تلاها إلى الركن الخامس والأخير، من أركان الإسلام وهو الحج.

ص: 307

والحج فريضة، مرة في العمر لمن استطاع إليه سبيلًا. والعمرة عند الفقهاء بين مفروضة في العمر مرة، ومسنونة. يفرضها الشافعية والحنابلة، ويسنها المالكية، أما الحنفية فيقول بعضهم: بفرضيتها، وبعضهم: بسنيتها.

وقد أمر الله في الآية بإتمام الحج والعمرة خالصين لله، بحيث لا يكون في أدائهما شرك ظاهر أو خفي، وهو الرياءُ.

وإتمام الحج والعمرة: الإتيان بهما كاملين تامين، وذلك يتحقق بأداءِ أركانهما وهي الإحرام والطواف والسعي والحلق أو التقصير. ويزيد الحج: الوقوف بعرفة ورمي الجمار مع رعاية شروطهما، وسائر أفعالهما، كما هو مقرر في علم الفقه.

والحج أوانه معروف. أما العمرة فتصح في أي وقت من السنة. وللحاج أن يقرن بينهما في إحرام واحد وعمل واحد، أو أن يحرم بالعمرة في أشهر الحج وبعد فراغه من أعمالها يتحلل ويلبس ثيابه، إلى قبيل الوقوف بعرفة، فيحرم بالحج، ويسمى الأول قارنًا، والثاني متمتعًا، لتمتعه فيما بين العمرة والحج، بما هو محرم على المحرم.

{فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} : إذا عوقكم معوِّق عن دخول مكة، أو عن إتمام المناسك، فعليكم تقديم ما تيسر لكم من الهدي: إبلًا أو بقرًا أو غنمًا أو معزًا، إن أردتم التحلل من الإحرام: يذبحه المحصر عند الأكثرين حيث أُحصر، لأنه صلى الله عليه وسلم ذبح بالحديبية لما أُحصِرَ فيها، وهي من الحلّ.

وعند أبي حنيفة رحمه الله: يبعث به إلى الحرم، ويتفق مع من بعثه على يوم يُذبح فيه، فإذا جاء اليوم وظن أنه ذُبح، تحلل، لقوله تعالى:{وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} والإحصار هنا. قاصر على منع العدو للحاج والمعتمر من المضيّ في نُسُكِهِمَا، وذلك عند مالك والشافعي لقوله تعالى:{فَإِذَا أَمِنْتُمْ} ولنزوله في الحديبية، وغير ذلك من الأدلة.

أما عند أبي حنيفة: فهو شامل لكل مانع من النسك سواء كان المانع عدوًا أو مرضًا أو غيرهما، لقوله صلى الله عليه وسلم:"من كسر أو عرج فقد حل فعليه الحج من قابل" ..

ص: 308

فارجع إلى المطولات إن شئت الموازنة بين المذاهب، والمزيد من الأحكام.

فالمحصر بالعدو أو غيره عند أبي حنيفة، يتحلل بذبح الهدْي، وعند مالك والشافعي: لا يتحلل بذبح الهدي سوى الممنوع بالعدو فهو المقصود من الآية. وأما الممنوع بنحو المرض: فلا يحله إلا الطواف، وإن أقام سنين.

ومن لا هدي معه وقت الإحصار ولا قدرة له عليه، أَحلّ، ثم أَهدى عندما يقدر عليه. نقله القرطبي عن الشافعي.

ويرى بعض الفقهاء: أن المحصر بعدو لا يجب عليه القضاءُ - وله ثواب الفريضة، ويكتفي بالهدي - ما لم تكن عليه الفريضة، بان لم يسبق له حج ولا عمرة، وإلا وجب عليه أداؤهما عندما يستطيع.

{وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} .

المعنى: لا يحل للمحرم المحصور أن يحلق رأسه، ويتحلل من إحرامه بالحلق أو التقصير، حتى يصل الهدي إلى محل ذبحه، وهو المكان الذي يجب أن ينحر فيه، وهو حصر العدو عن مالك والشافعي، حيث أُحصر الحاج أو المعتمر. وعند أبي حنيفة: محل الذبح في الإحصار مطلقًا: هو الحرم.

{فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِ يضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّ اسِهِ فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} .

يجب على المحرم - إن كان صحيحًا - ألا يخلع ملابس الإحرام، ولا يحلق شعره، أو يقصه، طول مدة الإحرام، فإن كان مريضًا بمرض يحوجه إلى الحلق، فله أن يلبس ملابسه العادية، ويؤدي الفدية عن ذلك، ومن كان برأسه أذى من: حشرات، أو جرح يستدعي علاجه أن يحلق، حلق وفدى. والفدية هنا: صوم ثلاثة أيام، أو إطعام ستة مساكين، لكلٍّ نصف صاع من الطعام، أو ذبح شاة وتوزيعها على الفقراء.

ص: 309

{فَإِذَا أَمِنتُمْ فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَ ةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} : أي فإذا أمنتم إحصار العدو، أو كنتم في حالة أمن وسعة، فمن تمتع بالعمرة إلى الحج، فعليه ما تيسر من الهدى.

وتفصيل ذلك: أن من نوى العمرة في أشهر الحج، ثم تحلل منها بعد الفراغ، يُسمى متمتعًا، لأنه تمتع بالانتفاع بما هو محرم على المحرم - بعد ما تحلل من عمرته - كاللبس، والاغتسال، ومباشرة النساءِ، حتى صُبْحِ عرفة، فيغتسل ويلبس ملابس الإحرام، ويحرم للحج، ويؤدي مناسكه. وفي مقابل هذا التمتع: يجب عليه أن يذبح هديًا، جبرًا لهذا التمتع عند قوم. أو شكرًا لله عليه عند آخرين حيث تقرَّبَ إلى الله بالعمرة، قبل أن يتقرب إليه بالحج، ويذبح هذا الهدى، إذا أحرم بالحج، ولا يأكل منه عند الشافعي، لأن التمتع عنده فيه تقصير، والهدى لجبر هذا التقصير، فلا يؤكل منه، وأجاز أبو حنيفة الأكل منه، لأنه دم شُكْرَانٍ على نعمة التمتع، فهو كالأضحية فله الأكل.

{فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِ ي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} : أي فمن لم يجد الذبيحة أو لم يجد ثمنها، فعليه أن يصوم ثلاثة أيام في موسم الحج بعد الإحرام به، وقبل التحلل منه، والأفضل أن يكون في سابع ذي الحجة وثامنة وتاسعة، ولا يجوز صوم يوم النحر.

وعند أبي حنيفة: أن معنى {في الْحَجّ} : في أشهر الحج فيصوم بين إحرامي الحج والعمرة، وعليه أيضًا أن يصوم سبعة أيام، إذا عاد إلى بلده - تلك عشرة كاملة.

وذكر جملتها بعد تفصيلها، لكيلا يتطرق الشك إلى عددها، بأن يُقال: إن الواو: بمعنى أو التي للتخيير كما في قولك: جالس الحسن وابن سيرين. أي أحدهما، وقول الشاعر:

كما الناس مجروم عليه وجارم

ص: 310

وهذا حكم خاص بمن لم يكن أهلوهم حاضري المسجد الحرام، وهم غير أهل مكة، أما أهل مكة وسكانها، فهم حاضروا المسجد الحرام، فليس عليهم فدية، لأنهم لا متعة لهم ولا قران، لإمكان أداء العمرة طول العام.

والشافعي على أن لهم تمتعًا وقرانًا، ومن تمتع منهم وقرن، كان عليه دم جُبْرَان كغيره فلا يأكل منه، كما تقدم.

{وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} :

ختم الآية بعد ذكر أحكامها بطلب التقوى، جريًا على النسق المطرد في آيات الأحكام السابقة.

وإذا كان ثواب الحج مغفرة من الله ورضوانًا، فإن العبث فيه، أو الإخلال بشعائره، مما يُستدعى عقاب الله - تعالى - فهو شديد العقاب لمن خالف مناسكه، فتجاوز حدود الله، وترك ما أُمر به وارتكب ما نهى عَنه.

{الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ (197)}

المفردات:

{رفَثَ} الرفثُ: الجماع أو الكلام الفاحش.

{فُسُوقَ} الفسوق: المعصية مطلقًا. أو هو مخالفة أوامر الحج وارتكاب نواهيه، كلبس المخيط والصيد وقص الشعر.

{جدَالَ} الجدال: المناقشة الحادة مع الرفقاء والخدم وغيرهم.

ص: 311

التفسير

197 -

{الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ

} الآية.

لما ذكر الحج والعمرة في قوله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} شرع يبين اختلافهما في الوقت، فذكر أن أشهر الحج أشهر معروفات، لا يشكلن على الناس، فلا يصح الحج في غيرها، وهي: شوال، وذو القعدة، وعشر ذي الحجة، ولا يصح عند الشافعية الإحرام به قبل أَشهره، ليتمه في أَشهره، ويصح مع الكراهة عند الحنفية. أما العمرة: فجميع العام وقت للإحرام بها وفعلها.

{فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} فمن ألزم نفسه في تلك الأشهر بالحج، فعليه أن يبتعد عن الرفث، وهو جماع النساء أو ذكره لهن، أو الكلام الفاحش مطلقًا، كما عليه أن يبتعد عن كل إثم يشوب عبادته، وأن يجتنب المجادلة لأَنها توغر صدور الرفقاء، والخدم وغيرهم، فإن الوقت وقت مودة وصفاءٍ وتسامح.

روى البخاري، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:"من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أُمه".

ثم حث على فعل الخير عقب النهى عن فعل الشر، وحض على استعمال الكلام الحسن مكان القبيح، والتزام البِرّ والتقوى مكان الفسوق، والتمسك بالوفاق والأخلاق الحميدة مكان الجدال، فقال:

{وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ} وما دام يعلمه فإنه سيجازيكم عليه، فلا تدخروا وسعًا في عمله.

{وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ} .

ذكر البخاري وأبو داود رضي الله عنهما: أن أهل اليمن كانوا يحجون، دون أن يتزودوا من الطعام، ويقولون: نحن المتوكلون، ويسألون الناس الطعام، فنزلت هذه الآية. ولكنها غير مقصورة عليهم، إذ العبرة - كما يقرر الفقهاءُ - بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.

فالمعنى: وتزودوا أيها المسافرون بالطعام، واتقوا طلبه من غيركم والإثقال عليهم بذلك، فإن خير الزاد اتقاء الإثقال على الناس وإبرامهم، أو تزودوا للمعاد بإتقاءِ المحظورات فإن خير الزاد اتقاؤُها، وخافوا عقابي، يا أصحاب العقول الراجحة.

ص: 312

{لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ (198)}

المفردات:

{جُنَاحٌ} الجناح: الإثم.

{فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ} : المراد به الرزق من تجارة أَو غيرها.

{أَفَضْتُمْ} : اندفعتم.

{الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ} مزدلفة - بين عرفات ومنى.

التفسير

198 -

{لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُوا فَضْلًا مِّن رَّ بِّكُمْ

} الآية.

قال ابن عباس - فيما روى البخاري -: كان ذو المجاز وعكاظ، متجرًا الناس في الجاهلية، فلما جاءَ الإسلام، كره المسلمون الجمع بين الحج والتجارة، حتى نزلت هذه الآية:{لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُوا فَضْلًا مِّن رَّبِّكُمْ} .

والمراد من كونهما متجر الناس في الجاهلية: أنهم كانوا يقيمون بهما أسواقًا للتجارة، في مواسم الحج، ليتعيشوا منها.

ومن المباديءِ الإسلامية المعروفة: أن الإسلام يعني بالأجسام، إلى جانب عنايته بالأرواح، ويعني بالتنمية المالية، إلى جانب عنايته بالشعائر الدينية، قال تعالى:

{فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ} (1).

(1) سورة الجمعة: 10.

ص: 313

فالسعي في سبيل الرزق عبادة، على ألا يشغل الحاج عن أداءِ المناسك على وجهها، لأَن أَداءَها هو الهدف الأَول والغاية العظمى. والمعنى: لا إثم عليكم في طلب الرزق أَثناءَ الحج.

{فَإِذَا أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ} .

الإفاضة من عرفات: هي الخروج منها بكثرة. ومعنى العبارة: فإذا اندفعتم من عرفات جموعًا عديدة فاذكروا الله. مأخوذ من أَفضتَ الماءَ: إذا صَبَبْتهُ بكثرة.

وعرفات: جبل قرب مكة يقف عليه الحجاج، معظمين ربهم وملبين، والوقوف به أهم أركان الحج، لأن الناس يذكرون فيه الحشر يوم القيامة حيث يكون الناس يومئذ عراة كما خلقهم الله، متساويين لا يعلو بعضهم على بعض بجاه أَو سلطان. وهو موطن التعارف بين المسلمين، من مشارق الأرض ومغاربها. ومكان التفاوض فيما فيه مصلحتهم.

والمقصود من الآية: أن الحجاج إذا خرجوا من عرفات - بعد الوقوف بها - متجهين إلى المزدلفة، فعليهم أن يذكروا الله عند المشعر الحرام، بالتلبية والتهليل والدعاء، وذلك في صبيحة مبيتهم بالمزدلفة.

فقد جاء في حديث مسلم عند جابر، قال:"فلم يزل واقفًا - يعني الرسول - بعرفة حتى إذا غربت الشمس، وذهبت الصفرة قليلًا، حتى غاب القرص - أَردف أُسامة خلفه، ودفع رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد شَنَقَ - أي ضم وضيَّق - للقصواء الزمام".

إلى أن قال: "حتى أتى المزدلفة، فصلى بها المغرب والعشاءَ، بأَذان واحد وإقامتين، ولم يسبح بينهما شيئًا، ثم اضطجع حتى طلع الفجر، فصلى الفجر حين تبين له الصبح، بأذان وإقامة، ثم ركب القصواءَ، حتى أَتى المشعر الحرام، فاستقبل القبلة، فدعا الله وكبره وهلله ووحده، فلم يزل واقفًا، حتى أَسفر جدًّا، فدفع قبل أَن تطلع الشمس".

{وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِن كُنتُم مِّن قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّاِلِّينَ} :

أي اذكروه ذكرًا حسنًا كما هداكم هداية حسنة فقد أخرجكم من الظلمات إلى النور وكنتم قبله في غمار الضلال. أو اذكروه كما علمكم كيف تذكرونه ولا تعدلوا عنه.

ص: 314

{ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (199)}

التفسير

199 -

{ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ

} الآية.

روى البخارى عن أُم المؤمنين عائشة - رضى الله عنها - قالت: "كانت قريش ومن دان دينها، يقفون بالمزدلفة، وكانوا يسمون الْحُمْس. وكان سائر العرب يقفون بعرفات، فلما جاءَ الإسلام، أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يأْتي عرفات، ثم يقف بها، ثم يفيض منها. فذلك قوله:{مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ} .

وكانت قريش تفعل هذا ترفعًا منهم عن بقية الناس، فأَنزل فيهم هذه الآية، فوقفوا بعرفات مع الحجاج، ثم أَفاضوا منها معهم، ثم إلى المزدلفة، ثم منى.

وحرف العطف: (ثُمَّ) للترتيب مع التراخي في الزمن. وهي هنا للإيذان بتفاوت ما بين الإفاضتين، كما في قولك: أحسن إلى الناس، ثم لا تحسن إلا إلى مستحق.

قال صاحب الكشاف: فإن قلت: فكيف موقع ثم؟ قلت: نحو موقعها في قولك: أحسن إلى الناس، ثم لا تحسن إلى غير كريم: لتوضيح التفاوت ما بين الإحسان إلى الكريم، والإحسان إلى غيره، وَبُعْدِ ما بينهما، فكذلك حين أمرهم بالذكر عند الإفاضة من عرفات، قال:{ثُمَّ أَفِيضُوا} لتفاوت ما بين الإفاضتين، وأَن إحداهما صواب والثانية خطأٌ.

{وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} : الخطاب عام للحجاج، ليفزعوا إلى الله مستغفرين، فيشملهم برحمته ومغفرته، بعد أن أدوا مناسكهم.

وقد يكون الخطاب لقريش، ليكَفِّرُوا بالاستغفار ما كان منهم من الاستعلاء، وكلاهما صالح. فالكل محتاج إلى مغفرة الله ورحمته.

ص: 315

{فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ (200) وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (201) أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (202)}

المفردات:

{مَنَاسِكَكُمْ} : عباداتكم. جمع نُسك: والمراد بها أفعال الحج.

{خَلَاق} : حظ ونصيب.

{وَقِنَا} : اجعل لنا وقاية.

التفسير

200 -

{فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا

} الآية.

كان العرب في الجاهلية يلهجون بعد الحج بذكر آبائهم وأَجدادهم وأيامهم، ويبالغون مبالغة تنتهي بالمنافرات. وهي الاحتكام إلى بعض الزعماء، ليحكم بتفضيل أحد المتنافرين على الآخر. وكثيرًا ما أَدت هذه المواقف إلى تخليدها في أَشعارهم رمزًا للعداءِ، وكثيرًا ما أَشعلت الحرب بينهم.

فلما جاءَ الإسلام أَدَّبهم وهذَّبهم، وصرفهم عن تلك الحماقات، وأَمرهم بالإكثار من ذكر الله، بأَن يكون مثل ذكرهم آباءَهُم الذين كانوا يبالغون في محامدهم، أَو أَشد ذكرًا، فهو وحده المستحق لجميع المحامد.

ص: 316

{فَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ رَ بَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَ ةِ مِنْ خَلَاقٍ} .

هذا تفضيل للذاكرين بتقسيمهم إلى مقل لا يطلب بذكر الله إلا الدنيا، ومكثر يطلب به خيري الدارين، والمراد به الحث على الانتظام في سلك الفريق الثاني. أَي وبعض الناس يحبون العاجلة ويذرون الآخرة، فإذا دَعَوُا الله قدموا دنياهم، وطلبوا كثرة الأَموال والأولاد والثمرات، والجاه العريض، وهؤلاء لا نصيب لهم في نعيم الآخرة، لأنهم لم يطلبوها، ولم يعلموا لها.

201 -

{وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَ ةِ حَسَنَةً

} الآية.

أي وهناك البعض الآخر: يجمعون في دعائهم بين الدنيا والآخرة، ويعملون لكلتيهما، ويطلبون الوقاية من عذاب النار. فالحسنة في الدنيا: المال، والجاه، والولد، والسلطان. والحسنة في الآخرة: الجنة ثوابًا لما قدموا من طاعة، ورضوان من الله أكبر. وذهب بعض المفسرين إلى تفسير الحسنة في الدنيا: بالزوجة الصالحة وفي الآخرة بالحور العين، وعذاب النار بالمرأة السوء.

ومنهم من فسرهما: بالعلم والعبادة في الدنيا، والجنة في الآخرة، وكلها أَمثلة للحسنات المطلوبة.

وقد ذكرت الآيتان من يطلب الدنيا وحدها، ومن يطلبها مع الآخرة، ولم تذكر من يطلب الآخرة وحدها، لأن الآخرة لا تُنال إلا عن طريق الدينا، فهي مزرعة الآخرة. وهي نعم المطية إلى الجنة، والضرب في مناكبها - طلبًا للرزق - عبادة، لأَن به حياة النفس وقوتها، والإعانة على الطاعة.

والمؤمن القوي أَحب إلى الله من المؤْمن الضعيف. ولهذا يرى بعض العلماء أن الغني الشاكر أفضل من الفقير الصابر {وَلكُلٍّ دَرَجَاتٌ ممَّا عَملُوا} (1).

{وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} : أي احفظنا من عذابها بالتوفيق للطاعة والتنفير من المعصية، ومغفرتها إذا وقعت.

(1) الأنعام: 132.

ص: 317

وهذه الآية من جوامع الدعاء.

فقد ورد في الصحيحين: عن أَنس رضي الله عنه: "كان أكثر دعوة يدعو بها النبي صلى الله عليه وسلم قوله تعالى: {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَ ةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} .

ومن المأثورات: الدعاءُ بها في ختام الصلوات.

202 -

{أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ} .

ذهب بعض المفسرين، إلى رجوع الإشارة في {أُولئِكَ} إلى المؤمنين الذين ينشدون الدنيا والآخرة. ويمكن أن ترجع إلى الطائفة الأُخرى أيضًا، وهي التي تنشد الدنيا وحدها، فلكل نفس ما كسبت وعليها ما اكتسبت. وهذا هو الأولى، على حد قوله تعالى:{مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ} (1).

والمعنى: أُولئك الذين يطلبون - في دعائهم وعملهم - الدنيا وحدها، أو الدنيا والآخرة لهم نصيب من جنس ما كسبوه، أو من أجله، والله سريع الحساب، فيحاسب العباد على كثرتهم وكثرة أعمالهم، في مقدار لمحة.

أو يوشك أن يقيم القيامة، ويحاسب الناس، فعليهم أن يبادروا إلى الطاعات، وأن يكثروا من الحسنات، وأن يجتنبوا الموبقات.

ص: 318

{وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (203)}

التفسير

203 -

{وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ

} الآية.

بعد أن أمر الله الحجيج - فيما سبق - أن يذكروه عند المشعر الحرام، بعد الإفاضة من عرفات، أمرهم - والمسلمين جميعًا - في هذه الآية الكريمة: بأن يُواصلوا ذكره - تعالى - في أيام معدودات، وهي: أيام التشريق الثلاثة (1)، التي تلي يوم النحر: عيد الأضحى. وليس يوم النحر منها. وتسمى: أيام منى أيضًا. فيدخل غي رالحاج - مع الحاج - في هذا الأمر: {وَاذْكُرُوا} .

والمقصود بالذكر في الآية الكريمة: هو التكبير والتهليل والتحميد والتسبيح، في: أدبار الصلوات، وعند رمي الجمرات، وعلى القرابين والهدايا.

{فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَن تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى} :

فمن تعجل الرحيل عن منى قبل غروب اليوم الثاني من أيام التشريق - بعد رمي الجمار، عند الشافعية، وقبل طلوع الفجر من اليوم الثالث إذا فرغ من رمي الجمار عند الحنفية ولم يمكث إلى ما بعد رمي الجمار في اليوم الثالث - فلا يأثم بهذا العجيل، ولا حرج عليه في ذلك ومن تأخر بمنى حتى رمي الجمار في اليوم الثالث، فلا إثم عليه في تأخره،

(1) التشريق: تقديد اللحم. ومنه سمى أيام منى: أيام التشريق، لأنهم كانوا يقددون لحوم الأضاحي فيها.

ص: 319

بل هو أفضل، لأنه التزم السنة.

وذكر نفي الإثم في التأخير - مع أنه السنة، مع ذكر نفي الإثم في التعجيل - للمجانسة مثل قوله تعالى:{وَمَكرُوا وَمَكَرَ اللهُ} (1)، وقوله تعالى:{وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا} (2).

والمقصود: التخيير بين التعجيل والتأخير.

ولا يقدح هذا التأخير في أفضلية الثاني على الأول.

وفي الكشاف: أن أهل الجاهلية كانوا فريقين: فريقًا جعل المتعجل آثمًا، وفريقًا جعل المتأخر آثمًا، فجاء القرآن ينفي الماثم عنهما جميعًا.

{لِمَن اتَّقَى} :

أي ذلك التخيير لمن اتقى الله في حجه. وتخصيص التخيير به: إما لأَنه هو الحاج - على الحقيقة - والمنتفع بحجه دون سواه، على حد قوله تعالى:{ذَلِكَ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ} (3). وإما لأن المتقى دائمًا حذِرٌ متحرزٌ عن كل ما يريبه. فإذا كان التخيير بين التعجيل والتأخير لا إثم فيه لمن اتقى - فغيره أولى.

وبذلك تقرر: أن التخيير بينهما، وإباحة كل منهما لكل حاج - لا ينبغي أن يكون موضع تحرج أو تشكك. ثم ختمت الأية بقوله تعالى:

{وَاتَّقُوا الله} : كما ختمت آيات الأحكام السابقة بالتذكير بتقوى الله تعالى.

والمعنى: واتقوا الله في جميع أعمال الحج، بأَدائها كما أمر الله، واجتناب ما حرم الله.

وفي البخاري: "من حجَّ ولم يرفُثْ ولم يفسُقْ، رجع كيوم ولدته أُمُّه".

فعلى الحاج أن يذكر هذا، فيحرص على مواصلة تقوى الله وعبادته، وليظل طاهرًا نقيًا كيوم ولدته أُمه.

{وَاعْلَمُوآ أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} :

أي: واعلموا أَنكم إليه - وحده - تجمعون للحساب والجزاءِ يوم القيامة، على ما عملتهم:

خيرًا كان أم شرًا، فاحذروه ولا تخالفوا أمره.

(1) آل عمران: من الآية 54

(2)

الشورى: من الآية 40

(3)

الروم: من الآية 38.

ص: 320

{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ (204) وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ (205) وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ (206)}

المفردات:

{أَلَدُّ الْخِصَامِ} : أشد العداء.

{توَلَّّى} : انصرف، أو وَلى الحكم.

{الْحَرْثَ} : الزرع أَو النساء.

{النَّسْل} : الذرية.

{العزَّة} : الكبرياء.

{الْمِهاد} : الفراش الموطأُ.

التفسير

204 -

{وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ} :

قسَّم الله سبحانه وتعالى فيما سبق - إلى فريقين: فريق يطلب الدنيا - وحدها - ولا يعمل لآخرته حسابًا، وفريق يرجو فضل الله في الدنيا وثوابه في الآخرة. وقد وضح لنا - سبحانه - وصف كل فريق منهما، في هذه الآية وما تلاها.

ففي هذه الآية، بيَّن الله أَنَّ: الفريق الأول: تعمق في النفاق، وأتقن صناعة التمويه والغش، وبراعة التعبير، واتخذ من هذا وسيلة له في الحياة الدنيا. فهو يعجب الناس بحديثه، ويبهرهم بقوله.

ص: 321

وقوله: {فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} متعلق بالفعل: {يُعْجِبُ} أَي يعجبك - في الحياة الدنيا - قوله بفصاحته وحلاوته، فتنخدع بذلك وتعتقد فيه الصدق. أما في الآخرة فلا يستطيع التمويه والتضليل، إذ يظهر كذبه ويفضحه باطل دعواه.

ويجوز تعلقه بلفظ: {قَوْلُهُ} أي يعجبك ما يقوله في أُمور الدنيا وأَسباب المعاش، سواءٌ أَكانت عائدة إليه أَم لا.

فالمراد من {الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} : ما به الحياة والتعيش.

أو يعجبك قوله في الدنيا وأنها فانية، وأنه ينبغي اتخاذها سفينة للآخرة:

بادخار الإيمان والعمل الصالح فيها.

وهذا المنافق، لا يكتفي بأَن يخدع الناس ويستولى على إعجاب المسلمين ببراعة حديثه، بل يفعل هذا.

{وَيُشْهِدُ اللهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ} :

بأَن يدعي أن قلبه موافق لما نطق به لسانه، ويشهد الله على ذلك، مع أن ما في قلبه - الذي يشهد الله عليه - ليس إلا الحقد والعداوةُ للإسلام والمسلمين.

{وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ} :

أي وهو شديد في خصومته للرسول وأصحابه، كاذب فيما يتظاهر به من حب وولاءٍ. وهو - بذلك النفاق - أَبغض الناس إلى الله.

ففي حديث مسلم، عن النبي صلى الله عليه وسلم "إن أبغضَ الرجالِ إلى الله الأَلَد الخصم".

وذكر السدي: أن هذه الآية - وما تلاها - نزلت في الأخنس بن شريق الثقفي، حينما جاءَ إلى الرسول صلى الله عليه وسلم في المدينة، وأظهر له الإسلام، وقال: إنما جئت أُريد الإسلام. والله يعلم إني لصادق فيما أقول. وكان حلو الحديث. فأعجب النبي منه ذلك، فلما خرج من عنده، مرَّ بزرع لبعض المسلمين وحُمُرٍ، فأَحرق الزرع وعقر الحمر.

ص: 322

وذكر ابن عباس: أنها نزلت في نفر من المنافقين: تكلموا في شهداء الصحابة فعابوهم.

والآية عامة في المنافقين، وإن وردت بسبب خاص.

فيدخل في المراد من هذه الآية: أُولئك الذين يتظاهرون بالدعوة إلى الإصلاح، ويستعملون أساليبهم الزائفة، وعباراتهم البراقة في خداع الناس لكسب ثقتهم، والاطمئنان إليهم، حتى يستطيعوا - عن طريق هذه الثقة - محاربة الدين، وهم يلبسون ثوب الإصلاح.

205 -

{وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ

} الآية.

أي: وإذا أدبر ورجع بعد ما بث نفاقه، ونفث سمه، وظن أنه نجح، واكتسب ثقة الناس - سعى في الأرض لينشر فيها الفساد جهد طاقته، ويهلك الزرع والذرية: بالإتلاف والقتل، كما فعل الأخنس الذميم، إذ كان يُظهر الإيمان والحب للرسول بكلام معسول، ثم يتولى، فيحرق الزرع، ويتلف الأموال.

ويرى بعض المفسرين: أن المقصود بقوله تعالى: {وَإِذَا تَوَلَّى} : إذا ولِيَ الحكم، وأخذ بيده مقاليد السلطان.

ويصبح معنى الآية الكرمية على هذا: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} ببيانه الساحر، وادعائه الإصلاح بين المسلمين وحرصه على مصلحة الأُمة - توصلًا إلى الحكم، فإذا ولي هذا الحكم، وتمكن سلطانه بسببه - فعل بالناس ما يفعله ولاة السوء، وظهر من أمره ما كان يخفيه، فسعى في الأرض - بحيلته وتدبيره - ليفسد فيها بما يشاءُ من أَلوان الفساد: فيهلك الحرث، ويسفك الدماء، ويهدد الحريات، وينشر الشرور والمنازعات بين الأُمة، ويضرب بعضها ببعض: باصطناع الأعوان، وتقريب الأنصار، ليبسط بهم سلطانه على الناس، ويحتفظ بزعامته عليهم. على حد قوله تعالى:{فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ} (1).

(1) محمد: 22.

ص: 323

{وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ} :

أي: لا يرضى الله سبحانه وتعالى بالفساد ولا يقره، بل يعاقب عليه في الدنيا والآخرة، فاحذروه وخافوه.

206 -

{وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ

} الآية.

المعنى: وإذا نصحه الناصحون: باتقاء عقاب الله تعالى في أفعاله وأقواله، وفي عدم استغلال ذكائه وعلمه وبلاغته في التضليل والإفساد - أخذته الأنفة والكبرياءُ بما يوجب الإثم والتوغل فيه، فلجَّ في الضلال والعناد، لأَنه يرى نفسه فوق نصيحة الناصحين، ونقد الناقدين.

فهو في زمرة من قال الله - تعالى - فيهم "وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ. أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِن لَّا يَشْعُرُونَ} (1).

والباءُ في قوله: {بِالْإِثْمِ} على هذا، للسببية، يعني أن إثمه الماضي، كان سببا لأَخذ العزة له، واستيلاء الكبرياء عليه، مع وضوح الحق، وتنبيه الناصحين له، ولهذا قال سبحانه:

{فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ} :

أي مهما أحرز من جاه وأموال، فكل هذا إلى زوال. ويكفيه ما سيحل به من عذاب، في نار جهنم يوم القيامة، فإن جهنم ستكون له فراشًا ممهدًا.

وإذا كان المهاد هو الفراش الممهد، ليستريح عليه الراقد، فاستعماله في جهنم للتهكم بمن يحُلُّ بها.

وجملة {وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ} : جواب قسم مقدر على معنى، والله لبئس المهاد:{جَهَنَّم} .

قال بعض المفسرين: هذه الآية: تدل على أن من أكبر الذنوب عند الله: أن يجيب العبد من يقول له: اتق الله: فيقول له - معرضًا عن النصيحة - عليك نفسك.

(1) البقرة: 11، 12.

ص: 324

وذكر القرطبي: أن يهوديًا طال وقوفه على باب الرشيد لحاجة له، فلما رآه خارجًا، قال له: اتق الله يا أمير المؤمنين، فنزل عن دابته، وخر ساجدًا لله، ثم أمر بقضاءِ حاجته. فسأله خاصته في ذلك، فقال: تذكرت قوله تعالى:

{وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ

} الآية.

{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ (207)}

المفردات:

{يَشْرِي نَفْسَهُ} : شرى، من الأضداد، كذا في الصحاح، والمراد من شرائها هنا: بيعها، ومنه قوله تعالى:{وَشَرَوْهُ بِثَمنٍ بَخْسٍ} (1) أَي باعوه.

التفسير

207 -

{وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِ ي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ

} الآية.

هذه هي الطائفة الثانية، المقابلة للطائفة التي حكيت أحوالها المذمومة، فيما مضى من الآيات. أي ومن الناس مؤمنون صادقون، طهَّرت نفوسهم تقوى الله، وبرئوا من النفاق، وزكت أعمالهم، فلم يستجيبوا للأَهواء والشهوات، وإنما باعوا أنفسهم - وهي أعز ما يملكه الإنسان - طلبًا لمرضاة الله، إذ بذلوها في ميادين الجهاد، وحملوها أقسى أنواع المشقات في طاعة الله، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، موقنين أن كل ما في الحياة - من جاه ومال وسلطان - متاع قليل، وأن الآخرة خير لمن اتقى.

وقد صور التعبير القرآني مَنْ بَذَلَ نفسه لله، بصورة من باع نفسه له - تعالى - بثمن هو مرضاته وثوابه، فقبل الله هذا البيع، وأعطاه الثواب الدائم، مع أن ما بذله لله من نفسه وماله، ملك له تعالى. ولذا ختم الآية بقوله:{وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ} حيث أرشدهم لما فيه رضاه، وجعل النعيم الدائم جزاء العمل الصالح، على شراءِ ملكه بملكه.

وأكثر الروايات أن هذه الآية نزلت في صهيب الرومي رضى الله عنه.

(1) يوسف: 20

ص: 325

فقد أخرج جماعة: أن صهيبًا أقبل مهاجرًا نحو النبي صلى الله عليه وسلم فاتبعه نفر من المشركين، فنزل عن راحلته نثر ما في كنانته، وأخذ قوسه ثم قال: يا معشر قريش، لقد علمتم أني من أرماكم رجلًا، وأيم الله، لا تصلون إليَّ حتى أَرمِيَ بما في كنانتي ثم أضربَ بسيفي ما بقي في يدي منه شيءٌ، ثم افعلوا ما شئتم، فقالوا دلنا على بيتك ومَالِكَ بمكة، ونخلي عنك، وعاهدوه إن دلهم أن يدعوه، ففعل. فلما قدم على النبي صلى الله عليه وسلم قال "أبا يحيى، ربحَ البيع" وتلا عليه الآية.

وعلى هذا يكون الشراءُ - على ظاهره - بمعنى الاشتراء.

وفي رواية سعيد بن المسيب رضي الله عنه: أن الذي قال له ذلك، هو أبو بكر الصديق، رضي الله عنه.

وأيًّا كان، فالعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.

ولذا أحسن من قال: إن الآية نزلت في كل من أمر بالمعروف، ونهى عن المنكر، وعرّض نفسه للهلاك.

وهذه الآية من قبيل قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (1).

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (208) فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (209)}

المفردات:

{السِّلْمِ} : المسالمة، أو الإسلام. وهو: الإنقياد والتسليم.

{كَافَّةً} : جميعًا. {زَلَلْتُمْ} الزلل: الانحراف والسقوط.

(1) التوبة: 111

ص: 326

التفسير

208 -

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً

} الآية.

يرى ابن عباس أن الخطاب هنا لمن أسلم من اليهود.

فقد ذكر: أن الآية، نزلت في عبد الله بن سلام - من أحبار اليهود - وأصحابه الذين آمنوا معه.

وذلك أنهم حين آمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم وآمنوا بشرائعه وشرائع موسى عليه السلام: فعظموا يوم السبت، وكرهوا لحمان الإبل ألبانها بعد ما أسلموا.

فأنكر ذلك عليهم المسلمون، فقالوا: إنا نقوى على هذا وهذا، وقالوا للنبي صلى الله عليه وسلم إن التوراة كتاب الله، فدعنا لنعمل بها، فأنزل الله تعالى هذه الآية.

وعلى هذا، فالسلم بمعنى الإسلام، أي: ادخلوا مع المسلمين في شريعتهم، مجتمعين معهم، ولا تفترقوا عنهم، بالأخذ بما نسخه القرآن من التوراة.

وقيل: الخطاب لأهل الكتاب الذين آمنوا بكتابهم، وكفروا بالقرآن.

والمعنى عليه: يا أيها الذين زعموا الإيمان بشريعتهم: ادخلوا في الإسلام جميعًا، فليس إيمانكم - بما في كتابكم وحده - بنافعكم.

وقيل: الخطاب للمنافقين. والسلم - على هذا - بمعنى الاستسلام والطعاة القلبية.

والمعنى: يا أيها الذين آمنوا بألسنتهم ولم تُؤمن قلوبهم: ادخلوا في الاستسلام، والطاعة القلبية كافة، واتركوا النفاق.

وقيل: الخطاب للمؤمنين المخلصين.

والمعنى عليه: يا أيها الذين آمنوا بقلوبهم، ادخلوا في شُعَب الإسلام كلها، ولا تُخِلُّوا بشيء من أحكامه.

وقال الزجاج في هذا الوجه: المقصود: أمر المؤمنين بالثبات على الإسلام. ويجوز أن يكون المعنى على هذا: يا أيها المؤمنون المخلصون، ادخلوا في المسالمة جميعًا، ولا تشتغلوا فيما بينكم بالجدل والخلاف المذهبي، حتى لا تتفرقوا إلى شيع وأحزاب: يقتل بعضكم بعضًا.

ص: 327

{وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ} :

أي لا تنقادُوا لوساوس الشيطان، ولا تستجيبوا له إن دعاكم لعصيان مولاكم.

{إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ} :

فلا يُؤْمنُ جانبه، فاحذروه فإنه يُحَذِّرُ من البر خوف الفقر، ويأمر بالفحشاءِ والمنكر. قال تعالى:{الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَامُرُكُم بِالْفَحْشَاءِ} (1) البقرة.

ولما كان من أساليب الشيطان وحيله، أن يدعوكم إلى المنكر والفحشاء، بالتدريج من شر إلى ما هو شر منه، فلهذا قال:{وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ} فقد جعل أتباعه من وساوسه - مرة بعد أُخرى - بمنزلة اتباعه في خطواته، خطوة بعد أُخرى.

وعداوة الشيطان للإنسان قديمة، منذ أن خلق الله آدم عليه السلام.

فمن العقل ألا تتخذ عدوك صديقًا.

قال تعالى: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} (2).

هذا، وقد ورد النهي عن تتبع خطوات الشيطان - بعد الأمر بالدخول في السلم كافة - ليؤكد الاستمساك بالإسلام استمساكًا قويًا، فإن من يتبع خطواته، لا يدخل في الإسلام دخولًا عميقًا، ولا يستمسك به استمساكًا قويًا، ولا يذوق حلاوته.

209 -

{فَإِن زَلَلْتُم مِّن بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} :

أي: فإن انصرفتم عن شرائع الإسلام، وانغمستم في الشقاق والخلاف، وتكبرتم عن الإذعان والتسليم لدين الله، من بعد ظهور الحجج الواضحة، الدالة على أنه من عند الله - تعالى - فاعلموا أن الله {عَزِيزٌ}: غالب على أمره، لا يمنعه شيٌ عن عقابكم، {حَكِيمٌ}: لا يترك ما تقتضيه الحكمة من مؤاخذة المجرمين.

وحسبكم هذا وعيدًا للمارقين.

(1) البقرة: 268

(2)

فاطر: 6

ص: 328

{هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (210)}

المفردات:

{يَنظُرُونَ} : ينتظرون.

{أَن يَاتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ} : الظلل، جمع ظلة. وهي ما يحجب ضوء الشمس من سحاب أو غيره. والمراد من إتيان الله لهم في ظلل: إتيان بأسه وعذابه. ففي الكلام مضاف مقدر.

{الْغَمَام} : السحاب مطلقًا، أو الأبيض منه.

التفسير

210 -

{هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَن يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ

} الآية.

الاستفهام هنا، إنكاري. بمعنى النفي.

والمعنى: ما ينتظر هؤلاء الذين ينصرفون عن الدخول في السلم - من بعد ما جاءتهم البينات الواضحات - إلا أن يأتيهم عذاب الله، في ظلل من السحاب الأبيض: يحسبونه رحمة، وهو عليهم نقمة، فيكونُ أَشدَّ وقعا على نفوسهم!!

ونظير هذا قوله تعالى في هلاك قوم عاد: {فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ. تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ} (1).

ثم قال تعالى: {وَالْمَلَائِكَةُ} : أَي وهل ينتظرون كذلك، إلا أن تأتيهم ملائكة العذاب، الموكلة بإهلاك الضالين المنحرفين، فإنهم وسائط في إتيان أمر الله عز وجل.

(1) الأحقاف: 24، 25

ص: 329

وجملة: {وَقُضِيَ الْأَمْرُ} جملة حالية، أي هل ينتظرون إلا أن يأتيهم العذاب والملائكة والحال أنه قد قضي أمر هلاكهم وتدميرهم، فلا يمكن رده؟

وقيل: الجملة معطوفة على {يَأْتِيَهُمُ} داخل في حيز الانتظار، بمعنى: وهل ينتظرون إلا أن يقضي الأمر بهلاكهم؟

وإنما عبر بالماضي {وَقُضِيَ} ليشير إلى جدية الإنذار، فكأنه وقع، لأن وعيد الله لا يتخلف.

والآية تهديد ووعيد لمن ينصرفون عن الدخول في الإسلام، ويعطلون مسيرته عن أن تبلغ مداها.

{وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ} :

أي أن مردَّ الأمور - كلها - إليه تعالى وحده. فما شاء فعل .. فمن لا يدخلون في الإسلام، فلا يستعصى إهلاكهم على الله، الذي ينتهي إليه كل شيءٍ.

وفي هذا، إنذار بليغ بعد التهديد السابق. وفيه تنبيه للغافلين الضالين، إلى أن مرجعهم في الآخرة، إلى الله وحده.

{سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (211) زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (212)}

المفردات:

{آيَةٍ بَيِّنَةٍ} : حجة واضحة.

{يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللهِ} : يغيرها بالكفر بها، بدل الإيمان بها، والشكر عليها.

ص: 330

{مِن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُ} : من بعد ما عرفها.

{زُيِّنَ} : حُسِّنَ في أعينهم.

{بِغَيْرِ حِسَابٍ} : يرزقهم الله رزقًا واسعًا لا حساب فيه، أو لا يُقْدَرُ على حسابه وضبطه لكثرته.

التفسير

211 -

{سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُم مِّنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ

} الآية.

أمر الله نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم أن يسأل اليهود هذا السؤال، تبكيتًا لهم وتأنيبًا، وإقامة للحجة عليهم. وهذا السؤال لا يحتمل إلا جوابًا واحدًا هو: الإقرار بأن الله آتاهم نصوصًا عديدة، في الأحكام والبشارة بمحمد، بينةً واضحة في الدلالة على مقاصدها، ووجوب العمل بها، وحججًا باهرة على يد موسى وسائر أنبيائهم. ولكنهم لم يعملوا بمقتضاها فقتلوا فريقًا من أنبيائهم، وكذبوا فريقًا، وجحدوا الأدلة الواضحة، وغيروا الكتب المنزلة، وجعلوها قراطيس يبدونها ويخفون كثيرًا، طلبًا للرياسة، وحبًّا لأغراض الدنيا الفانية.

ثم يبين عاقبة ذلك فقال:

{وَمَن يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} :

هذا حكم عام، بمؤاخذة من يُغَيِّر آيات الله، التي هي من أَجَلِّ نعمه تعالى على المُغَيّر، بعد معرفته أنها آياته وأنعمه، فيستبدل الكفر بالإيمان، والجحود بالشكر، ويتناول الآيات الواضحة، بالتحريف والتبديل، تبعًا لهواه. فإنه يعاقبه عقابًا شديدًا.

{فإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} : لكل من ضلوا بعد ما جاءَتهم البينات، وبدلوا نعمة الله كفرًا.

ص: 331

وعبر بقوله: {مِن بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ} مع أنها مفهومة من السياق - فالتبديل المعاقب عليه لا يكون إلا بعد الإتيان بها ومعرفتها - لإبراز بشاعة جريمة التبديل للنعم، بعد المعرفة اليقينية بصلاحها للمجتمع، ونفعها له. وذلك أبشع ألوان الضلال. ولهذا استحق مرتكبوه أشد أنواع العقاب.

212 -

{زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا

} الآية.

هذه الآية، تعليل للآية السابقة، فإن الذي دعاهم إلى تبديل نعمة الله كفرًا، ومقابلتها بالجحود - هو تعلقهم بزنية الحياة الدنيا الكاذبة، ومظاهرها الخادعة، واستجابتهم لشهوات نفوسهم، وحرصهم على حب الرياسة، وجمع الأموال. وفاتهم أن الآخرة خير لمن اتقى، وأن الباقيات الصالحات: خير عند الله ثوابًا، وخير مردّا.

والمعنى: جعلت الحياة الدنيا حسنة في قلوب الذين كفروا، فتهافتوا عليها تهافت الفراش على النار، وأعرضوا عن الإيمان بالله واليوم الآخر.

وفاعل التزيين - هو الله تعالى، لأنه خلق جمالًا كثيرًا، وزينة حسنة في دنيانا.

وما زين الله الدنيا، إلا ليختبر بها عباده، فاغتر بها الجاهلون، فكفروا أو استمروا على كفرهم، وأعرض عن مفاتنها ذوو الألباب، فاسيقنوا وآمنوا، أو ازدادوا إيمانًا على إيمانهم.

قال تعالى: (إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْ ضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا (1)}.

ويجوز أن يكون التزيين من الشيطان، إذ يوسوس لهم الإخلاد إليها، وترك العمل للآخرة. على حد قوله تعالى:

(1) الكهف: 7

ص: 332

{لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} (1):

ويجوز أن يكون التزيين - فعل قرناءِ السوءِ من شياطين الإنس - لقوله تعالى:

{وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُم مَّا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ} (2).

وبالجملة: فدواعي الفتن عديدة. نسأل الله السلامة.

{وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا} :

أي: يجمعون - مع الافتتان بالدنيا - استهزاءهم بالمؤمنين، لإيمانهم بالله، وإقامتهم على طاعته.

{وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} :

أي والذين يخافون الله ويحذرون عقابه، يكونون - يوم القيامة - فوق الذين كفروا منزلة ومكانة عند الله، لأنهم لم تلههم الدنيا - وإن وُضِعَتْ بكل ما فيها من زخرف ومتاع بين أيديهم - عن طاعة الله.

ثم يختم الله تعالى الآية بقوله:

{وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} :

أي والله يعطي من يشاء إعطاءَه بغير تقتير، فيعطي الدنيا من يحب ومن لا يحب، ولا يعطي الآخرة إلا من يحب.

هذا والآية عامة في جميع الكافرين، ويدخل فيهم اليهود دخولًا أوليًا.

(1) الحجر: 39

(2)

فصلت: 25

ص: 333

{كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (213)}

المفردات:

{أُمَّةً} : جماعة من الناس، أمرهم ومقصدهم واحد. مأخوذة من: أَمَّه أي قصده.

{مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ} : واعدين المتقين بالجنة، ومخوفين الكافرين من النار.

{البَيِّنَاتُ} : الأدلة المقنعة الظاهرة.

{بَغْيًا} : ظلمًا وعدونًا.

التفسير

213 -

{كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ

} الآية.

هذه الآية تحتمل عدة معان، منها:

أن الناس كانوا مجتمعين على دين واحد، في عهد آدم عليه السلام، حيث نشأ أولاده على دين أبيهم آدم - وهو قائم على توحيد الله وعبادته.

ومنها: أنهم كانوا على فطرة واحدة، فطر الله الناس عليها، وهي فطرة الإيمان بالخالق - سبحانه - فهو أمر فطري: يُحِسُّهُ الإنسان، ويدركه بفطرته، إذا تجردت نفسه عمن يصرفها عن الحق إلى الباطل.

ص: 334

وعلى هذين المفهومين، يكون معنى الآية: كان الناس على العقيدة الحقة: التي فطر الله الناس عليها، فأغواهم الشيطان فكفروا، فبعث الله النبيين، مبشرين من آمن بحسن الثواب، ومنذرين من كفر بشديد العقاب.

ومنها: أن الناس كانوا - قبل إرسال الرسل - على دين واحد، هو الكفر، بسبب إغواء الشيطان لهم، وصدهم عن سواء السبيل، فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين، رحمةً بهم، وإرشادًا لهم، لعلهم يهتدون، إلى ما فيه سعادتهم في دنياهم وأُخراهم.

وقد جاء في عدد الأنبياء والمرسلين، ما أخرجه أحمد وابن حبان عن أبي ذر أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم: كم الأنبياء؟ قال: "مائةُ ألف واربعةٌ وعشرون ألفًا".

قلت: يا رسول الله، كم الرسل؟ قال: ثلاثة مائة وثلاثَةَ عَشَرَ: جم غفير".

{وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ} :

أي وأنزل معهم الكتب السماوية التي توضح لهم العبادات، وشرائع المعاملات، طبقًا للحق والعدل.

فإذا حادوا عن سواء السبيل، عادوا إلى هذه الكتب السماوية: يحتكمون إليها، فتردهم إلى الصواب.

ثم بين من اختلفوا في دين الله وبدلوا كتبه، فقال:

{وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ} :

أي: وما اختلف في الحق، أو في الكتاب المنزل، إلا الذين أُتوه من أرباب العلم والدراسة، بعد ما جاءَتهم الحجج الواضحات على وجوب الأخذ به، وعدم الاختلاف فيه.

وكان اختلافهم هذا: بغيًا بينهم، أي ظلمًا أو حسدًا حاصلًا بينهم، ونسوا - أو تناسوا - حظًا مما ذُكِّروا به، وبدّلوا نعمة الله كفرًا. فأصبحوا مصدرًا لإضلال الناس - وهم يعلمون - بدلًا من أن يكونوا لهم هداة مرشدين.

وهكذا عكسوا الأَمر، فجعلوا ما أنزله الله مُزيلًا للاختلاف - سببًا لبقائه ورسوخه.

{فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ} :

ص: 335

أي: فهدى الله الذين آمنوا وصدقوا بقلوبهم - في كل الأديان - للحق الذي اختلف فيه هؤلاء المختلفون، وأعرضوا عن خلافهم، ولم يعبأوا بهم، وأقاموا على طاعة مولاهم.

وقيل: المراد من {الَّذِينَ آمَنُوا} أُمة محمد صلى الله عليه وسلم: هداهم الله لما اختلف فيه أهل الكتاب من الحق، بإذنه تعالى وتيسيره، فعرفوه.

ومن ذلك: هدايتهم إلى تنزيهه - تعالى - عن الصاحبة والولد، وأن إبراهيم عليه السلام كان حنيفًا مسلمًا، وما كان يهوديًا ولا نصرانيًا ولا مشركًا، وأن مريم سيدة شريفة، وليست كما وصفها اليهود، وأن عيسى رسول الله، خلافًا لما زعم اليهود من نفي رسالته، ولما زعم النصارى من أنه ابن الله .. إلى غير ذلك.

وفي هذا يقول الله تعالى: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} (1).

وإذا كان المسلمون اليوم، قد تفرقوا كما تفرقت الأُمم السابقة، وانقسموا إلى طوائف ومذاهب: بعضها يخالف الحق، فإن الله يقيض لهذا الدين - دائمًا - من يظهر الحق وينصره، ويزهق الباطل ويخذله، استنادًا إلى كتاب الله - تعالى - المحفوظ بعنايته من التحريف والتبديل.

وروى ابن ماجة، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم:"لا تزال طائفةٌ من أُمتي قوّامةً على أمر الله لا يَضُرُّها مَنْ خالفها".

ورى الحاكم عن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم: "لاتزال طائفة من أُمتي ظاهرين على الحق حتى تقومَ الساعة".

فالله اللطيف بعباده: يرسل إليهم الرسل، ويُنْزِل عليهم الكتب السماوية، ويمدهم بالعلماء العاملين المرشدين المصلحين، ليردوا الطوائف الضالة إلى الصواب، وليُظْهِرُوا زَيْفَ الباطل، وليقوِّموا ما حرَّفه المضلون، من آيات الله البينات. ولذا قال الله تعالى في ختام الآية:{وَاللَّهُ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} .

(1) النمل: 76

ص: 336

{أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ (214)}

المفردات:

{أَمْ} : تأتي بمعنى بل وهمزة الاستفهام. ويرى أبو عبيدة: أنها للاستفهام وحده.

{حَسِبْتُمْ} : ظننتم.

{خَلَوْا} : مضَوا.

{الْبَأْسَاءُ} : الفقر، أو الحرب، أو الشدة.

{الضَّرَّاءُ} : المرض، أو الضيق، أو الضرر مطلقًا.

{زُلْزِلُوا} : الزلزلة: الحركة الشديدة. والمراد هنا: إصابتهم بالاضطراب النفسي، الذي يهزُّ النفس هزًّا عنيفًا ويزعجها.

التفسير

214 -

{أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَاتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُم

} الآية.

الربط:

لما بين الله - في الآية السابقة -: هدى الأُمة المحمدية، لما اختلف فيه أهل الكتاب - أتبع ذلك، حث المؤمنين على الصبر، وتحمل الأذى ممن يخالفونهم، كما كان يفعل المؤمنون من قبلهم.

ص: 337

سبب النزول:

نزلت هذه الآية في غزوة الخندق، حين أصاب المسلمين ما أصابهم، وبلغت القلوب الحناجر.

وقيل: نزلت في غزوة أحد، لَمَّا قُتِل من المسلمين عددٌ كبير.

وقال عطاء: لما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه المدينة، اشتد الضر عليهم، لأنهم خرجوا بغير مال، وتركوا ديارهم وأموالهم بيد المشركين، وآثروا رضا الله ورسوله صلى الله عليه وسلم وأظهرت اليهود العداوة لرسول الله، وأَسَرَّ قوم من الأغنياء النفاق، فأَنزل الله هذه الآية، تطييبًا لنفوس المؤمنين.

وكيف كان سبب النزول، فالمقصود من الآية هو: حث المؤمنين على التحمل والصبر، حينما يمتحنون بالشدائد، في سبيل دينهم. فلا يَعْبَأُون بما ينالهم - في أنفسهم وأموالهم - من الأذى، فإن الله عنده خير العوض.

والمراد بمثل الذين خلوا من قبلهم: ما نالهم من الشدائد والمحن في سبيل دينهم.

وفي ذلك روى البخاري وغيره: عن خَباب بن الأرت، قال:

شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متوسِّد بردةً في ظل الكعبة - ما لقينا من المشركين فقال: "إنَّ مَنْ كان قبلكم: كان أَحَدُهم يُوضَعُ المنشارُ على مَفْرِقِ رأسه، فيخلُصُ إلى قدميه: لا يصرفهُ ذلك عن دينه، ويُمشطُ بأمشاط الحديد ما بين لحمِهِ وعظمه: لا يصرفه ذلك عن دينه. ثم قال: "والله، لَيتِمَّنَّ هذا الأمرُ، حتى يسيرَ الراكبُ من صنعاءَ إلى حضر موتَ: لا يخاف إلا الله، والذئب على غنمه. ولكنكم تستعجلون".

وأَداة الجزم {لَمَّا} تدل على نفي الماضي مع ترقب وقوعه في المستقبل، وهذا ليوطِّن المؤمنون أنفسهم، على احتمال ما ينتظرون أن يقاسوه من أهوال.

ومعنى الجملة على هذا: بل أَظننتم أنكم - لمجرد إيمانكم - تدخلون الجنة، دون أن تتعرضوا للمشقة والابتلاءِ، كما تعرض المؤمنون الأتقياء من الأُمم السابقة؟

ص: 338

قال تعالى: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ {(2)} وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} (1).

وقد أوضح الله ما نال المؤمنين الصادقين - في الأُمم السابقة - من المحن، حتى يتأسى بها المسلمون، فقال:{مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ} ؟

والجملة هنا، كالجواب عن سؤال مقدر هو: ماذا أصاب الذين كانوا من قبل من شدائد وأهوال؟ فكان الجواب: {مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ

} أي أصابتهم الشدائد والأهوال، وتعرضوا لفظائع الحروب الظاهرة والخفية، واهتز كيانهم اهتزازًا عنيفًا، حتى كاد اليأس يسيطر علي نفوسهم، وحتى تطلَّع الرسول والمؤمنون معه - من هول ما قاسوه - إلى الله، استعجالًا لنصره. فهم لا يَشُكُّون في تحقيق وعده، ولكنهم يتعجلون حدوثه.

والرسول هنا: للجنس، لأن كل رسول جاهد في سبيل الله، هو والمؤمنون به، وتعرضوا للشدائد والأهوال، فلجأُوا إلى الله - تعالى - يطلبون نصره الذي وعده عباده المؤمنين.

والتعبير بصيغة المضارع: "يَقُول" بدلًا من الماضي "قال" لأن هذا كان يتكرر من جميع الرسل والذين آمنوا معهم، ولاستحضار هذه الصورة، ليتأسى بها المسلمون.

{َلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} :

أي: فقيل لهم طمأَنة لنفوسهم، وتطييبًا لقلوبهم، وإسعافًا لهم بمرامهم {أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} .

وإيثار الجملة الاسمية على الجملة الفعلية المناسبة لما قبلها، وتصديرها بحرف التنبيه، وتأكيد مضمون الوعد بإِنَّ لتأكيد تحقق مضمونه.

(1) العنكبوت: 2،3

ص: 339

{يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (215)}

المفردات:

{والْمَسَاكِين} : هم من لا يجدون كفايتهم ولو مع العمل، قال تعالى:{أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ} (1).

{وَابْنِ السَّبِيلِ} : الغريب المنقطع عن وطنه، ولا مال معه. ويمكن إطلاقه على اللاجيء أو المهاجر، ولا مال يكفيه.

التفسير

215 -

{يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ مَا أَنفَقْتُم مِّنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ

} الآية.

بعد أن ذكر الله - فيما سبق - أن الحياة الدنيا ازدانت للكافرين ففتنتهم، وأن الله أرسل الرسل لهداية المستعدين للهداية، وأن على المؤمنين أن يستعدوا للجهاد والبذل والتضحية في سبيل الله، لينالوا ثوابه وجنته، وليظفروا بنصره الموعود - أتبعه بيان وجوه إنفاق المال.

سبب النزول:

قال ابن عباس رضي الله عنهما فيما رواه أبو صالح عنه: (كان عمرو بن الجموح شيخًا كبيرًا ذا مال كثير، فقال: يا رسول الله، بماذا نتصدق؟ وعلى من ننفق؟ فنزلت).

وعن ابن جريج قال: "سأل المؤمنون رسول الله صلى الله عليه وسلم أين يضعون أموالهم؟ فنزلت.

(1) الكهف: 79

ص: 340

ظاهر الآية يفيد: أنهم سألوا عما ينفقونه من الأموال؟ وكانت الإجابة ببيان مصارفها، لأَنها أهم، فإن قيمة النفقة ومنزلتها المستتبعة للثواب، باعتبار هذه المصارف.

قال بعض العلماء: هذا من الأُسلوب الحكيم، الذي يقصد به توجيه السائل إلى ما كان ينبغي أن يسأل عنه. ويمكن أن يقال: إنه تعالى أجاب عن سؤَالهم بما يناسبه، وزاد عليه فائدة أخرى، هي بيان المصرف. فإن الإجابة عن سؤالهم:{مَاذَا يُنفِقُونَ} واردة إجمالًا في الآية الكريمة وهي: {مَا أَنفَقْتُم مِّنْ خَيْر} :

فالخير: يتضمن ما كان حلالًا، كثيرًا كان أو قليلًا، إذ لا يسمى ما عداه خيرًا.

ومثل هذا مثل رجل يسأل طبيبه: هل يأكل العسل؟ فيجيبه الطبيب قائلًا: كُلْهُ مع الخل.

فالزيادة في الجواب - على ما يقتضيه السؤَال - مستحسنة. وتسمى أيضًا: أُسلوب حكيم.

على أننا لو نظرنا إلى سبب النزول الأول، لوجدناهم فيه يسألون الرسول أيضًا عن المصرف. ولم يذكر في الآية، للإيجاز في النظم: تعويلًا على الجواب، فتكون الآية جوابًا لأمرين مسئول عنهما.

{فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} :

وقد استفيد من الآية: أن ما ينفق من الخير: يعطي للوالدين، والأقارب الفقراء، {وَالْيَتَامَى}: وهم من فقدوا آبائهم وكانوا فقراءَ. {وَالْمَسَاكِينِ} : وهم من لا كسب لهم، أو لهم كسب لا يفي بحاجتهم. {وَابْنِ السَّبِيلِ}: وهو المنقطع في سفر، ولا يجد ما يكفيه.

ولم تتعرض الآية للسائلين لدخولهم في المساكين، كما أنها لم تتعرض للأقارب كذلك.

والأكثرون: على أن الآية في صدقة التطوع. وقيل: في الزكاة. واستدل بها من أباح صرفها للوالدين.

والأَول أَرجح، لعموم كلمة {خَيْرٍ} ، وخصوص الزكاة، وكونها مُقَدَّرة.

ص: 341

{وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ} :

أي وما تنفقوه من نفقات طيبة لا إثم في كسبها، أو تصنعوه من معروف يعلَمْه الله ويُجْزِ عليه الجزاء الأوفى. وقال:{وَمَا تَفْعَلُوا} ولم يقل: وما تنفقوا من خير، لأن فعل الخير عام: يدخل فيه الإنفاق وغيره: من معاونة القوي للضعيف، وصاحب الجاه لمن لا جاه له، والصحيح للمريض، كما يدخل فيه الإصلاح بين المتخاصمين، والأَمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وعيادة المرضى، وهكذا.

وجواب الشرط هنا، مؤَكد بإن، لتقرير الوعد بحسن الجزاء المستنبط من جواب الشرط.

وَ {عَلِيمٌ} : صيغة مبالغة من العلم، وليس المراد مجرد الإفادة بعلم الله للخير، بل المقصود مع ذلك أنه يحسن الجزاء عليه {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ. وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} (1).

{كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (216)}

المفردات:

{كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ} : فُرض عليكم قتال الكفار.

{كُرْهٌ} : بمعنى مكروه، كخبز بمعنى مخبوز، أي مكروه - طبعًا - لمشقته.

ويجوز أن يكون القتال هو نفس الكره، بمعناه المصدري، مبالغة في مشقته على النفوس، مثل قول الخنساءِ:

فإنما هي إقبال وإدبار:

(1) الزلزلة: 7، 8

ص: 342

التفسير

216 -

{كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ

} الآية.

بين الله قبل هذه الآية، أن الجنة لا يدخلها المؤمن، حتى يقاسي البأَساء والضراءَ في سبيل دينه، كمثل الذين من قبلهم، وذكر لهم مصارف المال، ومواضع النفقات.

وجاءَت هذه الآية لتبين لهم وجوب الجهاد، دفاعًا عن الإسلام، وهو المظنة الأُولى للبأساءِ والضراءِ، التي لابد من امتحان المؤْمنين بها.

وقد بين الله في هذه الآية الكريمة: أنه فرض على المسلمين الجهاد، وأنه مكروه لهم، وتلك الكراهية أَمْرٌ جِبِلِّيُّ، لما فيه من القتل والأسر، وإتعاب البدن، وتلف المال، وقتل ما عسى أن يكون من الأقارب على الكفر - وهم يحبون أن يهديهم الله إلى الإسلام. وهذا لا ينافي رضاهم بما كلفهم الله به حبًا في مرضاة الله وطمعًا في ثوابه، كالمريض يرضى بشرب الدواء الكريه الطعم، حبًّا في الشفاء.

والجهاد أصلًا: فرض كفاية يقوم به المجندون من شباب المسلمين، نائبين عن بقية المسلمين.

فإذا دخل العدو بلاد الإسلام غازيًا، فقد انعقد الإجماع على أن الجهاد فرض عين، على جميع المسلمين سواءٌ أكان القتال أم بالحض عليه، أم بتجهيز المقاتلين، أَم تثبيتهم، أَم برعاية أسرهم، أم علاجهم: أم تأليب الرأي العام على المعتدين.

ويكون ذلك حسب طاقة المجاهد.

قال تعالى: {انفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} (1).

وقال صلى الله عليه وسلم: "من مات ولم يَغْزُ ولم يُحَدِّثْ نفسهُ بالغزو، مات على شُعْبَةٍ من النِّفاق"(2).

(1) التوبة:41.

(2)

رواه مسلم.

ص: 343

وقال صلى الله عليه وسلم: "من لم يَغْزُ أَو لم يُجَهِّزْ غَازيًا، أَو يُخْلِف غازيًا في أَهله بخير، أصابه بقارعة قبل يوم القيامة". (1)

{وَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ} :

عسى هنا للتحقيق، كنظائرها الواقعة في كلامه تعالى أو: للترجي، باعتبار حال السامع.

وموضع الرجاءِ، هو الخير المترتب على الجهاد. فالرجاءُ هنا، يكون في نية المقاتلين، بأَن يترقبوا من ورائه النصر والثواب من الله تعالى.

وعسى هنا، تامة، سد ما بعدها، مسد اسمها وخبرها.

والمعنى: أَنكم قد تجهلون حقائق الأُمور، فتكرهون شيئًا مما كلفتم به، وتحاولون اجتنابه، ولكن نهايته تكون خيرًا لكم، وتحبون شيئًا وتحرصون عليه، ولكن نهايته - مع حبكم له - تكون شرًا لكم. فليس كل مكروه ضارًا، ولا كل محبوب نافعًا.

والجهاد: هو مصدر العزة والكرامة والحرية. وفيه إحدى الحسنين: الظَّفَرُ أَو الشهادة. وما ترك قوم الجهاد إلا ذَلّوا، وأصبحوا فريسة سهلة للمعتدين.

فالقعود عن الجهاد، وإيثار السلامة والاستسلام يقود الأُمة إلى: الضعف، والفقر والذل، والهوان.

{وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} :

أي {وَاللهُ يَعْلَمُ} ما هو خير لكم، وما هو شرّ لكم، {وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} ذلك فلا تتبعوا ما تميل إليه نفوسكم، وبادروا إلى امتثال ما أمركم، ففيه الخير دائمًا.

(1) رواه أبو داود.

ص: 344

{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (217)}

المفردات:

{الشَّهْرِ الْحَرَامِ} : أحد الأشهر التي حرم فيها القتال وهي: رجب، وذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم.

{الْفِتْنَةُ} : المراد منها، تعذيب المسلمين وإخراجهم من ديارهم، وصدهم عن المسجد الحرام، وعن دين الله.

{حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ} : بطلت وفسدت.

التفسير

217 -

{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ

} الآية.

تكررت آيات الأحكام فيما سبق، وتكررت الأسئلة طلبًا لتوضيح الأحكام.

والسؤال هنا، يدور حول حكم السَّرِية التي قادها عبد الله بن جحش، فَقَتَلت وأَسَرَتْ في الشهر الحرام؟

ص: 345